المقالة السابقة: زيارة الملائكة لإبراهيم ؏ وتفسير رؤيا الذبح لإسماعيل ؏
المشابهة بين إبراهيم ؏ ومحمد ﷺ
ونجد هنا مماثلة غريبة بين رسول الله ﷺ وإبراهيم ؏. فكان والده ﷺ قد توفي قبل ولادته، وكان والد إبراهيم أيضًا قد توفي قبل مولده. وكلاهما قد رباه عمه. وكان عم كل واحد منهما مشركًا، وكلاهما دعا عمه المشرك إلى التوحيد. لقد قال لإبراهيم عمُّه وقومُه إنا نعبد هذه الأصنام لأننا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون، وبالمثل لما دعا رسول الله ﷺ عمه أبا طالب إلى الإسلام قال لـه عمّه: يا ابن أخي، إني أعلم أن ما تقوله حق، ولكني لو اتبعتك لقال قومي إن هذا قد ترك دين آبائه (السيرة النبوية لابن هشام). ثم إن إبراهيم قال لكبار قومه هل تتبعون آباءكم ولو كانوا لا يعملون شيئًا وكانوا من الضالين، وهذا ما قاله نبينا ﷺ أيضًا لكبار قومه.
… كان كل واحد من هذين النبيَّينِ مستمسكًا بالتوحيد بكل قوة، فكان كلاهما يؤمنان على وجه البصيرة بأن الله تعالى هو خالق السماوات والأرض. ثم إن إبراهيم ؏ قد كسر الأصنام، ولكنه كسرها عندما رجع قومه إلى بيوتهم، أما النبي ﷺ فأيضًا قد كسر الأوثان، ولكنه كسرها في وضح النهار حين كان الناس كلهم مجتمعين حول الكعبة. كانت بيده المباركة عصا يضرب بها الأصنام ويلقيها على الأرض، وما كان لأحد أن يقول أفٍّ على ذلك (السيرة الحلبية). لا شك أن إبراهيم ؏ كان عظيمًا، ولكن شتان بينه وبين حبيبي محمد! اللهم صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على محمد عددَ كل ذرة في السماء والأرض بل أكثر.
وهنا أيضًا نجد شَبهًا كبيرًا بين محمد رسول الله ﷺ وإبراهيم ؏. لقد قال قوم إبراهيم ؏ (حرِّقوه وانصروا آلهتَكم)، وهذا يعني أنهم ظنوا أنه لا يزال أمامهم طريق مفتوح لنصرة آلهتهم. أما قوم النبي ﷺ فقد قرروا بأن يسجنوه أو يقتلوه أو ينفوه من الوطن. قال الله تعالى مشيرًا إلى ذلك (وإذ يمكُر بك الذين كفَروا ليُثبتوك أو يقتُلوك أو يُخرجوك ويمكُرون ويمكر اللهُ واللهُ خيرُ الماكرين) (الأنفال: 31). وبالفعل قد أوقد أهل مكة نار الحرب ضد الرسول ﷺ طيلة عشر سنوات، ومع ذلك فشلوا. وصارت نيران الحرب التي أوقدوها لحرق الرسول ﷺ سببًا في رقيّه ونجاحه، وفي النهاية دخل محمد رسول الله ﷺ في مكة فاتحًا، حتى إن ألد أعدائه أيضًا جاءوه يبايعون على يده ﷺ… فترى كيف جعل انتصار محمد رسول الله ﷺ المشركين يائسين تمامًا، بينما ما زال أعداء إبراهيم ؏ يقولون تعالوا وانصروا آلهتكم.
كسر إبراهيم ؏ للأصنام
يقول المفسرون أن شخصًا من قوم إبراهيم ؏ سمع قوله، وقيل سمعه قوم من ضعفائهم ممن كانوا يسيرون في آخر الناس يوم خرجوا إلى العيد (روح المعاني). والحقيقة أن القوم لما لم يقبلوا قول إبراهيم ؏ رغم ما ساق لـهم من الأدلة والبراهين، أراد إبراهيم أن يكشف عليهم شناعة أوثانهم بصورة عملية وهي في حد ذاتها برهان ذو تأثير أقوى. فكسر الأصنام كلها قطعًا إلا أكبرها، آملاً أن يهديهم ذلك إلى الله تعالى. فاستشاط قومه غضبًا وقالوا من فعل هذا بآلهتنا؟ إنه جدُّ ظالم. فقال لهم الذين تحاوروا مع إبراهيم من قبل: (سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ). و(يذكرهم) يعني يذكر آلهتهم بسوء ويعيبها، بدليل قوله تعالى في هذه السورة نفسها (وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ) (الأنبياء: 37). فقال كبراء قوم إبراهيم احشروا الناس كلهم حتى يشهد ضد إبراهيم من رآه يفعل هذا بآلهتنا، لكي يتأكد أن هذا الفعل لم يصدر إلا عمن ينكر عبادة الأصنام، أو حتى يقرروا عقابه، أو حتى يشاهدوا عقابه. ثم قالوا لإبراهيم ؏: (أَأَنتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا؟) قال: (بل فَعَله) أي قد فعله فاعل، إذ لا يمكن أن يحصل هذا بدون أن يفعله أحد! (كبيرُهم هذا) أي لم تسألونني عن هذا؟ ها هو أكبر أصنامكم واقف إزاءكم، فاسْألوا صاحبكم هذا. ولا بد أن يردّ عليكم إن كانت أصنامكم قادرة على الكلام أصلاً.
علمًا أن لقوله تعالى (بل فعَله) مفهومان: أولهما: “بل فعله فاعلٌ”، وعليه فلا يكون لفظ (بل) هنا للإضراب، وإنما للتصديق، أي أن فاعلاً قد فعله حتمًا. والثابت من علامة الوقف في المصحف في هذا المقام أن الجملة التالية منفصلة حيث قال إبراهيم لماذا توجّهون هذا السؤال إليّ أنا؟ اسألوا كبير أصنامكم هذا.
والمفهوم الثاني هو أن يكون (بل فعَله) تعريضًا من إبراهيم ؏ كما كان دأبه، وكأنه قال: كيف يمكن أن أفعله أنا، بل فعله كبيرهم هذا؟ وكان يقصد: لم تسألوني هذا السؤال؟ إذا كنتُ لم أفعله فهل فعله كبير الأصنام هذا؟
فأصابهم خجل كبير لما سمعوا هذا الجواب، وقالوا متلاومين فيما بينهم إنكم أنتم الظالمون. ثم لما أمعنوا النظر أكثر خجلوا أكثر، ولكنهم عادوا إلى سيرتهم الشريرة وقالوا لإبراهيم: ألا تعلم أن هؤلاء لا ينطقون؟ فرد عليهم وقال: هل تعبدون من دون الله أصنامًا لا تنفعكم ولا تضركم شيئًا؟
كيف يكسر إبراهيم ؏ الأصنام وهي ملك غيره؟
ولا بد من التوضيح هنا أن المعبد الذي كسر فيه إبراهيم ؏ الأصنام كان مِلكًا لعائلته، ولولا ذلك لما جاز لـه كسر أصنام الآخرين. لقد كان معبدًا عائليًّا لإبراهيم ؏، وقد ورثه من الآباء، ولكنه لما كان إبراهيم يكره الشرك منذ نعومة أظفاره فكسر الأصنام في هذا المعبد الذي كان يدرّ على عائلته بدخل كبير، كما كان مدعاة لعزتهم وشهرتهم. فلما كسرها ثارت ضجة في كل البلاد، ورُفع الأمر إلى الملِك. وكان جزاؤه، وفق عرف البلاد وقوانين الملِك، حرق المجرم. وكان من التقاليد القديمة إحراق كل من يسيء إلى الأصنام، لأن الإساءة إليها كانت تُعَدّ في الزمن القديم ردّةً جزاؤها الإحراق أو الرجم. فمثلاً لما نشأت فرقة البروتستانت بين المسيحيين في أوروبا أُحرقَ أتباعها بتهمة الارتداد. أما في آسيا فكانوا يُقتلون رشقًا بالأحجار. فكان إبراهيم ؏ على علم أن عقوبة كسر الأصنام هي الحرق، ولكن الله تعالى أراد أن يُري آية. فلما أوقدوا النار في النهاية، وألقوا فيها إبراهيم ؏، هطلت الأمطار في تلك اللحظة نفسها وأخمدت النار، فخرج منها إبراهيم سالمًا معافى. وبما أن عبدة الأوثان يتّبعون الأوهام كثيرًا، فلما خمدت النار بالأمطار، ظنوا أن هذه هي المشيئة الإلهية، فخافوا وخلّوا سبيل إبراهيم ؏.
المفهوم الصحيح للصلاة الإبراهيمية
يقول الله تعالى إننا وهبنا لإبراهيم إسحاقَ ويعقوب هبةً وإنعامًا. وقد قطع الله الوعد لمحمد رسول الله ﷺ أيضًا وعدًا مماثلاً، فعلّم المسلمين دعاء: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أي يا رب، أَنزِلْ فضلك على محمد وأولاده الروحانيين القادمين كما تفضلت على إبراهيم وعلى أولاده إنك حميد مجيد.
يعترض البعض لجهله ويقول ما دامت درجة محمد ﷺ أعظم كثيرًا من درجة إبراهيم، فمن المهازل أن نؤمر بأن ندعو لمن هو أعظم درجة بأن يعطى ما أُعطيَ من هو أدنى منه درجة، وأن لا ندعو بهذا الدعاء مرة، بل نستمر في ترديده إلى يوم القيامة! إن هذا الدعاء يماثل دعاء من يقول رب اجعل المدير الأعلى لشرطة البلاد ناظر محطة شرطة القرية!
فليكن معلومًا بهذا الشأن أن القرآن الكريم قد ذكر قسمين من محاسن إبراهيم ؏. أولهما المحاسن الذاتية مثل كونه ؏ أوّاهًا، منيبًا، صدّيقًا ومن المقربين. ولا جرم أن محمدًا رسول الله ﷺ أسمى درجة من إبراهيم ؏ في هذه المزايا والمحاسن، وإلا فكيف صار خاتمَ النبيين وسيدَ وُلْدِ آدم. فالمقام المحمدي أعلى وأعظم من المقام الإبراهيمي يقينًا. ولكن، بالإضافة إلى هذه المحاسن الذاتية لإبراهيم ؏، نجد أن القرآن الكريم قد ذكر له ميزة أُخرى، وهي تلك التي تجلت في شكل الإنعام القومي. وبيانها أن إبراهيم ؏ دعا ربه وقال (ربَّنا واجعلْنا مسلمَينِ لك ومِن ذريتنا أُمّةً مسلمةً لك) (البقرة: 129)، أي يا رب، اجعلنا مطيعينِ لك صادقينِ، وأَخرِجْ مِن نسلنا أُمّة تحظى برضوانك وتتبع سبل مرضاتك. فاستجاب الله دعاءه حيث قال (وجعلنا في ذريته النبوةَ والكتابَ) (العنكبوت: 28). وهذا يعني أن الله تعالى أعطى إبراهيم أكثر مما سأل. لذا فإننا حين ندعو الله تعالى في الصلاة الإبراهيمية ونقول يا رب أَمطِرْ أفضالَك على محمد ﷺ كما تفضلت على إبراهيم، فكأننا نقول يا رب عامِلْ محمدًا مثل المعاملة التي عاملتَ بها إبراهيم. لقد وهبتَ إبراهيم ؏ أكثر مما سألك، فيا رب آت محمدًا ﷺ كذلك أكثر مما سألك. ومن الواضح أن إبراهيم قد دعا الله تعالى وفق عرفانه، وأن محمدًا ﷺ قد دعاه تعالى بحسب عرفانه هو، بل الحق أن محمدًا ﷺ قد دعا الله تعالى بأدعية لم يدع بها الأنبياء كلهم معًا في رأيي. ولما كان من المسلم به أن محمدًا ﷺ كان أكثر عرفانًا من إبراهيم ؏، فلا بد أن تكون أدعيته ﷺ أفضل من أدعية إبراهيم، وبالتالي لا بد أن يكون ما يُعطَى النبي ﷺ أفضل وأكثر مما أُعطيَه إبراهيم ؏.
إذًا فقد عُلّمنا في الصلاة الإبراهيمية لرفع درجات النبي ﷺ ورقي أمته دعاءً يبلغ من الجامعية والشمول بحيث لا يمكن تصور دعاء أفضل منه، حيث أُمرنا أن نقول يا رب أَنزِلْ على محمد رحمةً هي أفضل مما أنزلتَه على ذرية إبراهيم بواسطته، أي أنك كما أعطيت إبراهيم أكثر مما سأل كذلك أعطِ محمدًا من الجوائز والصلات أكثر مما سأل. وبما أن أدعية النبي ﷺ هي أفضل من أدعية إبراهيم من حيث سعة فيوضها وبركاتها، فلا بد أن يكون النبي ﷺ أكثر نوالاً للجوائز والصلات من إبراهيم ؏. الحق أن الناس قد وقعوا في الخطأ لورود كلمة “كما صليتَ” في هذا الدعاء، مع أن “ما” هنا مصدرية، والمعنى يا رب صلِّ على محمد كصلاتك على إبراهيم. فلو قيل “صلِّ على محمد بقدر صلاتك على إبراهيم” بدلاً من ” كما صليتَ على إبراهيم” لصحَّ ما يزعمون، ولكن الله تعالى لا يتحدث هنا عن المقدار والكمية، وإنما عن القسم والنوعية، والمراد يا رب هَبْ محمدًا ﷺ وأولاده من البركة نفسها التي وهبتَها إبراهيم ؏ وأولاده. ولم تكن تلك البركة إلا أن الله تعالى أعطى إبراهيم أكثر مما سأله. وهكذا فقد عُلِّمنا بأن ندعو الله تعالى أن يا رب أَمطِرْ على محمد رسول الله ﷺ وأُمته من عطائك وكرمك أكثر مما سألك.
إن المسيحية هي أكبر فتنة ضد الإسلام في هذه الأيام، وإنها تدعي بأن عيسى كان من أولاد إبراهيم (متى 1: 17)؛ وعليه فكأننا قد عُلِّمنا في الصلاة الإبراهيمية دعاء يقول: يا رب إن كل هذا الرقي والتقدم الذي يحرزه العالم المسيحي إنما هو نتيجة لوعدك مع إبراهيم ؏، فنتوسل إليك يا رب أن أَنزِلْ على نسل إسماعيل- أي محمد رسول الله ﷺ وأتباعه- مِن أفضالك أكثر مما أنزلتَ على الفرع الآخر من الشجرة الإبراهيمية أي على نسل إسحاق. فالآن لو نزع الله تعالى بركاته من ذلك الفرع وأجراها في نسل إسماعيل لماتت المسيحية في ليلة وضحاها. فثبت أن الصلاة الإبراهيمية دعاء عظيم عُلّمناه لرقي الإسلام والمسلمين. ثم إنه دعاء يشمل كل مسلم من كل قطر ومنطقة من العالم. وهذا يعني أنه لا يخرج عن هذا الدعاء الكامل الشامل السيد ﷺ ولا أي فرد من أمته.
الحق أن القوة التي تتمتع بها الشعوب الأوروبية إنما ترجع إلى ما قطع الله تعالى مع إبراهيم من وعود لنسل إسحاق، ولو أن الله تعالى بدأ تحقيق وعوده الخاصة بنسل إسماعيل لقُضي على المسيحية كما قُضي على عهد حزقيال وإرميا وإشعياء ويحيى وغيرهم من الأنبياء -عليهم السلام- ببعثة محمد رسول الله ﷺ، ولنال الإسلام من المجد والشوكة ما لا يمكن أن يخطر ببال المسلمين.