قصة سيدنا موسى مع العبد الصالح
لقد اختلف المفسرون في الواقعة المذكورة هنا. فقال أكثرهم -كما ورد في بعض روايات الحديث أيضًا- أن هذه الآيات تتحدث عن أخبار سفر قام به موسى ؏ للقاء رجل اسمه الخَضِر.
ثم اختلفوا في بيان دواعي هذا السفر، فقال بعضهم إن موسى ؏ قال لله يومًا: هل يوجد رجل أعلم منه. قال ﷻ: نعم، يوجد الرجل الفلاني. فذهب موسى ؏ لملاقاته. وفي رواية أن موسى سُئل مرة: هل يوجد رجل أعلم منك؟ فقال لا أعلم. فأوحى الله إليه وأخبره عن مكان الرجل الذي كان أعلم منه، فذهب لزيارته. (الكشاف والقرطبي والطبري، والبخاري: كتاب التفسير سورة الكهف).
الحق أن الناس قد أخطأوا في فهم هذا الحادث. ذلك أن سورة بني إسرائيل أنبأت عن هجرة النبي ﷺ ونتائجها على شكل إسراء، حيث أخبرت عما سيحققه المسلمون من الرقي والازدهار، وعما سيحيق بهم خلال هذه الترقيات من الأخطار المتمثلة في المعارضة الشديدة مِن قبل اليهود والنصارى. وكان من أكبر هذه الأخطار الخطر الآتي من إحدى طائفتي الأمة الموسوية وهي طائفة النصارى – علمًا أن النصارى هم، عند الله تعالى، من أُمة موسى وإن كانوا لا يعدّون أنفسهم منها. فأخبر الله تعالى أن هؤلاء سيُلحقون بالمسلمين في آخر الزمان ضررًا كبيرًا جدًّا. وقد ذَكرَ الله تعالى إسراء موسى ؏ عقبَ إسراء محمد ﷺ ليؤكد أن العاقبة لمحمد ﷺ ولأُمته، وأن هذه الطائفة الثانية من أُمة موسى، أي المسيحيين، لن يبقوا غالبين.
سفر سيدنا موسى كان كشفا
كان أستاذي المكرم المولوي نور الدين ؓ يرى أن هذه الواقعة كانت كشفًا من كشوف موسى ؏، وأنها لم تقع بالجسم المادي. وبعد التدبر في الأمر توصلت إلى أنه ؓ كان مصيبًا في رأيه هذا. وإليكم الأدلة على ذلك:
- الأول: أنه لا يوجد في التوراة أي ذكر لهذا السفر، مما يدل على أن هذا الحادث لم يقع في العالم المادي. كان من الممكن أن يختلف العهد القديم والقرآن الكريم لحد ما في بيان تفاصيل هذا السفر، أما أن يخلو العهد القديم عن ذكره أصلاً فهو أمر جد غريب…
- الثاني: لم يثبت لموسى ؏ قبل بعثته إلى بني إسرائيل إلا سفر واحد، وهو سفره إلى مَدْيَنَ، وقد ذكره القرآن الكريم في أكثر من موضع. وقد أجمع القرآن والعهد القديم على أنه لم يكن مع موسى في ذلك السفر أحدٌ (سورة القصص: 22- 24، وسفر الخروج 2: 15، 16). بينما نجد في السفر المشار إليه هنا رفيقًا لموسى تابعًا له على ما يبدو، لأن لفظ “فتى” إذا ورد مضافًا إلى أحد فيعني ابنَه أو خادِمَه. إذًا فكلمات هذه الآية لا تنطبق على السفر الذي قام به موسى إلى مَدْيَن. وبما أنه لم يثبت لموسى ؏ سفر غيره فثبت أن السفر المشار إليه لم يكن إلا كشفًا.
- الثالث: لم يثبت لموسى ؏ حتى بعد بعثتِه سفرٌ فارقَ لأجله قومَه. ولقد سجّل العهد القديم أحداث حياة موسى من الأول إلى الآخر بترتيبها الواقعي، ولكن لا نجد فيها أيضًا ذكرًا لهذا السفر، وهذا يدل على أن هذا السفر لم يكن حادثًا ماديًّا.
- الرابع: لما ذهب موسى ؏ لسماع كلام الله إلى الجبل الذي كان يقع على بعد بضعة أميال فقط من قومه، وبقي هناك أربعين ليلة، اتخذ بنو إسرائيل في غيابه العجلَ إلهًا (الأعراف: 143-149). فإذا كانت غيبته لمجرد أربعين يومًا أدّت إلى مثل هذا الفساد في قومه، فماذا عسى أن يقع فيهم أثناء غيابه الطويل عنهم بسبب هذا السفر الطويل؟ ولكننا نعرف أنه لم يقع أي فساد بين بني إسرائيل نتيجة هذا السفر، إذ لا تشير التوراة إلى أي فساد آخر غير الذي حصل باتخاذهم العجل إلهًا. كما أنه لم يكن من الحكمة أن يذهب موسى في مثل هذا السفر الطويل بعد ما شاهدَ من فساد قومه ما شاهدَ.
- الخامس: عندما ذهب موسى إلى الجبل لميقات ربه أربعين ليلة استخلف أخاه هارون على قومه، ولكن لم يثبت أن موسى ؏ استخلف أحدًا -هارونَ أو غيره- خلال هذا السفر. إذ ليس من المعقول أن يذهب موسى ؏ لهذا السفر الطويل من دون أن يستخلف على قومه أحدًا. فعدم ذكره في الكتاب المقدس يدل على أن هذا السفر لم يكن بالجسد المادي.
- السادس: أنه مما يتعارض مع سنة الأنبياء أن يفارقوا قومهم لأمد طويل بعد أن يبعثهم الله تعالى، حيث لا نجد بين الأنبياء الذين يذكرهم التاريخ نبيًّا واحدًا فعَل ذلك. وهناك أمثلة كثيرة حيث قام الأنبياء برحلات تبليغية بين قومهم، لكن سفر موسى ؏ هذا لم يكن من أجل التبليغ، كما لم يسافر في منطقة قومه، وإنما فارقَ قومه لمجرد أن يتعرف على الرجل الذي كان أعلم منه.
- السابع: قال ابن عباس ؓ في تفسير الكنـز المذكور في هذا الحادث: “ما كان الكنـز إلا علمًا” (ابن كثير، قوله تعالى: ذلك تأويلُ ما لم تَسْطِعْ عليه صبرًا). والجلي أن ما قاله ابن عباس تعبيرٌ، والتعبير لا يكون إلا للكشوف والرؤى. ولما كان الكنـز علمًا فثبت أن الجدار الذي أقامه موسى ورفيقُه لم يكن جدارًا ماديًّا كذلك، كما أن الطعام الذي طلباه من أهل القرية لم يكن طعامًا ماديًّا. فإذا كان هذا الجزء من الواقعة كشفًا فلا شك في كون الواقعة كلها كشفًا من الكشوف.
- الثامن: أن الشهادة النابعة من الحادث نفسه أيضًا تؤكد أنه لم يكن حادثًا ماديًّا. خُذْ مثلاً حادثة خرق السفينة، حيث قيل إنما خرَقها صاحبُ موسى كيلا يأخذها الملِكُ غصبًا. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل تعطلت السفينة من ذلك الخرق أم لا؟ وإذا كانت لم تتعطل فلِمَ لم يغصِبْها الملكُ؟. وإذا كانت تعطلت بالمرة فلم لم تغرَق من الخرق الحاصل فيها؟ إذ من المستحيل في العالم المادي أن تسلم من الغرق السفينةُ التي يُنـزع لوح من ألواحها. ولكن رؤية مثل هذا المنظر في الكشف ممكن تمامًا، ولا يخالف العقل بتاتًا.
حادثة قتل الغلام
كذلك لا يمكن أن تؤخذ حادثة “قتل نفس بغير نفس” من حيث الظاهر، لأن العبد الذي تبعه موسى ؏ ليتعلم منه إما أن يكون نبيًّا أو وليًّا مقرَّبًا لدى الله تعالى. ولا يمكن أن يجترئ على قتل نفس بغير نفس حتى المؤمنُ العادي، فهل يرتكبه وليٌّ مقرّب أو نبيٌّ عظيم الشأن.
يقول البعض لإثبات جواز قتل الغلام أنه لو عاش لكان قتّالاً وسفّاكًا. ولكنا نقول: إنه من الظلم العظيم ومما ينافي الشرعَ تمامًا أن يعاقَبُ شخص على جنايةٍٍ لم يرتكبها بحجة أن الله تعالى كان يعلم أنه سيرتكبها في المستقبل؟ لو كان مثل هذا العقاب جائزًا فلماذا لا يعاقب الله تعالى عباده قبل ارتكابهم الجرائم لمجرد علمه أنهم سيرتكبونها؟ إن القانون الأساسي في الشرع هو أن لا يعاقَب أحدٌ على إثم قبل ارتكابه، وإن جميع الشرائع على اختلافها متفقة على هذا الأصل.
وقد قال البعض إن ذلك الغلام كان يقتل بالفعل خفيةً ولكن لم يظهر على أمره أحد (زاد المسير لابن الجوزي). ولكنه قولٌ سخيفٌ، إذ لو كان الأمر كذلك لذكره القرآن المجيد ليعلَم الناس ويطمئنوا بأن قتل الغلام لم يكن بلا سبب.
إقامة الجدار
والحادث الأخير في هذا السفر هو إقامة الجدار، وهو أيضًا لا يمكن أن يؤخذ على ظاهره، إذ لا يُعقَل أن نبيًّا جليلاً كريمًا كموسى ؏ يلوم رفيقه على إقامة جدار اليتيمين لأن أهل القرية أبوا أن يضيّفوهما، وبخاصة أنه لم يكن لليتيمين البريئين دخلٌ في هذا، بل كان الذنب ذنب أهل القرية. ثم إنه بعيدٌ عن مروءة ونبل موسى ؏ أن يعترض على رفيقه لعدم اتخاذه أجرًا على إقامة جدار اليتيمين.
إذًا فأحداث هذا السفر تشهد بنفسها على أنه لم يكن سفرًا بالجسد المادي، بل كان كشفًا من الكشوف.
- التاسع: إن هذه الواقعة بمجملها تؤكد أنها كانت كشفًا، لأن الأمور الثلاثة -الصادرة من عبد الله هذا الذي اتّبعه موسى ؏- إذا حُملت على ظاهرها فهي ليست من الأهمية بحيث يسافر من أجل تعلُّمِها مؤمن عادي بَلْهَ أن يُرسل الله تعالى موسى ليتعلّمها. هل راح موسى ؏ ليتعلم كيف تُخرَق السفن، ويُقتَل الناس، وتقام الجدران المتهدّمة، وهل يؤخذ الأجر على إقامة الجدار أم لا؟ كلا، لن يسافر لتعلُّم مثل هذه الأمور حتى بدوي جاهل. إذًا فليس في هذه الأمور ما يجيز العقل اعتباره أمرًا ماديًّا هامًّا حتى يسافر من أجله نبيٌّ جليل الشأن كموسى الذي كان من أُولي العزم من الرسل عليهم السلام.
- العاشر: روى الماوردي أن الذي ذهب موسى للقائه كان مَلَكًَا (ابن كثير). وهذا يعني أنه لا بد من اعتبار هذه الواقعة كشفًا، إذ لا يُعقل أن يتكبد موسى ؏ عناء السفر المادي لزيارة ملاك قادر على أن يأتي إلى موسى في لمح البصر.
- الحادي عشر: ورد في الحديث أن النبي ﷺ قال: “وَدِدْنا أن موسى كان صبَر حتى يقصّ الله علينا مِن خبرهما” (البخاري: كتاب التفسير، باب قوله تعالى وإذ قال موسى لفتاه). فإذا حُملت هذه الأمور على ظاهرها فلا أجد أنا في نفسي أدنى رغبة في معرفة هذه التوافه، كما لا أتصور أن أيّ عاقل سيتمنى ذلك؛ فكيف برسول الله ﷺ الذي شأنه أسمى من إدراك البشر؟ فثبت أن هذه الأُمور كانت أنباءً تتعلق بزمن نبينا ﷺ وتجلّتْ على موسى ؏ على صورة كشف. وبما أنها تشتمل على الغيب وتنبئ عن أحوال الأُمة المحمدية لذلك تمنى رسول الله ﷺ أن يظل موسى صامتًا حتى تنكشف أُمور أُخرى أيضًا. فثبت من كل هذه الأدلة أن هذا الحادث كان كشفًا من الكشوف.
مما لا شك فيه أن هذا الحادث غير مذكور في العهد القديم، بيد أن كتب الروايات اليهودية تشير إليه. كما يتضح من المصادر الإسلامية أن مثل هذه الروايات كانت شائعةً بين اليهود في أوائل الإسلام، وإلا من أين أخذها المسلمون؟
غير أن الروايات اليهودية لا يمكن أن تؤثر على بحثنا، ولسنا مكلفين بقبولها ما لم يصدّقها القرآن والعقل والمشاهدة، بل إن قبولها من دون هذه الشروط لا يخلو من المزالق.
وملخص القول إن العقل والنقل كلاهما يقرّران كون هذه الواقعة مشهدًا من الكشوف الروحانية.
من هو العبد الصالح؟
وهناك سؤال: من هو ذلك العبد من عباد الله الذي ذهب موسى ؏ في إسرائه ليتعلّم منه؟ كان أستاذي المكرّم حضرة المولوي نور الدّين ؓ يرى أن رسول الله ﷺ هو الذي تمثل لموسى. وقد تبين لي صواب رأيه بعد التدبر في الأمر، وأيقنت أن سيدنا محمدًا ﷺ هو الذي تمثل لموسى ؏، ومن أجل ذلك تمنّى النبي ﷺ قائلاً: ليت موسى سكتَ حتى نزداد علمًا بالأُمور التي تتعلق بمستقبلنا.
وأرى -ورأيي هذا لا يتأسس على فهمي فحسب- أن موسى لما تلقى النبأَ عن ظهور محمد ﷺ عند جبل سيناء (تثنية 18: 18)، وعلِم أن نبيًّا عظيمًا سيظهر بعده، تمنى أن يشاهد ذلك التجلي العظيم الذي يظهر به اللهُ على ذلك النبي، فلم يتمالك نفسَه وقال: (رَبِّ أَرِني أنظُرْ إليك)؟ فأجابه الله تعالى: (لن تراني)، لأن كلّ واحد يرى التجلي الإلهي اللائق به.
ومما يؤيد رأيي هذا أن موسى ؏ كان سبق أن شاهد التجلي الإلهي قبل هذا السؤال حيث قال الله تعالى لـه: (إني أنا ربّك فاخلَعْ نَعلَيك إنك بالواد المقدَّس طُوًى) (طه: 13). فرغم مشاهدته التجليَّ الإلهيَّ من قبل لِمَ قال موسى مرة أخرى: (رَبِّ أَرِني أَنظُرْ إليك)؟
وقد يقال هنا: التجلي الذي شاهده من قبل كان روحانيًا، فأراد هذه المرة رؤية الله تعالى في صورته الأصلية. ولكن هذا القول تسفيهٌ لنبيّ الله موسى، ونعوذ بالله من ذلك، لأن طلب رؤية الله تعالى جهرةً في جسدٍ هو غاية السفاهة والجهالة، ولا يجوز عزوها لموسى ؏. فثبت أن طلبه هذا لم يكن إلا للرؤية الروحانية. وبما أن التجلّي الإلهي كان حصل لموسى ؏ من قبل، فلا بد أن يكون طلبه هذه المرة لرؤية تجلٍّ من نوع آخر؛ وبما أنه ؏ سأل التجلي الإلهي هذه المرة بعد تلقِّي بشارة ظهور محمد ﷺ مباشرة، لذا أستنتج من ذلك أنه سأل هذه المرة رؤيةَ التجلّي الإلهي الذي سينكشف على محمد ﷺ. فردّ الله عليه (لن تراني).. أي ليس بوسعك أن تراني بالصورة التي يراني بها محمد ﷺ، لأن رؤية ذلك التجلي تتطلب من الرائي أن يكون حائزًا على المرتبة المحمدية التي لم تَحُزْها أنت. وبالفعل لما تجلّى الله للجبل خرّ موسى صعقًا، وعرَف أنه لم يكن بوسعه تحمل ذلك التجلّي العظيم.
فأرى أن الله تعالى أراد بهذا الكشف أن يُرِيَ موسى ؏ سُموَّ مكانة النبي ﷺ إذ لم يكن الخضرُ في الكشف إلا حبيبي محمد ﷺ الذي لم يكن موسى ؏ قادرًا على السير معه. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد وبارِكْ وسلّم إنك حميد مجيد.
فتى موسى
أما قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ) (الكهف: 61) فقد ورد في الروايات أن ذلك الفتى هو يوشع بن نون (الكشاف). ولا غرابة في أن يكون موسى قد رأى معه في الكشف يوشع، ولكني أرى أن هذا الفتى هو في الحقيقة عيسى ؏ الذي كان من المقدر أن يُبعَث في آخر الأُمة الموسوية لهداية بني إسرائيل؛ وكأن سفر موسى هذا ما كان ليبلغ نهايته إلا مع عيسى عليهما السلام.
والحق أن الآية … تدعم رأيي بأن هذا الفتى هو عيسى ؏، إذ لم تذكر أن موسى أخذ معه فتاه حين خروجه من البيت، بل إنها لا تشير حتى إلى بداية سفره هذا. كل ما ورد فيها هو أن موسى ؏ وجد نفسه في حالة السفر مع فتى، فقال لفتاه: سأظل أمشي حتى أبلُغَ مجمَعَ البحرينِ أو أمضيَ حُقُبًا. وإن اللفظ الذي استعمل لبيان مدة هذا السفر هو حُقُب وهو جمع الحَقْب الذي معناه ثمانون سنة أو أكثر منها. والحق أن هذا اللفظ في اللغة العربية يقوم مقام القرن أي مائة سنة، وقد يُستعمل بمعنى سنة أو عدة سنين أيضًا. وإذا أخذنا المعنى الأخير فقوله (أو أمضيَ حُقُبًا) يعني أن أمشي سنين أو عشرات السنين. والظاهر أن مفارقة نبي لقومه لسنوات يتنافى مع العقل، بل يؤدي إلى التشكيك في ضرورة النبوة نفسها. إن رسول الله ﷺ لما وجد نفسه مضطرًا للهجرة إلى المدينة أمَر أصحابه بالهجرة إليها قبل أن يهاجر هو نفسُه، كما كان في المدينة نفسِها جماعةٌ من المؤمنين المخلصين تنتظرهم. إذًا فلو كان موسى ؏ يعني بقوله: (أو أمضيَ حُقُبًا) أنه سيظل يمشي لسنوات فهذا أيضًا يدل على كون هذه الواقعة كشفًا. أما إذا أراد به أنه سيظل يمشي لقرون -وهو الأصح عندي- فقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الله تعالى قد أجرى هذه الكلمات على لسان موسى للدلالة على أن سفره الروحاني -أي زمن أُمته- سيمتد إلى قرون طويلة.
وعندي أن في ورود هذه الجملة في هذا المقام حكمةً أُخرى، وهي أنه كان من المقدر – لدى تلك المرحلة من السفر الموسوي التي سيُرافقه فيها فتاه – أن تعتقد طائفة من أُمّة موسى خطأً بانتهاء سفره وبداية سفر فتاه عيسى؛ بمعنى أنها ستظن أن زمن الشريعة الموسوية قد انقضى، وأن عيسى قد جاء بدين جديد؛ لذلك دحض الله ﷻ هذه الشُّبهة بهذه الجملة على لسان موسى وبيّن أن سفر موسى لم ينته بلقاء فتاه بل سينتهي عند مجمع البحرين، أي لدى بعثة محمد ﷺ. وكأنه تعالى يقرر هنا أن عيسى لن يأتي بدين جديد، بل يكون تابعًا ومؤيِّدًا لدين موسى، ولن يُنهي سفرَ موسى بل سيكمِّله كنائب عنه. وهذا الأمر قد أكده عيسى ؏ نفسُه حين قال: “لا تظنوا أني جئتُ لأنقُضَ الناموسَ والأنبياء. ما جئتُ لأنقض بل لأُكمِّلَ” (متى 15: 16).
مجمع البحرين
يظهر من هذا الكشف أن موسى إما بدأ سفره هكذا بأن وجد نفسه وكأنه على سفر مع فتاه، وأنه متحيّر لعدم الوصول إلى غايته المنشودة؛ وإما أن هذا الكشف كان طويلاً، فلم ير القرآن المجيد حاجة إلى ذكر بدايته التي اشتملت على أحداث لا علاقة لها بالموضوع. ذلك أنه لا يقول أحد: (لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا) (الكهف: 61) إلا إذا كان قد ضلّ الطريق لفترة طويلة، فتأخذه الحيرة فيقول: أين غايتي المنشودة؟
واعلم أن لفظ (مجمع البحرين) أيضًا يؤكد كون هذه الواقعة كشفًا، إذ ليس ثمة مقام معروف بمجمع البحرين. هناك ثلاثة أماكن هي أقرب المواضع إلى المقام الذي سكن فيه موسى ؏ بعد الهجرة يلتقي فيها بحران، وهي:
- مضيق باب المندب حيث يلتقي البحر الأحمر والمحيط الهندي.
- مضيق الدردنيل حيث يلتقي بحر الروم وبحر مَرْمَرَة.
- مضيق البحرين حيث يلتقي الخليج الفارسي والمحيط الهندي.
كل من هذه الأماكن الثلاثة يبعد عن وطن موسى ؏ نحو ألف ميل، ونظرًا لحالات ذلك الزمان كان السفر إليه يستغرق سنة تقريبًا. وكما هو بيّنٌ من الكشف أن موسى سافر ماشيًا على ساحل البحر، وفي حال اعتباره سفرًا ماديًّا فليس مجمع البحرين هذا إلا مضيق الدردنيل لأنه هو المكان الوحيد من بين هذه الأماكن الثلاثة الذي يمكن أن يصل إليه المرء من مسكن موسى ؏ عبر ساحل البحر. ولكن هذا الطريق يمر بأرض كنعان التي لم يستطع موسى ؏ أن يدخلها أبدًا في حياته، كما يشهد عليه العهد القديم (تثنية 34: 5). وهذا دليلٌ آخر على كون هذه الواقعة كشفًا.
فالحقيقة أن مجمع البحرين ليس اسم مقام ماديّ خاص، بل هو اسم يتطلب تعبيرًا، حيث ورد عن البحر: “يدلّ في المنام على مَلِكٍ قويٍّ هائل مهابٍ عادلٍ شفيقٍ يحتاج إليه الخلائقُ.” ثم يقول: “وربما دلَّ البحر على التسبيح والتهليل” (تعطير الأنام: كلمة البحر).
وكأن هذا التعبير القرآني الأخير يومئ إلى قول الله تعالى في مستهل سورة الإسراء: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ) (الإسراء: 2). فالمراد من مجمع البحرين الزمن الذي انتهى فيه عهد موسى ؏ وابتدأ عهد محمد ﷺ.. أي أن الساعة التي تلقى فيها سيدنا محمد رسول الله ﷺ أوّل وحي النبوة كانت مجمع البحرين، حيث انتهت الحدود الزمنية لمُلك موسى ؏ الذي كان حاكمًا روحانيًّا عادلاً شفيقًا لا غنى للخلق عنه، وابتدأت الحدود الزمنية لمُلك محمد رسول الله ﷺ الذي كان أكبر البِحار أي الملوك الرّوحانيين. فكأن الله تعالى أراد بإراءة موسى ؏ مجمعَ البحرين أن يدله على زمن ينتهي فيه عهد أُمّته ليبدأ من هناك بحر آخر أي زمنُ نبي جديد، وأنه لن ينال بعد ذلك أحدٌ أسباب الحياة الروحانية إلا الذي يغوص في هذا البحر الجديد.
هذا، وتتضمن هذه الرؤيا أيضًا الإشارةَ إلى أن السلسلة الموسوية كانت إرهاصًا للسلسلة المحمدية، وأن البحر الموسوي سيلتقي في نهاية المطاف بالبحر المحمدي؛ والدليل على ذلك هو مجيء جبريل ؏ بنفسه إلى رسول الله ﷺ في الإسراء، بينما نجد موسى ؏ في كشفه يخرج بنفسه مع فتاه إلى مجمع البحرين حيث انتهى سفره (الدر المنثور، ودلائل النبوة للبيهقي: باب الإسراء).
اعلم أنه قد ورد في كُتب علم التعبير عن الحوت: “ربما دلّت رؤيتُه على معبد الصالحين ومسجد المتعبدين” (تعطير الأنام: كلمة الحوت).
يتضح من هذه الآية والآيتين التاليتين أن علامة مجمع البحرين التي أُوتِيَها موسى ؏ هي غياب الحوت عند وصوله إلى المجمع. فالمراد من قوله تعالى (نَسِيَا حُوتَهُمَا) (الكهف: 62) أن المقام الذي تخرج عنده معابدُ الصالحين ومساجد العابدين مِن أيدي هؤلاء هو مجمع البحرين.. أي المقام الذي تنتهي إليه السلسلة الموسوية وتبتدئ منه السلسلة المحمدية.
كم هو واضح وجليٌّ هذا المعنى، أعني عند ظهور نبيّ جديد يُنـزع الصلاح والعبادة الحقيقية من الأمة القديمة، وينتقلان إلى قوم النبيّ الجديد. وإلى هذا يشير هذا الكشف، حيث أخبر الله تعالى أنه بعد ظهور محمد رسول الله ﷺ إنما تُقبَل العبادات من الأُمة المحمدية وحدها، ولن تحظى عباداتُ بني إسرائيل أُمّةِ موسى بالقبول عند الله تعالى، وستندثر آثار العبادة الحقيقية والصلاح والورع في أفراد الأمة الموسوية.
نسيان الحوت
فقوله تعالى (نَسِيَا حُوتَهُمَا) يعني أن الأُمّة الإسرائيلية الخالصة -أي قوم موسى- ستخلو من العبادة الحقيقية والتقوى الحقيقية قبل مجيء مجمع البحرين بزمن طويل، ولن تبقى العبادة والصلاح إلا في أُمّة يمكن أن تدعى قومًا لموسى ولفتاه معًا، أو بتعبير آخر: عند ظهور المسيح ؏ ستوجد العبادة الحقيقية في المسيحيين فحسب، بينما سيُحرَم منها باقي بني إسرائيل.
ولكن بما أن عيسى هو أحد أنبياء السلسلة الموسوية، فحُوته بالتالي هو حوت موسى، لذا فقولـه تعالى (نَسِيَا حُوتَهُمَا) تتضمن أيضًا الإشارةَ إلى أنه حتى النصارى-وهم الذين ينتمون إلى هذين النبيين معًا- سينسون حوتهم عند مجمع البحرين.. أي سيُحرمون هم الآخرون من العبادة الحقيقية والتقوى عند ذلك المقام.
هذه الآية أيضًا تؤكد كون هذا السفر كشفًا، لأن مجمع البحرين المادي ليس من الصعب معرفته عند المرور به، ولا يمكن أن يتجاوزه المارُّ دون أن ينتبه له، كما أن معرفته لا تحتاج إلى علامة من حوت أو غيره. فلا شك إذن أن مجمع البحرين هذا روحاني يُعرَف بالآثار والعلامات إذ لا يوجد له علامة مادية يُعرف بها، بل وإن الناس في ذلك الوقت يكونون معارضين ومكذبين، ولا يقبَلون أن مجمع البحرين قد أتى.. أي لا يقبَلون أن عهد النبيّ السابق قد انتهى وعهد النبيّ الجديد قد ابتدأ. إن العلامة التي يُعرَف بها هذا الأمر هي فقدان العبادة والصلاح في قوم النبيّ السابق. عندما يرى أُولو الألباب هذا الفرق البيّن أعني حين يرون أن الله تعالى لا يقيم لعبادات القوم الأول وزنًا، ويقبل عبادات القوم الثاني ويستجيب أدعيتهم، يدركون أن مجمع البحرين قد جاء.
وبناء على هذه الآية أرى أن هذا السفر الروحاني لموسى ؏ كان مذكورًا في التوراة، ولكن اليهود كدأبهم محوا أثره لكونه ضربة قاضية عليهم. ولكن بقي ذكره في روايتهم السماعية، فنجده مسجَّلاً في كتبهم الأُخرى بصورة مشوهة.
كما يتضح أيضًا من الآية… أن السلسلة الموسوية كانت بمثابة حلقة للسلسلة المحمدية، لأن فقدان علامة مجمع البحرين في العالم الظاهري يدل على أن هذين البحرين كانا سيلتقيان بحيث لا يبدو للرائي أنهما بحران، بل يبدو البحر الثاني جزءًا من البحر الأول، وكأن ماء البحر الأول دخل في البحر الثاني بشكل لم يعودا معه بَحرين متقابلين حتى يُعرَف مجمع بينهما بعلامة معينة.
اعلم أنه ليس من الضروري أن نؤول كل جزء من أجزاء الكشف، إذ قد يرى الإنسان في الكشف أُمورًا تكمل مشاهده ولكنها ليست بحاجة لتأويل وتعبير. مثلاً إذا رأى المرء في الرؤيا منظر الموت، ورأى معه مكانًا ما، فلا يحتاج ذلك المكان إلى تعبير، إنما المنظر الذي يُستدل منه على موت أحد يقتضي التعبيرَ. ومع ذلك فإن تعبير مثل هذه الأماكن قد يساعد على فهم الموضوع، لذلك أريد أن أفسر الغداء المذكور هنا أيضًا حسب علم التعبير.
إن طلب الغداء في الرؤيا يدل على التعب والنصب حيث ورد: “مَن رأى أنه يطلب غداءً فإنه يتعَب” (تعطير الأنام: الغداء). فتعني الآية أنه لما يأتي مجمع البحرين أي يأتي زمنُ رسول الله ﷺ..فلا تنتفع منه أمة موسى وعيسى عليهما السلام -علمًا أن موسى وعيسى في هذا الكشف إنما يمثّلان أمتهما، إذ لم يجدا زمن محمد ﷺ- بل ستستمر في كفرها ولا تبرح مسافرة، دون أن تقبل أن زمن دينها قد انتهى؛ ثم بعد سفر طويل تشعر بتعب شديد، وتقول في حيرة بالغة: لِمَ لم يظهر النبيّ الكامل الذي وُعدنا بظهوره؟ ثم بعد عنائها الطويل تقول في نفسها: ألسنا على خطأ؟ فلعل ذلك النبيّ يكون قد ظهر، ولكنا حُرمنا الإيمانَ به!؟
ونظرًا إلى تأويل الصخرة فإن قوله (إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ) (الكهف: 64) سيعني أننا لما ابتُلينا بالفسق والفجور.. والمراد أن الذين ينتسبون لكلا النبيين موسى وعيسى عليهما السلام -وهم النصارى- حين يقعون في هوة الفسق والفجور، فذاك هو زمان مجمع البحرين.. أي الزمن الذي سيظهر فيه محمد رسول الله ﷺ، لأن الأنبياء لا يرسَلون إلا عند تفشِّي الفسق والفجور بين الناس.
فتأويل المنظر المذكور أنه بالرغم من أن الزمن الذي سيعمّ فيه الفساد والفجور بين الأُمّة المسيحية هو زمن ظهور محمد رسول الله ﷺ، إلا أن النصارى لن يدركوا ذلك إلا بعد زمن طويل، وبعد نَصَبِهم في السفر المضني، وإخفاقهم في جهودهم؛ فيتأسفون على فوات الأوان.
ويزداد هذا المفهوم جلاءً بقوله تعالى: (وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ) (الكهف: 64)… أي سيقول المسيحيون في أنفسهم: ما حَرَمَنا من معرفة محمد ﷺ إلا وساوس الشيطان وهواجسه، إذ ما دمنا قد رأينا أن عباداتنا لم تعد تؤتي ثمارها، وأننا قد انغمسنا في الفسق والفجور، فلِمَ لم ندرك حينها أن مقام مجمع البحرين قد جاء، وأن الله تعالى قد خذَلنا، وأن عهد النبيّ الموعود قد بدأ؟ ذلك أن قوله (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا) (الكهف: 64) إشارة إلى عجبهم من خَطَئهم، وأنه كيف خرَج الحوت من أيديهم ودخَل في البحر الثاني، أي كيف انتقلت ثمرات العبادة إلى المسلمين، وبقينا محرومين منها.
هذا المنظر أيضًا يدل على كون هذه الواقعة كشفًا، وإلا لم تكن هناك حاجة لجعل الحوت الحقيقي علامة لمعرفة مجمع البحرين الظاهري. وإن قلنا أنهما كانا يمشيان ناظرَين إلى الحوت الظاهري، فلم يكن لنسيانهما إياه مجال. هل رأيتم في الدنيا مثلاً أن رجلاً يسافر في سيارة، ثم بعد قطع مسافة طويلة ينسى أنه يركب سيارة، ويبدأ السفر على الأقدام دون أن يدري، ثم يتذكر بعد برهة من الزمان أنه كان يسافر في سيارة؟! إذًا فما داما يمشيان ناظرَين إلى الحوت فلم يكن لهما أن يخطُوَا خطوة واحدة من دون النظر إليه، وبالتالي يستحيل أن ينسياه.
أي أنهم سيدركون في تلك المرحلة أنهم قد أخطأوا إذ ما برحوا في سفرهم منفردين، مع أنهم قد تركوا مجمع البحرين وراءهم.
كما أن النبيّ ﷺ هو المقصود أيضًا في قوله تعالى (آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا) (الكهف: 66)، حيث يخاطبه الله تعالى في موضع آخر من القرآن الكريم (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 108).
كما تكشف لنا هذه الآيات البونَ الشاسع بين طبيعة محمد وطبيعة موسى عليهما السلام. ففي حين نجد موسى ؏ يستعجل في السؤال، نجد رسول الله ﷺ يلزم الصمت التامّ حتى يكشف الله عليه كل أمر من عنده.
كما أن إدراك العلوم المحمديَّة يكون صعبًا في الحقيقة على أتباع السلسلة الموسوية، لأن هذا الدين سيأتي بكثير من القضايا الجديدة، والحق أن قبول كل أمرٍ جديد يصعب جدًّا على من يزعم أنه من أهل العلم، ولذلك نجد الكفارَ، الذين كانت قلوبهم بمثابة لوح خال من الكتابة، آمنوا به بسرعةٍ، ولكن اليهود والنصارى، الذين كان عندهم الكتاب، حُرموا من الإيمان؛ لأن كل أمر خالف فيه الإسلامُ شرعَهم تسبب في نفاد صبرهم، فكانوا يقعون في الابتلاء. ولهذا السبب نفسِه حُرمت اليهود من الهدى في عهد المسيح ؏ أيضًا، بينما دخلت الأقوام الأُخرى في دينه تباعًا.
الفرق بين إسراء رسول الله وبين إسراء موسى عليهما السلام
الغريب أن موسى ؏ الذي أُخذ منه العهد بعدم السؤال لم ينفك يوجه سؤالاً تلوَ سؤال، ولكن محمدًا رسول الله ﷺ الذي لم يأخذ منه جبريل ؏ عهدًا كهذا، لما تمثل لـه الشيطان والدنيا خلال الإسراء، ونهاه جبريل عن السؤال أطاعه طاعة كاملة ولم يسأله عن شيء (ابن جرير: سورة الإسراء). وهذا أيضًا يكشف لنا البونَ الشاسع بين مكانة النبيَّينِ عليهما السلام.
من هنا تبدأ واقعة إسراء موسى ؏، حيث عُقدت المقارنة بين أحوال الأُمة المحمدية وأحوال الأُمة الموسوية. كان أستاذي المكرم حضرة المولوي نور الدين ؓ يقول: إن الفرق بين إسراء رسول الله وبين إسراء موسى عليهما السلام يتمثل في أن نبينا ﷺ اجتنب السؤال، ولكن موسى ؏ لم يستطع الصبر ولم يمسك عن السؤال؛ وكان هذا إشارة إلى أن أمة محمد ﷺ ستتمسك بالدين صابرةً، ولكن أُمة موسى ستتخلى عن الدين لقلة صبرها. ولا شك أن هذه إشارة لطيفة، وقد أكدتها الأحداث.
وكان حضرته يقول أيضًا: لقد رأى رسول الله ﷺ في الإسراء ثلاثة أمور، كذلك رأى موسى أيضًا في الإسراء ثلاث واقعات.
وأقول: ومما فتح الله عليّ من علمه هو أن هذين الإسراءين لا يتشابهان في عدد الواقعات الحاصلة فيهما فقط، بل أيضًا في تفسير هذه الواقعات. ورغم اختلافهما من حيث اللغة التمثيلية، فإن الحقيقة واحدة. وكان هذا ضروريًّا، لأن إسراء موسى ؏ كان يتضمن النبأ عن ظهور محمد ﷺ، فكان لزامًا أن تتم فيه الإشارة إلى واقعات الإسراء المحمدي.
أما “السفينة” فلا أتذكر الآن تفسير أستاذي المكرم لها، ولكنني أفسرها بمعنى المال، وأرى أن هذا هو المراد في هذا الكشف، لأن القرآن أيضًا يؤكد ذلك حيث يقول (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)(الإسراء: 67). والمراد من “الفضل” هنا المال والثروة. وركوبهما السفينةَ يعني أنه سيأتي على الأُمّتين الموسوية والمحمدية زمان تُرزَقان فيه الثروة المادية رغدًا.
بعدها تقول القصة إنهما لما ركِبا السفينةَ خرَقها صاحب موسى عليهما السلام.. أي أخرجَ ألواحها وجعَلها قِطَعًا، حيث يقال خرَق الثوب أي مزّقه وجعَله قطعًا. فاعترض عليه موسى -وبتعبير آخر اعترض قومُه- وقال: أتريد بذلك أن تُغرق أهل السفينة؟ لقد جئتَ أمرًا منكَرًا.
وخرقُ السفينة عندي يعني أن محمدًا ﷺ قام بخرق في دنيا أُمّته من خلال كثرة الأحكام الشرعية المتعلقة بالمال. فمثلاً أمرهم أوّلاً بأداء الزكاة التي تتسبب في نقصان المال في الظاهر. ثم أمرهم بالصدقات. ثم أصاب في أموالهم إذ منعهم من أخذ الربا، ثم قام بتوزيع أموالهم بأحكام الإرث، وهكذا حالَ دون تكدس الأموال. وكأنه ﷺ دمّر حياتهم الدنيوية في نظر أهل الدنيا، أما في نظر أهل الصلاح والتقوى فإنه ﷺ صان قومه من التأثير السيئ لحُب الدنيا ووقاهم من عبودية أهل الثراء.
إن هذا التعليم يصعب جدًّا قبولُه على أتباع السلسلة الموسوية، اليهودِ والنصارى. مما لا شك فيه أن النصارى يقولون بأفواههم إن “مرور جَمَلٍ مِن ثقبِ إبرةٍ أيسرُ مِن أن يدخل غنيٌّ في ملكوت السماوات” (مرقس 10: 25)، ولكنهم يعملون خلاف ذلك. إن جميع القوانين في بلادهم تساعد على تراكم ثروة الأغنياء. ليس عندهم أي أمر بوجوب أداء الزكاة. كما أن لهم حرية تامة للتعامل الربوي. ولعبُ الميسر غير محرم عندهم. ولا يوجد في بلادهم قانون ينص على تقسيم تركة الميت بين الوَرَثة الكثيرين؛ بل يمنح معظم أغنيائهم ثروتهم أكبرَ أبنائهم لتزداد العشيرة الواحدة ثراءً. وكذلك لم يحفظ شرعُهم حقوق العُمّال، في حين إن الإسلام قد سنّ قوانين عديدة لحماية حقوقهم كيلا يحتكر حفنةٌ من الأثرياء الأموالَ ويستعبدوا الفقراء. هذه هي الأحكام الإسلامية التي بسببها يخاف اليهود والنصارى من الدخول في دين الإسلام ظانين أنها بمثابة غرق القوم ودمارهم.
هذا هو الدرس الأول الذي تلقاه موسى ؏ في إسرائه. وهكذا حصل تمامًا مع النبي ﷺ ليلة الإسراء حيث رأى في أول الأمر امرأة عجوزًا، ثم عُرضت عليه كأس الماء. وقد عبَّر جبريل ؏ العجوزَ بالدنيا والماءَ بالمال، وقال للنبي ﷺ: لو شرِبتَ الماء لغرَقتَ أنت وأُمّتُك، أي لشغلت أمورُ الدنيا أُمتَك، وضعُفتْ علاقتُها بالله تعالى.
لاحِظِ البونَ الشاسع بين أفكار قوم موسى وقوم نبينا الكريم عليهما السلام! فجبريل ؏ يقول للرسول ﷺ: لو شرِبتَ الماء لغرَقتْ أُمتك، وكأنه يعتبر السفينةَ الصالحة -أي الانشغال بالحياة المادية- غرقًا، ولكن موسى ؏ أي قومه يعدُّ السفينةَ المخروقة -أي تطبيقَ أحكام الزكاة وغيرها التي تحول دون احتكار الأموال الدنيوية في أيدي البعض- غرقًا. فكيف يمكن إذًا أن يتعاون الفريقان في العمل مع هذا الاختلاف الشديد في الآراء، وإلى متى يمكن أن يتحمل أحدهما الآخر كرفيق؟
واعلم أن هذه الآية أيضًا تؤكد كون هذه الواقعة كشفًا، وإلا لغرقت السفينة حين خرَقها العبد.
أي لقد قلت لك منذ البداية إن ما بين تعليمي وتعليمك ما بين السماء والأرض، ولا يمكن أن ترافقني في سفري إلا إذا قتلتَ أهواء نفسك تمامًا.
طلَب موسى ؏ من ذلك العبد أن يعفو عنه هذه المرة، وأنه لن يعود لمثل هذا أبدًا.
أما قولـه تعالى (حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا) (الكهف: 75)، وعندي أن قتل الغلام هنا يناظر المنظرَ الثاني الذي رآه رسول الله ﷺ في إسرائه شكلاً ومضمونًا. لقد رأى رسول الله ﷺ في إسرائه أن رجلاً يناديه من ورائه ولكنه ﷺ لم يجبه؛ ثم عُرض عليه ﷺ كأس الخمر، ولكنه أبى أن يشربها. وقد عبر جبريل الرجلَ بالشيطان، وعبّر كأسَ الخمر بالغواية التي هي من عمل الشيطان. وكان المنظر الثاني في إسراء موسى ؏ أنه رأى غلامًا قتَله العبدُ الصالح أي الجمالُ المحمدي. وإذا رجعنا إلى كتب تعبير الرؤيا وجدناها تقول إن رؤية الشاب في المنام تدل -فيما تدل- على الحركة والقوة وغلبة الجهل (تعطير الأنام). والحق أن هذه الأُمور الثلاثة -أي القوة والرغبة في اللهو والجهل الشديد بالعلم الروحاني- إذا اجتمعت في شخص اتبع خطوات الشيطان.
وكان في منظر قتلِ الغلام واعتراضِ موسى على قتله إشارةٌ إلى التعليم الإسلامي الثاني الذي يحرّم الخمر وينهى عن اللغو واللهو، والذي يعترض عليه أتباع السلسلة الموسوية، وخاصة النصارى منهم -وقد ذكرتُ سابقًا أن فتى موسى هو المسيح، وأن أُمّة موسى الموجودة عند مجمع البحرين هي أتباع المسيح، وإن كان اليهود يندرجون فيها ولكن بدرجة أقلَّ- لقد أخبر الله تعالى بذلك أن هؤلاء سيعترضون على الإسلام بأنه يقتل الشباب أي يحرم الإنسان من التمتع بملذات الحياة، ويرون أن هذا ظلم عظيم، معتبرين أن الله تعالى قد منحه هذه القوى لكي يتلذذ بها، لا أن يهدرها ويهلكها.
وبالفعل تجدون المسيحيين يكرهون الإسلام عمومًا لأنه منعهم عن الإتيان بمثل هذه الأعمال الشيطانية ويظنون أن الإسلام قد قتل الشباب جراء هذا التعليم. هذه الآية أيضًا تدل على أن هذه الواقعة كانت كشفًا لأن قتل أحدٍ في حالة اليقظة من دون سببٍ حرامٌ قطعًا.
وكان فيه أيضًا رسالة إلى أن اليهود والنصارى سينقضون المعاهدات التي ستتم بينهم وبين المسلمين مرة بعد أُخرى، وتغلب عليهم عداوة الإسلام التي تمكنت من قلوبهم.
اعلم أن أهل القرية يعني القوم، لأن الأقوام تُرى في المنام على صورة القرى. وأما الضيافة فتأويلها التعاون حيث ورد أن الضيافة في المنام اجتماع على خير (تعطير الأنام: كلمة الضيافة). فتأويل قوله تعالى (اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا) (الكهف: 78)، هو أنهما التمسا من ذلك القوم أن يعاونوهما، ولكنهم رفضوا طلبهما.
أما قولـه تعالى (فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) (الكهف: 78) فقد ورد عن الجدار: “من رأَى حيطانَ بناءٍ قائمةً محتاجةً إلى مَرَمّةٍ فإنه رجل عالم أو إمام ذهبتْ دولتُه. فإن رأى أقوامًا يرمّمونها فالمراد أن أُموره سيتم إصلاحها” (تعطير الأنام: كلمة الحائط، الهامش). وإذا رأى أنه لم يُرمَّمْ فمعناه دمارُ عمله. وورد في كتاب التعبير للإمام ابن سيرين أن إصلاح الفساد في حصة من الجدار تأويلُه تعيينُ والٍ جديد مكانَ الوالي الأول.
فيعني هذا المنظر كله -نظرًا لهذه التأويلات- أن موسى وعبدًا من عباد الله الذي صاحَبَه في السفر سيلتمسان التعاون من قوم، ولكنهم سيأبون التعاون معهما. ثم سيشاهدان أنَّ عمل رجل صالح كاد أن يفسد، فيسكت موسى ولكن صاحبه -عليهما السلام- سيُصلح ما فسد من عمل ذلك الرجل الصالح. فيقول موسى لذلك العبد: كان الأولى بك أن تتخذ عليه أجرًا، فيغضب صاحبُه من قوله هذا ويفارقه. أو المراد أنه سيُستخدَم على ذلك القوم والٍ آخرُ.
وعندي أن الجزء الأول من هذا المنظر يدل على أن المراد من القرية هنا عالَمُ اليهودية والنصرانية، حيث رفض التعاونَ حين دُعي إليه. أما الجدار فالمراد منه قِدِّيسو اليهود والنصارى، والمراد من قرب انقضاض هذا الجدار زوالُ أثر هؤلاء القديسين. والمراد من إصلاح الجدار تمكين تعليمهم مرة أُخرى وتعييُن والٍ أو حاكمٍ جديد بينهم.
وأما قول موسى ؏ (لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا) (الكهف: 78)، ففيه إشارة إلى أن قومه سيزداد طمعهم التجاري، فلا يأتون بعمل إلا من منظور المنفعة المادية، وسيصعب عليهم جدًّا القيام بعمل خالصًا لوجه الله. وهذا ما نشاهده اليوم بأم أعيننا حيث إن المسيحيين -الذين هم آخر حلقة للسلسلة الموسوية- لا يخلو تعليمهم من الأغراض المادية، ولا تكون مواساتهم إلا للمكاسب الدنيوية، حتى إن تبشيرهم أيضًا لا يخلو من الأهداف السياسية والمكاسب المادية. ويكاد ينعدم فيهم العمل الخالص لوجه الله تعالى، الذي لا تشوبه فكرة الكسب المادي.
وأما رفض أهل الكتاب التعاونَ فمثاله في حياة موسى ؏ أنه خرج بقومه من مصر واعدًا إياهم بأن الله تعالى سيؤتيهم ملك كنعان، وبعد أن حاربوا وهزموا عديدًا من الأقوام الصغيرة، أمرهم بالهجوم على أهل كنعان، ولكنهم لم يستجيبوا لـه. يسجل القرآن الكريم هذا الأمر ويخبر أنهم: (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (المائدة: 25).. أي حين قال موسى لقومه: إنه قد آن الأوان أن تهاجموا عدوكم، فتنـزعوا منهم الأرض الموعودة لكم، رَدّ عليه قومه وقالوا: هذا الوعد منك أو من ربك؟ لماذا نـزهق نحن أرواحنا عبثًا في سبيل تحقيقه؟ فاذهب أنت وربك فقاتِلا، أما نحن فلن نحرك ساكنًا، ولن ندخل الأرض إلا بعد أن تقوما بفتحها!
يتضح من هذا جليًّا أنه في الوقت الذي كاد أن يوفيهم الله وعده أبى قوم موسى ؏ التعاون معه بعذر باطل ناسين أن من سنّته تعالى أنه يوفي بعض وعوده بواسطة عباده، ومن واجب العباد أن يتعاونوا مع أنبيائهم لتحقيق مثل هذه الوعود الإلهية.
أما عدم تعاونهم مع رسول الله ﷺ فمثاله ما ذكره القرآن الكريم في قوله تعالى (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاّ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران: 65).. أي يا محمد قُلْ لأهل الكتاب، سواء كانوا هودًا أو نصارى، أن يتركوا العناد ويتعاونوا مع المسلمين في أمر واحد ألا وهو نشر التوحيد، فلا يعبدوا إلا الله، ولا يشركوا به من حيث العقيدة شيئًا، ولا ينحازوا إلى أحد ظلمًا، بل يعملوا في العالم بالعدل والإنصاف كما يريد الله تعالى. وكأنه ﷺ أُمر هنا أن يلتمس منهم التعاون من أجل توطيد التصالح مع العباد وكذلك مع الله تعالى. ثم ينصح الله تعالى المسلمين: قولوا لليهود والنصارى، إن رفضوا هذا الالتماس العادل، ولم يرضوا بالتعاون في هذا العمل المشترَك، إذا كنتم لا تلبّون دعوة التعاون هذه فشأنكم، أما نحن فنتعاون معه ﷺ امتثالاً لأمر الله تعالى.
والحق أننا إذا أمعنا النظر وجدنا أن قوم المسيح لم يتعاونوا أيضًا معه ؏ حيث فرّوا جميعًا وخذلوه لدى واقعة الصليب.
لما رأى هذا العبد الصالح أن صاحبه لا يمتنع عن الاعتراض قال لـه: الآن لا بد لنا من الفراق.
وكان هذا إشارة إلى أن أهل الكتاب حين يرفضون دعوة الاتحاد على التوحيد ولا يمتنعون عن الإشراك بالله، سيقطع محمد رسول الله ﷺ علاقته عنهم، لتبدأ المواجهة بينه وبينهم.
واعلموا أن الرائي قد يعبّر في الرؤيا نفسِها الأحداثَ التي يراها فيها، وقد يكون ذلك التعبير واضحًا تمامًا، وقد ينكشف تأويلها جزئيًّا بحيث تحتاج إلى تعبير آخر في اليقظة كما هو الحال في هذا المقام. مما لا شك فيه أن التأويل الذي ذكره العبد الصالح للأحداث يكشف الحقيقة لحد ما، ولكنه ليس بتأويل واضح، بل لا تزال الأحداث بحاجة إلى تأويل آخر طبقًا لمبادئ عالم اليقظة.
قبل كل شيء قام العبد الصالح بتأويل حادث السفينة فقال (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) (الكهف: 80).
لقد سبق أن ذكرتُ تأويلَ جميع الأحداث ما عدا المساكينَ والمَلِكَ. فاعلم أن المراد من المساكين هنا أناس منكسرة متواضعة قلوبهم، لا تمنعهم أموالهم ولا منجزاتهم المادية عن مواساة الفقراء والعطف عليهم والتعايش معهم. أما الملِك فتأويله حب الدنيا، لأن الملوك الماديين مظهر من مظاهر الدنيا. وبما أن الآية تذكر هنا أن الملك كان يأخذ السفينة غصبًا فالمعنى أن الأغنياء الذين ليس لديهم حب الدين ولا ينفقون جزءًا كافيًا من أموالهم على الفقراء والأعمال الخيرية الأُخرى، تستولي عليهم محبة الدنيا وتصير أموالهم تحت تصرف الشيطان. لذلك أوصى النبي ﷺ أُمّتَه، بأمر الله تعالى، أن يخرقوا سفينتهم، أي أن ينفقوا أموالهم في سبيل الدين وخدمة الإنسانية، كيلا يطغى حبُّ الدنيا على قلوبهم، ولكيلا تصير أموالهم للدنيا الدنيّة، بدل أن تكون لله تعالى وحده.
وجدير بالذكر هنا أن الدنيا ظهرتْ لرسول الله ﷺ في الإسراء على شكل عجوز، بينما ظهرت لموسى ؏ في إسرائه على صورة ملِك غاشم. وهذا، في رأيي، إشارة إلى أن هجوم الدنيا على الأُمة المحمدية يكون ضعيفًا جدًّا حيث كانت صولتها على المسلمين بقوة امرأة عجوز، ولكن صولتها على أُمّة موسى تكون على أشدها حيث رآها على صورة ملِكٍ غاصب.
لقد ذكرت سابقًا أن رؤية الغلام في المنام تأويلها الحركة والقوّة وغلبة الجهل، والتفسير الذي بيّنه هذا العبد الصالح في هذا المقام يوافق هذا التعبير تمامًا؛ حيث قال عن قتل الغلام: كان أبواه مؤمنَين فخشِينا أن يُرهقهما طغيانًا وكفرًا.. أي قتلتُه مخافة أن يتسبب في طغيانهما وكفرهما.
وقولـه تعالى (خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا) (الكهف: 82) فاعلم أن الزكاة تعني الطهارة والنماء، وأن الرُّحم هو الرِّقة والتلطف (الأقرب). فالآية تعني أن الولد الجديد سيكون برًّا بهما ومطيعًا لهما وسببًا لرقيهما وطهارتهما. بمعنى أن القوى الإنسانيةَ غير المكبوحة إذا قُتلتْ بحُسام الشرع وكُبِّلتْ حُرّيتُها الهمجية بقيود الأحكام الإلهية، استجابت لأوامر الجسم والروح وساعدت على تطورهما وطهارتهما.
ولكن الأُمة الموسوية -كما ذكرتُ من قبل- لم تستوعب هذا الأمر، بل انغمست في اللهو والملذات والخلاعة والمجون، ولأجل ذلك نشاهد في أعمالهم سرعةً، وفي قواهم حِدّةً، وفي سلوكهم تجاسرًا؛ ومن جانب آخر تزيدهم هذه القوى طغيانًا وكفرًا، وتنحرف بهم عن الخير والتقوى، ولا تميل طبائعهم إلى قبول ما يمليه الدينُ والعقل اللذان يمثِّلان الروحَ والجسدَ.
قال هذا العبد الصالح لموسى: بَقِيَ الآن أن أُجيبَ على أمر اختلفنا فيه. أنت لا تفهم لماذا أصلحتُ الجدار الذي كان يريد أن ينقض من دون أن آخذ عليه أجرًا؟ فاعلم أنني أصلحت الجدار لأنه كان يحفظ تحته كنـزًا لغلامَين يتيمَين في المدينة كان أبوهما صالحًا.
لقد ذكرتُ سابقًا أن الجدار معناه هنا الصالحون من أجداد اليهود والنصارى، والمراد منهم في هذا المقام موسى وعيسى وأبوهما سيدنا إبراهيم الذي قال الله تعالى عنه في القرآن المجيد: (وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (البقرة: 131). أما الكنـز فهو الكنـز العلمي الروحاني الذي حفِظه تعليمُ موسى وعيسى، ولكن نفوذهما الروحاني الذي كان يحمي ذلك الكنـز بعد موتهما كان قد ضعُف ووهَن جراءَ تغافُلِ اليهود والنصارى عن الدين وابتعادهم عنه. فجاء محمد ﷺ وأصلحَ ذلك الجدار من جديد، أي حفِظ من خلال شريعته الجديدة تلك الحقائقَ التي كانت توجد في شرع موسى وعيسى. ولا سيما تلك الأنباءَ الغيبية التي كانت تخبر عن ظهور الإسلام وبعثة محمد رسول الله ﷺ قد حُفظت بين دفتي القرآن الكريم كي يمكن لليهود والنصارى -عندما يعودون إلى صوابهم- أن يهتدوا للإيمان بمحمد رسول الله ﷺ ويصلحوا حالهم بالاطلاع على نبوءات صلحائهم.
وأما قوله (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) (الكهف: 83) فهو إشارة إلى أن الجدار الجديد هو الجدار القرآني، حيث جُمع ذلك الكنـزُ في القرآن الكريم، الذي هو أمرُ الله الخالصُ، ولا دَخْلَ فيه لمحمد ﷺ، كما قال الله تعالى (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) (النجم: 4).
ثم قال العبد الصالح (ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا) (الكهف: 83).. أي يا موسى هذه هي الحقيقة التي لم تستطع عليها صبرًا.
اعلَمْ أن هذا الجزء الأخير من كشف موسى يشبه الجزءَ الأخير من إسراء نبينا عليهما السلام. كان الجزء الأخير من إسراء النبي ﷺ أن إبراهيم وموسى وعيسى أهدَوا لـه السلامَ – عليهم الصلاة والسلام جميعًا. وهذا يعني أنه لما انكشفت على هؤلاء الأنبياء حقيقة المساعدة التي قدّمها رسول الله ﷺ لأولاد إبراهيم وأتباع موسى وعيسى عليهم السلام -والتي أُشيرَ إليها في الجزء الأخير من كشف موسى- تقدموا إلى النبي ﷺ يشكرونه لما شرّف بقدومه بيتَ المقدس. لا جَرَمَ أن موسى ؏ لم يستوعب حقيقة هذا الأمر تمامًا أثناء إسرائه وبدأ يعترض عليه، ولكن الله تعالى لما كشف عليه الحقيقة فلم يتقدم موسى وحده للقاء محمد ﷺ، بل جاءه أيضًا إبراهيم وعيسى عليهم السلام جميعا معرِبين لـه عن امتنانهم وشكرهم. أما إبراهيم فلأن النبي ﷺ سعى لنجاة أولاد ابنيه إسماعيل وإسحاق عليهم السلام أجمعين، حيث هاجرَ بنفسه إلى المدينة لنجاة نسل أحد الابنين، بينما تقدَّمَ قومه ﷺ إلى بيت المقدس فعلاً لنجاة نسل الابن الآخر.
وأما موسى فلما علِم أن الجدار الذي اعترض على إقامته لم يكن يعني إلا نفسه هو، وأن الكنـز الموجود تحت الجدار لم يكن إلا تعليمه الذي صانه الرسول ﷺ من الضياع.. جاء لاستقباله ﷺ كفّارةً عن اعتراضه، آخذًا معه فتاه عيسى الذي لم يكن أقلَّ منه امتنانًا لمحمد ﷺ. وكأنهما أرادا بذلك أن يقولا للنبي ﷺ: لقد حملنا خدمتك على محمل غير حسن، ولكن الله قد كشف علينا الحقيقة الآن. فالسلام عليك يا محمد ﷺ. تعال وبارِكْ لنا بيوتنا، واعملْ على نجاة أُممنا.
ملخص قصة سيدنا موسى ؏ مع العبد الصالح
بعد الاطلاع على هذه الأحداث وشرحها لن يصعب على المرء أن يدرك أن إسراء موسى ؏ قد ذُكر في هذا المقام من القرآن الكريم للدلالة على الأمور التالية:
- أن ظهور محمد رسول الله ﷺ كان مقدَّرًا بعد فساد قوم المسيح الناصري ؏ الذين كانوا الجزء الأخير من الأُمة الموسوية.
- بعد انقضاء دور التوحيد إثر تطرُّق الفساد إلى المسيحيين كان ظهور محمد ﷺ ضروريًّا.
- أن شرع الإسلام يحتوي على قوانين ومبادئ يخالفها التعليم الموسوي في بعض المقامات اختلافًا شديدًا، ولذلك من الصعب على الأُمتين الموسوية والمسيحية التعاون مع الإسلام، ولكن لا نجاة لهم من دون العمل بشرع الإسلام.
- أن اليهود والنصارى لن يؤمنوا بمحمد رسول الله ﷺ وقت ظهوره، بل سيقبلون دعوتَه كقوم بعد زمن طويل يستمرّون خلاله في سفرهم الروحاني على حدة.
- وأنهم سيشعرون بالتعب والملل في نهاية المطاف بعد أن ظلوا مسافرين لأمد مديد، وسيستولي عليهم اليأس من الحصول على الأمن والاطمئنان بمساعيهم المنفردة؛ وعندها سيفكرون فيما آلوا إليه ليدركوا أنهم ما زالوا مسافرين دونما غاية، لأن زمن سفرهم الانفرادي كان قد انتهى قبل ذلك بكثير.
- أن الأنباء الغيبية التي وردت في كتبهم المقدسة عن ظهور محمد ﷺ وشرعه، والتي حفظها القرآن بين دفتيه، ستكون سببًا لهدايتهم حينذاك.
- وأنهم سيستعدون حينئذ لقبول تلك الشرائع والحدود التي ما كانوا ليقبلوها من قبل، وعندها سيتحلَّون بالرغبات الطيّعة الخالصة لله تعالى قاضين على ميولهم الهمجية الوحشية. فتتداركُهم رحمةُ الله، فيدخلون في بحر من رحمته تعالى لا شاطئ لـه، ولا بحر بعده، إلا الذي يتفرع منه ويكون جزءًا منه.
لقراءة قصة سيدنا موسى الحقيقية الكاملة نرجو النقر هنا
جزاكم الله خيرا
من روائع التفسيرات المؤثرة لدى ومازالوا يبحثون من هو الخضر