المقالة السابقة: محاججة إبراهيم ؏ للملك الكافر وتوضيح آية أرني كيف تحيي الموتى
طاعة إبراهيم لأوامر الله تعالى:
يقول الله تعالى: تذكروا عندما أردنا أن نبرز الخير والتقوى في إبراهيم، ليطلع إبراهيم على كفاءات روحية خفية فيه. أمره الله بعض الأوامر لإظهار كفاءاته فأطاع إبراهيم ما أمر الله به، وهكذا علم الناس أن الكفاءات والطاقات العالية للطاعة في إبراهيم هي نادرة المثال ولا توجد في أحد. فمثلا أمره الله أن يذبح ابنه البِكر في سبيله، وعندما استعد للعمل بهذا الأمر ظاهرا قال الله له: ليس هذا هو مرادنا، بل مرادنا غير ذلك. ثم ظهرت إرادة الله هذه حين أمره أن يترك هاجر وإسماعيل في واد غير ذي زرع. فذهب بهما إلى هناك وتركهما، وهكذا نجح في هذا الامتحان، وعرف العالم أن إبراهيم يلبي كل ما يأمره الله به مهما كان هذا الأمر في بادئ النظر مروعا ومخيفا.
قيل هنا (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ) (البقرة: 125)، و”كَلِمَاتٍ” صيغة جمع تدل على الكثرة، مع أن المشهور عنه حادث واحد، وهو حادث الإقدام على ذبح ابنه. ولكن التلمود يكتب أن إبراهيم قد ابتُلي عشر مرات (التلمود Babylonian ؓalmud, V1p108).
وفي قوله تعالى (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) (البقرة: 125)، لا يراد بالإمامة النبوة، لأن إبراهيم كان قد نال النبوة من قبل. وإنما المراد أنه سيكون نموذجا وأسوة للعالم، وسوف يتبعه الناس بكثرة. وكلمة (لِلنَّاسِ) تشير إلى مجموعة كبيرة من الناس.
والحق أن هذا وعد لإبراهيم يتعلق بالمستقبل، وإلا لم يكن معه في ذلك الزمن إلا قليل من الناس. انظروا اليوم فإنه يعتبر إماما ومقتدى في معظم العالم، ويذكره الناس بكل تقدير واحترام، كل نبي يكون أسوة لقومه لا شك، ولكن لا يكون كل نبي أسوة للعالم كله، ولكن إبراهيم هو الوحيد بين الأنبياء السابقين (عليهم السلام) الذي يذكر بين الأقوام بالتبجيل والاحترام. خذوا مثلا المسيحيين، فإنهم لا يحترمون موسى كما يحترمون إبراهيم، ويذكرون سيدنا عيسى بوجه خاص بالتبجيل لأنهم يعدّونه من ذرية إبراهيم، وإلا فإنهم لا يتورعون عن اتهام الأنبياء الآخرين بالسرقة والخيانة (يوحنا 8:10). ولكنهم يحترمون إبراهيم كثيرا، وهذا هو معنى (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا)، أي سنجعلك بحيث يقتدي الناس بأقوالك وأفعالك.
ثم انظروا إلى الحج الذي هو منسك بارز بين العبادات الإسلامية. هذا الحج أقامه إبراهيم، وعن طريق الحج يذكره العالم إلى اليوم. كذلك إنه يذكر عند تقديم الأضاحي. إننا من الأمة المحمدية ومع ذلك فإننا نذكر تضحية إبراهيم عند كل عيد للأضحية. ولكن ليس في الإسلام أي يوم معين لموسى وعيسى يُذَكِّرنا بفعلهما ويجدد ذكراهما، ولكن لإبراهيم ولذكراه يوم خاص عند المسلمين أيضًا.
صحيح أن إبراهيم أعطي الإمامة بعد النبوة، ولكن السؤال هنا هو: هل الإمام من حيث معناه اللغوي يعني منصبا يتلقاه الإنسان بعد النبوة؟ إذا كانت الإمامة منصبا يتلقاه بعد النبوة وكانت أرفع من النبوة، فلا بد لنا من التسليم بأن بعض الأنبياء لا ضرورة لطاعتهم لأن اللغة تعلمنا أن الإمام هو المؤتم به والذي يطاع، وأن إبراهيم لم يكن من الضروري أن يطيعه الناس قبل أن ينال منصب الإمامة وإن كان نبيا. وهذا غير صحيح، لأن الله يقول (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) (النساء: 65). وهذا يدل على أن الله قد فرض على الناس طاعة كل نبي بمجرد أن يصبح نبيا. وبناء على ذلك لم تبق الإمامة منصبا منفصلا عن النبوة، وإنما صارت الإمامة صفة لازمة للنبي.
ولكن الله يقول عن إبراهيم (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (البقرة: 132). هذا الأمر صدر إليه بعد النبوة، وعندما قال إبراهيم: أسلمت، أشاد الله بإسلامه كثيرا. مع أنه عندما قالت الأعراب (آمنا) قال الله لهؤلاء المدعين بالإيمان: لا تقولوا آمنا بل قولوا أسلمنا، لأن الإيمان لم يدخل إلى الآن في قلوبكم. وكأن إسلامهم دون الإيمان.
إذن فليست الإمامة وحدها أرفع درجة من النبوة، وإنما الإمامة التي ينالها النبي بعد النبوة شأنها شأن الإسلام فلا يكون إسلام كل شخص أسمى درجة من النبوة، وإنما يكون ذلك الإسلام الذي يصل إليه النبي بعد نيل النبوة أسمى درجة من النبوة. فكل شيء يتحدد بدائرته المستقلة. هناك إسلام هو أدنى من الإيمان، وهناك إسلام يناله الإنسان بعد الإيمان، وهناك إسلام يناله الإنسان بعد نيل النبوة أيضًا.
الوعد الإلهي لإبراهيم:
الحقيقة أن قوله تعالى (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) (البقرة: 125) يعني أن يا إبراهيم، أنت نبي لقومك ولاشك، ولكنك ما دمت قد نجحت في هذه الاختبارات كلها ولم تتزلزل قدمك، بل لبَّيْتَ أوامري بكل شجاعة، وأسكنت زوجتك وابنك في برية ليس فيها قطرة من الماء ولا قشة من الكلأ، وتقبلت الموت لنفسك ولأهلك، لذلك سوف أنعم عليك، وأجعل حدثك هذا نموذجا للعالم كله إلى يوم القيامة. كلما نلقِّن الناس الثبات في ميادين الابتلاء والاختبار سنقدم وقائع موقفك هذا مثالا ليتأسوا به. سوف نجعل حدث حياتك الجليل هذا نبراسا للسائرين في هذا السبيل، ونموذجا وقدوة للناس إلى يوم القيامة
وقوله تعالى (قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: 125). عندما قُطع لإبراهيم الوعد عن مستقبله، فكر أني ما دمت سأكون نموذجا للناس من بعدي، فيجب أن يكون هناك سبيل لهداية ذريتي، فقال: إلهي، أسألك أن تستُر أولادي أيضًا بيد رحمتك. فقال تعالى: حسنا، ولكن عهدي هذا لن يصل إلى الظالمين. ولا يعني ذلك أن كل ذريته ستكون ظالمة، وإنما يعني أن الأولاد على قسمين: قسم يكون ظالما، وقسم يكون مسلما مطيعا. ونفى الله وعده عن الأولاد الظالمين، وأقر استمرار النعمة في أولاده المطيعين.
و(عَهْدِي) يمكن أن يُفسّر بطريقين؛ الأول: العهد بمعنى المعهود، أي أن هذا الشيء الذي أعدك به لن يناله الظالمون، والثاني: أنني لا أقطع أي عهد للظالمين، وإنما أقطعه لغير الظالمين، أي الأمة التي تكون ظالمة في مجموعها سوف أنـزع منها سلسلة النبوة.
يتبين من هذه الآية أولا: أن الله وعد إبراهيم أنه سوف يجعله إماما، وثانيا: أن إبراهيم التمس من الله تعالى أن يُوسع هذا الوعد لأولاده أيضًا، فوعده بذلك وعدا مشروطا، وقال له إن بعض أولادك سوف يتمتعون بهذا العهد، ممن لم يحرموا أنفسهم من هذه النعمة بسبب ظلمهم القومي. فما دام بنو إسرائيل مستحقين وفّى الله معهم هذا العهد، وعندما أصبحوا كقوم غير جديرين بالوفاء لهم بنعمة هذا العهد نقله الله منهم إلى الفرع الثاني من أولاد إبراهيم – وهم بنو إسماعيل.
وأرى أن الأمر نفسه قد ذكر في هذا المكان بأن منصب الإمامة لن يناله بنو إسحاق، لأنهم كجماعة صاروا ظالمين. نعم سيناله بنو إسماعيل لأنهم كجماعة لن يكونوا ظالمين، بل سوف يكون في كل زمن أناس يؤمنون بنـزول وحي الله فيهم، ولأجل ذلك جُعل النبي ﷺ إماما لكل العالم. ومن بين أمته قد وُهب هذا المنصب والمقام في هذا الزمن لسيدنا المهدي والمسيح الموعود.
الكعبة المشرفة ومقام إبراهيم ؏:
(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (البقرة: 126)
البيت هو اسم للكعبة المشرفة. ويقال لها البيت لأنها تتضمن كل خواص البيت. ومثال ذلك قولنا: زيد الرجل، والمراد أن زيدا يحمل كل الخصال التي يمكن أن توجد في شخص عاقل. فما هي خصوصيات البيت؟
- أولا – يحفظ من السرقة والنهب،
- ثانيا – مكان إقامة دائمة،
- ثالثا – يحفظ مال الإنسان ومتاعه،
- رابعا – يجمع الأقارب والأعزاء،
- خامسا – مكان آمن إذا دخله الإنسان نجا من المصائب.
ولو تدبرنا في هذه الخصوصيات الخمس لوجدناها متوفرة في الكعبة المشرفة، فهي تستحق في الواقع أن تسمّى بيتا. فلو أخذنا معنى الحفاظة – فإن الناس يدمرون القلاع الحصينة ويفنون سكان المدن الكبيرة، ولكن الكعبة المشرفة تتميز بأن الله تعالى وعد بحفظها على الدوام. كل من أراد أن يهاجمها شلّ الله يده أو كسرها. وما حدث لأبرهة مثال باق للأبد على ذلك.
وقبل أن يهاجم جيش أبرهة الكعبة تفشى فيهم مرض الجُدري، وبدأوا يموتون كالكلاب الضالة، وأخيرا دبت فيهم الفوضى والخوف وتراجعوا عن حصار الكعبة بعد أن مات ألوف في الوديان تائهين.
فتعني كلمة (الْبَيْتَ) أن الناس سوف يتمتعون فيه بالحماية الحقيقية. إنه بيت الله الذي لا يمكن أن يفلح أي عدو في الهجوم عليه.
والميزة الثانية للبيت أنه مكان إقامة دائمة، وبهذا المعنى فإن بيت الله هو الذي يستحق أن يسمى بيتا، لأن الحياة الأبدية إنما تُنال في بيت الله. والذين لا يذهبون إلى بيت الله تعالى لا حياة لهم، ولا قيمة لحياتهم. أما البيت الدنيوي فيقول الله عنه: (متاع قليل) وأما عن بيته فيقول (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر: 30-31).. أي عندما يصبح الإنسان عبدا صادقا لله تعالى، ويصبح المسجد بيتا له فإنه يدخل الجنة. فهذا هو البيت الذي يمكن أن يُمتّع الإنسان بحياة أبدية.
والميزة الثالثة للبيت أنه مكان لادِّخار الأموال والأمتعة. وهذا البيت فيه ذخائر البركات الروحانية، وهو الذي يحفظها. أما الذخائر الأخرى مهما كانت غالية وقيِّمة فإنها تضيع، ولكن الوقت الذي يبذله الإنسان في عبادة الله تعالى فلا يضيع، بل كل لحظة يقضيها في ذكر الله وعبادته يحولها الله إلى آلاف النعم الروحانية، ويحفظها ذخيرة ويمتّع عبده بها.
والميزة الرابعة للبيت أنه مكان لاجتماع الأقارب كلهم. وهذه الخصوصية موجودة أيضًا في الكعبة المشرفة بصورة كاملة؛ لأن مسلمي العالم أجمع يجتمعون هناك كل عام للحج، ويزيدون إيمانهم بالاجتماع مع إخوانهم.
ثم إن الكعبة المشرفة مكان لاجتماع الناس بشكل آخر. فالمكان الذي سيجتمع فيه الإنسان مع أقاربه وأحبائه هو الجنة، والمسجد ظل للجنة يجتمع فيه المسلمون خمس مرات يوميا، ويسجدون أمام ربهم، ويطلعون على أخبار بعضهم.
والميزة الخامسة للبيت أن الإنسان يتمتع فيه بالأمن عموما. وهذا أيضًا يتيسر في الكعبة المشرفة، لأن الأمن إنما يتيسر للإنسان فقط إذا انمحت كل النـزاعات. والكعبة المشرفة هي المكان الوحيد الذي لكونه مركزا للتوحيد يمكن أن يكون ذريعة لاتحاد العالم كله وجمعهم حول مركز واحد.
فالكعبة المشرفة هي البيت الحقيقي والكامل في الواقع، إذ تتمتع بكل الخصوصيات التي ينبغي أن تكون في البيت.
وقوله تعالى (مثابة للناس وأمنا)؛ المثابة هي مكان اجتماع الناس بعد تفرقهم. لقد ذكر هنا بأن بيت الله قد أقيم لكي يجمع العالم كله على مركز واحد، وعن طريق هذا البيت يجتمع مرة أخرى كل أولئك الذين تفرقوا، بمعنى أن هذا البيت متعلق بدين عالمي، إنه سوف يكون سببا لتوحيد العالم كله. والكعبة المشرفة وحدها التي تحمل خصوصية أنها جامعة لأمم العالم كلها على مركز واحد، فقد أعلن النبي ﷺ بأنه قد بعث للعالمين (الأعراف: 159)، ثم أعلن أنه سوف يُجمع على يده كل الأمم والجماعات المتفرقة في دين واحد. وانظروا كيف تحقق هذا النبأ بطريقة عجيبة ومدهشة. من ذا الذي يمكن أن ينبئه بجمع الناس هكذا إلا الله تعالى؟ أما الذي قُدّر للنبي ﷺ في مستقبل الأيام فإنه أكثر من ذلك كثيرا؛ فقد أعلن سيدنا المهدي والمسيح الموعود أن الله تعالى سوف يجمع عن طريقه الأمم كلها، وسوف يأتي وقت يصبح فيه الأشرار كالمنبوذين. فقد قال (لقد خطط الشيطان لإهلاك آدم واستئصاله، وطلب من الله المهلة فأمهله إلى يوم الوقت المعلوم. وبسبب هذه المهلة لم يقضِ عليه أي نبي. أما الوقت الذي حُدِّد لقتله وهلاكه فهو أن يقتل على يد المسيح الموعود. كان ينطلق في الأرض كاللصوص وقطاع الطرق ولكن حان هلاكه الآن. إلى اليوم كان هناك قلة من الأخيار وكثرة من الأشرار، ولكن سوف يهلك الشيطان ويكثر الأخيار، أما الأشرار فسوف يصبحون أذلة كالمنبوذين وعِبرة للآخرين) (جريدة الحكم، مجلد5، عدد 34، 17/9/1901).
أرى أن زمن تحقق هذا النبأ القرآني بصورة كاملة هو زمن المهدي والمسيح الموعود، لأنه في شخصه اجتمع بنو إسحاق وبنو إسماعيل. فنرى أن هذا النبأ يتحقق بالفعل بعد ثلاثة عشر قرنا، ويقبل الإسلام ويدخل في الأحمدية أهل أوروبا وأمريكا وأفريقيا وأستراليا والهند والصين وجاوا وسومطرة والإيرانيون والمغول والأفغان والراجبوت والباتان وغيرهم وغيرهم، فلا يوجد ملة ولا مذهب إلا ويدخل أهلها في الإسلام عن طريق الأحمدية، ويتحقق صدق هذا النبأ القرآني بأننا جعلنا هذا البيت جامعا للناس المتفرقين.
ومن حيث إعطاء الأمن للآخرين فإن الكعبة تختص بذلك بطريقة لا مثيل لها في الدنيا. كل شيء في الحرم يتمتع بالأمن حتى الحيوان حرام صيده. بل إن قطع الأشجار حرام، إلا الإذْخر وهو نوع من العشب والكلأ. ويتمتع الإنسان بالأمن لأن القتال والحرب محرمان في حدود الحرم (البخاري: فضل الحرم). هذا بالإضافة ما ينعم به الإنسان من حفظ الله بسبب التقوى والروحانية.
ومقام إبراهيم موضع خاص عند الكعبة، أُمر المسلمون بأداء ركعتين نفلا فيه بعد الطواف بالبيت. ويبدو أن إبراهيم بعد أن فرغ من بناء الكعبة صلى في هذا المكان صلاة شكر لله، وإحياء لهذه السنة الإبراهيمية أمر الله المسلمين بأداء ركعتين هناك. إن الناس يظنون خطأ أن المراد من (مقام إبراهيم) موضع مادي، مع أن المقام الحقيقي لإبراهيم هو مقام الإخلاص والتقوى والاستسلام الذي كان يتمتع به، والذي عن طريقه رأى ربه. وكأنه يقول: عليكم أن تحبوا الله كما أحب إبراهيم ربه، وتضحوا في سبيل الله كما فعل، وتشتركوا في فعل الخيرات بالإخلاص والحب والتقوى والإنابة نفسها التي كان يتمتع بها إبراهيم. لو فعلتم ذلك لنلتم مقامه.
لقد قال الله من قبل إننا جعلنا بيت الله مثابة وأمنا للناس، ولكنه لم يذكر من الذي بنى هذا البيت. ويبدو من هذه الآية أن إبراهيم هو الذي أرسى الأساس لبيت الله، ولكن هذا غير صحيح، لأن الله تعالى لم يقل هنا (وإذ يضع إبراهيم القواعد) وإنما قال (وإذ يرفع إبراهيم القواعد)، وهذا يدل على أن بيت الله كان موجودا من قبل، ولكنه قد تهدم، ورفع إبراهيم هذا الأساس بإذن الله، وأقامه من جديد.
وكذلك ورد في الأدعية التي دعا بها إبراهيم (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) (إِبراهيم: 38). وكلمة (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) تبيِّن أن بيت الله الحرام كان موجودا هناك من قبل، لأن هذا الدعاء صدر من سيدنا إبراهيم عندما كان ابنه إسماعيل طفلا صغيرا جاء به مع أمه هاجر وأسكنهما هناك، وأطلع الله إبراهيم بالوحي على هذا المكان وأخبره أن هذا هو أول بيت بُني لله تعالى.
وتؤكد الأحاديث أيضًا وجود آثار لبيت الله قبل قدوم إبراهيم إلى هذا المكان، فقد ورد أنه لما ترك إبراهيم هاجر وإسماعيل هناك قالت (يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ قالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها. فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لا يضيِّعنا. ثم رجعت، فانطلق إبراهيم إذ كان عند الثنية -حيث لا يرونه- استقبل بوجهه البيتَ ثم رفع يداه ودعا بهؤلاء الدعوات) (البخاري، كتاب الأنبياء).
عظيم التضحية وشدة التواضع والتذلل لله ﷻ
أما قوله تعالى (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة: 128) فاعلم أن من شأن الأنبياء وعظمتهم أنهم -إلى جانب العمل والسعي- يشتغلون بالدعاء. الناس يعملون قليلا ويتفاخرون، ويقولون ضحينا بكذا وكذا؛ ولكن انظروا إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام فإنه أولا استعد لذبح ابنه البِكر، ثم عندما كبر ابنه أخذه إلى برية لا طعام فيها ولا ماء، ثم إنه رضي بموته من خلال بناء الكعبة وإبقائه في جوارها إلى الأبد. وأقول موته للأبد لأنه كان من الممكن أن يغادر إسماعيل هذا المكان إلى مكان آخر بعد رجوع إبراهيم من هناك، ولكن بناء البيت الحرام قيَّد إسماعيل عليه السلام هناك فلا يبرحه. وكأن كل لبنة من الكعبة المشرفة كانت تقول بلسان حالها لإسماعيل عليه السلام: الآن سوف تقضي كل حياتك في هذا البرية.
ما أعظم تضحية إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام! ولكن لاحِظوا تذللهما لله تعالى إذ يبتهلان بعد ذلك (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا)؛ يا رب جئناك بهدية متواضعة، فتغاضَ عن تقصيرنا، وتقبَّلْها بفضلك ورحمتك. انظروا كيف يتضرعان ويتوسلان لله تعالى ليتقبل هديتهما! فكلمة (تَقَبَّل) من باب التفعُّل الذي يُستخدم تعبيرا عن التكلف والتأكيد. فكأنهما يقولان: يا رب، تقبل تضحيتنا هذه بمحض رحمتك، مع أنها كانت تضحية عظيمة بحيث لا نجد لها نظيرا في العالم. كان الأب يضحي بابنه، والابن بأبيه، وكانت كل لبنة من الكعبة المشرفة تقيدهما بتلك البرية التي لا ماء فيها ولا كلأ، بل إن إبراهيم بنفسه كان يدفِن في بناء هذا البيت عواطفه وأحاسيسه، ومع ذلك يدعو ويبتهل إلى ربه قائلا: يا رب إن هذه الهدية لا تليق بالقبول عندك، ولكن نتوسل إليك أن تتقبلها برحمتك وفضلك.
ما أعظم هذا التذلل الذي أبداه إبراهيم! والحقيقة أن حالة القلب هذه هي التي ترفع قدر الإنسان، وإلا فكل إنسان يضع اللبنات ويبني العمارة. ولكن إذا كان هناك قلب إبراهيمي عندئذ تتيسر هذه النعمة التي يسرها الله لإبراهيم (عليه السلام).
هذه هي الروح التي تحلّى بها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. وهما يرفعان قواعد بيت الله قائلين (ربنا تقبل منا): إننا شيدنا هذا البيت خالصا لتوحيدك ومحبتك، فتقبل هذا منا بفضلك، واجعله مكان ذِكر وبركة للأبد، (إنك أنت السميع العليم) تسمع ضراعتنا الحارة، وتعلم أحوالنا، فإذا قررت أن يبقى هذا البيت للأبد خاصا لذكرك فمن ذا الذي يمكنه أن يغيّر قرار
العهد إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بتطهير البيت:
وقوله تعالى (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (البقرة: 126). يخبر الله هنا ما هو مقام إبراهيم. عهد إلى فلان يعني نصحه نصيحة مؤكدة، وأوصاه مرارا وأكد له. فالمعنى أننا أكدنا أيما تأكيد عليهما (أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ)؛ قوما بتطهير بيتي وحمايته من العيوب والخراب. (لِلطَّائِفِينَ) الذين يطوفون حوله، أو الذين يزورونه مرة بعد أخرى، (وَالْعَاكِفِينَ) الذين يعتكفون فيه أو الذين يقفون حياتهم لمجاورته، (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) الذين يؤمنون دائما بتوحيد الله ويبقون مستعدين لتوطيد التوحيد، ويقضون حياتهم في طاعته والانقياد له، أو الذين يركعون ويسجدون. فالركوع والسجود هنا ظاهري وروحاني أيضًا.
وقد يشير قوله تعالى (طَهِّرَا بَيْتِيَ) إلى أنه سيأتي زمن سوف يضع الناس الأصنام في بيت الله، فمن واجبكم أن تطهروا هذا البيت منها وتلقوها خارجه. وبحسب هذه الوصية طهر الرسول ﷺ بيت الله وأخرج منه أصناما بلغت 360 صنما (السيرة النبوية لابن هشام، فتح مكة).
المقالة التالية: زيارة الملائكة لإبراهيم ؏ وتبشيره بنزول العذاب على قوم لوط وتفسير رؤيا الذبح لإسماعيل