إن أصحاب الكهف هم المسيحيون الأوائل الذين تحملوا في سبيل الدين أشد العذاب، فجزاهم الله على تضحياتهم العظيمة هذه في آخر المطاف، وآتاهم ترقيات مادية وروحانية بفضل منه ورحمة. وكان هذا قبل ظهور النبي ﷺ، حيث كان النصارى الموجودون زمن بعثته ﷺ قد ضلّوا صراط الحق، وقد أشار الله تعالى بذكر أصحاب الكهف إلى أن اليهود لما أسخطوا ربهم اختار الله تعالى أصحابَ الكهف، أو بتعبير آخر، المسيحيين الأوائل الذين تمسكوا بالحق والسداد، واختصهم بأفضاله وإنعاماته.
إنه لمن المُضحك المُبكي أن الله تعالى يصرح هنا أن أصحاب الكهف ليسوا من العجائب، بل كانوا آيةً كغيرها من آيات الله ﷻ، ولكن المسلمين يقدّمونهم كأعجوبة من العجائب. اعلم أن الرشد هو الهداية، ولكن الرُّشد يقال في الأمور الدنيوية والأخروية، بينما الرَّشَد يقال في الأمور الأخروية لا غير (الأقرب)، وعليه فدعاؤهم هذا يعني: اللهم افتَحْ لنا طريقَ الخروج من محنتنا وبابَ الفلاح في أمرنا. يقول الله تعالى: منعناهم من سماع أخبار الناس بإبقائهم في الكهف لسنين، فلم يعرفوا حال أهل زمانهم.
من هم أصحاب الكهف؟ وأين كانوا؟ وما هي أحوالهم؟ هذا سؤال بالغ الأهمية، وما زال مثارَ فضول المفسرين على مر القرون. وللإجابة عليه أُسجّل أوّلاً بعض ما ذكره المفسرون القدامى بهذا الصدد من روايات.
مما قيل في أصحاب الكهف:
الرواية الأولى: قال صاحب روح المعاني: نبؤهم حسبما ذكره المؤرخ الشهير ابن إسحاق وغيره أنه لما تفشى الشرك بين المسيحيين وعبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت أزعج ذلك الموحّدين منهم. وكان أحد ملوك المسيحيين -واسمه دقيانوس، وفي روايةٍ دقيوس- يقتل النصارى الموحّدين. فألقى الشرطة القبض على فتية من هؤلاء الموحدين الذين كانوا من عظماء مدينتهم التي اسمها أفسوس، وفي بعض الروايات طرسوس. ولما أحضروهم إلى الملك عنّفهم على عدم سجودهم للأصنام، ولكنهم تمسكوا بالتوحيد. فأمهلهم الملك للمزيد من التفكير والتأمل، فاغتنموا الفرصة وفروا واختفَوا في غار اسمه بنجلوس، واشتغلوا هنالك في العبادة، واختاروا أحدًا منهم، واسمه يمليخا، ليُحضر لهم الطعام من المدينة. فكان يدخل المدينة متنكرًا ويأتي بالطعام. فعلِم في يوم من الأيام أن الملك قد رجع إلى المدينة بعد أن خرج منها لبعض المهام، وأنه أمر بإحضار الفتية. فأسرع هذا إلى أصحابه باكيًا وبلّغهم الخبر. ففزعوا إلى الله تعالى وبكوا، ولما فرغوا من دعائهم ضرب الله على آذانهم وناموا، ونفقتهم ومتاعهم بجنبهم، وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد. فخرج الملك في طلبهم، ولكن لم يستطع أحد من رجاله أن يدخل الكهف. فقال أحد رجاله: أيها الملك، أليس لو قدرتَ عليهم قتلتَهم؟ قال: بلى. قال: ابْنِ على باب الكهف جدارًا وتسدّه، ودَعْهم يموتوا جوعًا وعطشًا. ففعل. ثم كان من شأنهم ما قص الله تعالى في الآيات التالية (انظر روح المعاني).
الرواية الثانية: أخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن وهب بن منبه قال: أن واحدًا من حواريّي المسيح ؏ كان في سفر، فجاء إلى مدينة كان مَلِكُها يعبد الأصنام، وكان من أوامره أن لا يدخل المدينة أحد إلا بعد السجود لصنم منصوب على بابها. ولكن الحواري كره أن يدخلها، فأتى حمامًا خارج المدينة وأقام فيه، وأخذ يبشر؛ فصدّقه عديد من الناس. حتى جاء ابن الملك بامرأة فاحشة يدخل بها الحمام، فنصحه الحواري، فرجع في ذلك اليوم. ولكنه عاد مرة أُخرى، فنهره الحواري، فلم يلتفت إليه ودخل الحمام مع المرأة، فباتا في الحمام، ووُجد في الصباح ميتًا. فقيل للملك: قتَل ابنَك صاحبُ الحمام. فبدأ الملك التحقيق، وفرَّ صاحب الحمام وأصحابه جميعًا مع فتية دخلوا في المسيحية، ومروا على صاحب لهم في زرع لـه وهو على مثل أمرهم، فأخذهم إلى غار حيث اختفوا فيه. ولما بلغ ذلك الملكَ خرج لإلقاء القبض عليهم. وبعدها تقول الرواية نفس ما ورد في الرواية السالفة. (المرجع السابق).
الرواية الثالثة: أخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: غزونا مع معاوية نحو الروم، فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف. فبعث رجالاً فقال: اذهبوا فادخلوا الكهف، فانظروا. فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحًا فأخرجتْهم (الدر المنثور).
وفي رواية أن ابن عباس قال إنه رأى عظام أصحاب الكهف، وكانت عمرها ثلاث مائة سنة (الدر المنثور)×.
× ونص الرواية: “غزا ابن عباس مع حبيب بن مَسْلَمة، فمرّوا بالكهف، فإذا فيه عظام، فقال رجل: هذه عظام أهل الكهف. فقال ابن عباس: ذهبتْ عظامُهم أكثرَ من ثلاث مائة سنة. وفي رواية: بلِيتْ عظامهم منذ أكثر من ثلاث مائة سنة” (الدر المنثور، وابن كثير).
وفيما يتعلق بمصيرهم فقد وردت في التفاسير الروايات التالية:
سلّط الله ﷻ على أصحاب الكهف النوم دهرًا طويلاً، ثم بعَثهم. فأرسلوا أحدًا منهم ليأتي لهم بالطعام. فذهب ودفع إلى صاحب المحل الدرهمَ، فلما رأى الدرهم تحير وأنكره لأنه درهم قديم، ودفعه إلى جاره، فتحيروا جميعًا وظنوا أنها عملة بلد أجنبي. فوصل الخبر إلى الملك الذي اسمه يندوسيس، فلما سمع حكايته ذهب معه إلى الكهف، فسلّم الملك على أصحاب الكهف وعانقَهم، وتكلم معهم لبعض الوقت، ونصحوه. ثم عادوا إلى مضاجعهم وماتوا فورًا (ابن كثير، وروح المعاني).
وفي رواية أنه لما وصل الملك وأصحابه إلى باب الكهف مات أصحاب الكهف جميعًا، فلم يستطيعوا أن يروهم أحياء، وأن الذي ذهب ليأتي بالطعام أيضًا مات بعد وصوله هناك (الدر المنثور، وتفسير ابن أبي حاتم).
والحادث الذي جاء فيه اسم “وقيس” في المصادر المسيحية أيضًا. يقول المؤرخ الإنجليزي الشهير “غبن” (Gibbon) إن قصة النائمين السبعة كتبها القس غريغوري (Gregory) من مدينة طورس، وأرى تسجيلها هنا ضروريًّا. كانت هذه القصة شهيرة بين المسيحيين السوريين، وقد أخذها غريغوري منهم. والقصة التي ذكرها “غبن” تشبه لحد كبير الروايةَ التي ذكرها ابن إسحاق، حيث تقول: إن فتيانًا مسيحيين من عظماء مدينة أفسيس تعرضوا لاضطهاد الملك “وقيس”، فاختفوا في الغار، فسد الملك باب الغار، فأنامهم الله لمدة 180 سنة. ثم إن غلمانًا لـ أيدوليس، وهو صاحب المنطقة التي فيها الغار، أزالوا الأحجار عن باب الغار لبعض حاجاتهم، ولما دخلت فيه أشعة الشمس أحياهم الله تعالى. فلما انتبهوا ظنوا أنهم لم يناموا إلا ساعات. فأحسوا بالجوع، وأرسلوا أحدًا منهم واسمه جيمبليكس إلى المدينة ليأتي لهم بالطعام. فوجد المدينة قد تغيرت معالمها، ووجد على بابها صليبًا، فأخذت منه الحيرة كل مأخذ. ولما قدّم الدراهم للخباز أنكر هيئته ودراهمه وتحير، وظن أن هذا قد عثر على كنـز، فأخذه إلى القاضي. فلما سمعوا منه القصة ذهب الملك ثيودوسيس مع حاشيته إلى الكهف، فباركهم أصحابُ الكهف، وقصوا عليهم القصة، ثم ماتوا (ازدهار حكومة روما وسقوطها المجلد الأول ص 197).
ويقول العلامة أبو حيان: يوجد بالقرب من قرية “لوشة” بالأندلس كهفٌ فيه موتى، ومعهم كلبٌ، ويزعم الناس أنهم أصحاب الكهف. قال ابن عطية: دخلتُ إليهم فرأيتهم منذ أربع وخمس مائة عام وهم بهذه الحالة (البحر المحيط).
ويضيف قائلاً: وعلى مقربة من غرناطة آثارُ مدينةٍ قديمة يقال لـها مدينة “دقيوس”، وجدنا في آثارها غرائب من قبور ونحوها (المرجع السابق).
وقد ذكر المفسرون أسماء أصحاب الكهف مروية عن ابن عباس كالآتي: مكسلمينا ويمليخا ومرطونس وكسطونس وبيرونس ودنيموس ويطبونس وقالوش (ابن كثير).
وهناك روايات شتى عن الرقيم أيضًا. فقال البعض: الرقيم لوحٌ من رصاص أو حَجر كُتبتْ فيه أسماؤهم. بينما قال الآخرون: الرقيم هو شرعهم؛ هو مدينتهم؛ هو كلبهم؛ هو درهمهم؛ هو واديهم؛ هو الصخرة التي على الكهف (القرطبي).
كما نقل المفسرون روايات كثيرة أُخرى تتحدث عن أحوال كلبهم، حتى قيل: ليس في الجنة دواب سوى كلب أصحاب الكهف وحمار بلعم. وبعد نقل مثل هذه الروايات يكتب صاحب “فتح البيان”: “ولا أدري أي تعلق لهذا التدقيق والتحقيق بتفسير الكتاب العزيز، وما الذي حَملهم على هذا الفضول الذي لا مستند لـه في السمع ولا في العقل” (فتح البيان).
لقد ثبت من هذه الروايات الواردة في كتب المسلمين والمسيحيين أن قصصًا مماثلة لقصة أصحاب الكهف كانت شائعة بين الناس قبل بعث النبي ﷺ، ولكنها، كما يعلن القرآن الكريم، تختلف وتتضارب لدرجة لا يمكن معها الاعتماد عليها، إذ قد اختلط فيها الغث مع السمين.
رأي الخليفة الأول نور الدين ؓ في أصحاب الكهف:
بعد نقل آراء المفسرين القدامى أسجل الآن البحث الذي قام به حضرةُ المولوي نور الدين ؓ الخليفةُ الأول لمؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية ؏. يرى حضرته أن أصحاب الكهف هم جماعةٌ من النصارى الأوائل الموحدين. وقد سافر هؤلاء إلى بلد آخر فرارًا من الشرك المتفشي في وطنهم، وعاشوا هنالك خاملي الذكر لمدة طويلة، حتى كتب الله لهم الازدهار، ونشرهم في العالم. وهذا الحادث إشارة إلى السفر الذي قام به يوسف آرميتيا مع أصحابه إلى إنجلترا، حيث بنى أول كنيسة مسيحية. (حقائق الفرقان مجلد 3 ص 403)
ويشير حضرته ؓ هنا بالتحديد إلى الرواية الشهيرة في إنجلترا منذ قرون والتي تقول بأن الحواري فيليب بعث يوسف آرميتيا مع أشخاص آخرين إلى إنجلترا لتبليغ دينهم. فبنَوا هنالك كنسية في مكان اسمه Glastonbury، وبدأوا بالتبشير بالمسيحية. (الموسوعة البريطانية الطبعة الحادية عشرة كلمة Glastonbury).
هذه القصة مسجلة في كتاب “تاريخ كنيسة Glastonbury” الذي ألفه عامَ 1125 الميلادي William القاطن في منطقة Malmesbury. ولكن القصة لا توجد في النسخة التي كتبها William بيده، بل كل ما قال فيه هو أنه يتضح من الروايات الموثوق بها أن البابا بعث في عام 166 الميلادي إلى إنجلترا بعض المبشرين بناءً على طلب من الملك الإنجليزي L؏c؏is، وأن هؤلاء بنوا هذه الكنيسة. ويضيف William أن تاريخ هذه الكنيسة أقدم من ذلك بحسب إحدى الروايات، ولكني لا أستطيع تصديقها.
وبعد وفاة William لما أُعدت نسخة أُخرى لكتابه هذا أُلحقَت به القصة المذكورة من قبل. وهذا يعني أن القصة ملفقة أضيفت إلى الكتاب الأصلي فيما بعد من قِبل شخص آخر من دون أن يذكر لها سندًا.
أما الكهف فكان المراد منه في رأي حضرة المولوي نور الدين ؓ ذلك الرأس (Cape) الموجود على الساحل على مقربة من Glastonbury. ولكني لا أتفق مع رأي حضرته لأن هذه الكلمة الإنجليزية مأخوذة من الكلمة الفرنسية Cap واللاتينية (Caput)، التي تعني الرأس. ولكن كلمة الكهف العربية تعني الغار الواسع في الجبل أو الأرض الحجرية، ولا علاقة لها بـ (Cape) التي يذكرها الجغرافيون، والتي تعني الرأس، كالرأس الشهير بالهند باسم “رأس كماري”.
أما ما قاله ؓ إن أصحاب الكهف هم يوسف آرميتيا وأصحابه الذين سافروا إلى إنجلترا فلا أتفق معه أيضًا، لأن قصة سفر يوسف آرميتيا ملفقة حيث اشتهرت في إنجلترا بعد الميلاد بأحد عشر قرنًا وربع قرن بعد أن أُلحقتْ أول مرة بكتاب William بعد وفاته من قبل شخص مجهول. والسكوت في مثل هذه الأمور يبعث على الشك والريبة، فما بالك عن هذه القصة التي لا نجد عنها أية رواية إلا بعد مرور أكثر من ألف عام. فلو أن شخصًا قام اليوم وعزا إلى النبي ﷺ -بناء على ما سمع من الناس- روايةً جديدةً لم ترد في أي مصدر من كتب الحديث أو التاريخ، فلن يصدّقه أحد ما لم يقدّم الشواهد التاريخية التي تضع هذه الرواية في سلسلة الوقائع الثابتة الأخرى بحيث لا يسع أحدًا إنكارها.
ثم إن رواية كهذه يجب أن تكون مفخرة لأهل إنجلترا، وإن تصديق مثل هذه الروايات الملفقة ينفعهم، ولكننا نجدهم اعتبروا هذا الأمر غلطًا بعد التحري والبحث. فقد عثروا بعد وفاة وليم هذا على مستندات قديمة عن هذه الكنيسة توصلوا بقراءتها إلى أن الكنيسة بُنيت قبل وليم بثلاث مائة وخمسين سنة على الأكثر أي في حدود القرن الثامن الميلادي على أسخى تقدير. ثم إن هذه المستندات أيضًا لا تتضمن أية إشارة إلى تلك الرواية. ومن أجل ذلك قال المؤرخون الإنجليز عن مضمون هذه الرواية: “إنه ليس حدثًا تاريخيًّا، بل هو ضرب من خيال الشعراء.” (الموسوعة البريطانية الطبعة الرابعة عشرة كلمة Josef of Arcmachia) بعد الإشارة إلى هذه الاختلافات البسيطة المتعلقة بتحديد الأفراد والمكان لا أملك إلا أن أعترف أن التحقيق الذي قدمه حضرة مولانا نور الدين ؓ حول الصلة بين أصحاب الكهف والأحداث التاريخية لأمرٌ لا يقدَّر بثمن، وإنه نبراس للهداية، وبدون الضوء الذي سلّطه حضرته على هذا الموضوع يستحيل حل هذا الجزء من القرآن الكريم من الناحية التاريخية. جزاه الله أحسن الجزاء.
رأي المصلح الموعود ؓ بأصحاب الكهف:
والتفسير الذي سأقوم به مبني، إلى حد ما، على التحقيق الذي قام به حضرته ؓ ما عدا بعضَ الاختلافات الجزئية المتعلقة بالمكان والزمان والشعب. غير أن هناك أمرًا لم يرد في بحثه ؓ، ولكنه وثيق الصلة بالهدف الأساسي لهذه الآيات، وقد لفت إليه انتباهَنا سيدُنا المسيح الموعود ؏. هذا الأمر هو أن هذه الآيات تتضمن النبأ عن نـزول المسيح الموعود حيث أخبر الله تعالى فيها أنه سيأتي على جماعة من المسلمين ما أتى على أصحاب الكهف (الملفوظات مجلد 7 ص 403).
بعد هذه الأمور التمهيدية أسجل فيما يلي بحثي حول أصحاب الكهف.
لما رأيت أن الحكاية عن سفر يوسف آرميتيا لا تخرج عن كونها قصة باطلة بدأت المزيد من البحث. وأثناء بحثي هذا جاءني نسيبـي المرحوم الدكتور خليفة رشيد الدين بكتاب، وقال: إن الأحداث المذكورة في هذا الكتاب تشبه أحوال أصحاب الكهف. واسم الكتاب هو “سراديب الموتى بروما” (Catacombs of Rome). ولما قرأته رأيت أننا نستطيع أن نستفيد منه كثيرًا في بحثنا عن أصحاب الكهف. وفيما يلي ملخص محتوياته:
لم يكن المسيحيون الأوائل مشركين، والدليل عليه تلك السراديب التي عثروا عليها بالقرب من روما حيث كان المسيحيون الأوائل يختفون فيها فارين من اضطهاد الحكومة الرومانية. لقد عثروا في هذه السراديب على كثير من اللوحات التي دُوّنت فيها أحوال ذلك الزمن. ويتضح منها أن المسيحية في بدايتها كانت خالية من أي أثر من الشرك، وأن هؤلاء آمنوا بالمسيح ؏ بصفته نبيًّا مخلِّصًا فحسب. واستمر الاضطهاد الروماني، طبقًا لهذا الكتاب، لقرون، وكان هؤلاء يلوذون بهذه السراديب كلما تشتد وطأة الاضطهاد حيث كانوا يخزّنون فيها المؤن خفية ويعيشون عليها، وفي بعض الأحيان ظلوا مختفين داخل تلك السراديب لسنوات عديدة. وفي الأخير وبعد مرور ثلاثة قرون لما اعتنق أحد الملوك الرومان المسيحية زالت هذه المظالم عن هؤلاء المسيحيين. ثم إن شعب “غاث” هاجموا مدينة روما ودمروا هذه السراديب بعد أن سلبوا ما فيها، فانمحى ذكر هذه السراديب شيئًا فشيئًا، ولكن بعض علماء الآثار عثروا عليها خلال بحثهم عن أنقاض مدينة روما؛ وهكذا حصل العالم على هذه المادة التاريخية الخفية مرة أُخرى بعد ألف سنة.
وبقراءة هذا الكتاب أدركت أن تفاسيرنا قد حوت دونما شك الكثيرَ من الغث والسمين، ولكن نظرًا إلى الأحداث المذكورة في هذا الكتاب لا يجوز لنا القول إن كل ما ورد في التفاسير لا يمت إلى الحادث الحقيقي بصلة.
ولما أعدت النظر في ما ورد في التفاسير وجدت أن الروايات الثلاثة التي سجلتها آنفًا -إحداها من ابن إسحاق والاثنتان من كتب الحديث- تنطوي على بذرة الصدق والحق. ولو أن القارئ أعاد قراءة هذه الروايات مرة لأدرك أنها تحوي الأمور التالية:
- أن هذا الحادث وقع بالأمة المسيحية.
- أن هذه المظالم صُبّت عليهم من قبل الرومان.
- تقول إحدى هذه الروايات إن هذا الحادث وقع لما وصل أحد الحواريين إلى عاصمة المَلِك الروماني.
- بينما تقول رواية أُخرى أن حادث أصحاب الكهف وقع في زمن الملك دقيوس الشهير عند العرب والهنود باسم دقيانوس والذي اسمه اللاتيني Dec؏is؛ وأن بعض المسيحيين لاذوا بالغار خوفًا من بطشه.
- وكل الروايات متفقة على أن الأمة الظالمة كانت وثنية.
- وتقول رواية -لم أسجلها هنا- إن ملوك ذلك البلد أكرهوا الناس على السجود أمام أصنام لهم وعلى تقديم القرابين لها.
- وورد في رواية عن ابن عباس إن هذا الحادث حصل قبل زمنه بثلاث مائة عام.
- تقول رواية إن أصحاب الكهف خرجوا في زمن الملك الروماني يندوسيس، الذي اسمه اللاتيني Theodosis.
والواقع أنه بعد مطالعة تاريخ هذه السراديب ندرك أن هذه الروايات الإسلامية تهدينا إلى صلب الحقيقة بدلاً من أن تشوش أفكارنا. ذلك أننا نعرف من تاريخ الكنيسة وهذه السراديب أن الاضطهاد الفردي للمسيحيين كان بدأ بعد حادث الصليب مباشرة، ولكن الاضطهاد الجماعي بدأ في روما في زمن الملك نيرون. كان هذا الملك معاصرًا للحواريين حيث كان عهده ما بين 54 إلى 68 بعد الميلاد (الموسوعة البريطانية الطبعة الحادية عشرة كلمة Neru). وكان النصارى القدامى يعتقدون أن بطرس صُلب في زمن هذا الملك. مما لا شك فيه أن نُقّاد التاريخ المعاصرين-الذين يحاولون جاهدين التشكيك في كل حادث تاريخي- قد سعوا ليشككوا في هذا الأمر أيضًا، ولكنهم رغم جهودهم المضنية ما استطاعوا إبطال ذهاب بطرس إلى روما وموته هنالك (الموسوعة التوراتية مجلد 4 كلمة Peter 1).
وثمة مستند في الكتابات المسيحية القديمة كتبه الأسقف Dionysius ويرجع إلى عام 177 بعد حادث الصليب، ويخبرنا عن ذهاب بطرس إلى روما. وبما أن بطرس عمِّر بعد حادث الصليب لحوالي 67 أو 80 عامًا لذا فإن هذا المستند تمت كتابته بعد وفاة بطرس بحوالي 100 عام. ولا يمكن الاستهانة بمثل هذه الشهادة التي هي قريبة العهد من زمنهم، خصوصًا وأن كاتبها أسقف كبير من الكنيسة (الموسوعة التوراتية مجلد 4 كلمة Peter Simon).
كما جاء أنه من الثابت تاريخيًّا أن قبر بطرس في روما أصبح مزارًا للناس بعد حادث الصليب بقرنين، وأن عظامه نُقلت إلى سراديب الموتى عام 258.
أما السؤال: هل كان ذلك القبر وتلك العظام لبطرس فعلاً، فتردّ عليه الموسوعة البريطانية: ليس بيدنا ما نستطيع به الجزم بذلك. (الموسوعة البريطانية طبعة 1951 كلمة Peter 1).
وليس خفيًّا أن الشروط التي يجزمون بها على القضايا الأخرى متوفرة في هذه القضية أيضًا، حيث إن الرواة هم قريبو العهد من الحادث، كما أن هناك شهادة تاريخية من زمن لا يبعد عن وفاة بطرس بـ 125 عامًا، وهذه الشهادة هي كون قبره مزارًا للناس في روما. فسواء أكان الملك نيرون قتَل بطرسَ أم لا فمن الثابت تاريخيًّا أن بطرس ذهب إلى روما، ومات هناك، وأن المسيحيين تعرضوا للاضطهاد حينذاك، وأنهم كانوا يفرون بحياتهم هنا وهناك.
ثم إننا نعرف من التاريخ أن الاضطهاد الروماني للمسيحيين بلغ ذروته في زمن ديسيس أو دقيانوس. كانوا يعذبونهم بسن القوانين، وكل من لم يسجد للأوثان كان يُعتبر مسيحيًّا فيُسجَن أو يُقتَل. وكان حكم ديسيس من 249 إلى 251 الميلادي، وفي عامي 250 و251 قام بسنِّ قوانين غاشمة ضد المسيحيين. (الموسوعة البريطانية طبعة 1911 كلمة Decius، تاريخ الكنيسة).
ويخبرنا التاريخ أن الملك غاليريوس Galerius ألغى قبل موته في 311 الميلادي القوانينَ القاسية ضد النصارى.
(The Historians History of the World v. 7 p. 439)
ثم في عام 337 اعتنق الملك قسطنطين المسيحية، وفي زمن الملك Theodosis انتشرت المسيحية على نطاق واسع، وتمتعَ النصارى بالأمان من قبل عامة الناس أيضًا (الموسوعة البريطانية طبع 1951 كلمة Constantine).
لقد اتضح من هذه الشواهد التاريخية أن المسيحيين الأوائل تعرضوا للاضطهاد في فلسطين منذ زمن هيرودوتس وفي روما بدءًا من عهد الملك نيرون حتى 311 الميلادي، وأنهم كانوا يفرون ويختفون في الكهوف هنا وهناك أيام الاضطهاد.
بالتدبر في هذه الأحداث من السهل أن ندرك أن أصحاب الكهف هم المسيحيون الأوائل الرومان، وأنهم تعرضوا للظلم الذي بدأ في عهد أحد حواريي المسيح مئاتِ السنين. لقد بلغ اضطهادهم ذروته في زمن ديسيس، وعفي عنهم في عهد الملك Galerius؛ وتم إيقاف الاضطهاد بسن القانون في عهد قسطنطين؛ وحققوا ازدهارًا واسعًا في عهد الملك Theodosis.
وعلى ضوء هذه الأحداث لو تدبرنا الآن في روايات المفسرين -غاضين الطرف عن المبالغات التي أُضيفت إليها حتمًا من قبل الرواة المسيحيين واليهود- لوجدنا أن هذه الروايات تدلنا على أصحاب الكهف دلالة صحيحة. والحق أن هذه الروايات خالية من الاختلاف أيضًا. لقد رأى الناس في هذه الروايات اختلافًا لأنهم ظنوا قصص الاضطهاد هذه من زمن واحد، وأن هذا هو تاريخ الاضطهاد كله، مع أن الاضطهاد وقع على فئات عديدة وفي أزمنة مختلفة. لقد حصل هذا في زمن الملك نيرون حين كان بطرس موجودًا في روما، وإلى ذلك يشير ما رواه ابن إسحاق. كما حصل الاضطهاد في عهد الملك ديسيس، وإليه تشير رواية ابن المنذر على ما يبدو.
إن فترة هذا الاضطهاد امتدت إلى ثلاثة قرون، وكلما اشتدت وطأته عاش المسيحيون المضطهَدون في الكهوف، فاشتهرت بين القوم قصص شتى عن تضحياتهم. فمنهم من سمع ما حدث ببطرس، فظن أن تاريخ أصحاب الكهف ينحصر فيما حصل ببطرس فحسب. ومنهم من سمع ما حصل في زمن الملك ديسيس، فظن أن هذه هي قصة الاضطهاد فقط. ولكن إذا اعتبرنا هذه القصص أحداثًا من عصور شتى، غاضين الطرف عما ورد فيها من المبالغات التي تجد طريقها إلى مثل هذه الأمور عمومًا، فكل هذه الروايات تبدو صحيحة، وترسم لنا مشهدًا موجزًا للاضطهاد المريع الذي تعرض لـه المسيحيون الأوائل.
الجزء الثاني: أعداد أهل الكهف وبعض الحقائق المتعلقة بكهوفهم