لقد استهلّ الله تعالى سورة مريم بقصة زكريا وذكَر خلالها ولادة يحيى لأن الأنباء كانت تؤكد أن ولادته تكون إرهاصًا للمسيح، وما كان المسيح ليظهر في الدنيا ما لم يظهر قبله الشخص الذي يكون بروزًا ومَظهرًا لإيليّا.
والآن ذكر الله تعالى قصة مريم بعد قصة يحيى، ذلك لأن ظهور يحيى كما كان ضروريًّا قبل المسيح لكونه آية وعلامة على ظهوره، كذلك كانت ولادة المسيح من غير أب آيةً عظيمة لليهود. فقد حذرهم الله بها أن النبوة ستنقطع الآن عن بني إسرائيل، وأن هذه النعمة ستُحوَّل الآن إلى إخوانهم الآخرين.
لقد سمعنا من سيدنا المسيح الموعود ؏ عشرات المرات أن ولادة المسيح ؏ من غير أب كانت إشارةً من الله تعالى لليهود أنه قد أعرض عنهم وأن النبوة ستنتقل الآن عن بني إسرائيل إلى أمة أُخرى بسبب معاصيهم. ذلك أن نَسَب المرء إنما يُعرف من قبل أبيه، فخلق الله المسيحَ من غير أب لينبه اليهودَ أنه لم يبق بينهم ذَكَرٌ يصلح أحد من أولاده للنبوة. ومن أجل ذلك فإن الذي نجعله الآن نبيًّا مولود من غير أب، وهو إسرائيلي من قبل الأم فقط. ولكن النبي القادم لن يكون إسرائيليا حتى من قبل الأم أيضًا لأن الله تعالى قد قرر أن يقطع كل صِلاته عن بني إسرائيل.
لقد بين سيدنا المسيح الموعود ؏ هذا الأمر مرارًا وتكرارًا في كتبه منها مثلاً كتابه “مواهب الرحمن” وغيره (انظر مواهب الرحمن ص 290-291 أنقر للتحميل). وكما قلت فقد سمعنا ذلك من لسانه ؏ مباشرة عشرات المرات، حيث بيّن أن مريم كانت علامة تحذير رباني أنه قد حان أن تنتقل النبوة من بني إسرائيل إلى بني إسماعيل، وآن الأوان لأن تتحقق نبوءة موسى التي قال فيها: “يقيم لك الربُّ إلـهُك نبيًّا مِن وسطك مِن إخوتك مثلي“(أي من بني إسماعيل) (التثنية 18: 15).
فلأن السيدة مريم أيضًا كانت آيةً من آيات الله تعالى فعلينا أن نفحص جيدًا لنعرف ماذا قال القرآن والكتاب المقدس في وصفها.
أحوال مريم والمسيح عليهما السلام:
إن الإنجيل صامتٌ كلية فيما يتعلق بأحوال مريم قبل ولادة المسيح ؏. فكل ما نعلمه من إنجيل متى 1: 18 هو أن مريم العذراء لما حملت بالمسيح أراد خطيبها يوسف أن يطلقها، ولكن الملاك نهاه عن ذلك، معتبرًا إياها زوجة ليوسف، وأمره أن يأخذها إلى بيته (متى 1: 18-20). ولكن هذا الإنجيل لم يذكر شيئًا عن أحوال مريم قبل هذا الحادث.
أما مرقس فلم يذكر في إنجيله معجزة ولادة المسيح بتاتًا.
أما لوقا فقد سجل في إنجيله معجزة ولادة المسيح، ولكنه لم يبدأ الحديث عن مريم إلا بعد أن بشّرها الملاك بالحمل بالمسيح. فقد ورد فيه أن مريم كانت عذراء، ومخطوبة إلى يوسف، ولكن قبل أن تُزَفّ إليه جاءها الملاك وبشّرها بالحمل فحملت (لوقا 1: 27-35). ولكن لوقا لا يسلط أي ضوء على أحوالها قبل الحمل. إنه صامت كلية عن أحوال والديها وعن صغرها. إن كل ما قاله هو أن مريم كانت من أقارب زوجة زكريا، وكانت تتردد إلى بيتها من حين لآخر.
أما يوحنا فهو صامت تمامًا بهذا الشأن.
أما القرآن الكريم فقد تحدث عن عائلة مريم وعن أمّها أيضًا، كما سجل حدث ولادتها الذي ينطوي على إشارة إلى ولادة المسيح أيضًا (آل عمران: 37). من أجل هذه المعجزة العظيمة كان لزامًا وجود مؤشرات ابتدائية، وإن القرآن الكريم هو الذي ذكر تلك المؤشرات، أما الإنجيل فلم يذكرها أبدًا.
يقول الله تعالى في سورة آل عمران إن امرأة من عائلة عمران (أي من عائلة موسى ؏) شعرت في قلبها بأن الدين في انحطاط وفساد، وأن هناك حاجة ماسة إلى الذين يقفون حياتهم لإصلاح الدين، فقررت في نفسها أن الله تعالى لو آتاها ولدًا فستَنذِره في سبيله. فقطعت مع ربّها وعدًا بذلك قائلةً رَبِّ تَقبَّلْ مني هذا النذر وبارِكْ فيه. فلما وضعتِ المولود وجدتْ أنه ليس ذَكرًا، بل هي أنثى. فأصيبت بخيبة الأمل، لأن البنت لن تقدر على تحقيق الهدف الذي من أجله نذرت مولودها. فدعتْ ربَّها ثانية في حزن عميق وقالت: رَبِّ ماذا أفعل الآن، فإني قد وضعتُ بنتًا، مع أن الله تعالى كان على علم أن الذَّكَر الذي كانت تتمناه لا يمكن أن يفعل ما ستفعله تلك الأنثى.
الواقع أن الصالحين في ذلك العصر كانوا يشعرون في أنفسهم بالفساد الذي قد استشرى، ولكن ما كانوا يعرفون الموعد الصحيح لزوال ذلك الفساد. كان الناس يرون الفساد المتفشي، وكان محبّو الدين منهم، ذكورًا وإناثًا، متحمسين لإصلاحه. ففكرت النساء أن ينذرن أولادهن لخدمة الدين، ولكن ما يدريهن بالموعد المناسب لإصلاحه. فلو أن الله تعالى استجاب دعاء أم مريم عندئذ لوُلد المسيح قبل الموعد المناسب بعشرين سنة؛ في حين كان لزامًا أن يولد يحيى قبله ليكون إرهاصًا لـه. لذلك فاستجاب الله دعاءها بطريق آخر، فأعطاها بنتًا ستلد فيما بعد ولدًا عظيمًا بدلاً من أن يهبها ولدًا يخدم الدين. وهكذا استجيب دعاؤها من جهة، ومن جهة أُخرى لم يتغير الموعد المقدر من الله تعالى لإصلاح ذلك العصر. فلو أن الله العليم بالظروف استجاب دعاء أم مريم في حينه ما قدر ابنها على القيام بالخدمة الدينية التي كانت تريدها. فوهب لها البنتَ بدل الابن محققًا الأنباء القديمة بأن عذراء ستلد ابنًا غير عادي يتسبب في نجاة اليهود (إشعياء 7: 14). كما استُجيب دعاء أم مريم أيضًا حيث ولدت بنتُها هذه ابنًا تسبب في نجاة اليهود.
وباختصار فبما أن أم مريم نذرتْ مولودها في سبيل الله تعالى فوضعتها تحت رعاية العلماء والأحبار. ولكن لا لتترهب وتعيش بدون الزواج، وإنما لكي تتعلم منهم الدين. وقد قلتُ ذلك لأن دعاء أم مريم (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (آل عمران: 37) يوضح جليًّا أنها فكرت أنها لو وضعتْ بنتها مريم تحت رعاية العلماء لربّوها تربية دينية جيدة، فتتمكن هي الأُخرى من تربية أولادها على ما يرام، فسلّمتها للأحبار والزهّاد العابدين؛ ومع ذلك كانت تريد لِبنتها أن تتزوج فيكون لديها أولاد تربيهم تربية جيدة، والدليل على ذلك هو دعاؤها لمريم ولأولادها أيضًا بأن يحميهم الله تعالى من الشيطان الرجيم.
فاستجاب الله دعاء الأم فكان فضل الله على مريم عظيمًا حيث كفّلها زكريا الحبر، كما تربّت على يد الأحبار الآخرين، وأُولعت بالدين ولعًا كبيرًا، حتى أيقنت في صغرها أن كل ما يناله المرء إنما يناله من عند الله تعالى.
وإن يقينها هذا هو الذي أثر في زكريا بشدة، فدعا ربه أن يرزقه ولدًا، فوُلد يحيى. وهكذا تسببت أم عيسى في ولادة النبي الذي كان بدوره إرهاصًا لعيسى، وبالتالي أوجدت الحلَّ لأكبر معضلة واجهت ابنها فيما بعد. ذلك أن صدق دعوى المسيح ما كان ليتحقق إلا بمجيء إيليا، فتسبب تصرفٌ بريء من أم المسيح في ولادة يحيى الذي صار مثيلاً لإيليا.
أما أحوال مريم الأُخرى فهي بحسب الإنجيل كالآتي:
جاء يوسف بمريم إلى بيته بعد أن حملت بالمسيح (متى 1: 24)، ولكن لم يذكر الإنجيل أي شيء عن زواجهما. وهذا يوضح أن الخِطبة كانت تُعتبر بمنـزلة الزفاف عند اليهود. ولم يمسّ يوسف مريمَ حتى ولادة المسيح. أما بعد ولادته فمَسَّها يوسف، فولدت أولادها الآخرين (متى 1: 25).
وورد أن يسوع كان يكنّ نفورًا تجاه أبويه، وعندما أعلن دعواه لم تؤمن به أمُّه، بل كانت تتعجب منه.
وورد أيضًا: “وفيما هو يكلّم الجموعَ إذا أُمُّه وإخوته وقفوا خارجًا طالبين أن يكلّموه، فقال لـه واحد: هوذا أمُّك وإخوتك واقفون خارجًا طالبين أن يكلّموك. فأجاب وقال للقائل لـه: مَن هي أمّي، ومَن هم إخوتي؟ ثم مدَّ يدَه نحو تلاميذه وقال: ها أمّي وإخوتي، لأن من يصنع مشيئةَ أبي الذي في السماوات هو أخي وأختي وأمي” (متى 12: 46-50).
فثبت من ذلك أن المسيح لم يعدّ أُمَّه ولا إخوته من المؤمنين. وهذا يعني أن السيدة مريم كانت بحسب الإنجيل منكرة كافرة بالمسيح.
علمًا أن مرقس ولوقا قد أكدا هذا الأمر نفسه في إنجيليهما (مرقس 3: 31-35، ولوقا 8: 19-21). أما يوحنا فقد لزم في إنجيله السكوت تجاه ذلك.
أما الإنجيلي متّى فزاد الأمر جلاء حيث أخبر أن الناس كانوا يقولون: أليس أم المسيح وإخوته وأخواته كلهن معنا؟ أي قال اليهود إذا كان المسيح صادقًا فلم لم تؤمن به أمه وإخوته وأخواته؟ فقال لهم المسيح: “ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وفي بيته” (متى 13: 55-57). أي أن ذلّتي بين أهل وطني وعشيرتي ليس دليلاً على كذبي، لأن جميع الأنبياء قد عارضهم أهلهم دائمًا.
وليس هذا فحسب، بل يتضح من إنجيل مرقس أن أقارب المسيح كانوا يعدّونه مجنونًا حيث ورد: “ولما سمع أقرباؤه خرجوا ليُمسكوه لأنهم قالوا إنه مختلّ” (مرقس 3: 21).. أي أنهم بدلاً من أن يؤمنوا به اعتبروه مجنونًا مختلَّ الحواسّ، وأرادوا أن يمسكوه حتى لا يهيم على وجهه هنا وهناك.
لقد اتضح من هذه الأحداث بكل وضوح وجلاء أن مريم وأولادها الآخرين وكذلك يوسف الذي يُدعى أبًا للمسيح، لم يؤمنوا به، فكان يقابلهم بغلظة وجفاء. حتى إن الإنجيل يقول إنه لم يلتفت إلى أمه حين كان معلقًا على الصليب. كان قلب الأم يقاسي آلامًا شديدة، فجاءت لترى ابنها المعلق على الصليب، ولكنه لم يتكلم مع أمه بلطف ومحبة حتى في ذلك الوقت العصيب أيضًا، بل لما رآها واقفة قال لتلميذه “توما” مشيرًا إليها: هذه أمُّك، وقال لها: “يا امرأةُ، هُوَذا ابنكِ” (يوحنا 19: 26-27). وكأن المسيح، بحسب الإنجيل، أبغض أمه بغضًا شديدًا جعَله يخاطبها في ذلك الوقت العصيب أيضًا بقوله: “يا امراةُ” عوضًا عن أن يقول لها: يا أماه، أو يا مريم. وهكذا أدى المسيح واجبه الأخلاقي وأخبر أمه بالمأوى الذي تعيش فيه بعده، كما أوصى تلميذه “توما” بخدمتها وعنايتها، ولكن مشاعره تجاه أمه كانت جارحة لدرجة أنه في تلك الساعة الخطيرة التي كان فيها معلقًا على الصليب لم يبد نحوها أي حب، ولم ينادها قائلاً: يا أمي، بل قال “يا امرأة“!
وقد ازداد المسيح جفاء لأمه، بحسب الإنجيل، لدرجة أنه في إحدى المرات قالت امرأة وقد تأثرت من خطاب المسيح: “طوبى للبطن الذي حمَلك والثديين اللذين رضِعتَهما“، فكان من المفروض أن يكظم المسيح غيظه نحو أمه في تلك المناسبة على الأقل، ولكنه لم يملك نفسه حينما سمع ثناءً على أمه من فم هذه السيدة، فقال من فوره: “بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفَظونه” (انظر لوقا 11: 27-28).. أي أن الأم التي حملتني في بطنها ليست مباركة، وأن الثديين اللذين رضِعتُهما ليسا مباركين، إنما المبارك من يسمع كلام الله ويعمل به. فيبدو من الإنجيل أن المسيح كان لا يملك نفسه لدى سماع مدح أمه حتى من لسان الآخرين، وبدا وكأنه عدوّ لدود لأمه، ولا يعتبرها مؤمنة!
ولكن القرآن يخبرنا أن المسيح ؏ نفسه قال (وبَرًّا بوالدتي) (مريم: 33).. أي أن الله تعالى قد جعلني مطيعًا لأمي رءوفًا بها ومحبًّا لها. وللمرء أن يحكم بنفسه أي المصدرينِ يسرد التاريخ سردًا صحيحًا.
يقول الإنجيل، من ناحية، إن الملاك بشّر مريمَ وقال: “قد وجدتِ نعمةً عند الله، وها أنتِ ستَحبَلين وتلِدين ابنًا، وتسمّينه يسوع. هذا يكون عظيمًا وابنَ العليِّ يُدعى” (لوقا 1: 30-32). وبالرغم أن بشارة الملاك هذه كانت مستحيلة بالنظر إلى الظروف الظاهرة، وبالرغم أن الله قد حقق هذا المستحيل، وبالرغم أن مريم قد شاهدت بنفسها هذه الآية العظيمة، إلا أنها ما زالت، بحسب بيان الإنجيل، تعتبر المسيح مجنونًا ولم تؤمن به.
الحق لو أن امرأة رأت في المنام أنها تلد ابنًا، ثم ولدت ابنًا بحسب الرؤيا فعلاً، فلا شك أن ولادته تكون آية، بيد أن ذلك لا يمكن مقارنته بمعجزة ولادة المسيح. ولو أن امرأة ولدت ابنًا بعد بشارة في الرؤيا، ثم كان الابن بارًّا أيضًا، فمن الممكن أن تسخط عليه أمُّه حينًا وتقول لـه إنك لم تؤد حق خدمتي. ولكن المعجزة التي رأتها مريم لم تكن معجزة عادية. فإن الملاك يأتي عذراءَ، ويبشّرها بأنها ستلد ولدًا متصفًا بصفات محددة، فتحمل به بالفعل، ثم تلد ابنًا ينال عزًّا وصيتًا غير عاديين في الدنيا. فهل من عاقل يمكن أن يصدّق بعد هذا الحدث العظيم أن أم ذلك الابن ستعدّه مجنونًا أو كاذبًا في دعواه؟ كلا، إن التي شاهدت تلك الآية العظيمة على قدرة الله تعالى لا يبقى أمامها مجال للكفر والإنكار. إذن فإن بيان الإنجيل بأن المسيح كان عاصيًا لأمه مرفوض كليةً من حيث العقل أيضًا، أما القرآن الكريم الذي يخبر أن المسيح ؏ نفسه قال إن الله قد جعلني (برًّا بوالدتي) فهو على الحق والصواب.
ثم يقول الإنجيل أن مريم كانت كافرة، ولكن القرآن الكريم يعلن عنها (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا) (آل عمران: 38).. أي أن الله تعالى قد استجاب دعاء أم مريم، فثَبَّتَ مريمَ على الخير، وكتب لها رقيًّا وعظمة غير عاديين. إذًا فالقرآن الكريم يعلن أن مريم كانت من المؤمنين الصالحين من الطراز الأول، أما الإنجيل، الذي يعلن أن مريم هي أم الإله، فيعدّها كافرة غير مؤمنة.
ثم ورد في القرآن الكريم قول الملائكة لمريم (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ)(آل عمران: 43). فالقرآن الكريم يقول ما تقوله الفطرة، أما الإنجيل فيقول ما ترفضه الفطرة؛ إذ لا يمكن أن تكون مريم منكرة للمسيح رغم رؤية هذه الآية العظيمة. فثبت أن موقف القرآن هو الصحيح.
لقد قال الأعداء إن محمدًا ﷺ كان جاهلاً بالوقائع الصحيحة، فسجل في القرآن ما يخالف الواقع. ونحن نقول لهم: أيها الأغبياء، هلمّوا بأصحابكم الذين دوّنوا في رأيكم ذلك التاريخ بدقة وصحة، وقارِنوا بيانهم مع بيان القرآن الكريم. فإن الذي ترمونه بالجهل بالتاريخ يذكر الحقائق الثابتة، وأما الذين زعمتم أنهم كانوا يعرفون التاريخ الصحيح فيذكرون الأباطيل. أليس ذلك برهانًا عظيمًا على صدق محمد رسول الله ﷺ؟
لقد قال الله تعالى هنا (وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران: 43). ذلك لأن الإنجيل قد ذكَر نسوةً كثيراتٍ باسم مريم، مشيدًا بصلاحهن وطهارتهن، أما مريم التي كانت والدة المسيح فقد عرضها المسيحيون أمام العالم كعدو ومعارض للمسيح. فرد الله على زعمهم هذا، وقال إنكم تفضّلون مريم المجدلية وغيرها من النساء على مريم التي هي أمُّ عيسى، مع أن لا قيمة لتلك المريمات اللواتي تشيدون بهن إزاءها. إن مريم التي كانت أفضلهن وأقدسهن هي تلك التي كانت أمًّا للمسيح.
ثم يقول الله تعالى (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (آل عمران: 44). والراكع هو من أنعم الله عليه نعمة الإيمان الخالص. فالمعنى: يا مريم كوني مطيعة لله تعالى، وعابدة لـه، وانضمّي إلى جماعة المؤمنين المخلصين. وهذا يعني أن القرآن يصرح أن مريم كانت من المؤمنين من الطراز الأول، أما الإنجيل فيعدّ تلك النسوة الخاطئات اللواتي كنّ يَدْهَنَّ رأس المسيح بالزيت مؤمناتٍ (لوقا 7: 37-38)، بينما يعتبر مريمَ التي رأت معجزة ولادة المسيح العظيمة غير مؤمنة!
والبديهي أن كل هذه الحقائق أمور عادية وليست من الغيب الخفي عن أعين الناس، ومع ذلك يقول الله تعالى بعد ذكرها (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) (آل عمران: 45).. أي أن هذه الأمور التي تبدو عادية قد أخفاها الإنجيل فصارت في طي الأخبار الغيبية المجهولة. يقول الإنجيل أن مريم كانت كافرة، واعتبرت المسيح مجنونًا، ولكنّا نخبرك أن كل هذا كذب وهراء. لقد كانت مريم مؤمنة قانتة ومصدّقة بالمسيح.
الواقع أنه يتضح من بيان الإنجيل أن الحواريين لم يرتدعوا عن اتهام أمّ إلههم لكي يثبتوا أنهم كانوا من المقربين لدى المسيح. لقد ظلم متّى ومرقس ولوقا ويوحنا وتوما والدةَ المسيح ظلمًا عظيمًا إذ عرضوها على العالم كامرأة كافرة لا إيمان لها، ولم يفعلوا ذلك إلا لهدف واحد بأن يتظاهروا بقربهم من المسيح. ولكن القرآن قد كشف عن زيفهم مبينًا أن مريم كانت مؤمنة بارّة قانتة، وأن كل ما ورد في الإنجيل خلاف ذلك كذب وافتراء ليس إلا…
ثم يقول الله تعالى (إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا) (مريم: 17). إن وطن مريم وزوجِها هو مدينة “الناصرة” بحسب الإنجيل (لوقا 1: 26- 27). ويخبرنا القـرآن -لا الإنجيل- أن المعبد الذي تعلمت فيه مريم الدين كان في أورشليم. لقد تركتها أمها عند زكريا في أورشليم ليرعاها ويربّيها، بيد أننا نعرف من القرآن الكريم أن أمها لم تتركها هناك لتكون راهبة تبقى في المعبد دائمًا. ذلك لأن أم مريم قد دعت لمريم بأولاد صالحين متقين؛ وهذا يدل أنها أرادت لبنتها أن تتزوج لا أن تترهب. ويبدو أنها لما وصلت سن البلوغ والشباب أخذتها أمُّها إلى مدينتها الناصرة. إذًا فالمراد من أهلها المذكورين في قوله تعالى (إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا) (مريم: 17) أهلُها في الناصرة، وليس أهل أورشليم. فذهبت من عند أقاربها في الناصرة إلى مكان في جهة الشرق.
ما هو هذا المكان الشرقي؟ قال المفسرون أن مريم حين رأت مشهد الملاك كانت في مدينة من المدن الشرقية (تفسير ترجمان القرآن). ويقول الإنجيل أنها شاهدت ذلك المشهد وهي مقيمة في الناصرة التي هي وطنها ووطن زوجها يوسف (لوقا 1: 26-27). والناصرة تقع في جهة الشمال من أورشليم لا في جهة الشرق. فلا يمكن أن يراد هنا أن مريم ذهبت من أورشليم إلى الناصرة، بل يتحدث القرآن هنا عن حدث وقع معها وهي في الناصرة. ولكن فيما يتعلق بالتاريخ المذكور في الإنجيل فإن مريم لم تذهب إلى أي مكان شرقي، بل بقيت في مدينتها الواقعة شماليّ أورشليم…
وبقي الآن سؤال آخر وهو أن القرآن الكريم لا يذكر إلا ما هو مهمٌّ، فهو ليس كتاب قصص حتى يخوض التفاصيل التي لا داعي لها، وإنما يذكر الأمور الهامة فحسب. فالسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: لماذا قال الله تعالى هنا إن مريم ذهبت إلى مكان شرقي؟ يجب أن يكون في المكان الشرقي خصوصية تتعلق بحادث مريم، وإلا أصبح بيان القرآن لغوًا لا طائل تحته.
فليكن معلومًا أن للشرق أهمية كبيرة عند اليهود. لقد ورد في التوراة: “وغرس الربُّ الإلهُ جنةً في عدن شرقًا، ووضَع هناك آدمَ الذي جبَله” (التكوين 2: 8). فثبت أن هناك صلة وثيقة بين الشرق والجنة وبداية الخلق الإنساني بحسب التوراة…
لا شك أن هذا المصدر يرجع إلى ما بعد المسيح، ولكن ما أريد تأكيده هنا هو أن الشرق كان يحظى باحترام خاص لدى اليهود والنصارى، فكانوا يجعلون أبواب معابدهم نحو الشرق، بل كان بعضهم يعبدون متجهين إلى الشرق. فيكون مفهوم هذه الآية أن مريم ذهبت للعبادة إلى معبد كان وجهه ناحية الشرق لكي تكون الجنة الأولى والبشارات العظيمة نُصبَ عينها.
فالمراد من هذه الآية أن مريم لما شبّتْ خلق الله في قلبها حماسًا شديدًا للدعاء، فذهبت من بيتها إلى معبد جُعل وجهه نحو الشرق تذكارًا بالجنة الأولى وببداية الخلق الإنساني اللذين لهما صلة بالشرق.
أي أن مريم ألقت سترًا على الباب من أجل الدعاء في خلوة وانفراد. علمًا أنه في هذه الأيام تُتّخذ للغرف أبواب يمكن إغلاقها بسهولة، ولكن في ذلك الزمن القديم لم يكن لمثل هذه الأبواب رواج، وإنما كانوا يضعون الستائر مكان الأبواب، حتى إن القصور الملكية كانت بدون أبواب حتى الزمن العباسي. ويتضح من المباني التي بُنيت في عهد الملوك المغول أنهم كانوا يلقون الستائر على أبواب الحجرات من أجل الخلوة والانفراد. لذا فقوله تعالى (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا) (مريم: 18) لا يعني أن مريم ابتعدت عن القوم لتفعل شيئًا لا يمكنها أن تفعله إلا وراء الحجاب والخفاء، وإنما المراد أنها أرادت أن تعبد الله تعالى وتدعوه بهدوء في خلوة، فألقت من دونها سترًا حتى لا يراها الناس في عبادتها ودعائها.
تلقي البشارة بالولد:
لقد كان زكريا ؏ في المعبد حين تلقى البشارة بالولد، وكانت مريم أيضًا في المعبد حين تلقت من الله البشارة بالولد، حيث يقول الله تعالى إنها كانت في عبادتها وابتهالها في خلوة (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) (مريم: 18).. أي جاءها الملاك متمثلاً كإنسان سليم الصحة. ومثله كما يرى المرء في المنام أنه يذبح كبشًا ويكون تأويله موت ابن لـه أو بنت أو قريب. أو يرى فأرًا وتعبيره شخص منافق. أو يرى أن سارقًا قد اقتحم بيته وتأويله الحمو والنسيب. وبالرغم أننا لا نجد في الظاهر أي علاقة بين المنام والتأويل إلا أن هذا هو الأمر الواقع كما يعرف الجميع، لأن الله تعالى يريهم هذه الأحداث بلغة التمثل والصورة. وهنا أيضًا يشير الله تعالى إلى هذا الأمر، ويخبرنا أن الملاك تمثَّلَ لها على شكل إنسان كامل الصحة. وبتعبير آخر إن هذه الكلمات تصور لنا كيفية نـزول الوحي على السيدة مريم. لقد قيل لرسولنا الكريم ﷺ ذات مرة: يا رسول الله، كيف ينـزل عليك الوحي؟ فقال: أحيانًا ينـزل عليّ كصوت الجرس، أي أشعر برنّة جرس، ثم بعده يبدأ الوحي في النـزول؛ وأحيانًا يأتني ملاك من ملائكة الله تعالى في شكل إنسان، ويكلّمني، وتارة يأتيني الملاك في شكل آخر. (البخاري: باب كيف كان بدء الوحي).
وقد مرّت مريم أيضًا بتجربة مماثلة، حيث تمثل لها كلام الله تعالى بشرًا سويًّا واقفًا أمامها. وهذا الأمر يكشف لنا حقيقة حملها أيضًا بأنه لم يكن إلا مثالاً لقول الله تعالى (كُنْ فيكون)، وليس أن ملاكًا أو روحًا دخل فيها…
يخبرنا الله تعالى هنا أن مريم استخدمت كلمة (الرحمن) عندما استعاذت به، وإن إخبار الله تعالى هو الحق يقينًا. ولكن الغريب أن المسيحية تنكر صفة الله “الرحمن” أصلاً، وإنما أساس المسيحية هو أن الله ليس برحمن. ذلك لأن الله لو كان رحمانًا لغفر الذنوب، ولكن المسيحية تزعم أن الله لا يقدر على أن يغفر لأحد، فهذا يخالف عدله. وكأن الفعل الذي يقوم به كل إنسان في الدنيا، فيمدحه الناس بسببه ولا يذمّونه، فإن الله تعالى لا يمكنه القيام به. ولكنهم يعودون فيقولون أن رحمة الله اقتضت أن يغفر لعباده، فأرسل ابنَه إلى الدنيا، فصُلب عوضًا عن ذنوبهم. فلأنه حمل بنفسه ذنوب الناس كلها، وصار فداء لهم، فلا حاجة لهم إلى القيام بأي عمل آخر، لأنهم ينالون النجاة نتيجة إيمانهم بالمسيح. فثبت أن المسيحية مبنية تمامًا على أن الله تعالى ليس برحمن. ولكن القرآن الكريم يعلن أن مريم لما رأت الملاك في هذا المشهد قالت له (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) (مريم: 19). والرحمن هو من يُنعم عليك بدون أي عمل منك.
إن هذه الكلمات جاءت لبيان حالة قلب مريم وقت الحدث، حيث أخبر الله تعالى أنها خافت من هذا المشهد لدرجة أنها قالت للملاك إنْ كان فيك ورع وتقوى فإني أبتهل إلى الرحمن أن يحميني من شرك. والرحمن مَن يتفضل على المرء من دون مقابل مِن عملٍ أو جهدٍ. وهذا يعني أن الخوف قد بلغ من مريم كل مبلغ حتى توسلت إلى الله تعالى قائلة يا رب، لا تنظر إلى أعمالي، ولا تنظر هل فعلتُ شيئًا لمرضاتك أم لا، وإنما أتوسل إليك برحمانيتك أن تحميني من شرّه. لو أنها توسلت إلى الله تعالى بصفته “الرحيم” لكان مرادها يا رب قد قمت ببعض الأعمال الصالحة، فارحمني جزاء عليها. ولكنها لم تتوسل برحيمية الله تعالى، وإنما توسلت برحمانيته تعبيرًا عن كربها الشديد، وكأنها تقول يا رب، ليس بيدي أي عمل، فارحمني رغم ذلك، وادفعْ عني كربتي وبلائي.
قال الملاك لمريم لا تخافي، إنما جئتك من عند الله تعالى لأمنحك ولدًا زكيًّا.
إن كلمة (رسول) تبطل مزاعم الذين يظنون أن الذي تمثل لمريم هو في الحقيقة زوجها أو زوجًا اختاره الله لها (روح المعاني). ذلك لأنه لا يقول إني جئت لأفعل بك شيئًا، بل يخبرها أني مجرد رسول من عند الله تعالى لأهب لك غلامًا زكيًّا.
قد يظنّ البعض أن قوله (لأَهَبَ)، الذي فيه معنى العطاء، يعني أنه جاء لإقامة علاقة جنسية معها. ولكنه أيضًا ظن باطل، لأن من أساليب القرآن الكريم أنه يبين الأخبار القطعية اليقينية بكلمات يقينية كيلا يحوم حولها شك. فمثلا إذا نبّأ عن حدث سيقع في المستقبل ذكَره بصيغة الماضي وكأنه يقول اعتبِروا هذا الخبر كالحدث الذي قد وقع في الماضي. وهنا أيضًا قد أكد القرآن خبر ولادة الابن عندها بقوله (لأهَب).. أي لأعطي أي كُوني على يقين بولادة الابن فكأني قد أعطيتكِ إياه. والجميع يعرف أن الله تعالى هو الذي يهب الولدَ لا الملاكُ. فثبت أن كلمة (لأهَب) إنما تفيد خبر ولادة الابن عندها، وليس إعطاءها الابن. إن النبأ الإلهي يكون خبر يقين، لذا فقد عُدَّ كشيء قد وُهب سلفًا، فقال جئتك بحسب وحي الله تعالى (لأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا) (مريم: 20).. أي جئتكِ لأخبرك بولادة ابن عندك، وثِقِي بقطعية هذا الكشف وكأنك قد أُعطيتِ المولود الموعود.
إن مريم أيضًا استغربت من البشارة مثل ما استغرب زكريا ببشارة ولادة الابن عنده فقالت (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ)؟ (مريم: 21)
لا شك أن الغلام يعني الكهل والشاب أيضًا، ولكنه يعني هنا الولد، لأن هذا من كلام مريم، وإن ولادة الولد عندها هو الأمر الذي جعلها تتحير. فقالت كيف ألد ولدًا ولم يمسَسْني بشرٌ ولستُ امرأة فاجرة؟
ولو أننا قلنا إنها استغربت بسبب ظاهر أحوالها، وقلنا إن مشاعرها في الرؤيا كانت كمشاعرها في الظاهر، فيكون المعنى أن ولادة الابن عندها كان أمرًا مستحيلاً في الظاهر فاستغربت من هذا الخبر خلال الرؤيا أيضًا. ذلك أن المنام نوعان: فأحيانًا يكون المشهد والكلام وحدهما تحت تأثير تأويل الرؤيا، أما الأحاسيس القلبية فلا تكون تحت تأثيره. ومثاله أن يرى المرء في المنام أن ابنه قد قُتل، وأنه فرحان بقتله، مع أنه لا يفرح بقتله في الظاهر، بل يبكي ويحزن؛ ففرحته على قتل ابنه يعني أن مشاعره أيضًا كانت تحت تأثير تأويل الرؤيا لأن تأويل قتله أنه سيكون صالحًا، وسيقف حياته على خدمة الدين، وإلا لبكى ولم يفرح. وأحيانًا يرى في المنام أن ابنه قُتل وأنه يبكي عليه، مع أنه كان ينبغي عليه أن يفرح بهذا المشهد، ولكن بكاءه في الرؤيا يدل على أن مشاعره لم تكن تحت تأثير تأويل الرؤيا، بل كانت تحت تأثير ظاهر الأحوال. إذن فمشاعر القلب أحيانًا تكون تحت تأثير تأويل الرؤيا وأحيانًا لا تكون كذلك.
فلو فهمنا من قولها هذا أنها قالته بتأثير ظاهر أحوالها لكان المراد أنها قالت هكذا لأن التفوه بمثل هذه الأمور أمر منكر غير مستحب، فكأنها قالت لـه: يا ويلتى، ماذا تقول؟ متى تلد النساء بدون الرجال؟
أما لو اعتبرنا قولها هذا خاضعًا لتأثير تأويل الرؤيا لكان المراد أنها قالت هذا في دهشة واستغراب: هل بالفعل سيعاملني الله تعالى بهذا اللطف والكرم؟
وباختصار، لقد ثبت من هذه الآية بكل جلاء أن السيدة مريم قد فهمت من ذلك أنها ستلد ولدًا بدون زواج وقبل الزواج، لأن قولها (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) يدل أنها قد فهمتْ من هذه الرؤيا أنها ستُرزق الولد بعد هذه الرؤيا وقبل الزواج، وإلا فلا معنى لأن تنفي مريم أية علاقة جنسية في الماضي.
ثم إن قولها (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) أيضًا يدعم هذا المعنى حيث إنها تنفي به أي علاقات غير شرعية مع أحد في الماضي، بينما كان قولها (ولم يمسَسْني بشرٌ) كان نفيًا لعلاقة شرعية في الماضي؛ وليس في قولها أي ذكر للزواج أو عدمه في المستقبل. وهذا يدل أنها لم تنفِ ولادة الابن عندها في المستقبل لكونها منذورة في سبيل الله تعالى، وإنما نفت ولادة الابن عندها نظرًا إلى ماضيها الذي كان من المحال أن تُرزق فيه الولد. لو كان المستقبل في نظرها لقالت إن زواجي مستحيل فكيف أرزق الولد، أو لم تتعجب إطلاقًا من وعد الولد لأن احتمال زواجها كان أمرًا واردًا.
وليس المراد من قوله تعالى (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) (مريم: 22) أن هذا الأمر صعب على الناس ولكنه سهل لي؛ ذلك لأن الأمر المشار إليه ليس صعبًا على الناس فحسب بل هو مستحيل تمامًا. إذن فليس هنا أي مقارنة بين قدرة الله وقدرة البشر، وإنما هذا إعلام من الله تعالى بأنه إذا أراد شيئًا فكل شيء هيّنٌ وسهلٌ عليه.
أما قوله تعالى (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا) (مريم: 22) فاعلم أن اللام في (ولِنجعَله) للعاقبة، والمراد أننا فاعلون ذلك حتمًا، فيصبح هذا الولد آية ورحمة للناس من قِبلنا. أي أننا حين نخلقه من دون أب سيكون ذلك علامة على أننا على وشك أن ننقل النور الإبراهيمي من بني إسحاق إلى بني إسماعيل، ويكون هذا (رحمة منا).
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: إذا كانت النبوة قد انقطعت عن بني إسرائيل من خلال المسيح، فكيف صار هو رحمة للناس.
وجواب ذلك (أولاً) أن قوله تعالى (ورحمة منا) إشارة إلى تعليم المسيح، حيث أخبر الله تعالى أن الخشونة والقسوة الموجودة في اليهود ستُزال بواسطة المسيح الذي سيدعو الناس إلى المحبة والرفق، ويعمل جاهدًا على نشر الرحمة، وهكذا سيكون ظهوره مدعاة رحمة للدنيا.
وثانيًا، أن نبي آخر الزمان ﷺ ما كان ليولد إلا بانتقال النبوة من بني إسحاق إلى بني إسماعيل. فبما أن المسيح كان سببًا لظهور من هو رحمة للعالمين ﷺ وجاء ليمهّد لنـزول تعليم الرحمة فقال الله تعالى إننا جعلناه (رحمة منا).. أي جعلناه سببًا لتحقق تلك النبوءة العظيمة المتعلقة بظهور نبي آخر الزمان ﷺ. وكأن المسيح كان مفتاحًا للباب الذي كان من المقدر أن تنـزل بانفتاحه رحمة عظيمة من الله تعالى.
ما أعظم هذا الكلام دليلاً على كمال القرآن! فبالرغم من أن المسيح ؏ سيدٌ للنصارى، إلا أن الإنجيل حين تحدث عن نبوءة ولادته لم يذكر أنه سيعمل على نشر المحبة بين الناس. ولكن القرآن الكريم حين ذكر نبوءة ولادته ذكر أيضًا أن الله تعالى كان قد أخبر مريم قبل ولادته أنه سينشر تعليم المحبة. إن هذا الأمر إذا كان يشكل برهانًا عظيمًا على صدق القرآن وكماله وعدله، فإنه أيضًا دليل على كون الإنجيل ناقصًا. إن أكبر مزايا المسيح ؏ تعليمه الداعي إلى الرحمة، ولكن الإنجيل لم يذكر ذلك، ولو تلميحًا، حين ذكر نبوءة ولادته، أما القرآن الكريم فسجل هذا الأمر.
ولا يعزُبَنّ عن البال أن كل نبي كان في حد ذاته آيةً من آيات الله تعالى، ولكن مِن دأب المسيحيين استغلال بعض الكلمات بطريق خاطئ. فمثلاً لا شك أن قوله تعالى (ولِنجعَله آيةً للناس ورحمةً منّا) دليل على عظمة المسيح ؏، ونحن المسلمين أيضًا نعترف بعظمته، ولكن المسيحيين يستغلّون مثل هذه الكلمات فيُطْرون المسيح إطراء كبيرًا. إننا لا نقلّل من عظمة المسيح، كلا، بل إننا نعتقد أنه نبي عظيم ورسول كريم، ولكنا لا نؤمن بأنه كان يملك من الكمالات ما لا يوجد في غيره من الأنبياء، أو أنه كان أكثر كمالاً من رسولنا الكريم ﷺ. يستنتج المسيحيون من قوله تعالى (ولنجعلَه آيةً للناس) أن هذا اعتراف من القرآن بأهمية خارقة للمسيح. ولكنه استنتاج غير سليم، إذ يتضح من دراسة القرآن الكريم أنه قد استخدم هذا اللفظ في حق الأنبياء الآخرين أيضًا. فمثلاً قد سرد تعالى في القرآن رؤيا لأحد من الأنبياء ثم قال له (لِنجعلَك آيةً للناس) (البقرة: 260). وقد قال ذلك للنبي حزقيال الذي كان أدنى درجة من موسى وداود عليهم السلام.
بل لقد قال الله تعالى عن يحيى ما لم يقل عن المسيح إذ بيّن أنه قد أعطاه هذا الحنان أو الرحمة من عنده ﷻ، بينما قال عن المسيح إنه جعله للناس رحمة، فالله تعالى قد نسب الرحمة هنا إلى نفسه لا إلى المسيح. فكان يحيى رحمة متجسدة، أما المسيح فبُعث إلى الناس كآية رحمة فقط. والظاهر أن الرحمة المتجسدة شيء عظيم.
ثم إن رسولنا الكريم ﷺ لم يُسمَّ رحمة فحسب، بل قال الله تعالى لـه (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 108). وهذا يعني أن عيسى ؏ لم يُسمَّ رحمةً، بل سمي آية رحمة، وأما يحيى فسُمِّي رحمة من لدن الله تعالى، وأما رسولنا الكريم فلم يُجعَل رحمة مختصة بقوم أو بزمان، بل جُعل رحمة لكل العالم ولكل الأزمان إلى يوم القيامة. وكأن النبي ﷺ (1) جُعل رحمة، وليس أنه بُعث رحمةً بالناس؛ (2) وأنه لم يُجعل رحمة مختصة بقوم معين أو زمان معين، بل جُعل رحمة للعالمين…
أما قول الله تعالى (وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا) (مريم: 22) أي إذا أراد الله تعالى أن يخلق أحدًا من غير أب فهو أمر سهل بالنسبة لله تعالى، لذا يخبر الآن أن ولادة الابن عند مريم من غير أب كان قضاء الله تعالى لكي تنقطع النبوة عن بني إسرائيل وتنتقل إلى بني إسماعيل. وكان أمرًا مبرمًا لا يمكن إلغاؤه أبدًا، بل أصدر الله ﷻ الأوامر بتنفيذه وإمضائه.
كيف حملت مريم، هذا سرٌّ إلهيٌّ أسمى من القانون الطبيعي، أو إذا كان ضمن القوانين الطبيعية فإنه لا يزال حتى الآن سرًّا مكنونًا بالنسبة للإنسان. وهناك الكثير من أسرار القوانين الطبيعية التي لم يتمكن الإنسان بعد من الاطلاع عليها. خذوا القنبلة الذرية مثلاً، فلم يكن للإنسان أي علم بها، ولكن الإنسان اكتشفها الآن؟ وبالمثل هناك أسرار كثيرة في خلق الله تعالى التي لم يكتشفها الإنسان بعد، ومنها الولادة من غير أب. إن الله الذي خلَق كل الكون بقوله (كُنْ) لقادر على أن يحدث في الأنثى تغييرات غير مسبوقة. غير أننا نجد في التاريخ أيضًا شهادات تؤكد ولادة أولاد آخرين من غير أب.
وقد وردت في الموسوعة البريطانية أحداث مماثلة كثيرة. والغريب في الأمر أن أمهات كل هؤلاء المواليد الذين وُلدوا هذه الولادة العجيبة قد رأين الرؤى قبل ولادتهم (موسوعة الأديان مجلد 12: Virgin Birؓh). لذا فلا يمكننا أن نتهمهن بالفاحشة أو الكذب. إذًا فلا غرابة في ولادة المسيح ؏ من غير أب، إذ نجد في التاريخ ذكر ولادات عديدة مماثلة لولادته.
أما قوله تعالى (فحملتْه) فالمراد من الحمل هنا الحمل الذي تم نتيجة هذه الرؤيا. وهذا ما قال به سيدنا المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام. فقد قال في كتابه “مواهب الرحمن” بكل وضوح وجلاء إن من عقائدنا أن المسيح قد وُلد من غير أب (مواهب الرحمن ص 295). وكان حضرته ؏ يصرّح أنه ليس أمامنا إلا خياران اثنان: فإما أن نسلّم بأن المسيح ؏ قد وُلد بأمر الله تعالى، وإما أن نقول أنه وُلد ولادة غير شرعية.
أما قوله تعالى (فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا) (مريم: 23) فيدل على أن مريم اضطرت خلال حملها للذهاب إلى مكان بعيد. وحين نفحص الإنجيل بهذا الصدد نجد فيه تفصيل هذا الحادث إلى حد ما، ولا بد لنا من التسليم بهذا التفصيل طالما لا نجد ما يدل على بطلانه. فقد ورد في الإنجيل:
“وفي تلك الأيام صدر أمرٌ مِن أوغسطسَ قيصرَ بأن يُكتَتب كلُّ المسكونة. وهذا الاكتتابُ الأولُ جرى إذ كان كيرينيوسُ واليَ سوريةَ. فذهب الجميع ليُكتَتبوا.. كلُّ واحد إلى مدينته. فصعِد يوسفُ أيضًا من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية إلى مدينة داود التي تدعى بيت لحم لكونه من بيت داود وعشيرته ليُكتتب مع مريمَ امرأتِه المخطوبة وهي حُبلى” (لوقا 2: 1-5).
فثبت من هذه الفقرة الإنجيلية أن مريم أيضًا ذهبت مع يوسف إلى بيت لحم للإحصاء. ولكن يقول الإنجيل بعد ذلك إن الناس جاءوا بكثرة للإحصاء فلم يجدَا مكانًا للمبيت في السراي، فباتا في الخارج، وهنالك بدأت مريم تشعر آلام المخاض، فوضعت الوليد (المرجع السابق: 7).
إن لجوء مريم إلى النخلة دليل على أنها لم تكن في بيتها. وقد سبق أن بيّنتُ أن مريم وزوجها لم يجدا المكان في النـزل بحسب الإنجيل، فاضطرا للمبيت في العراء، ويبدو أنها وجدت هناك نخلةً فذهبت إليها.
يقول المفسرون عندنا أنها ذهبت إلى النخلة لتستند إليها تخفيفًا لآلامها (مجمع البيان). ولكنهم قد اخترعوا عذر الاستناد خوفًا من الروايات المسيحية كما سأبين لاحقًا. فما دامت كل الأشجار تهيئ الظل والسند أيضًا في وقت واحد، فلماذا، يا ترى، قالوا إنها ذهبت إلى جذع النخلة لتستند إليها؟ إن سببه في الواقع هو أن فكرة الانسجام مع الروايات المسيحية كانت غالبة على أذهانهم. لا شك أن الإنسان يكون بحاجة إلى السند أيضًا وقت الآلام، فالنسوة ذوات الخبرة يضعن أيديهن في يد المرأة عند الولادة وينصحنها أن تضغط علي أيديهن بكل قوة، وعندما تفعل ذلك تجد بعض الراحة من آلامها، كما تسهل الولادة أيضًا. فلا غرو أن المرأة تحتاج إلى شيء تستند إليه وقت الآلام، غير أني أرى أن السبب الذي ذكره المفسرون هنا ليس صحيحًا.
أما قوله تعالى (قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا) (مريم: 24) فقال البعض أنها قالت ذلك خوفًا من طعن الناس لأن الولد كان من غير أب (تفسير ابن كثير). ولكني أرى أن هذا غلط، فإن أهل الخبرة يعرفون أن المرأة عند ولادة مولودها الأول تعاني على الدوام آلامًا شديدة حتى تقول مِن تلقائها يا ليتني مِتُّ قبل هذا. لقد لاحظتُ هذا الأمر في بيتي مع زوجاتي وبناتي أيضًا. مما لا شك فيه أن ولادة مولود عند عذراء أمر غير عادي، ولكن هكذا تقول النساء دائمًا عندما يقاسين آلامًا شديدة عند وضعهن لمولودهن البِكر. فلا غرابة في ذلك أبدًا.
لقد انتقلت أذهان المفسرين من قول الله تعالى (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) (مريم: 25) إلى التحت الذي يكون تحت قدم المرء. فيقولون لأن عيسى كان تحت مريم عند ولادته فهو الذي ناداها من تحتها (روح المعاني)، بينما قال البعض إن الملاك ناداها من جهة أرجلها (الدر المنثور).
مما لا شك فيه أن المنادي هو الملاك، ولكن من الغباء القول أن الملاك ناداها من الجهة التحتانية من جسدها. إنما المراد أن الملاك ناداها من جهة منحدر الأرض وأخبرها أن هنا ماء. ذلك أن المكان الذي وُلد فيه عيسى كان في سفح جبل وكانت في الأرض المنخفضة هناك عين ماء، حيث تتضح لنا من الإنجيل أن مريم ولدت ابنها في بيت لحم التي تقع على رأس جبل يبلغ ارتفاعه 2350 قدمًا من سطح البحر. وهناك وديان خضراء حولها، وهي أكثرُ الأماكن خضرةً في منطقة يهوذا كلها، وأن بها ثلاثة عيون للماء وتسمى عيون سليمان. وهذه العيون تمد مدينة بيت لحم بالماء. وهذا يعني أن لا ماء في المدينة، وإنما تُجلب المياه من عين سليمان عبر الأنابيب. وهناك عين ماء في الجهة الشرقية الجنوبية من المدينة عند السفح على بعد نصف ميل (قاموس الكتاب المقدس للدكتور جورج).
فالمراد من قوله تعالى (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا) (مريم: 25) أن مريم سمعت الصوت من الناحية التي فيها عين ماء. ذلك أن المرء يعرف المكان من جهة الصوت أيضًا. فمثلاً لو ناداك أحد من شمالك لعرفت على الفور أن الصوت قادم من جهة الشمال وليس من جهة اليمين. فلكي يدل مريمَ على مكان الماء ناداها الملاك من منحدر الجبل. وليس المراد أنه ناداها من تحت جسدها. والتاريخ الجغرافي لهذه المنطقة أيضًا يدل على وجود عيون ماء فيها.
الواقع أن الإنجيل يخبرنا أن مريم لما ذهبت إلى بيت لحم لم تجد مكانًا للمبيت داخل المدينة، فباتت خارجها. كما يضيف الإنجيل أنها باتت في المكان الذي كان الرعاة يرعون فيه مواشيهم (لوقا 2: 8). ومن المعروف أن الرعاة يرعون المواشي على مسافة من المدن. ومن أجل ذلك ورد في الإنجيل أنهما أضجعا الوليد في مذود. فثبت أنهما باتا في مكان بين المدينة والعيون. وربما فكرت مريم أنها لو أقامت في المدينة لقال الناس لمن هذا الوليد، فالأفضل أن يقيما خارج المدينة. فأقامت على بعد منها حيث العيون التي لم يكن لها علم بوجودها لكونها غريبة في تلك المنطقة، فأخبرها الله تعالى بواسطة الملاك أن هناك عين ماء في الجهة الفلانية.
ولربما أراد الله تعالى بذلك إثبات مماثلة بين المسيح وإسماعيل عليهما السلام، فإن الأخير أيضًا لما تُرك في أرض مكة نادى الملاك أُمَّه أن الله تعالى قد فجّر عينًا تحت رجلي ولدك.
ثم في الآية التالية يقول الله تعالى (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا) (مريم: 27). فبما أن الله تعالى قد ذكر النخلة من قبل، فالمراد كلي الآن من ثمر النخلة، واشربي من عين الماء، ونظفي به الثياب والمولود وافرحي. وهذا يدل بكل وضوح أنه ليس في لفظ (سريًّا) ما يدل على رفعة المسيح، بل يفيد وجود العين. كانت عند منحدر الجبل عين ماء، فقال الله لها كلي من ثمر النخل، واشربي من ماء العين، وقرّي عينًا.
المقالة التالية: قصة سيدنا عيسى ؏ – تاريخ و ميلاد المسيح وهل تكلم المسيح وهو طفلا رضيعا؟