هل تكلم سيدنا سليمان مع الطيور؟
(وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ* وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) (النمل: 16-17).
قال المفسرون عن قول سليمان: (عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) أنه كان يفهم لغة الطيور من حمام وسمان وحجل وعصافير وغيرها كما يفهم الإنسان كلام إنسان آخر. وقالوا أن سليمان ؏ رأى ذات يوم بلبلاً على غصن يغرد ويحرك رأسه وذنبه، فقال لمن حوله: أتدرون ما يقول هذا البلبل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال إنه يقول: أكلتُ نصف تمرة فعلى الدنيا العَفاء. ثم ناحت حمامة، فقال سليمان إنها تقول: ليت هذه الخلائق لم تُخلق. ويقول المفسرون أيضًا أن سليمان ؏ كان يقول إن الحمام يقول: لِدُوا للموت وابنُوا للخراب، ويقول الطاووس: مهما تفعل تُجزَ به. ويقول الهدهد: من يرحم الناس يرحمه الله تعالى. وتقول الأبابيل من العصافير: قدِّموا الأعمال الصالحة تجدوها عند الله. وتقول الحمامة: سبحان ربي الأعلى ملْءَ سمائه وأرضه. وتقول القطة: من يسكت يسلم. وتقول الببغاء: ويل لمن الدنيا همُّه. ويقول الديك: أيها الغافل اذكر الله. ويقول الضفدع: سبحان ربي القدوس. ويقول العصفور: استغفروا أيها الآثمون. وتقول الحدأة: كل شيء هالك إلا وجهه. (القرطبي) إذًا، فقد بذل المفسرون جهدهم ليثبتوا أن سليمان ؏ كان يفهم منطق الطير جيدًا، وقد ضموا الضفدع إلى الطيور أثناء محاولتهم هذه. والحق أنهم قد وقعوا في هذا الخطأ لعدم فهمهم هذا الكلام الذي هو من قبيل الاستعارة والمجاز، مع أنه يماثل قول الله ﷻ: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) (البقرة: 188).. أي أن وقت السحور في ليالي رمضان ينتهي عندما يتضح الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. ولكن بعض الفلاحين البسطاء من بلادنا “البنجاب” يضعون عندهم في ليالي رمضان خيطًا أبيض وخيطًا أسود، وبما أن الخيط لا يُرى إلا في الضوء الكافي، فلا يبرحون يأكلون بعد طلوع الفجر أيضًا في انتظار أن يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود. كذلك حال هؤلاء القوم الذين لا يفهمون التشبيه والاستعارة، فإذا قرأوا في القرآن أن لله يدًا يقولون -والعياذ بالله- إن يده ﷻ أيضًا من اللحم والدم مثل أيدينا. وإذا قيل لهم إن المراد من يد الله ﷻ قوته وقدرته قالوا لا يحق لكم التأويل فإن الله ﷻ نفسه قال إن له يدًا. وإذا قرأوا قول الله ﷻ عن نفسه: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) (الأعراف: 55) فلا يبرحون حتى يقولوا أن الله ﷻ جالس على عرش من الرخام… وكما تكثر الاستعارة والمجاز في كل لغة من لغات العالم كذلك ترد الاستعارات في الصحف السماوية أيضًا، ولكن الذين لا يفهمون الحقيقة يتمسكون بظاهر الكلمات فيَضِلّون ويُضِلّون. وهذا هو حال قول سليمان ؏: (عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ)، فلما رأى المفسرون كلمة (الطَّيْرِ) هنا ظنوا أن من خصوصيات سليمان أن الله ﷻ علّمه لغة السمان والحجل وغيرها من الطيور. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: ما الفائدة من تعليم منطق الطيور؟ فهل تعلَم الطيور معارف وعلومًا عظيمة حتى نقول أن سليمان ؏ عُلّم منطقها لكي لا يظل محرومًا من معارفها وعلومها. كلا، بل الواقع أن الطيور لا تملك من العقل ما يملكه أغبى وأجهل إنسان في العالم، فماذا عسى أن يتعلم منها نبي الله سليمان ؏؟ وإذا كانت الطيور تبلغ من العقل والذكاء بحيث إن نبيًا عظيمًا كسليمان كان بحاجة ليتعلم منها العلوم والمعارف فلماذا أحلّ الشرع ذبحها؟ فتحريم ذبح الإنسان وإباحة ذبح الطيور والحيوانات يشكّل دليلاً بيّنًا على أن الله تعالى قد جعل هذا الفرق بسبب فارق العقل إذ لا يبلغ دماغ الطيور والحيوانات نصف الدماغ الإنساني. فلأي حكمة عُلّم سليمان منطق الطير إذًا؟ ثم إن المفسرين لم يكتفوا بقولهم أن سليمان ؏ عُلّم منطق الطيور كلها فحسب، بل قالوا أن طير الهدهد قد بلغ من الذكاء والفطنة أنه فهم كلام ملكة قوم “سبأ” وكلام حاشيتها وكلام سليمان ؏، بينما لم يستطع أحد فهم كلام الهدهد إلا سليمان (الرازي). وهذا يعني أن هذا الطير كان أكثر ذكاءً من جميع الأمراء والوزراء والعلماء والحكماء الذين كانوا في بلاط سليمان، إذ كان يفهم كلامهم ولكنهم كانوا لا يفهمون كلامه، وكان هناك شخص واحد يفهم كلامه وهو سليمان، وكأن سليمان وحده كان يساوي طير الهدهد هذا عقلاً وذكاءً. إنها فكرة لا يرضى بها أي إنسان عاقل، لأن التسليم بها يعني أن الطيور أفضل من الإنسان فلا يجوز ذبحها، بل يجب ذبح الإنسان مكانها لأنه أقل منها عقلاً – والعياذ بالله. فثبت أن هذه فكرة فوضوية لا يمكن أن يقبلها كل ذي عقل سليم. الحق أن قول سليمان: (عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) هو من قبيل الاستعارة والمجاز كما بينتُ من قبل، ولكن هؤلاء القوم لم يفهموه فوقعوا في نقاش لا طائل وراءه. الواقع أن الطير في العربية هو كل ما يطير، ويُطلق استعارةً على عباد الله المختارين المقربين الذين يحلّقون عاليًا في أجواء السماء الروحانية. وهناك إلهام باللغة الأردية تلقاه سيدنا المسيح الموعود ؏ يسلط الضوء على معنى الطير وهو: “أن آلاف الناس تحت أجنحتك“.(تذكرة (أردو)، ص 703، تاريخ الإلهام: 9 مارس 1907) ومن البديهي أن الأجنحة تكون للطيور فقط، والطيور هي التي تجلس تحت أجنحة الطير. إذًا، فإن الله تعالى قد سمى المسيح الموعود ؏ في هذا الوحي طيرًا وأخبره أن الذين يستفيدون من صحبته هم أيضًا طيور العالم الروحاني. فهذا الوحي قد شرح هذه الآية القرآنية وبين أن الطير لا يعني هنا طيورًا مادية، بل يعني عباد الله الذين يطيرون إليه ﷻ. وسبب إطلاق (الطير) عليهم استعارة هو أن الطيور تطير في جو السماء، والعلوم الروحانية أيضًا تنـزل من السماء، ومن الواضح أن الشيء الذي ينـزل من فوق سيتلقاه أوّلاً مَن يطير إلى فوق؛ فسُمي عباد الله الذين يطيرون في أجواء العالم الروحاني (طيرًا) لأنهم يتلقون علوم السماء وأسرار الغيب النازلة من عند الله ﷻ عبر الوحي والرؤى والكشوف، وهم الذين يُنعم الله ﷻ عليهم بفيوضه قبل غيرهم، ثم يتمتع بها الذين هم في صحبتهم.. كُلٌّ بقدر إخلاصه ودرجته. إذًا، فالمراد من قول سليمان ؏: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) أنه قد عُلِّمَ اللغة التي يُعلَّمها الذين يطيرون في سماء الروحانية عاليًا، أي أنه قد أُعطي المعارف والحقائق التي تُعطى للأنبياء. وقد أكد القرآن الكريم هذا الأمر لأن اليهود والنصارى لا يعتبرون سليمان ؏ نبيًا وإنما يعدّونه مَلكًا دنيويًا فقط، ومن أجل ذلك تجد الكتاب المقدس لا يذكره أبدًا كنبي بل يعتبره أحد الفلاسفة والعلماء فحسب، حيث ورد فيها: “وأعطى الله سليمانَ حكمةً وفهمًا كثيرًا جدًا ورحبةَ قلبٍ كالرمل الذي على شاطئ البحر. وفاقت حكمةُ سليمان حكمةَ جميع بني المشرق وكلَّ حكمةِ مصر.” (الملوك الأول 4: 29-30) وكذلك ورد فيها عن سليمان ؏: “وتكلَّمَ بثلاثة آلاف مثل، وكانت نشائده ألفًا وخمسًا. وتكلَّمَ عن الأشجار من الأَرْز الذي في لبنان إلى الزُوْفَا النابت في الحائط. وتكلّمَ عن البهائم وعن الطير وعن الدبيب وعن السمك. وكانوا يأتون من جميع الشعوب ليسمعوا حكمةَ سليمان من جميع ملوك الأرض الذين سمعوا بحكمته.” (المرجع السابق: 32-34) وليس هذا فحسب بل إن الكتاب المقدس يتهم سليمان ؏ فيقول: “وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أَمَلْنَ قلبه وراءَ آلهة أخرى، ولم يكن قلبه كاملاً مع الرب إلهه.” (الملوك الأول 11: 4) إذًا، فإن الله تعالى قد فنّد بهذه الآية القرآنية موقفَ اليهود والنصارى من سليمان ؏، وبيّن أنه كان نبيًا وأن الله تعالى قد أعطاه نفس العلوم والمعارف التي قد أعطاها لعباده المختارين الذين يطيرون إليه ويتبوأون من قربه درجة عالية. ثم يقول سليمان ؏: (وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ). واعلم أن هذا لا يعني أنه أُوتي كل شيء في العالم، بل المراد أن الله أعطاه كل ما كان بحاجة إليه؛ ذلك أن القرآن الكريم قد نقل في هذه السورة قول الهدهد عن ملكة “سبأ” أيضًا: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) (الآية: 24).. مع أنها لم تكن تحكم إلا على منطقة صغيرة جدًا. فلو كان المراد من قول سليمان أنه قد أُعطي كل شيء في العالم لكان معنى ذلك أنه أُعطي ملك ملكة “سبأ” وعرشها أيضًا، ولكان المراد من قول الهدهد أن ملكة “سبأ” كانت تحكم على سليمان وتملك جنوده أيضًا؛ مع أن كلا الأمرين باطل بالبداهة. الحق أن كلمة (كل) في العربية لا تعني بالضرورة جميع أفراد جنس ما، بل يُراد بها فقط كل ما هو ضروري. فمثلاً يقول الله ﷻ في القرآن الكريم: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ) (الأنعام: 45).. أي أن الذين خلوا من قبلكم لما نسوا ما ذُكّروا به فتحنا عليهم أبواب الرقي بكل أنواعها، ثم أنـزلنا عليهم العذاب. وهنا أيضًا لا يُراد من لفظ (كُلِّ شَيْءٍ) أنهم أُعطوا نعم الدنيا كلها، بل المراد أنهم أُعطوا نصيبًا من النعم العظيمة المتوافرة في عصرهم وبلادهم. كذلك يقول الله تعالى عن أهل مكة: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا) (القصص: 58). وليس المراد من كلمة (ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ) ثمرات العالم كلها، بل المراد كثيرًا من الثمرات التي هي ضرورية لأهل مكة. ثم يقول الله تعالى للنحل: (كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) (النحل: 70)، مع أنها لا تأكل من كافة ثمرات العالم، بل من بعضها فقط. إذًا، فليس المراد من قول سليمان ؏: (وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أنه أُعطي كل شيء في الدنيا، بل أُعطي كل ما كان بحاجة إليه، أي أن الله تعالى سدّ له ؏ كل حاجة كما هيأ لملكة سبأ كل ما كانت بحاجة إليه في زمنها، ولذلك يقول سليمان ؏ بعد هذه الدعوى: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ).. أي أن حاجات الإنسان لا تُسد إلا بفضل خاص من عند الله تعالى. (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) (النمل: 18) يبدو من هذه الآية أن سليمان ؏ كان يتأهب عندئذ لمحاربة بعض البلاد، فجُمع له جنوده كلهم بمن فيهم جند الجن وجند الإنس وجند الطيور. إن المفسرين بمجرد أن يقرأوا لفظ “الجن” هنا يظنون أن الجن كائنات غير مرئية كانت تحت إمرة سليمان ؏. مع أنهم لو تدبروا القرآن الكريم لم يلجأوا إلى هذا التأويل الذي لا طائل منه. ولفهم حقيقة الجن علينا أن نرى أوّلاً وقبل كل شيء ما إذا كان القرآن يذكر أن الجن كانوا يحضرون إلى سليمان فقط، أم أنه ذكر أنهم حضروا إلى غيره من الأنبياء الآخرين أيضًا. وعندما نفحص القرآن نقرأ فيه قول الله تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (الأحقاف: 30-32).. أي اذكُرْ، يا محمد، حين أتيناك بنفرٍ من الجن راغبين في سماع القرآن الكريم، فلما حضروا مجلسك قال بعضهم لبعض: اسكتوا لنسمع صوته جيدًا. فلما انتهت تلاوة القرآن الكريم رجعوا إلى قومهم منذرين وقالوا: يا قومنا إنّا سمعنا تلاوة كتاب أُنـزل من بعد موسى، وهو يصدق كل الصحف السابقة له، ويدعو إلى الحق ويهدي إلى طريق مستقيم. يا قومَنا، لَبُّوا نداء منادي الله تعالى وآمِنوا به، يغفر لكم الله ذنوبكم وينجكم من عذاب أليم. لقد ثبت من هنا أن الجن قد آمنوا بما نـزل على موسى ؏ من التوراة وما نـزل على النبي ﷺ. وعليه فلم يكن سليمان ؏ هو النبي الوحيد الذي آمن به الجن، بل قد آمنوا بموسى ؏ وآمنوا بالنبي ﷺ بحسب القرآن الكريم. ولكن المؤسف أن المفسرين يذكرون قصصًا غريبة عن الجن الذين كانوا تحت قبضة سليمان ؏. فيقولون مثلاً أنه كان يجلس على بساط، فكان الجن يمسكون بأطرافه ويطيرون به إلى السماوات. أما الجن الذين آمنوا بالنبي ﷺ في زمنه فلا يذكر المفسرون -ولو برواية ضعيفة جدًا- أنهم قدموا مثل هذه المساعدة له ﷺ أيضًا، مع أن النبي ﷺ وأصحابه قد تكبدوا عناء السفر مرارًا إذ لم يجدوا ما يركبون، ففي مرات كثيرة أتوه يبكون ويسألونه أن يعطيهم ما يركبونه ليخرجوا معه، ولكنه لم يجد لهم ما يركبون. فخرجوا معه ﷺ مرات كثيرةٍ حُفاةً في أسفار طويلة شاقة (التوبة:92، والبخاري: كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع)، ولكن هؤلاء الجن لم تلن قلوبهم القاسية رغم رؤية ما تعرض له النبي ﷺ وصحابته من آلام. كانوا يحملون سليمان ؏ وجنوده من مكان إلى مكان، ولكن الغريب أنهم لم يحملوا ولو عشرين من فقراء المهاجرين إلى ساحة القتال! يقول البعض أن الجن كائنات من غير جنس الإنسان، وقد آمن هؤلاء بنبينا وبموسى وسليمان – عليهم السلام (الدر المنثور). ولكن علينا أن نرى ما إذا كان القرآن يصدق هذا المعنى أم لا؟ إذا كان الكلام عن الجن استعارة فلا بد أن القرآن الكريم قد بيّن مراده منها، وإذا لم نعتبر هذا الكلام من قبيل الاستعارة وقع التناقض بين آيتين من القرآن الكريم وحصل فيه الاختلاف. فعلينا أن نرى ما إذا كان اعتبار هذا الكلام استعارة يؤدي إلى الاختلاف في القرآن الكريم أم العكس هو الذي يؤدي إلى الاختلاف فيه؟ وليكن معلومًا أن الذين لا يعتبرون هذه الآية استعارة ويقولون أن الجن كائنات غير مرئية مثل الشيطان، وكما أن الشيطان كائن منفصل عن الإنس فالجن أيضًا كائنات غير الإنس (الرازي). والجواب أن هناك إجماعًا لدى المفسرين على أن الشياطين المذكورين في قوله تعالى: (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) هم اليهود ورؤساؤهم (القرطبي)؛ فإذا كان الإنس يمكن أن يسمَّوا شياطين فلماذا لا يسمَّون جنًّا أيضًا؟ كذلك قال الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) (الأنعام: 113).. أي قد جعلنا لكل نبي أعداء من شياطين الإنس ومن شياطين الجن الذين يحرّضون الناس على النبي وجماعته. لقد صرح الله هنا أن الشياطين يكونون من الناس أيضًا. فإذا أمكن أن يكون هناك شياطين الإنس فكيف لا يكون هناك جنّ الإنس؟ بمعنى أنه كما يمكن أن يولد من الناس من يسمون شياطين فكيف لا يمكن أن لا يكون من الناس من يسمّون جنًّا؟ لقد ثبت مما سبق بيانه أن الجن لم يكونوا في قبضة سليمان فحسب بل لقد آمنوا بموسى وبنبيّنا ﷺ أيضًا. والآن نرى إلى من بُعث النبي ﷺ؟ يقول الله تعالى لنبيه ﷺ: (وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) (النساء: 80). فلو كانت كائنات خفية تسمى جنًّا قد آمنت بالنبي ﷺ فكان من المفروض أن يُقال: “وأرسلناك للناس والجن رسولاً”. وإذا كان النبي ﷺ مبعوثًا إلى الناس فثبت أن الجن الذين قِيل هنا إنهم آمنوا به ﷺ إنما كانوا من جن الإنس، وليس كائنات غريبة خفية يتصورها الناس. كذلك ورد في الحديث عن جابر بن عبد الله ؓ أن النبي ﷺ قال: أُعطيتُ خمسَ خصال لم يُعْطَها نبي قبلي، وإحداهن: “كان النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى الناس عامة.” (البخاري: كتاب الصلاة، باب قول النبي ﷺ جُعلتْ لي الأرض مسجدًا وطهورًا) لقد صرح النبي ﷺ هنا بشكل حاسم أنه لم يوجد بين الأنبياء السابقين نبي واحد بُعث إلى أحد سوى قومه. ولكن هؤلاء المفسرين يقولون أن سليمان ؏ قد بُعث إلى الجن والطيور والنمل أيضًا. ولو كان هذا صحيحًا لصار سليمان أفضل من النبي ﷺ -والعياذ بالله- إذ كان مبعوثًا إلى الإنس وغيرهم أيضًا، بينما كان نبينا ﷺ مبعوثًا إلى الإنس فقط. ثم إذا كان هؤلاء الجن من غير الإنس فكيف قال الله ﷻ في القرآن الكريم: (يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنْسِ) (الأنعام: 129). لقد تعبنا بحثًا عن هؤلاء الجن الذين يتحدث عنهم الناس ولا نجدهم، ومع ذلك يعلن القرآن الكريم هنا أن الجن قد جعلوا معظم الناس في قبضتهم. الواقع أن المؤمنين بمثل هؤلاء الجن يرهقون أنفسهم بكثرة الاعتكافات والتأملات والأوراد، فيصابون في عقلهم حتى يتخيلون أصواتًا، فيقولون: ها قد جاءنا الجن. والواقع أنه لا يأتيهم أي من الجن، وإنما يفقدون حواسهم ويصابون بنوع من الجنون. أما الإنسان الذي يكون عقله متوازنًا فلا يأتيه الجن أبدًا. على أية حال، سيقول الله تعالى للجن يوم الحشر أنهم جعلوا كثيرًا من الناس تحت قبضتهم واستغلوهم كثيرًا، ومن ناحية أخرى نقرأ في القرآن الكريم قول الله تعالى: (وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ) (الأنعام: 129).. أي سيقول أصدقاؤهم من الناس لربهم ربنا انتفعَ بعضنا ببعض. ولكن الأمر الواقع أنك إذا سألتَ أهل قريتك ما إذا كان خمسون بالمئة منهم جلبوا أي نفع من الجن، فلن تجد ولا واحدًا منهم يقول إنه قد انتفع من الجن وأنه على صلة بهم. فثبت أنه ليس المراد من الجن هنا أي كائنات غريبة دون الإنسان، بل المراد من الجن بعض من الناس أنفسهم. وبالفعل ترى بين جنّ الإنس صداقات كثيرة. فمن الخطأ تمامًا الظن أن هؤلاء الجن كائنات غير مرئية غريبة عن الإنسان. كلا بل إن الجن الذين آمنوا بالنبي ﷺ كانوا أيضًا أُناسًا، وقد نصروه كما نصره غيرهم من الناس. أما إذا اعتبرناهم كائنات غير إنسانية فالسؤال الذي يفرض نفسه هنا والذي يجب أن يجيب عليه القائلون بالجن هو: لماذا لم ينصر هؤلاء الجن رسولنا ﷺ رغم إيمانهم به، ورغم أن الله تعالى أمر بنصرته ﷺ؟ الأمر الواقع أن فئة من الناس يكونون في غاية الإباء والتمرد فلا ينقادون لأحد، ولكنهم عندما يأتون الأنبياءَ يتغير حالهم رأسًا على عقب فجأة. وخير مثال على ذلك هو عمر ؓ، فكان في البداية لا يتحمل سماع كلمة عن الإسلام حتى استشاط غضبًا ذات مرة، فامتشق حسامه وخرج بنية قتل النبي ﷺ. ولكنه لما أتاه أخذ يرتعد هيبةً له ﷺ. (السيرة الحلبية: المجلد الثاني، باب الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة) فثبت من هنا أن هناك أناسًا من ذوي الطبائع النارية، ولكنهم عندما يأتون الأنبياءَ تخمد نارهم وتهدأ حدّتهم، وهؤلاء أيضًا يسمَّون في اللغة العربية جنًّا. كما يراد بالجن عِليةُ القوم الذين يقيمون في القصور وراء حراسة شديدة فلا يصل أحد إلى أبوابهم بسهولة، فقد ورد في القواميس: جِنُّ الناس: معظمهم. إذًا، فكلمة الجن في قوله تعالى: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) قد أُطلقت على فرقة خاصة لسليمان ؏، إذ كان رجالها من أسر عريقة، وكانوا معتادين على الإقامة في القصور وراء حراسة مشددة، وبالتالي استحقوا أن يُسمَّوا جنًّا أي الذين لا يراهم الناس عادة كونهم يعيشون بعيدًا عن أنظار القوم. فقد ورد في القاموس أن الجن يُطلق على “كل ما استتر عن الحواس” (الأقرب).. أي هم القوم الذين لا تسمع آذان الناس أصواتهم ولا ترى عيونهم أشخاصهم وكأنهم يعيشون منعزلين عن العالم، وبتعبير آخر، هم عِلية القوم وأمراؤهم؛ وقد ورد هذا المعنى أيضًا في القواميس بكل وضوح. إذًا، كان قوام جنود سليمان ؏ فرقًا ثلاثًا: فرقة الحرس الخاص من عِلية القوم، وفرقة عامة الناس، وفرقة الرجال الروحانيين.
هل علم سليمان ؏ منطق النمل أيضا؟
(حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) (النمل: 19-20) إن المفسرين -كما بالغوا في تفسيرهم عن الجن والطير- قد بالغوا أيضًا حول وادي النمل، وقالوا أنه كان واديًا للنمل -هذه الحشرات المعروفة- وأن سليمان لما خرج بجنوده مر بهذا الوادي، فتكلمت نملة، ففهم سليمان قولها حيث كان يعلم منطق الطير. (تفسير حسيني ،أردو) ولكن كيف علِم المفسرين أن النمل من جنس الطير يا ترى؟ يقول الله تعالى إنه علّم سليمان منطق الطير، ولكنهم يقولون أنه عُلّم منطق النمل أيضًا!
تفسير لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون
ويقولون أن المطر انقطع مرة في عهد سليمان ؏ فقال للناس تعالوا نخرج من البلد ونصلّ صلاة الاستسقاء. فلما خرج بهم رأى نملةً تدعو الله تعالى رافعةً رجليها ووجهها إلى السماء وتقول: رب، نحن أيضًا مِن خلقك، فلا تحرمنا من المطر! فلما سمعها سليمان قال للناس: تعالوا نرجع، لا حاجة الآن لصلاة الاستسقاء لأن دعاء النملة يكفينا، ولسوف ينـزل المطر بدعائها! (ابن كثير) ولم يكتف المفسرون بهذا القدر من الغوص في التفاصيل، بل قالوا أن النمل تكون شعوبًا وقبائل كما عند الناس قبائل من مغول وراجبوت وأفغان وغيرها. وقد ذكروا لفائدتنا أن اسم إحدى قبائلها “بنو الشيصان”، وأن النملة التي تكلمت كانت تنتمي إلى هذه القبيلة. وقد تمكن المفسرون بعد بحث مضن من معرفة اسم تلك النملة أيضًا، وإن لم يتفقوا على اسم واحد لها للأسف. فمن أسمائها التي ذكروها: منذرة، وطافية، ولافية، وخومي. ثم علموا أنها كانت عرجاء. كما ذكروا قامتها أيضًا فقال بعضهم أنها كانت بقدر الديك، وقال بعضهم أنها كانت بقدر الضأن، وبعضهم قال أنها كانت بقدر الذئب. كما اكتشفوا أنه كانت مع هذه النملة أربعون ألف نملة من النقباء، ومع كل نقيب أربعون ألف نملة من المحاربين. (ابن كثير وتفسير حسيني) والحق أن النملة هنا لا تعني الحشرة المعروفة، وأول دليل على ذلك هو أن الله تعالى يخبر هنا أن سليمان ؏ عُلِّم منطق الطير، بينما يقدم المفسرون أول دليل على معرفته بمنطق الطير أنه فهم كلام النملة مع صاحباتها! مع أن المفروض أن يقدموا على صدق هذه الدعوى مثال طير لا نملة، إذ لو كان المراد من النملة هنا الحشرة المعروفة أصبح الدليل غير معقول تمامًا، لأن القرآن الكريم يقول إن سليمان عُلّم منطق الطير وكان يفهم لغتها، ولكنهم يقولون أن سليمان فهم كلام النملة مع صاحباتها. لذا فينبغي أن نفهم المراد من النملة هنا أوّلاً. والأمر الثاني الذي يستلفت النظر هنا هو قوله تعالى: (لا يَحْطِمَنَّكُمْ). وإن المفسرين عادةً يفسرون قول النملة (لا يَحْطِمَنَّكُمْ) بأن لا يدوسَنَّكم سليمان وجنوده تحت أقدامهم. وتفسير الحطم بهذا المعنى ليس صحيحًا، بل يعني الحطم الكسر والهجوم على أحد من شدة الغضب، فقد سُمّيتْ نار جهنم (الْحُطَمَة) (الهُمَزة: 5) لأنها تحرق، ولا يقول أحد أن لجهنم أرجلاً تدوس بها الناس؛ كما يُسمى القحط حاطومًا إذ يكسر قوة أهل الأرض (الأقرب). إذًا، فالمراد من قوله تعالى: (لا يَحْطِمَنَّكُمْ).. لا يكسرنّكم سليمان وجنوده، أو لا يهاجمنّكم غاضبين ويدمرونكم. ثم هناك سؤال يفرض نفسه هنا وهو: كيف يُتوقع من نبي عظيم كسليمان ؏ الذي كان يملك جنودًا من الجن والإنس والطير أن يستشيط غضبًا على النمل ويحاول الهجوم على تلك الحشرات المسكينة؟ لو أخذنا بالمعنى الحقيقي للفظ “الحطم” لكان معنى الآية أن نملة قالت لصاحباتها: ادخلْنَ مساكنكن مخافة أن يأتي سليمان وجنوده بالمعاول والفؤوس ويحفروا مساكننا ويخرجوا منها الغلال وبالتالي يكسروا قوتنا! فهل من عاقل يرضى بهذا المعنى؟ والدليل الثالث الذي هو في منتهى الوضوح هو أن الصيغ التي استعملها الله تعالى هنا هي كلها لذوي العقول، مثل (ادْخُلُوا) و(لا يَحْطِمَنَّكُمْ)، مع أنه لو كان الحديث عن حشرات النمل لقيل “ادْخُلْنَ” و “لا يَحطِمنّكُنَّ”. فثبت أن الكلام هنا ليس عن حشرات النمل وإنما عن البشر. ثم إن قول النملة: (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أيضًا يبين أنها لم تكن حشرات النمل لأنها يمكن أن تُداس تحت قدم نبي دَعْك عن أقدام جنود. لو كانت النملة هنا بمعنى تلك الحشرة المعروفة لأصبح قول الله ﷻ: (لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) لغوًا وعبثًا، فمتى ورد في أي كتاب سماوي -سواء في الإسلام أو قبله- أن الأنبياء كانوا يمشون ناظرين إلى الأرض كيلا تداس النمل تحت أقدامهم؟ الحق أن وادي النمل ليس واديًا للحشرة المعروفة، بل هو واد كان يُقيم فيه البشر، حيث ورد في القاموس الشهير “تاج العروس” أن واد النمل يقع بين جِبْرين وعسقلان. أما عسقلان فهي مدينة كبيرة ساحلية تقع في فلسطين على مسافة اثني عشر ميلاً بين ميناء غزة في المنطقة المجاورة لسيناء وجِبْرين. أما “جِبْرين” فهي مدينة شمالية في ولاية دمشق. (معجم البلدان لياقوت الحموي، باب الباء والياء وما يليه) إذًا، فوادي النمل واد حقيقي يقع إلى جنوب من دمشق بحوالي مئة ميل على البحر المتوسط إزاء بيت المقدس أو قريبًا من ذلك، على الطريق المؤدي من دمشق إلى الحجاز. وكانت كثير من قبائل مدين وغيرها من القبائل العربية مقيمة بهذا الوادي إلى زمن سليمان ؏. أما لفظ النملة فقد ورد عنه: “والأَبْرَقةُ مِن مياه نَمْلة.” (القاموس المحيط: كلمة البرق) إذًا، فقد وجدنا بمساعدة القاموس وكتب الجغرافيا قومًا باسم نملة وواديًا باسم النمل، كما علِمنا أن هذه المنطقة كانت في الشام قريبًا من مملكة سليمان ؏. والغريب أن مثل هذه الأسماء كانت متداولة بكثرة في الزمن القديم. ففي جنوب أمريكا قبائل أسماؤها “الذئب” و”الحية” و”العقرب” و”أم الأربعين” وغيرها. بل يوجد في بلادنا أيضًا قوم اسمهم “كادها” أي النمل، وكان هناك في لاهور شخص شهير اسمه نور الدين “كادها” أي النملة. وهناك قوم باسم “كيري” أي الديدان، وقوم آخرون باسم “مكوري” أي الحشرات. وفي كشمير قبيلة اسمها “هابت” أي الدب (تواريخ أقوام كشمير (أردو) ص 300). وهذه هي حقيقة نمل سليمان ؏ أيضًا، فإنه لما خرج للهجوم على ملكة “سبأ” باليمن مرَّ على واد لقبيلة اسمها النمل، ولكن المفسرين ظنوا أنه مَرَّ بواد لحشرات النمل. ثم قال القرآن إن سليمان ؏ لما بلغ هذا الوادي قالت “نملة” أي ملكةُ قبيلة النمل: أيها الناس ادخلوا في مساكنكم مخافة أن يظن سليمان وجنوده أنكم تريدون حربهم فيحطموكم. فأيقن المفسرون من هذا أنه كلام النملة الحشرة، مع أن تعبير “الحطم” تعبير واضح حيث يراد به إغارة قوم على قوم وإلحاق هزيمة نكراء بهم، ولكن المفسرين لم ينتبهوا لذلك. ولو أنهم راجعوا القواميس لوجدوا أن الحطم يعني الكسر. وعليه فالمراد من هذه الفقرة القرآنية أن ملكة قوم النمل قالت لهم: ادخلوا مساكنكم كي لا يكسر سليمان وجنوده قوتكم وشوكتكم.
لماذا تبسم سليمان عليه السلام من قول النملة؟
ثم يقول الله ﷻ: (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا)، وهنا أيضًا قد جاء المفسرون بالعجب العُجاب، فمع أن الله ﷻ يعلن أنه علّم سليمان منطق الطير، إلا أن المفسرين يقولون أنه كان يعلم منطق النمل أيضًا! حيث فهم قول ملكة النمل فورًا، فتبسم ضاحكًا بأن حشرات النمل أيضًا تعلم بأني إنسان عادل ولا يمكن أن أدوسها تحت قدمي إلا خطأً ولكن لن أدوسها عمدًا (الطبرسي). والحق أن كل إنسان شريف -دعك عن نبي- لا يدوس حشرات النمل عمدًا، فقد رأينا كثيرًا من الشرفاء أنهم يمشون على الأرض بحذر عندما تخرج النمل بكثرة في موسم الأمطار كيلا يدوسوها. فثبت أن هذا المعنى باطل. كل ما في الأمر هو أن سليمان ؏ لما علِم أن ملكة قوم النمل قد أمرتهم بدخول بيوتهم وعدم مقاومة جنوده بأي طريق -مخافة أن يثوروا ويهجموا عليهم دون أن يدروا أنها قد أمرتهم بالاستسلام والانقياد- تبسّمَ ضاحكًا بأن الله ﷻ قد أذاع صيته الحسن، فالناس يعرفون أنه ليس من الملوك الظالمين بل إنه يعامل أضعف الشعوب أيضًا بالعدل والإنصاف. الحق أن ملكة النمل قد أمرت قومها بدخول البيوت وإغلاق الأبواب عليهم طبقًا للعادة القديمة خلال الحروب إذ كان المراد منه قبول الهزيمة والاستسلام، فمثلاً قد أعلن النبي ﷺ أيضًا يوم فتح مكة أن من يدخل بيته ويغلق بابه فهو آمن (السيرة النبوية لابن هشام: ذكر الأسباب الموجبة للسير إلى مكة وذكر فتح مكة في شهر رمضان سنة ثمان). ووفقًا لهذه العادة قالت ملكة قوم النمل أيضًا بأن يدخلوا مساكنهم ويغلقوا أبوابهم كي يعلم سليمان أنهم لا يريدون حربه، أما إذا بقوا خارج بيوتهم فربما يُغير عليهم. فلما بلغ سليمانَ ؏ إعلانُها تبسّمَ ضاحكًا، وشكر الله ﷻ بأنه قد أشاع خبر صلاحه وورعه في الأقطار البعيدة، حيث علم هؤلاء القوم أيضًا أن سليمان لا يحارب أحدًا ظلمًا وأنهم إذا أغلقوا أبوابهم فلن يتعرض لهم، مع أن من عادة الشعوب الغازية السلب والنهب أثناء الحرب. فدعا ربه وقال: يا رب إن هذا الصيت الحسن ما هو إلا بفضلك، فوَفِّقْني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل على الدوام أعمالاً صالحة ترضاها.. أي كما قد اعترفتْ ملكة قوم النمل بأن سليمان وجنوده قد يضرون قومها خطأً ولكن لن يضروهم ظلمًا واعتداءً، فوفِّقْني وجنودي في المستقبل أيضًا أن نتحلى بالأخلاق الفاضلة حتى يشهد الناس أن هؤلاء القوم لا يعتدون على أحد عمدًا، وأدخِلْني برحمتك في عبادك الصالحين.
إقرا تفسير قصة هدهد سليمان من هنا
لا يمكن للجن ان يكونوا من الانس ، ولا يمكن للإنس ان يكونوا من الجن !! ما هذا الكلام !! هل تقرآ فقط جزء من القران وتترك الباقي؟!
قال تعالى: ( خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ (15)) سورة الرحمن
وقال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ (27)) – سورة الحجر
وقال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)) – سورة الذاريات