بعثة سيدنا شعيب إلى مدين
لقد بُعث سيدنا شعيب ؏ إلى قوم مدين. ومدين أو مديان كان ابنًا لإبراهيم من زوجته قتورة، مع العلم أن الأولاد كانوا يُدْعَون في القديم باسم أبيهم، ولذلك سُمي أولاده أيضًا بمدين. أما عن موقع منطقة مدين فاعلم أن البحر الأحمر ينقسم في الشمال إلى فرعين، أحدهما يتاخم مصر، والثاني يتاخم شبه الجزيرة العربية، وهذا الأخير يسمى خليج العقبة. وكانت مدين تقع قريبًا من خليج العقبة على ستة أو سبعة أميال إلى جانب الجزيرة العربية. كانت القوافل التجارية من العرب تمر بمدين في طريقها إلى مصر. ولا تزال هناك إلى اليوم قرى عديدة باسم مدين، ولكن مدين الأصلية قد اندرست ولا يوجد لها من آثار الآن. كان بنو مدين يسكنون في شمال الحجاز، وكانت هذه المدينة عاصمتهم.
لقد قال شعيب ؏ لقومه: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء: 109-110). فترى أن القرآن الكريم يخبرنا… أن كل واحد من الرسل قال لقومه: (أَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ). وهذا يبين الفرق بين الحكومة الإلهية والحكومة المادية. ذلك لأن الحكام الماديين يأخذون الأجر ممن يأمرونهم بطاعتهم، وعلى النقيض نجد كل رسول يقول لقومه أطيعوني وما أسألكم عليه من أجر. مما يدل على أن الطاعة التي نُؤمر بها من قبل الله ﷻ ليست طاعة جبرية، بل الحقيقة أن الرسول يكون خادمًا للناس رغم أنه يأمرهم بطاعته. وحيث إن الخادم يأخذ الأجرة على خدمته، فلذلك نجد كل واحد من الرسل يقول هنا لا أسألكم على طاعتي من أجر. أي مع أنهم سيطيعونه إلا أنه سيكون خادمًا لهم في حقيقة الأمر. إذًا فطاعتهم عجيبة وخدمته أيضًا عجيبة، حيث يطيعونه في الظاهر، ولكنه يكون خادمًا لهم في الواقع. إنه يقوم بخدمتهم بكل ما في وسعه ومع ذلك لا يتقاضى أي أجر منهم…
قوم شعيب
يتضح من الآيات أن قوم شعيب ؏ كانوا مصابين بمرض الغش والخداع في التجارة على نطاق واسع، بالإضافة إلى الأعمال الوثنية. كانوا يعيشون على أعمال التجارة، فكانوا يغشون فيها إذ كانوا ينقصون في الكيل والوزن، وربما كانوا قد صنعوا موازين ومكاييل مزورة، فإذا أخذوا من الناس استعملوا موازين غير التي كانوا يستخدمونها عندما يعطونهم. ثم إنهم كانوا مهرة في الغش بالتلاعب بكفّة الميزان أيضًا، فكانوا ينهبون الناس كيلاً ووزنًا. فنهاهم شعيب ؏ عن الغش في التجارة، ولكنهم لم ينتهوا بل ازدادوا غشًا وخداعًا. فلما بلغ السيل الزبى، نـزلت لإهلاكهم ملائكة السماء…
الواقع أن الجماعات الدينية لا تخلد بالمال بل بالإيمان. لو كان المال هو مدار الخلود فإن اليهود والنصارى والهندوس أكثر مالاً من المسلمين، فلماذا تركهم الله وخذلهم؟ ذلك لأن المال لا علاقة له بالإيمان. لا جرم أن الله ﷻ أيضًا يعطي عباده المال، ولكنه يعطيهم إياه إنعامًا ليساعدوا به الفقراء، أو اختبارًا ليرى كيف ينفقونه. فلو سلِم إيمان المرء رغم توفر المال عنده لكان خيرًا له وبركة، ولكن إذا أضاع المال إيمانه، فأخذ في النصب والاحتيال كالأشرار، ونهب أموال الناس كاللصوص والغشاشين فإن مثل هذا المال يصبح عذابًا ونقمة عليه…
بعد أن نصح شعيب ؏ قومه بالأمانة في تجارتهم قال: (وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (الشعراء: 184). ويتبين من هذا أن القوم كانت تكثر فيهم حالات القتل والاغتيال والسطو على أموال الناس. كانت بلادهم تقع على الطرق المؤدية إلى الشام ومصر، وكانت القوافل تمر بالقرب منهم، فيبدو أن هؤلاء كانوا ينهبون المسافرين ويقتلون بعضهم. ويدعم هذا القياس أنهم يُسمَّون “أصحاب الأيكة”، أي كانت بأرضهم غابة كبيرة يكثر فيها شجر “السدر” و”الأراك”، ويسهل نهب المسافرين في مثل هذه الغابة لأنها تهيئ كمينًا سهلاً للصعاليك. فنصحهم شعيب ؏ بالأمانة في معاملاتهم وتجاراتهم والامتناع عن السرقة والسطو والنهب.
وأضاف شعيب وقال: عليكم أن تخشوا الله ﷻ الذي خلقكم والفئات التي خلت من قبلكم، أي كيف تعملون هذه السيئات وتفتخرون بها؟ ألم تعلموا أن هذه المنكرات هي التي أدت إلى دمار الأمة التي كانت قبلكم، فلم لا تعتبرون بهلاكهم، ولم لا تفكرون في أسباب زوالهم، فتغيّروا ما بأنفسكم؟
…المهم أن الله ﷻ قد أخبرنا في سورة الفاتحة أنكم مهما أحرزتم من الرقي كأمة فعليكم أن تضعوا في الحسبان دائمًا أن قدمكم لو زلّت قليلاً لأصبحتم من المغضوب عليهم أو الضالين، وإذا أمسكتم بالله بقوة ودعوتموه باستمرار بأن يُثبّت أقدامكم على الصراط المستقيم فسوف يشملكم بفضله ويحميكم من الزوال والدمار.
والواقع أن شعيبًا ؏ قد لفت أنظار قومه إلى هذه الحقيقة نفسها، فذكّرهم وقال ألم تروا كم من قوم خلوا من قبلكم وكانوا أقوى الأمم في عصرهم ولكنهم عصوا الله ﷻ فأُهلكوا ودُمروا، فلمَ لا تتقون الله تعالى في حياتكم التي هي أيام معدودة؟ ولِم تلجأون إلى حيل وتدابير غير مشروعة من أجل المتع المادية الفانية؟
فأجاب شعيبًا ؏ قومه أن تجاسرك علينا يدل على أن أحدًا يدعمك بالمال لتتآمر علينا وتقضي على قوتنا؛ ذلك أن التسحير يعني تقديم الطعام أيضًا، وهو استعارة عن تقديم المساعدة. فالمراد من قولهم لشعيب ؏: (إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) أننا قوم تجار وأن منافسينا في التجارة يدعمونك بالمال كرشوة لتنهانا عن الطرق التي تزدهر بها تجارتنا.
نزول العذاب على قوم شعيب
ثم قالوا لشعيب ؏: (وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ* فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (الشعراء: 187-188)، ويعني إسقاط الكسف من السماء أن ينـزل عليهم مطر شديد يدمر زروعهم وبساتينهم كلها. هذا هو المعيار الذي اقترحوه لمعرفة صدق شعيب ؏. فأجابهم أن ربي أعلم بأعمالكم وسيُعاملكم كما يشاء. فأصروا على تكذيبه، حتى حل بهم ما اقترحوه وأخذهم عذابُ يوم الظلّة، أي جاءهم الطوفان وهطلت أمطار غزيرة دمرت البلاد، فصار عذابَ يومٍ مخيف. فجعل الله ﷻ بلادهم آية باقية للأجيال التالية.
وليكن معلومًا أن القرآن الكريم قد استعمل لهذا العذاب ثلاث كلمات: (الصَّيْحَةُ) و(الرَّجْفَةُ) و(الظُّلَّة)، فقال الله تعالى في موضع: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ) (هود: 95)، وقال تعالى في موضع آخر: (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ) (العنكبوت: 38). ولكن الله ﷻ لم يصرح في هذين الموضعين أن العذاب الذي حل بهم كان زلزالاً أو آفة أخرى، بينما صرح هنا في سورة الشعراء بلفظ (الظُّلّة) أن العذاب أظلهم على شكل مطر غزير مدمر، فأصبحوا ملتصقين بالأرض في بيوتهم.
علمًا أن لفظ (الصَّيْحَةُ) يُطلق على العذاب وأيضًا على الدمار المفاجئ (الأقرب). وأما (الرَّجْفَةُ) فهي إشارة إلى ذلك المشهد المخيف المرجف للقلوب الذي رأوه جراء سوء أعمالهم، والذي هزّهم من أساسهم، حيث يُقال: “رجَف الإنسان: لم يستقرّ لخوفٍ عرَض له؛ ورجَف الرعد: تردّدتْ هَدْهَدَتُه في السحاب” (الأقرب). وعليه فقد أُشير بهذه الكلمات إلى مطر غزير مدمر سلب راحتهم، ودفعهم إلى عذاب مستمر لا مخرج لهم منه، حيث أصبح كل واحد منهم محصورًا في بيته حتى سقطت عليهم الجدران بسقوفها فأصبحوا في ديارهم جاثمين.
ويتبين لنا من دراسة أحوال سيدنا شعيب في القرآن الكريم أن معارضيه من سكان مدينته كما حدث مع النبي الكريم عليهما السلام، وكان قومه يقومون بالغش والخداع في المعاملات اليومية، إلى جانب أعمالهم الوثنية، ولأجل ذلك نصحهم خاصة (وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ). وكانوا ينعمون بالثراء والرخاء ولذلك يقول لهم سيدنا شعيب (إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ). وكانوا يقومون بقطع الطرق على الناس ولذلك نصحهم قائلاً (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) (وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ). هذه الكلمات إما تدل على عادتهم قتل الناس وشن الغارات أو على كونهم صعاليك يقطعون الطرق. لقد كانوا يسكنون في منطقة كانت مفترق الطرق بين الشام ومصر وشبه الجزيرة. ويبدو أنهم كانوا ينهبون المسافرين المارين بأراضيهم.
…العجيب أن شعيبًا ؏ يعظهم أن لا يأكلوا أموال الآخرين بالباطل، ولكنهم يردون عليه بقولهم: مالك وما نفعل، نحن أحرار في أن نتصرف في أموالنا كما يحلو لنا. وكأنهم لِما تأصّل فيهم أكل أموال الآخرين كانوا فقدوا التمييز بين الحلال والحرام لدرجة أنهم لم يدركوا أنهم لا يأكلون أموالهم هم وإنما يمدون أيدهم إلى أموال الآخرين بالباطل.
وهنا رد عليهم سيدنا شعيب ؏ قائلاً: ليست صلاتي التي تأمرني بهذا وإنما هو ربي الذي يأمرني به. فأخبروني يا قوم، لو كنت في الواقع أتلقى وحيًا من الله مقرونًا بأدلة على صدقه، ورزقًا حسنًا من فضله ورحمته، أفلا يحق لي إذًا أن أعظكم وأنهاكم عما أثبتُّ بطلانه بأدلة دامغة؟ وانظروا إلى سلوكي وسيرتي أنا. ألا ترون أنني عامل بما أنصحكم به، وما دام الأمر كذلك فلا شك أنني مخلص فيما أعظكم به. وإذا كنتم تظنون أنني أريد بذلك سلطة وحكمًا عليكم فهو أيضًا ظن باطل، لأن الإنسان يمكن أن يسدي النصح لأحد دون أن يكون سيدًا وحاكمًا عليه، وما دام هذا حقًا مشروعًا لي فسوف أستعمله ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. أما النتائج فليست بيدي، وإنما هي في يد الله تعالى، وما علي إلا البلاغ.
ما أروعه وما ألطفه من شرحٍ لمقام النبوة. فكل مأمور من عند الله تعالى بل كل مبلغ وداعية يواجه نفس المشاكل. في البداية يتبرّم الناس من نصحه ووعظه، إذ يعتبرون نصحه نوعًا من الجبر والإكراه. ثم يهدأون قليلاً ويتنازلون ويعتبرونه مساويًا لهم في الدرجة، ويأذنون له أن يقول ما عنده، دون أن يصدقوا قوله. ولكن النبي لا يبدي أي سخط عليهم لا في المرة الأولى ولا في المرة الثانية، وإنما يهتم بأداء واجب التبليغ في الحالتين على سواء، ولا ينظر إلا إلى الله غير مكترث بكل من سواه.
…انظروا إلى ما يكنه النبي من حمية وغيرة في سبيل الله تعالى. لو كان هناك أحد غير شعيب لسُرَّ بكلام هؤلاء ولقال في نفسه: ما أكثر ما في قبيلتي من القوة والمنعة حتى ليهابها القوم فلا يتعرضون لي بسوء، ولربما استغل ذلك وهدد المعارضين بقوله: تعالوا إلى ساحة النزال لتعرفوا ماذا سيصنع بكم قومي. ولكن سيدنا شعيبًا ؏ لا يُبدي إلا أسفًا وسخطًا على قولهم هذا ويقول بكل حماس وغيرة: هل عشيرتي أكبر وأعز عندكم من الله تعالى، فتهابونها ولا تخافون الله القهار. والعجيب أنكم لا تمسوني بالسوء خوفًا من قومي، بينما لا تردعكم خشية الله عن خداع الناس ونهب أموالهم بالباطل. إن شعيبًا ؏ لا يكترث حين يُعرب عن الحمية والغيرة في سبيل الله تعالى…بأن عشيرته سوف يعتبرون قوله هذا إهانة لهم وقد يسخطون عليه ويتخلون عنه. كلا، بل تستولي عليه عندئذ فكرة واحدة هي النظر إلى عظمة الله والدفاع عن اسمه العلي الشأن عزّ وعلا.
ثم يحذر شعيب قومه بأنكم تثيرون غضب الله عليكم، عندما تعتبرون رهطي أعزّ من الله تعالى فأخاف أن يسحقكم بعذابه ويدمّر تجارتكم، ويضيع جهودكم ولا يبقي في أيديكم شيئًا.
اعملوا ما يحلو لكم، ولسوف أستمر في العمل بما يليق بمقامي ومنزلتي، وسوف تُبدي النتائج أي الفريقين منا كان عاملاً برضى الله تعالى، وأيُّنا كان يأتي بما يتنافى مع مشيئته عزّ وجل.
إن أنبياء الله تعالى في كل زمان ما فتئوا يلتمسون من أقوامهم أن يفوّضوا الأمر لله تعالى منتظرين حكمه، ولكن الناس دائمًا وأبدًا يأخذون الأمر بيدهم ولا ينتظرون حكم الله، فيعاقَبون. كما أنني أنا الذي يجب أن يصيبه القلق لتأخر حكم الله فينا، وذلك لكوني أنا واصحابي هدفًا لتعذيبكم واضطهادكم، ولكن الغريب أننا صابرون رغم العذاب، وأنتم على ظلمكم قد نفذ صبركم. أفلا ينبغي أن تصبروا معنا حتى يقضي الله بيننا وبينكم؟