الموضوع السابق: حقيقة السجود لآدم، إبليس والشيطان
الشجرة التي نهي آدم وزوجه أن يقرباها:
وعن قوله تعالى: (وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) (البقرة: 36)؛ قيل إن الشجرة هي القمح أو العنب، أو هي المرأة. وقيل هي شجرة التمييز بين الخير والشر. ومثل هذه المعاني مستبعدة عقلا، لأن الاقتراب من القمح أو العنب لا يجعل المرء ظالما، فكلاهما حلال. بل قال الله لهما: (وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا) (البقرة: 36) أي كلوا حتى تشبعوا من طعام هذه المنطقة. أما المرأة فقد أمر الله تعالى آدم أن يسكن هناك مع امرأته. كما أنه ليس هناك شجرة لمعرفة الخير والشر، وإن كان هناك مثل هذه الشجرة فليس من الظلم أن يميز الإنسان بين الخير والشر، لأن التمييز بين الخير والشر يجعل الإنسان أشرف من الحيوانات الأخرى.
يتبين من القرآن الحكيم أن هذه الشجرة قد تسببت في انكشاف عورة آدم، وفي هذا دليل على أن الشجرة المذكورة ليست شجرة نباتية أرضية حقيقية، وإنما هي شجرة على سبيل المجاز. فإننا لم نر على البسيطة شجرة يؤدي الاقتراب منها أو أكل ثمارها إلى كشف العورات، كما لا نجد لا في الشريعة الإسلامية ولا في غيرها من الشرائع السابقة شجرة يحرم أكلها شرعا. ويؤكد هذا المعنى أيضا قول القرآن بأن اقتراب آدم وزوجته وأصحابه من تلك الشجرة سيجعلهم من الظالمين، في حين كان من المفروض أن يقول القرآن بأنه سيجعلهم من الآثمين، لأن الظلم قد ورد في القرآن الكريم بمعنى الشرك بالله، أو بمعنى هضم حقوق الغير. وأيضا لو أنها كانت شجرة مادية ملموسة مرئية لكانت مقاربة آدم إياها عصيانا متعمدا، وليس عن خطأ أو نسيان، لكن القرآن الكريم ينص على أن آدم قد نسي ولم يتعمد ذلك، الأمر الذي يدل على أن تلك الشجرة لم تكن مادية، بل كانت شيئا معنويا.
ما هي الشجرة التي نهى الله آدم؟
فما هي تلك الشجرة إذن؟ لقد استعيرت كلمة الشجرة في القرآن الحكيم لمعان طيبة ولمعان مكروهة. يقول تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ… وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) (إِبراهيم: 25- 27). ومن ناحية هذا المعنى فإن الله تعالى أمر آدم أن يتجنب شجرة المنكرات. أما وقد شبه الله عز وجل نظام الحسنات التي وهبت لآدم بالجنة وكذلك وصف الأُمور المناقضة لهذا النظام بالشجرة التي نهى عن مقاربتها؛ فكأن الله تعالى يخبر آدم ومن معه بأنهم قد أُمروا بالإقامة في جنة الحسنات هذه، بالابتعاد عن الأمور المعاكسة لها لكيلا تضيع منهم تلك الجنة.
وعلى ضوء هذا المعنى يكون من السهل جدا تفهم خطأ آدم في أمر من دقائق الأمور، إذ كان من اليسير أن يخدعه أحد في هذا. فمع أنه من الممكن أن المراد بالشجرة الممنوعة كل تلك المنكرات التي نهى الله تعالى آدم عنها، إلا أن الابتعاد عن الشجرة، في ضوء موضوع هذه الآية، يعني خاصة أخذ الحيطة والحذر من إبليس وذريته، لأنه أقسم بإغواء آدم وذريته. ويؤكد ذلك في قوله تعالى: (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) (طه: 118).
ومما يؤيد هذا المعنى أيضا استعمالنا لكلمة “شجرة” بمعنى “شجرة النسب”. فالامتناع عن الشجرة إذن إنما يعني أخذ الحيطة من إبليس وذريته، أي أصحابه وأعوانه. فإطلاق تسمية “الشجرة” على إبليس استخدام لطيف للغاية، إذ شبّه بذلك إبليس وأعوانه بشجرة محرمة، مكتفيا بذكر جذعها الرئيسي، وهو إبليس، الذي يتفرع منه سائر الأعوان والذراري.
ولا يغيبن عن البال أن محادثة الله عز وجل مع آدم لم تكن كالمحادثات الإنسانية، بل كانت بصورة وحي سماوي مما يتلقاه الأنبياء، وما زال الوحي السماوي محلّى بألوان من الاستعارات والمجازات والتمثيلات العديدة. أمر الله تعالى آدم بأن يقيم فى مكان هو كالجنة راحة ونعمة، ووهب له شريعة تحول هذه الدنيا إلى الجنة، وأنعم عليه بزوج وأصحاب كانوا منقادين له مطيعين، محولين هذه الحياة إلى جنة آمنة، فنظرا لكل هذه النعم الجليلة، أمر الله عز وجل آدم وأصحابه معه بالإقامة في تلك الجنة؛ بينما نهاه عن صفات معاكسة للجنة باستخدام كلمة الشجرة. فاستعمال كلمة “الشجرة” جاء لأجل مناسبتها لكلمة “الجنة”. وقد أُشير بذلك إلى الأمور التالية:
أن أصل التعاليم التي تلقاها آدم من ربه هو الحِلّ، أما التحريم فهو لأجل الضرورة.
أن جماعة آدم ستكون هي الغالبة والأكثر عددا، وأن أعداءه سوف يتحولون إلى أقلية، بحيث تكون النسبة بين آدم وجماعته من ناحية، وأعدائه من ناحية أخرى كالنسبة بين جنة كثيرة الأشجار وشجرة مفردة محدودة النطاق.
كيف أزل الشيطان آدم؟
(فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (البقرة: 37).
والمعنى أن الشيطان أزل قدم آدم عن طريق الشجرة بدون عزم من آدم ؏ فكل ما حصل كان بالخداع والمكر من جانب الشيطان.
اذهبوا، فقد وقع العداء بينكم، ولا تحسبُنَّ أن هذا العداء سوف ينتهي هنا، بل سوف يستمر بينكم في المستقبل أيضا، ولسوف يسعى الشيطان لشن هجوم كهذا عند مبعث كل نبي من الله.
وسوف تمكثون في هذه الأرض وتنتفعون من أسباب العيش فيها. فعليكم بالحذر لأنه ليس أمامكم مفر إلا أن تعيشوا مع ذراري الشيطان. ثم إن هذه الحياة ذريعة مؤقتة بغرض التزود للحياة الآخرة، فلا تتغافلوا وتتشاغلوا عن هذا الهدف وتنهمكوا في جمع متاع هذه الحياة الدنيا. وتفيد هذه الآية الكريمة عدة أمور جديرة بالانتباه:
الأمر الأول: أن من مقتضى المجتمع البشري أن يجتمع فيه المؤمن والكافر في مكان واحد ويقيما به معا، وأن العداء بين الخير والشر قائم لا ينفك، فلذلك كان على المؤمنين الصالحين أن لا يألوا جهدا في دفع الشيطان وشروره عن أنفسهم وعن أولادهم، وهذا الأمر بالأهمية بمكان.
فإن الغفلة عنه تؤدي إلى انقضاء عهد الحسنات، وكلما ظن المؤمنون أنهم بمأمن من هجمات الشيطان سادهم دور التدهور والانهيار، وأخذ الشيطان يغلبهم شيئا فشيئا، ألا يا ليت كان هناك قوم يرعون هذا الأمر حق رعايته، فيحطمون رأس الشيطان. كما أن من عادة أهل الصلاح أنهم يُفرطون في حب أولادهم ويثقون بهم أكثر من اللازم، مما يوقع بالأولاد في شراك الشيطان بعد أن كانوا صالحين.
الأمر الثاني: أن الله تعالى قد قضى بأن آدم وذريته سيسكنون هذه الأرض، ولن يغادروها فرارا من هجمات الشيطان، بل عليهم أن يعيشوا فيها معا، يواجه كل منهم الآخر. ولكن للأسف، يزعم بعض المسلمين أن ذرية الشيطان لما هجموا على عيسى بن مريم “عليهما السلام” رفعه الله تعالى إلى السماء، وأبعده عن نطاق الأرض ليحفظه من كيد أعدائه. إن هذا الاعتقاد يناقض هذه الآية مناقضة صريحة، لأن الله تعالى يقول: إن على آدم وذريته أن يعيشوا في هذه الأرض، فهي مستقرهم، أي مكان إقامتهم الدائم الثابت، فكيف يمكن أن يرفع المسيح الناصري إلى السماء؟ لو كان أحد أحق بالرفع إلى السماء عند التعرض لهجمات الأعداء لكان آدم أول الأنبياء، أو محمد المصطفى ﷺ سيد ولد آدم. إن هؤلاء يعتقدون بأن آدم بعد أن تعرض لهجوم الشيطان طرح من السماء إلى الأرض، ويوقنون بأن محمدا ﷺ اضطر للهجرة من مكة إلى المدينة، ولم يرفعه الله تعالى إلى السماء مع أنه الأحق بذلك والأولى!
الأمر الثالث: أن انخداع آدم بقول الشيطان راجع إلى ظن آدم بأنه مأمور بالابتعاد عن مظهر معين للشيطان، لكن الله تعالى كان يريد أن يبتعد آدم من الشيطان وأتباعه جميعا، ذلك لأن الشيطان إنما هو روح معنوية مثيرة للسيئات، وما كان من الممكن أن يُخدع آدم بصورة جسمانية وبطريق مباشر ولكن أتباعه هم الذين يهيجون حركات الشر، وهم من بني الإنسان، ولذلك تتعذر معرفتهم، لأنهم أحيانا يتظاهرون بالإيمان فيُعتبرون من المسلمين، وبذلك ينجحون في مكائدهم ويصعب تمييزهم؛ هل هم أتباع الشيطان أم هم من المؤمنين الناصحين حقا. إن مظهر الشيطان المذكور في الآية استعمل ذات المكيدة الشيطانية التي أشار إليها القرآن الكريم في قوله: (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (الأَعراف: 22). ومثل هذا الخداع لا يخالف العقل، وقد يقع الإنسان فيه. وأمثال هؤلاء الشياطين المنافقين كانوا في عهد رسول الله ﷺ أيضا.
ورب متسائل يقول: لو سلمنا بأن الشيطان ظهر لآدم بمظهر مخالف لإبليس، وتظاهر له بالإيمان والإخلاص مما جعل آدم ينخدع به، فكيف يصح ذلك مع أن ما أمر به الشيطان كان معصية لله تعالى، وكيف يقدم آدم على مخالفة أمر الله؟
وجوابنا على ذلك أن الإنسان كما يخدع غيره بتغيير زيه ومظهره كذلك يخدعه بتصوير الحقائق على عكسها، وتقديمها بصورة مزيفة. ويخبرنا القرآن أيضا أن الشيطان اتبع مع آدم المكيدة نفسها؛ فعندما حرّضه على مقاربة الشجرة الممنوعة قال له: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) (الأَعراف: 21). فكأن الشيطان يقول لسيدنا آدم: يجب أن تفكر في حكمة الامتناع عن الشجرة بدل من التمسك بظاهر نص الأمر الإلهي، إن الله يريد لك أن تصبح ملكا وتنال خلودا بالامتناع عنها، ويمكن لك تحقيق هذا الغرض نفسه الآن باقترابك منها. فتمسَّك بروح الأمر ولا تتردد في الاقتراب من الشجرة فتحقق المشيئة الإلهية.
وبالنظر في الآيتين السابقتين معا نلاحظ في الأولى أن الشيطان تظاهر أمام آدم بالإيمان وتصديق ما أُمر به آدم من حيث الغرض من الابتعاد عن تلك الشجرة. وفي الآية الثانية ارتدى عباءة الناصح المجتهد وأوهم آدم بأن الظروف قد تغيرت، وأن بوسعه الآن تحقيق الغرض الإلهي نفسه بالاقتراب من الشجرة بدلا من تجنبها؛ فالأولى هو العمل بروح الأمر وليس بنص الكلمات، وما دام الهدف الأصلي متحققا فلا بأس من ذلك.
ويتبين من ذلك أن الخواص فضلا عن العوام يمكن أيضا أن ينخدعوا هكذا في بعض المسائل الدقيقة. ثم إن آدم كان أول الأنبياء، ولم يكن قبله مثل هذه الأحداث حتى تكون له عبرة منها. وربما شاء الله تعالى أن يقع آدم في هذا الخطأ ليكون عبرة لمن بعده. ففي أيامنا هذه ينخدع عامة المسلمين بمثل هذه الاجتهادات الخاطئة رغم وجود هذه العبر في الماضي.
إن قوله تعالى (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) (طه: 116). يدل على أن آدم ؏ إنما وقع في خطأ اجتهادي من غير قصد. فإن الله تعالى يخبرنا في سورة الأعراف أن الشيطان قد جاء آدم متنكرًا في عباءة ناصح أمين، وكأن الشيطان ترك العداء الظاهري لآدم وانضم إلى جماعته، وحلف لهم مؤكدًا لهم صدقه وإخلاصه. شأنه شأن المنافقين الذين يخبرنا الله تعالى في القرآن الكريم أنهم يأتون محمدًا ﷺ ويحلفون لـه قائلين: إنك لرسول الله، والله يعلم إنك لرسوله، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون في أحلافهم؛ فاحْذَرْهم دائمًا. وهذا ما فعل رأس المنافقين في زمن آدم، فجاءه مؤكدًا له إخلاصه وولاءه؛ ففكر آدم أن هذا الشخص كان ذا نزعة إبليسية من قبل، ولكنه قد ترك الآن العداء، فلا حرج في الاتصال به. فكانت نتيجة خطئه الاجتهادي هذا أنه اضطُر للخروج من حالة الأمن والسلام التي كان فيها.
هبوط آدم:
وينخدع بعض الناس بقوله (اهْبِطُوا)، فيقولون إن معناها أن الله تعالى أسقط آدم من السماء على الأرض، ولكن من معاني الهبوط الانتقال من مكان إلى آخر، كما ورد في قوله تعالى حكاية عن بني إسرائيل (اهْبِطُوا مِصْرًا) (البقرة: 62). أي ارتحلوا من هنا إلى بلد آخر.
عندما خدع الشيطان سيدنا آدم وأطلعه الله على زلته دعا الله تعالى مبتهلا: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الأَعراف: 24). ويبدو أن هذا هو الدعاء الذي تلقنه من ربه.
تدل هذه الآية على حقيقة لطيفة، ذلك أن الله تعالى يتفضل على الإنسان فيعلمه الأدعية التي تستدر الرحمة الإلهية. وكثير من الناس يصطنعون أدعية من عند أنفسهم، وقد تتسم بالنقص والانحراف، مما يجعلها تتحول إلى دعاء عليهم. ولا نعني بذلك أن يمتنع الإنسان مطلقا عن الدعاء بكلماته، بل المراد به أن يسعى الإنسان كما سعى آدم عليه السلام للاتصال بالله اتصالا وثيقا لكي يتلقى من الله تعالى الدعاء عندما يتعرض لمشكلة أو مصيبة، ولكي يرث فضل الله تعالى بذلك الدعاء.
(قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة: 39).
في قوله تعالى (اهْبِطُواْ) بصيغة الجمع دلالة على أن آدم وزوجه لم يكونا وحدهما في الجنة، بل كان معهما أتباع آدم عليه السلام أيضا.
ولقد وعد الله عز وجل بهذه الآية أنه لن يزال يظهر من ذرية آدم دعاة يحملون إلى الناس الهدي الإلهي، ويدعونهم إلى الأعمال الصالحة، وأن من يستجيب لهم ويهتدي سيدخل الجنة في هذه الدنيا أيضا، أي أن قلوبهم ستكون عامرة بالقوة الإيمانية التي تورثهم الطمأنينة في كل حال، فلن يداخل قلوبهم الخوف من المصائب المقبلة، ولا الحزن على ما قد أصابهم من قبل، بل تكون قلوبهم المطمئنة بمثابة الجنة لهم. ثم إن جنة الآخرة بعد الموت ميراث لهم يجدون فيها من نعيم الله تعالى ما لا يُحصى.
وتدلنا الآية أيضا على أن الوحي الإلهي لم ينقطع بعد آدم، لأن الله تعالى وعد منذ ذلك العهد بأن وحيه لن ينقطع نزوله، وأن المؤمنين به سوف يحظون بفضل الله دون انقطاع.
والذين يتنكبون عن طريق الهدى ولا يؤمنون بالآيات التي جعلها الله تعالى لمعرفته سيقعون في النار، ولن يجدوا طمأنينة القلب وسكينة النفس رغم كثرة النعم التي تحيط بهم، كما ينالون العقاب بعد الموت…
معنى ورق الجنة:
المهم أن الله تعالى لما قال لآدم إن الشيطان عدو لك جاء آدمَ متنكرًا وقال لـه هل أدلك على شجرة إذا أكلت من ثمرها نلت الحياة الأبدية، وهل أخبرك بمُلك لا يباد أبدًا؟ فاغتر آدم بكلامه المعسول، فأكل هو وجماعته، أو هو وزوجته، من ثمر تلك الشجرة التي قد نهاه الله عن الاقتراب منها، بمعنى أنهم أتوا العمل الذي قد نُهوا عنه. وبما أن ما ارتكبه آدم كان خلافًا لمشيئة الله تعالى فأخذت عواقبه السيئة تظهر على الفور، فأدرك آدم أنه قد ارتكب خطأ فادحًا بمخالفته أمر الله تعالى. حيث يقول الله تعالى (فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) (طه: 122) أي بأكلهما من تلك الشجرة انكشفت عليهما عيوبهما، وظهرت عليهما النتائج السيئة لفِعلتهما، وعلِما أنهما قد وقعا في أمر معيب. فلما أحس آدم بخطئه أخذا يغطيان نفسهما بأوراق الجنة.
ثم يقول الله تعالى إن آدم خالف أمر الله تعالى فوقع في الشقاء. ثم أكرمه الله تعالى حيث إن آدم لما أخذ بتغطية نفسه بورق الجنة هداه الله تعالى إلى طريق يؤدي به وبجماعته إلى الفلاح…
ومن معاني الورق في العربية الزينة، والنسل أيضًا حيث ورد في القواميس: الورقُ جمالُ الدنيا وبهجتُها. ويقال أنت طيّب الورقِ أي طيّب النسلِ (الأقرب). وعليه فقوله تعالى (وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) (طه: 122) يعني أوّلاً، أن آدم وزوجته أخذا يستران نفسهما بزينة الجنة وجمالها. والبديهي أن زينة الجنة وجمالها سكّانها المؤمنون الطاهرون. وثانيًا: أن آدم أخذ يزيل تأثير خدعة الشيطان من خلال ذريته الطيبة، حتى نجح في ذلك.
لقد ورد هذا الحدث في التوراة كالآتي:
“وَكَانَتِ الْحَيَّةُ أَحْيَلَ جَمِيعِ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ الَّتِي عَمِلَهَا الرَّبُّ الإِلهُ، فَقَالَتْ لِلْمَرْأَةِ: أَحَقًّا قَالَ اللهُ لاَ تَأْكُلاَ مِنْ كُلِّ شَجَرِ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ لِلْحَيَّةِ: “مِنْ ثَمَرِ شَجَرِ الْجَنَّةِ نَأْكُلُ، وَأَمَّا ثَمَرُ الشَّجَرَةِ الَّتِي فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ فَقَالَ اللهُ: لاَ تَأْكُلاَ مِنْهُ وَلاَ تَمَسَّاهُ لِئَلاَّ تَمُوتَا. فَقَالَتِ الْحَيَّةُ لِلْمَرْأَةِ: لَنْ تَمُوتَا! بَلِ اللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ. فَرَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّ الشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ، وَأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ، وَأَنَّ الشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ. فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ، وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضًا مَعَهَا فَأَكَلَ. فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ. فَخَاطَا أَوْرَاقَ تِينٍ وَصَنَعَا لأَنْفُسِهِمَا مَآزِرَ” (سِفْرُ التَّكْوِينِ 3 : 1-7)”.
لقد استعملت التوراة هنا ورق التين بدلاً من ورق الجنة. فلنرَ الآن هل ورق التين وورق الجنة شيئان أم شيء واحد؟ ونرجع بهذا الصدد إلى علم تعبير الرؤيا حيث ورد: “التِّين في المنام يفسَّر بالصلحاء وأخيار الناس” (تعطير الأنام في تعبير المنام). وهذا هو معنى ورق الجنة أيضًا. فثبت أنه ليس ثمة اختلاف بين القرآن والتوراة بهذا الشأن، فإنهما متفقان على أن الشيطان لما خدع آدم شعر آدم بخطئه، فضم إليه جماعة المؤمنين وأفشل مكائد الشيطان. كان بنية الشيطان أن يهزم آدم بمكيدته، ولكن كيده أدى إلى صحوة جديدة في آدم بدلاً من أن يضره أو يفسده، فأخذ معه جماعة المؤمنين الطيبين وقضى على الفتنة التي أثارها الشيطان. أي أنه تعالى اختاره ونظر إليه نظرة رحمة، وهداه إلى التدبير السليم، فخيّب به آدم خطط الشيطان كلها.
الموعظة والدرس من قصة آدم ؏:
يجب أن تكون قصة آدم عليه السلام موعظة وذكرى لكل واحد من بني آدم، لأن كل إنسان يولد فهو كآدم، ويؤمر الملائكة بمساعدته، لأنهم خلقوا كواسطة لتدبير نظام هذا الكون، فتكون كل الأشياء الخاضعة لتدبير الملائكة معاونة للإنسان، وتنفعه في الاستمتاع بحياته. بَيْد أن بعض الأشرار لا يرتاحون لارتياح إخوانهم، فهم كالشيطان يحاولون إخراجهم من تلك الجنة الروحانية التي أورثها كل إنسان منذ ولادته، ويسعون إلى إيذائهم. لكن الذي يخضع لربه كما خضع آدم، ويلجأ إليه عند المصائب ينال النجاح، ويعلو عن متناول الخوف والحزن، أما الذين لا يقتفون آثار آدم. وتزل أقدامهم في الابتلاءات، ويصالحون الشيطان ويعرضون عن هدي ربهم، فإنهم يصيرون عرضة للآلام فيهلكون.
تطلع الشمس في كل يوم لترى تكرار هذا الحادث في الدنيا، ولكن الإنسان الذي بنفسه واقع في أنواع المعاصي الخطيرة يلوم آدم لماذا اتبع الشيطان؟ مع أن آدم أخطأ ولم يكن له عزم على الخطأ. ومثل هؤلاء المعترضين الذين لا يتورعون عن الاعتراض على آدم لا يدركون أن الشيطان قابع في قلوبهم هم.
وتخبرنا الآيات السابقة:
- أن الوحي الإلهي موجب لشرف الإنسان وفضيلته على سائر الحيوانات. فالأمم التي لا تقدِّر الوحي الإلهي حق قدره فإنها مجرمة بتفضيل الحيوانية على الإنسانية، وإنها لتعرقل طريق النهضة الحضارية اليوم وتحول دونها في المستقبل أيضا، وأنه لن يدفع عجلة التقدم الحضاري إلا أولئك الذين يلبّون الدعوة السماوية، وإن الذين استجابوا لدعوة محمد ﷺ في هذا العصر هم الذين سيؤسسون أحدث مدنية مجدية. وكذلك تحقق؛ إذ إن أتباع هذه الحركة الروحانية الكبرى أصبحوا طبق سنة الله المستمرة مؤسسين لمَدَنية جديدة عظيمة. إن الحضارة الغربية العصرية، وإن بدت رائعة جدا، إلا أنها مقتطفةٌ إلى حد كبير من المدنية الإسلامية، وإن النواحي التي تختلف فيها مدنية الغرب عن المدنية الإسلامية هي التي سببت الإخلال بالأمن والسلام العالمي.
- أنه كلما ظهرت للناس حركة إصلاحية جديدة عارضوها، لأنها تكون في بداية الأمر من العظمة والروعة بحيث يقصر عن إدراك أعماقها وقوة تأثيراتها حتى الصالحون من عباد الله. فكان من اللازم أن يحدث ذلك عند ظهور الإسلام أيضا، وكذلك حدث.
- أما الصالحون فلا يلبثون بعدئذ أن يعترفوا بأخطائهم، ويذعنون لعظمتها، ويندفعون إلى تأييدها. أما الأشرار فإنهم يبدأون في مقاومتها، وكذلك جرى للإسلام وسيجري أيضا. وقد رأينا أن صالحي الفطرة من الناس تتابعوا في الدخول في الإسلام أفرادا، وقاموا لمناصرته، غير أن المطبوعين على طبائع إبليس تمسكوا بالتمرد والعصيان.
- عندما تخيب المقاومة الجاهرة ضد الجماعات الإلهية، يلجأ الأعداء إلى الدسائس السرية بالدخول فيها نفاقا كما تظاهر الشيطان بالنصيحة لآدم. وكما خاب شيطانُ آدمَ وخسر سيخيب كذلك أعداء الإسلام ويُحبط الله مكائدهم ولن يمسوه بسوء، ولسوف يتقدم الإسلام ويزدهر بالرغم من عداوتهم ومقاومتهم، وسيتجرعون الغصص من عذاب الغيظ الدائم.
- إن الهداية السماوية ليست مقصورة على زمن دون زمن، بل إن الله لن يزال يرسل الهداية طبق مقتضى كل عصر. فلو كانت سنة إرسال الهداية محدودة لانسدت أبوابها بمجرد ظهور النبي الأول كما يزعم الهندوس مثلا. فانقطاع الهداية السماوية يخالف مقتضيات العقل ويناقض متطلبات الوحي السماوي أيضا.
- إن الذين يؤمنون بالهداية السماوية يحفظهم الله من سيئات أعمالهم السابقة كما حفظ آدم عليه السلام. وبسبب الإيمان بهذا الوعد يصير المؤمن جريئا شجاعا مقداما، لا يخاف العواقب عند الفداء بكل ما يملك، لأنه يوقن بأن الوحي السماوي هو العروة الوثقى التي إذا استمسك بها نجا من جميع الهموم والآلام. فله إحدى الحسنين: إما القيادة والصدارة إذا كتبت له الحياة، أو الشهادة المريحة في أحضان حب الله تعالى. فمم يخاف؟
ثم يضرب الله لنا مثال آدم، ويقول إنكم من نسله. إنه لم يكن أصغر منكم بل كان أكبر منكم. كان أباكم ومأمورًا من الله تعالى، وكان متحمسًا لطاعته. ولما أنزلنا عليه الأحكام بحسب مقتضى عصره فإنه مع رغبته القلبية في طاعتنا نسي بعضًا منها، أي حصل منه سهو بشأنها. فلِمَ تطلبون منا أوامر يقينية في كل قضية، وأنتم أبناؤه وأدنى منه شأنًا؟ عليكم أن تسعوا للعمل بما أنزلنا من الأحكام، وأما ما لم ننزل بشأنه حكمًا معينًا فعليكم بالتدبر والاجتهاد مستعينين بالله تعالى دائمًا بأن يزيدكم علمًا حقًّا نافعًا ينفعكم، لكي نستضيء به ونظل سائرين على الصراط المستقيم.