إقرا الفصل السابق من قصة سيدنا سليمان ؏: سيدنا سليمان ؏ – عرش سليمان وبلقيس
هل كفر سليمان ؏؟ وما قصة هاروت وماروت؟
(وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لمنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْْسَ ما شَرَوْا به أنْفُسَهُم لَوْ كانوا يَعْلَمون) (البقرة: 103).
إن هذه الآية تتناول ذكر بعض ما واجه سليمان من صعوبات وأخطار. ورغم أن معناها واضح وصريح… إلا أن المفسرين القدامى قد عانوا كثيرا في تفسيرها. وقالوا في آخر الأمر إن الآية تشير إلى حادثين تم فيهما تعليم الناس السحر.
الحادث الأول وقع في زمن سليمان.. حيث اختلط الشياطين بالناس وعايشوهم وعلموهم السحر. والثاني حدث في بابل حيث أنزل الله ملكين -هاروت وماروت- كانا يعلمان الناس السحر قائلين: إنما نحن فتنة وامتحان لكم. كما كانا يقولان للذين يعلمانهم: أن تعلم السحر كفر، وسوف نعلمكم هذا الكفر إذا أردتم.
وقد نسج خيال هؤلاء قصصا غريبة جدا حول الحادثة شاعت بين العوام، وكنا نستمع إليها في الصغر. فحكوا أنه كان بحوزة سليمان خاتم “الخاتم السليماني”.. يدبر بفضله كل الأمور؛ فسلبه الشيطان من سليمان، فحرمه عرشه واضطره أن يهيم على وجهه، واستولى على ملكه وقد أُلقي عليه شبهه. وبعد مدة مديدة عثر شخص على الخاتم وسلمه لسليمان، فاستعاد عرشه.
أما عن قصة هاروت وماروت فزعموا أنهما كانا ملَكَيْن فسقا عن أمر ربهما، وقالا إن الأيام قد صدّقت قول الملائكة عند خلق آدم (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ).. وبطلت دعوى الله تعالى”إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ“.. إذ استولى الشيطان على ذرية آدم في الأرض؛ ولو كنا نحن الملائكة فيها ما ظهر هذا الفساد. فأرسل الله تعالى هاروت وماروت إلى الأرض قائلا: حسنا، اذهبا أنتما ننظر كيف تعملان. فجاءا إلى الدنيا وتعايشا مع الناس، وكانا يُعلمان اسم الله الأعظم والسحر. فجعلا يعلمان الناس السحر، ويدعيان أمام الله تعالى أن الناس بأنفسهم يكفرون. وكانا ينبهان الناس وقت تعليم السحر أن تعلمه حرام يؤدي إلى الكفر، ويخيرانهم يتعلمون أو لا يتعلمون، ولكن الناس رغم ذلك كانوا يتعلمون.
كما تحكي القصة أنهما كانا يعلمانه الرجال فقط، مما كان يؤدي إلى التفريق بين الرجال ونسائهم. وفي أثناء هذا جاءت بغي اسمها (زهرة) لتتعلم الاسم الأعظم فعشقاها. وفي يوم من الأيام سقتهما الخمر فزنيا بها. فخيرهما الله بين أمرين: إما أن يمكثا في الأرض معلقين من أقدامهما في البئر، وإما أن يعذبا في الآخرة.. ففضّلا عذاب الدنيا على الآخرة لعلمهما بشدة عذاب الآخرة، فعلقا من أقدامهما في بئر قديمة ببابل، ولا يزالان بها. أما (زهرة) التي تعلمت منهما الاسم الأعظم فصعدت وتحولت إلى نجم مشرق يعرفه القوم باسم (الزهرة) (تفسير محاسن التأويل للقاسمي). وقد بالغ أهل كشمير وقالوا: إن هاروت وماروت في كشمير، وكأنهما فرا من بابل إلى بلدهم!
وبعد سرد هذه القصة والأقوال الخرافية.. يقولون إن الملائكة أصابوا في اعتراضهم، حيث إن الله تعالى بعث آدم أولا ولكن نسله فسدوا، ثم أرسل هذين الملكين ولكنهما أيضًا تأثرا من الناس وفسدا. وهذا غير صحيح، لأن الله تعالى يقول في صراحة إن الملائكة كلهم مجبولون على الطاعة والصلاح وأنهم (لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم: 7)، أما الناس فمنهم الأبرار ومنهم الأشرار. إذا كان الناس قد فسدوا فالملائكة أيضًا فسدوا كما يزعم هؤلاء المفسرون.. وهذا لا يدفع الاعتراض وإنما يقويه ويزيد الطين بلة، لأن قصتهم تقول إن الملائكة قد فسدوا، مع أن الله تعالى صرح أنهم لن يفسدوا.. وقد عصوا الله عصيانا صريحا، فعلقوا في بئر عقابا لهم.. حتى حكي أن البعض قد رآهم معلقين في البئر ببابل!
وعندي أن قولهم هذا خطأ تماما. فالزعم بأن ملكين كانا يعلمان السحر، وأن سليمان أيضًا كان يمارس السحر ويعلمه الناس يعرض الملائكة والأنبياء للطعن، كما أن شهادة التاريخ تكذبه تكذيبا. فلا وجود إطلاقا لما يسمى سحرا بأن ينفخ الساحر ويوجد شيئا في لمح البصر. أما التنويم المغناطيسي فشيء آخر تماما.
الأمر الواقع أن هذه الآية تذكر بعض ما دبر اليهود المعاصرون للنبي من مكائد ومؤامرات ضده، وتبين أنهم في عدائهم له ﷺ اتبعوا الطرق التي سلكها أعداء سليمان للقضاء على ملكه. كما تنبه اليهود إلى أنهم لن يفلحوا أبدا في نواياهم الخبيثة.
وإذا افترضنا صحة ما ذكره المفسرون من قصص.. وقد توخيت الإيجاز الشديد في سردها.. لم يبق أي علاقة لهذه الآية بما قبلها. ولكن المعنى الذي علمني الله بفضله لا يدع أي خلل في ربط الآيات من ناحية، ولا يجعل الملائكة هدفا للاعتراض من ناحية أخرى، ثم إنه لا ينافي تاريخ سليمان من ناحية ثالثة، كما يشكل برهانا عظيما على صدق النبي ﷺ من ناحية رابعة.
والآن أبين لكم معنى الآية تفصيلا. ولكي لا يصعب فهم المعنى.. أتوخى في الشرح التعامل الفكري الطبعي الذي يوصل إلى هذه النتيجة.
يتبين من الآية أنها تتكلم:
- أولا: عن حدوث فعل ثلاث مرات في مختلف العصور.
- وثانيا: أن هذا الفعل الحادث ثلاث مرات تعلق بجمعية سرية، أو بمؤامرة خفية.
- وثالثا: أنه حدث في المرات الثلاث التالية:
- في عصر سليمان: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ).
- في بابل: (وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ).
- في عهد النبي ﷺ: (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ) (البقرة: 103)، وقال في موضع آخر في هذا المعنى نفسه (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (البقرة:104).
- ورابعا- أن هذا الحادث المتكرر ثلاث مرات صدر عن اليهود.
وإذا فهذه الأمور الأربعة سوف تحدد معنى الآية، وكل معنى لا يتوفر فيه هذه الشروط الأربعة كلها أو بعضها يكون مردودا.
وإذا فحصنا القصص التي ذكرها المفسرون وجدناها ينقصها واحد من هذه الشروط: إما لكونها لا تخص اليهود، أو لكونها لم تقع ثلاث مرات، أو لم تحدث في هذه العصور الثلاثة، أو لا تكون لها علاقة بالجمعيات السرية والمؤامرات الخفية.
وإذا أمعنا النظر في هذه الشروط أو الأصول الأربعة وجدنا أن أوضحها هو كون هذا الحادث مرتبطا بالجمعيات السرية والمؤامرات الخفية التي تفرق بين الرجال والنساء.. أي لا تكون المرأة عضوا فيها. فهذا الأصل يسهل ويضمن لنا المضي في التحقيق في اتجاه سليم. هلموا الآن نر هل هناك أي جمعية تفرق بين الرجل والمرأة، ولها صلة بهذه العصور.
إذا ألقينا نظرة فاحصة على تاريخ العالم كله لم نجد فيه إلا جمعية واحدة تفرق بين الرجل والمرأة، وما زالت آثارها موجودة في عصر النبي ﷺ، بل لم تزل موجودة حتى قبل عشر أو عشرين سنة.. ألا وهي الجمعية الماسونية، وهي جمعية سرية، لا تضم في عضويتها النساء.
هذا، مع العلم بأنه لا علاقة للماسونية الحالية بهذه الأحداث، وإنما تتعلق هذه الأحداث بتلك الجمعية الماسونية السرية التي كان لها علاقة بهذه العصور الثلاثة، وشواهد التاريخ تؤيد ذلك. كما أن الجمعية الماسونية لم تكن موجودة وجودا متصلا إلى الآن.. وإنما تأسست بهذا الاسم عدة جمعيات في مختلف العصور.. عاش بعضها أربعمائة سنة، ثم جاءت أخرى وعاشت لخمسمائة سنة، وبعضها حتى القرن الخامس عشر الميلادي، ثم تأسست أخرى في القرن الثامن عشر وانمحت في نفس القرن، وتأسست من جديد في القرن التاسع عشر. لذلك لا نستطيع تخصيص إحدى هذه الجمعيات الماسونية، ولكن إذا وجدنا لإحداها علاقة باليهود وصلنا إلى الهدف، لأن الشروط الثلاثة الأخرى أيضًا تخص اليهود.
ثم إن من البراهين على صلة الماسونية باليهود أن أسماء الشهور والأعوام القمرية التي تستخدمها الجمعية الماسونية الأسكتلندية هي نفس الشهور والأعوام التي كان اليهود الأوائل يستخدمونها. ولكن صاحب دائرة المعارف اليهودية يعلق على ذلك قائلا: من يدري.. لعل هذه الأسماء راجت فيهم عن طريق المسيحيين؟ ثم يذكر المؤلف قائمة لهذه الأسماء المتداولة في الماسونية التي يبلغ عددها ما بين ثلاثين وأربعين اسما.
وهناك رواية تؤكد وجود جمعية سرية في عهد سليمان، كانت تعمل ضده. وهذه الرواية كانت شهيرة في قدامى الماسون، وتقول إن سليمان كان …يحسد ويحقد على حورام لِما أوتي من ذكاء عال ونفوذ كبير، فحاول سليمان قتله سرا، وألقاه في حوض به زيت مغلي، ولكن روح جده ’قابيل‘ أنقذته، إلا أنها أخبرته أن عدوه سوف ينتصر عليه آخر الأمر. وتم ذلك حيث أغرى سليمان بعض حساد حورام بالمال لقتل ثلاثة بنائين، كان حورام أحدهم. ويقولون إن حورام هذا كان قد اخترع رموزا وإشارات سرية ليتفاهم بها مع أصحابه، فكانوا باستخدامها يجتمعون على الفور.
وإذًا فقد تبين من ذلك كله أنه كان هناك في زمن سليمان جمعيات سرية تعاديه وتتآمر عليه، فقتل سليمانُ زعيمها. وكان بعض أتباع هذا الزعيم يقدسونه لدرجة أنهم ظنوا أنه لم يقتل وإنما رفع إلى السماء. وكان هؤلاء من اليهود حيث وجدت في هذه الجمعيات آثار وطقوس يهودية تنسب إلى حورام.
ثم نرجع إلى التوراة لنجد فيها أيضًا ذكرا لجمعيات معادية لسليمان. وبرغم أن التوراة لم تذكر حورام إلا أنها تؤكد عدواة اليهود لسليمان واتهامهم إياه بالكفر والشرك، وهذا ما ذكره القرآن ههنا.
فأولا_ جاء اتهامهم سليمان بالكفر والشرك في التوراة هكذا:
(وكانت له سبعمائة من النساء السيدات ثلاثمائة من السراري. فأمالت نساؤه قلبه. وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى، ولم يكن قلبه كاملا مع الرب إلهه كقلب داود أبيه.. فغضب الرب على سليمان لأن قلبه مال عن الرب إله إسرائيل الذي تراءى له مرتين. وأوصاه في هذا الأمر أن لا يتبع آلهة أخرى. فلم يحفظ ما أوصى به الرب) (الملوك الأول 3:11 ،4 ،9، 10).
مما يبين أن اليهود كانوا يتهمونه بالكفر والشرك بالله، كما كانوا يقومون بنشر هذه التهم بين الناس. ويشير أيضًا قول الله في القرآن (عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) أن تكفيره كان شغلا شاغلا بين الناس.
وثانيا- يتضح مما سبق أن الذين كانوا تحته في الظاهر هم الذين كانوا يتآمرون عليه. وبحسب التوراة فإن سليمان صار مشركا بالله..
يتضح من هذا أنه صار لسليمان أعداء كثيرون من داخل ملكه يتآمرون عليه. تقول التوراة: (ولما سمع يربعام بن نباط وهو في مصر حيث هرب من وجه سليمان الملك رجع يربعام من مصر. فأرسلوا ودعوه. فأتى يربعام وكل إسرائيل وكلموا رحبعام قائلين. إن أباك قسّى نيرنا، فالآن خفف من عبودية أبيك القاسية ومن نيره الثقيل الذي جعله علينا، فنخدمك)(أخبار الأيام الثاني 2:10-4).
مما يدل على أنه ما أن مات سليمان إلا أرسل بنو إسرائيل إلى أكبر أعدائه يربعام في مصر. وقبل أن يجلس ابن سليمان رحبعام على العرش جعلوا يطالبونه بقبول بعض شروطهم إن أراد كسب طاعتهم.
وبالاختصار فإن قول الله تعالى (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ..) كأنما يتحدث عن المؤامرات السرية التي قام بها اليهود ضد سليمان عليه السلام، كما يبين أن اليهود المعاصرين للنبي ﷺ أيضًا كانوا يكيدون له كيدا مثلهم، ولكنهم سوف يفشلون في مراميهم الخبيثة.
والحادث الثاني الذي يذكره القرآن هنا حدث ببابل، فهناك لجأ بنو إسرائيل إلى تشكيل جمعيات سرية، ولكن كان زعماؤها حينئذ اثنين من أنبياء الله تعالى، حاولا تحرير اليهود بأمر من الله تعالى، وذلك بكسر شوكة عدوهم وتشتيت شمله، كانا يستميلان الناس لتحقيق هدفهما قائلين: إنما نحن فتنة.. إذ سوف يختبركم الله تعالى ليميز الأبرار من الأشرار، فلا تكفروا ولا ترفضوا ما ندعوكم إليه. وكانا يخفيان خطتهما عن النساء ولا يشركانهن في نشاطهما.. شأن الجمعيات السرية منذ القدم، حيث لا تقبل المرأة عضوا بها. كما كان هذان النبيان -اللذان سميا هنا هاروت وماروت- لا يضرون نشاطهما السري هذا إلا الذين أمرهما الله بالكيد لهم.
والآن بقي أن نرى ما حدث في ببابل
ليكن معلوما أنه بعد سليمان ببضع سنين قام نبوخذنصر ملك بابل بغزو أورشليم وأسر عشر قبائل من اليهود وذهب بهم إلى بابل، وترك في فلسطين قبيلتين منهم فقط (الملوك الثاني 1:25-13). وانتشرت هذه القبائل اليهودية العشر واستوطنوا ما بين كشمير وغيرها من الأماكن. وقد تم أسرهم وإجلاؤهم هذا بحسب نبأ للنبي إرمياء الذي أنذرهم قائلا: إن لم تعطوا يوم السبت حرمته تدمرون (إرمياء 27:17).
ثم طال مُكثهم في منفاهم ببابل، ولم يجدوا سبيلا إلى النجاة.. حتى أنبأ الله على لسان أنبيائهم أنه تعالى سوف يعيدهم إلى وطنهم ومركزهم. وتحقق هذا بعد سبعين سنة عندما جلس على عرش ميديا وفارس ملك اسمه “كورش”، وشاء الله تعالى أن تنشب بينه وبين ملك بابل حرب لما رأى هذا وغيره من الملوك نجم كورش في صعود، ولكنه كان أدهى منهم، فأخذ يقضي عليهم واحدا واحد إلى أن شن الهجوم على بابل نفسها. وتمت بين كورش وبين النبييْن اليهودييْن “هاروت وماروت ” اتفاقية سرية تقضي بأن يناصره اليهود مِن داخل المدينة نظير السماح لهم بالعودة إلى وطنهم؛ بل وعدهم كورش بدعم مالي لإعادة بناء المعبد. وبالفعل احتل المدينة من داخلها بمساندة اليهود، ووفى لهم بوعده، فسمح لهم بالعودة إلى الوطن، وأمدهم بمال كثير وخشب لبناء المعبد، فعمرت أورشليم من جديد في عهد النبي عزرا (تأريخ المؤرخين للعالم ج2 ص26Hisؓorians Hisؓory of ؓhe World ).
فهاروت وماروت إذًا نبيان إسرائيليان قاما بأمر الله بإرجاع شعبهما إلى الوطن، وذلك بمساندة كورش ملك ميديا وفارس. وقد أطلق القرآن على أحدهما اسم ’هاروت‘ أي كثير التمزيق، وعلى الآخر اسم ’ماروت‘ أي كثير الكسر.. لِما كانا يقومان به من كسر شوكة بابل وإضعاف قوتها وتمزيق وحدتها وتشتيت شملها.
وبالنظر في التوراة يمكن القول إنهما النبي حجي و النبي زكريا بن عِدّو.. فقد ورد أن النبيين حجي وزكريا هما اللذان سعيا لتحرير اليهود بمساندة كورش سرا (عزرا 5). وإلى هذا أشار القرآن بقوله: (..وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰيَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْأَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ).
الآن ننظر إلى الأصل الثالث، ألا وهو:
هل يوجد أي أثر لمثل هذه النشاطات من جانب اليهود في عهد النبي ﷺ؟
والجواب: نعم، تذكر كتب التاريخ أن اليهود تآمروا على النبي، وتزعمهم كعب بن الاشراف الذي طاف الجزيرة العربية، وأشعل نار العدواة، وأوغر صدور العرب ضد النبي ﷺ، وبلغت به الوقاحة أن هجا نساء لمسلمين، وتناول نساء بيت النبوة أيضًا بهجوه الفاحش (السيرة النبوية لابن هشام، مقتل كعب بن الأشرف). ولما رأى اليهود أن دولة الإسلام في تقدم مستمر وازدهار متزايد رغم عواصف المعارضة هذه.. تآمروا مع دول أخرى للقضاء عليه.
كان لليهود قبل بعث النبي ﷺ علاقات قوية بملك الفرس، وتذكر كتب التاريخ أن اليهود مالوا إلى ملك الفرس بسبب اضطهاد المسيحيين الرومان لهم. كانت في ذلك الزمن دولتان عظيمتان: الدولة الفارسية المجوسية والدولة الرومانية المسيحية؛ ولما كان الفرس يعادون الرومان، وكان اليهود أيضًا يعادونهم بسبب مسيحيتهم واضطهادهم الشديد لليهود في دولتهم.. لذا مالوا إلى الفرس طمعا في مساندتهم لهم، وأنشئوا معهم علاقات قوية حتى صار لهم نفوذ في نفوس الفرس. وأيضًا فر بعض اليهود من اضطهاد الدولة المسيحية إلى بلاد فارس، وتمتعوا بالحرية الدينية تحت حكم الفرس. وهناك أعدوا كتابهم (التلمود)، ونبع هناك أحبار كبار منهم نالوا إكراما وتعظيما خاصا لدى ملوك الفرس، وخاصة لما اشتدت وطأة التعذيب المسيحي على اليهود في عهد جستنتين (527-567م)،لم يجدوا ملجأ لهم إلا في فارس، حتى تحول مركزهم الديني من يهوذا أو أورشليم إلى ببيلونيا (هتشنسن-تاريخ الأمم 550، ودائرة معارف التوراة).
وصار بهم في عهد النبي ﷺ أن ضيَّق قيصر الروم عليهم الخناق، وكان لا يدخر وسعا في القضاء عليهم، وكان لا يكتفي بتعذيبهم.. بل يكرههم على الارتداد عن دينهم، وينفيهم من البلاد. وإذا فقد كانت الدولة الفارسية هي الوحيدة التي يمكن أن يستعين بها اليهود لما كان يتمتع به دينهم ورهبانهم من احترام ونفوذ كبيرين في نفوس الفرس، حتى أن الملوك كانوا يقربونهم إليهم.
والآن، إذا ثبت وجود أي مؤامرة فارسية للقضاء على الإسلام فلا بد لنا من عزوها إلى اليهود.. لأن مشركي العرب لم يكونوا على علاقة طيبة مع الفرس، وإنما كان اليهود هم المقربون إليهم.
والذين أرجعوا ثورة كسرى إلى كتاب النبي.. هم أنفسهم قد اعترفوا آخر الأمر أنه لم يصدر هذا الأمر بمشورة عربية لأنه لم يكن له أي نفوذ على العرب، وإنما قام بما قام بإثارة خارجية.. أصحابها هم اليهود الذين أرادوا القضاء على دولة المدينة بمساندة ملك الفرس، كما قضوا من قبل على دولة بابل بنفس الطريقة.
وقد اعترف بالمؤامرة اليهودية هذه سير وليم موير فقال: إن رجال كسرى توجهوا بأوامره قبل أن يصله كتاب النبي ﷺ. وأن اليهود كانوا يثيرون كسرى على النبي. أما العرب فلم يكن لهم شأن عند كسرى، وأما النصارى فكانوا أعداء له (المرجع السابق).
تبين مما سبق من البحث ما يلي:
- أولا- أن الجمعيات السرية كانت بدايتها من اليهود.
- ثانيا- أن هؤلاء كانوا من أعداء سليمان.
- ثالثا- أنهم دبروا نشاطات سرية ثلاث مرات: مرة ضد سليمان، وثانية ضد ملك بابل، وثالثة ضد النبي ﷺ.
وما دمنا قد رأينا أن حلقات هذه الأحداث قد اتصلت بعضها ببعض.. فتحقق أن هذه الآية تتحدث عن أعداء سليمان، ثم عمّا حدث بين الملك الفارسي كورش وبين ملك بابل، ثم كل ما دبره اليهود من محاولات لقتل محمد ﷺ.
وعلى ضوء هذه الأحداث..يكون معنى الآية كما يلي:
إن هؤلاء اليهود يتبعون ما كان الشياطين -أي رؤساء الشر والفساد- يأتونه في زمن حكم سليمان عليه السلام.. حيث كانوا يتهمونه بالكفر والشرك والإلحاد، وكانوا يشيعون عنه الإشاعات بأن النساء قد مَلَكْن قلبه ودفعنه إلى عبادة آلهة غير الله أو أن يأمر بما ينافي الدين. والحق أن سليمان كان مرسلا من ربه؛ ولم يكفر ولم يشرك قط، وإنما أولئك الشياطين.. رؤوس الفتنة والشر هم الذين كفروا…
وقد بيّن الله بذكر هذه الأحداث أن اليهود المعارضين للنبي ﷺ هم أيضًا يكيدون له كما الشياطين -رؤساء الشر- يكيدون لسليمان، ويتبعون نفس الطريق الذي اختاره هاروت وماروت بأمر من الله تعالى، ولكنهم لا يفكرون أن الذين تآمروا على سليمان كانوا أهل شر وسوء، في حين أن هاروت وماروت قاما بتلك النشاطات بأمر الله لإنقاذ بني إسرائيل من ربقة ملك بابل.. وكانا يقولان للناس: هلموا انضموا إلينا ولا ترفضوا ولا ترتدوا كافرين. تعالوا نحارب من داخل المدينة سرا.. عندما يهاجمها كورش بجيش من الخارج، ولا تخبروا بذلك نساءكم لأن فيهن ضعفا وجبنا ولا يستطعن كتمان السر. فهناك بون شاسع بين ما يقومون به وبين ما قام به هاروت وماروت من نشاط خفي.. فهل يمكن أن يدَّعوا بأن ما يفعلون بمحمد ﷺ يفعلونه بأمر الله ولإرضائه تعالى؟ هل يعد كافرا من يرفض الانضمام إليهم؟ وما داموا لا يمكنهم قول ذلك فإنهم يشبهون الثائرين على ملك سليمان، وليسوا كثائرين على ملك بابل.
ويبيّن قوله تعالى: (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أن الثوار المشبَّهين بالملائكة لم يكونوا يغرون أحدا إلا بوحي من الله تعالى.. فهل يدعي اليهود أن الله يوحي إليهم أن يعادوا محمدا ﷺ؟ وبرغم أنهم لم يتلقوا أي وحي كهذا.. فهم عندما يقال لهم: لا تكيدوا هذه المكائد.. يقولون: لقد سمح الله لنا بذلك.. وقد قمنا بمثل هذه النشاطات في بابل أيضًا. فيرد الله عليهم أن الأحوال والأسباب قد تغيرت الآن تماما.. لأنكم الآن تحاربون رسولي الذي تلقى الوحي مني.. ولستم إلا مثل أعداء سليمان. كما كان أعداؤه يتهمونه بالكفر فأنتم أيضًا تتهمون محمدا بالكفر؛ وكما أشاعوا ضده الإشاعات فأنتم أيضًا تشيعون الأقاويل ضد هذا النبي، وصرتم من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه.
وقوله (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ) يشير إلى حقيقة أن اليهود يحسبون أنهم كما تحرروا من ربقة ملك بابل بمساندة ملك الفرس.. فسوف يتحررون الآن أيضًا من حكم رسول الله محمد ﷺ بالتآمر عليه من دولة خارجية؛ وهذا لن يحدث أبدا. ذلك لأن نجاح هاروت وماروت يكمن في أنهما فعلا ما فعلا بأمر الله تعالى، ولكن هؤلاء يخالفون الله عن أمره، فلن ينفعهم. فاتهامهم النبي ﷺ بالكفر كاتهام أعداء سليمان إياه وتآمُرُهم عليه مع كسرى، ومقاومتهم له بمساندة خارجية، كما حدث في غزوة خيبر، كل ذلك لن يغنى عنهم شيئا، وإنما مصيرهم الهلاك ولن يضروا محمدا شيئا.
وكأن الله تعالى ببيان هذين الحادثين يوعدهم، ويدعوهم للمقارنة بين ما فعلوا في زمن سليمان وما فعلوا في بابل حتى يعرفوا مصيرهم، حيث أدت مؤامرتهم ضد سليمان إلى إضعاف قوة إسرائيل وانحطاطهم وهوانهم فأسرهم ملك بابل وأجلاهم عن وطنهم، حتى أن أكبر أعداء سليمان يربعام أيضًا لم يجد بدا من الهروب إلى مصر (الملوك الأول 40:11). ولكنهم لما قاموا بالنشاط السري بأمر من الله تعالى وتحت قيادة نبيين قضوا على عدوهم وعادوا إلى وطنهم من جديد.
فكأن في ذلك نبأً أنهم لتآمرهم مع الفرس سوف يُطْرَدون من المدينة ثم من خيبر أيضًا حتى تطهُر أرض العرب من نجسهم.. وعندئذ يتبين جليا أنهم كاذبون. وبالفعل أدّت مؤامرتهم هذه إلى هلاك كسرى، ثم إلى نفيهم من الجزيرة العربية، تماما كما حدث بالمتآمرين على سليمان عليه السلام.