المقال السابق: قصة سيدنا عيسى ؏ – أحوال مريم عليها السلام قبل ولادة المسيح وتلقيها البشارة بولادته
تاريخ ولادة المسيح ؏:
هنا نواجه معضلة كبيرة لا بد لنا من حلها. إن التاريخ المسيحي يقول لنا أن المسيح ؏ وُلد في 25 ديسمبر، ويقول لوقا إن أوغسطسَ قيصرَ كان قد أصدر في تلك الأيام أمرًا بإحصاء سكان مملكته، فذهب يوسف مع مريم من الناصرة إلى بيت لحم من أجل التسجيل، وهنالك وُلد المسيح (لوقا 2: 1-5). وهذا يعني أن المسيح وُلد في بيت لحم أيام الإحصاء الأول في 25 ديسمبر. ولكن القرآن الكريم يعلن أن المسيح قد وُلد في الأيام التي تثمر فيها النخل. والنخل لا تثمر في شهر ديسمبر إلا نادرًا، وتثمر في شهرَي يوليو وأغسطس بكثرة. وعندما نجمع بين هذا وبين إخبار الله تعالى لمريم بعين ماء لتنظف به ثيابها وتغسل مولودها، لتبين لنا أن الولادة تمت في الحقيقة في يوليو أو أغسطس، لا في ديسمبر. ذلك أن غسل الوليد الجديد بماء العين في شهر البرد القارس، وخاصة على جبل واقع في شمال الجزيرة العربية لأمرٌ مخالف للعقل تمامًا. ولكن التاريخ المسيحي ينص على أن ولادة المسيح في شهر ديسمبر. فهناك تعارض واضح بما ورد في تاريخهم وما يعلنه القرآن الكريم بأن الملاك قال لمريم (وهُزِّي إليكِ بجذعِ النخلة تساقطْ عليكِ رُطَبًا جنيًّا) (مريم: 26)، مع أن الرطب لا توجد في شهر ديسمبر إلا نادرًا، وتوجد بكثرة في شهري يوليو وأغسطس. فإذا كان صحيحًا أن المسيح قد وُلد في ديسمبر فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا ذكر القرآن الرطب مع أنها لا توجد في ذلك الموسم؟
وخوفًا من هذا الاعتراض نفسه قال المفسرون عندنا أن مريم ذهبت إلى جذع النخلة لتستند إليه أثناء الوضع. لقد فكروا أن المسيحيين يقولون أن المسيح قد وُلد في ديسمبر، والنخل لا تحمل الرطبَ في ذلك الشهر إلا قليلا؛ فلماذا ذهبت إلى النخلة التي لم يكن بها ثمر؟ فأجابوا على ذلك أنها ذهبت إلى جذع النخلة لتستند إليه، غاضّين الطرف عما قال الله تعالى بعد ذلك في القرآن الكريم (وهُزِّي إليكِ بجذعِ النخلة تُساقِطْ عليكِ رُطَبًا جنيًّا)! فلأن المفسرين سمعوا من المسيحيين أن المسيح وُلد في ديسمبر، ولأن النخل لا تثمر الرطب في ديسمبر إلا قليلا، فقالوا أن مريم ذهبت إلى جذع النخلة التي جف ثمرها لتستند إليه.
بيد أن بعض المفسرين فكروا فقالوا أن ذلك معجزة. فكانت مريم تهزّ النخلة التي لا ثمر بها، فكانت تساقط عليها رطبًا جنيًّا! (تفسير الرازي، وأضواء البيان).
والمشكلة الثانية التي نواجهها هي أن هذا الحادث وقع في منطقة يهوذا. والقرآن الكريم يذكر هنا النخل، ولكن تاريخ التوراة يذكر الزيتون واللوز والعنب بين مزروعات منطقة يهوذا، ولا ذكرَ فيها للنخل (قاموس الكتاب: تحت بيت لحم ص 166). والأغرب من ذلك أن العنب واللوز والزيتون لا تثمر في ديسمبر. وهذا يعني أن القرآن الكريم يذكر الرطب، وهي لا تكون في ديسمبر إلا قليلا؛ أما تاريخ التوراة فيذكر الزيتون واللوز والعنب كمزروعات منطقة يهوذا، ولا تذكر النخل من بينها، ثم إن هذه الثلاثة أيضًا لا توجد في ديسمبر.
والآن أخبركم بما يدل على أن بيان القرآن هو الحق.
الأمر الواقع أن السيدة مريم حملت من غير زوج، فأثار خطيبها ضجة أن الحمل ليس منه. فأمره الله تعالى في الرؤيا أن يأخذ مريم إلى بيته، لأن ما تقوله هي صدق وحق. فاطمأن صاحب الرؤيا بأن خطيبته لم ترتكب أي فاحشة، ولكن أهل المدينة لا يمكن أن يطمئنوا، بل كل من يسمع بولادة المولود سيقول إنه ولد الحرام. وليس بوسع أي زوج أن يتحمل اتهام الناس لزوجته بالفاحشة. فلأنه كان يخاف العار، فمكث في بيته مع مريم ثلاثة أو أربعة أشهر أمكن فيها إخفاء الحمل، فلما رأى أن كتمانه مستحيل، ذهب بمريم إلى منطقة بعيدة عن مدينته، حيث وُلد المولود.
أما المشكلة التي واجهت لوقا في بيان هذه الحقيقة فهي كالآتي: لم ير لوقا معجزة كافية في ظهور الملاك لمريم وتبشيره إياها بالحمل، فأراد أن يضيف إلى ذلك بعض معجزات المسيح أيضًا، ليعطي انطباعًا أن مريم ما إن حملتْ بالمسيح حتى أخذت معجزات ربِّهم في الظهور بدون توقف. فإذا كانت معجزات المسيح أخذت في الظهور من حين الحمل فما الحاجة إلى إخفاء الحمل يا تُرى؟ ولكن الأحداث الحقيقية كانت تؤكد أن يوسف ومريم مكثا خارج مدينتهما لفترة طويلة. لا شك أن رؤيا يوسف برّأت ساحة مريم عنده، ولكن هذه الرؤيا ما كانت لتدفع عنه اللوم الذي كان سيلقاه من قبل القوم. ومن أجل ذلك أقام مع مريم طالما أمكن إخفاء الحمل، ولما رأى أن إخفاء حملها أصبح أمرًا مستحيلاً أخذها إلى مكان بعيد، لكي لا يتعرض للوم القوم ولكي يولد الوليد خارج المدينة. ولكن لوقا كان يهدف التأكيد على ألوهية المسيح، فراح يعزو إليه المعجزات منذ أن حملته مريم، وقال أن زوجة زكريا قالت لمريم الحامل حين جاءت إليها ها قد جاءتني أم ربي، بل قال إن يوحنا نفسه بدأ يركض فرحًا وهو في بطن أمه. فظن لوقا أنه إذا ثبت ذهاب مريم بعيدًا عن أهلها بسبب الحمل لقال الناس أن مريم وزوجها خافا لومة اللائمين رغم مشاهدتهما كل هذه الآيات والمعجزات؛ ولكن ما كان بوسعه، من ناحية أخرى، أن ينكر ذهابهما بعيدًا عن أهلهما؛ فكان عليه أن يرد على سؤال هام وهو: إذا كان الحمل معجزة من الله تعالى، وإذا كانت معجزات المسيح قد بدأت تظهر منذ لحظة الحمل، فما الداعي لإخفاء ذلك الحمل؟ وإذا لم يكن هناك داع لإخفائه فلماذا ذهبا بعيدًا عن أهلهما؟ فلكي يتفادى لوقا هذا الاعتراضَ أوجد من عنده مبررًا لسفرهما إلى بيت لحم، فربَط سفرهما بحادث الإحصاء الذي تم في الواقع بعد سبع سنوات من ولادة المسيح، فأوهم الناسَ أنهما لم يذهبا إلى بيت لحم إخفاءً للحمل، وإنما من أجل الإحصاء الذي لم يكن لهما بد من السفر من أجله.
فبناءً على التاريخ الرومي، يمكننا القول إن لوقا حاول كتمان الحق، إذ لم يجر ذلك الإحصاء في ذلك العام، ولم يسافر يوسف ومريم عندئذ من أجل التسجيل، وإنما ذهبا إخفاءً للولادة. وهذا هو الأمر الواقع أيضًا. فإن يوسف قد أتى بمريم إلى بيته بناءً على أمر الله تعالى، ولكنه لما رأى أن إخفاء الحمل أصبح مستحيلاً، وأنه سيتعرض الآن للخزي والعار، خرج بها بعيدًا عن المدينة بحجة ما. والظاهر أنه لو رجع إلى مدينته بعد ولادة المولود فورًا للامه القوم قائلين: أنى لك هذا المولود ولم تمض على زواجك خمسة أشهر فقط؟ ولو أنه رجع بمريم ومولودها بعد تسعة أشهر بالضبط من الحمل لعرف القوم أنه ليس بمولود جديد، بل هو ابن خمسة أشهر. ولم يكن ثمة سبيل لإخفاء الأمر إلا أن يظل بعيدًا عن مدينته عدة سنوات لأن الصبي الكبير لا يمكن معرفة عمره بالتحديد. والواقع أن يوسف قد اضطر بالفعل للمكوث بعيدًا عن مدينته سنوات عديدة. وعندي أن فترة مكوثه خارج المدينة تتراوح ما بين ثمانية أو تسعة أعوام.
كما كتب Bishop Georns :
ليس هناك شهادة قطعية على أن 25 ديسمبر هو يوم ميلاد المسيح. ولو أننا سلّمنا بقصة ولادة المسيح كما ذكرها لوقا بأن الرعاة كانوا يحرسون قطعانهم في العراء في منطقة بيت لحم في تلك الأيام، لثبت أن ميلاد المسيح لم يكن في فصل الشتاء، حين تنخفض درجة الحرارة جدًّا حتى يصبح سقوط الثلج على منطقة يهوذا الجبلية أمرًا عاديًا. يبدو أن عيد الميلاد عندنا قد تم تحديده في حوالي عام 300 الميلادي وبعد نقاشات طويلة (p. 79 Rise Of Chrisؓianiؓy).
فثبت من هذه الأقوال أن ولادة المسيح ؏ لم تكن في شهر ديسمبر.
بهذا الشرح، وهو شرح هام جدًّا، ومدعم بالأحداث المذكورة في التاريخ الرومي، ومؤيد بضوء روايات الإنجيل نفسه، تنحل قضية ذكر النخلة وثمرها في القرآن الكريم لدى حادث ولادة المسيح.
أحوال المسيح بعد ولادته:
يقول المفسرون أن مريم لما فرغت من الولادة وقويت على المشي جاءت قومَها محتضنة ابنها، فقالوا لها متّهمين إياها: ما هذه الفعلة الشنيعة التي فعلتِها؟ فقالت: لا تسألوني، بل اسألوا هذا المولود. فتكلم المسيح وقال: أنا عبد الله ونبيه (ابن كثير).
وهذا يعني أن المسيح قد كذب في أول معجزة تُنسب إليه. ذلك أنه لم يكن نبيًّا آنئذ، ومع ذلك قال إنني نبي الله. قال إن الله تعالى أوصاني بالصلاة، مع أنه كان لا يصلي، وإنما كان عندئذ يبول ويتبرز في أسماله وينجسها. فكأن المسيح، بحسب المفسرين، بدأ يتدرب على قول الكذب وهو في حضن أمه، ففي السن الذي لم تفرض عليه الصلاة قال إني أصلي، وفي الوقت الذي كان لا يزال ناقص الوعي والإدراك قال إني قد بُعثتُ نبيًّا من الله تعالى. وحجة المفسرين على قولهم هذا هو قول الله تعالى (تحمِلُه) وقوله تعالى (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) (آل عمران 47).
ويتضح من إنجيل متى أن المسيح قد زار أورشليم، التي كانت مدينته الأُمّ في المناطق المجاورة لها، مرتين؛ مرةً وهو في الثانية عشرة من عمره، وثانيةً وهو في الثاني والثلاثين من عمره (متى 21). ولا بد أن هذه المكالمة التي تمّتْ بينه وبين أقارب أمه قد حصلت في إحدى هاتين الزيارتين. ولكن لم يُذكَر عن المسيح حدثٌ ذو بال لدى زيارته الأولى حين كان سنّه اثني عشر، سوى أنه كان يصغي إلى حديث الكبار ويعاف اللعب واللهو. لذا يبدو أن هذه المكالمة التي جرت بينه وأهله كانت لدى سفره الثاني لأورشليم -التي كان أقاربه ساكنين في ضواحيها- حين زارها لنشر دعوته فيها، وقد زارها في حوالي السنة الثالثة من بعثته، حيث كان قد أعلن دعواه قبل ذلك بعامين (انظر متى 21). وإن هذه الكلمات التي عزاها القرآن إلى المسيح تبدو ملائمة تمامًا بتلك المناسبة، ولكنها لا تنسجم إطلاقًا مع زيارته الأولى حين كان لا يزال صبيًّا.
فثبت أن قوله تعالى (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ) (مريم: 28) إشارة إلى تلك الحقبة من الزمن حين كان المسيح قد بلغ الثالثة والثلاثين من عمره، وكان قد أعلن دعواه. وهنا يطرح سؤال نفسه: ما هو المراد إذن من لفظ (تحمِله)؟ فإن الأم إنما تحمل طفلها حين يكون صغيرًا.
الجواب أنه مما لا شك فيه أن لفظ الحمل يعني احتضان المولود، ولكنه يعني المساندة والتأييد والنصرة أيضًا بدليل قوله تعالى في القرآن الكريم (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) (الجمعة: 6).. فترى أن الله تعالى يقول هنا (حُمّلوا التوراة)، ولكن هذا لا يعني أنه تعالى وضع التوراة على رؤوسهم، وإنما المعنى أنه أمرهم بتأييدها وتوقيرها. ثم يقول الله تعالى (ثم لم يحمِلوها).. وليس معناه أن كل يهودي نبذ التوراة من يده، إنما المراد أنهم تركوا تبليغ رسالة التوراة وتأييدها. فثبت أن الحمل يعني أحيانًا النصرة والتأييد والتشجيع ورفع المعنويات أيضًا. فالإنجيل يقول أن أم المسيح لم تؤمن به (مرقس 3: 31-35)، فالقرآن يفنّد بقوله تعالى (فأتَتْ به قومَها تحمِله) التهمةَ التي قد ألصقها الإنجيل بأُمّ المسيح ؏، وأخبر أنها جاءت مع المسيح تصدقه وتؤيده وتقول للناس: كيف تسمونه ولد الحرام؟ هل أولاد الحرام يكونون كمثل هذا الولد. تَكلّموا معه لتعرفوا أولدُ حرام هو أم ولد حلال؟
ثم يخبر الله تعالى أنهم (قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا) (مريم: 28).. أي لقد ارتكبتِ فعلاً نجسًا، ولذلك بدأ ابنُك أيضًا يكذب على الله تعالى. وكأنهم قالوا لها: لأنه ولد الحرام فلذلك يتكلم بمثل هذا الكلام.
بيد أني أرى أن هذه الآية تنطوي على مفهوم آخر أيضًا يدل على أنهم قد سموا مريم أخت هارون تعييرا بها وسخرية. ذلك لأن هارون كانت له شقيقة لم تكن أختًا حقيقية لموسى. ويرى بعض المؤرخين أنها لم تكن أختًا غير شقيقة لموسى، بل كانت أختًا لزوجة موسى، وكانت تُدعى أيضًا مريم.
فأرى أن قول اليهود للسيدة مريم (يا أختَ هارونَ) كان على سبيل التعيير والسخرية، فقالوا يا مريم لقد ارتكبتِ جريمة بشعة تستحقين عليها عقابًا كالجذام مثل أخت هارون. فقد أثرتِ فتنة كالتي أثارتها مريمُ أختُ هارون. إنها اتهمتْ موسى بالفاحشة، وأما أنت فقد ارتكبت الفاحشة، مع أن أباك لم يكن من الأشرار، كما لم تكن أمك من المومسات. فما هذا الشر الذي أثرتِه؟
ولكن هناك نوع من المعجزات التي تقع لتقوية إيمان المؤمنين فحسب، وليس من الضروري إقناع الناس بها. إنها تظهر لزيادة إيمان المؤمنين فحسب، وتقع بحيث يصدقها المؤمن ولكن الكافر لا يقتنع بها.
ولما جاءت مريم مع المسيح إلى قومها قالوا يا مريم، كيف ارتكبت الفاحشة مع أنك من عائلة شريفة؟ فأومأت إلى المسيح. وهذا يعني أن مريم كانت تعرف أن المسيح سيرد عليهم حتمًا. وهذه الجملة أيضًا تفنّد موقف أولئك الذين يزعمون أن المسيح قد تكلم عندئذ كمعجزة. إذ كيف عرفت مريم أنه سيتكلم عندئذ؟ فقوله تعالى (فأشارت إليه) يدل بكل وضوح أن المسيح كان يتكلم من قبل أيضًا، ولذلك عرفت مريم أنه سيتكلم في تلك المناسبة أيضًا.
ما معنى كلم الناس في المهد وكهلا
ولو قيل هنا أن مريم كانت قد أُخبرتْ سلفًا أنه (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) (آل عمران: 47).. ولذلك أشارت إليه، فالجواب أن هذا الوحي الذي تلقته مريم عن كلام مولودها لا يحدّد المناسبة التي سيتكلم فيها الوليد، وإنما يخبر إنه سيكلّم الناس فقط. فلو كان هناك وعد إلهي لمريم بأن وليدها سيكلّم الناسَ دائمًا خلال فترة رضاعته لفهمنا أنه كان يكلم من قبل ولذلك أشارت إليه مريم في تلك المناسبة أيضًا. ولكن لا أحد يقول بكلام المسيح في زمن رضاعته قبل ذلك الحادث ولا بعده، فلا يمكن أن يكون الوعد الإلهي المذكور في سورة آل عمران هو الذي جعل مريم تشير إلى وليدها ليتكلم. بل الواقع أنها أشارت إلى وليدها دحضًا لطعن اليهود الذين اتهموها بارتكاب الفاحشة وجلبِ العار على عائلتها وقومها؛ فردت على طعنهم بأن أشارت إلى ولدها وقالت يمكن أن تكلموه لتعرفوا هل هو حصيلة الفاحشة. لو صح ظنكم فكيف جاء هذا الطفل العظيم نتيجة الفاحشة؟ إن هذا الصبي في حد ذاته يمثل ردًّا مفحمًا على شبهاتكم ووساوسكم، ويبرئ ساحتي من تهمتكم.
أما قوله تعالى (قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) (مريم: 30)، فيقدَّم كدليل على كلام المسيح ؏ في بداية طفولته.
فليكن معلومًا بهذا الصدد أن المهد يُطلَق على زمن التحضير والإعداد أيضًا. يقول الله تعالى في القرآن الكريم (ومهّدتُ لـه تمهيدًا) (المدّثّر: 15).. أي آتيتُ الكافر مالاً وثراء، وهيأت لرقيه وتقدُّمه أسبابًا كثيرة. فثبت أن كلمة المهد تُستعمل أيضًا لفترة التحضير والإعداد، وهو زمن الشباب، لأن الإنسان يستجمع فيه شتى القوى ليستهلكها في المستقبل. وهنا أيضًا قد استعمل القرآن لفظ (المهد) على سبيل الاستعارة بمعنى زمن الشباب. وإن كبار القوم يذكرون عمومًا شبابهم بمثل هذه الألفاظ، ولا يعنون بذلك أنهم لا يزالون في المهد والأرجوحة، وإنما المراد أنهم لا يزالون صغارًا جدًّا مقارنة بهم. فمثلاً كان عمر النبي ﷺ قرابة ستين سنة وقت صلح الحديبية، وكان قد دخل في الشيخوخة، ومع ذلك لما جاءه أحد رؤساء مكة الكافرين للتفاوض خاطب نبيَّنا ﷺ مرة بعد أخرى: يا ابني أنصحك أن ترضى بقولي. ذلك لأن هذا الرئيس كان يبلغ من العمر حوالي ثمانين سنة. فلا غرابة لو قال كبار القوم عن أحد: كيف نكلّمه وهو وليد الأمس. فاستنتاج بعض المسلمين بأنه كان بمثابة نبأ من الله تعالى بأن المسيح ؏ سيتكلّم في صغره وفي مهده المادي استنتاج خاطئ. ذلك لأن الله تعالى قد أضاف مع المهد (كهلا) أيضًا. فإذا كان كلام المسيح في المهد معجزة فهل كان كلامه في كهولته أيضًا معجزة؟ ألا يتكلم الناس في سنّ الكهولة.. أي ما بين 33 إلى50 عامًا؟ هل يُعتبر كلام الكهل أيضًا من كبار المعجزات؟ إذًا فوجود لفظ (كهلاً) مع (المهد) يدل أن هذه الآية لا تشير إلى معجزة كلامه في موعد خاص، وإنما إلى معجزة نوعية كلامه. لو كان المراد هنا كلامه في عمر معين لما أُضيف هنا كلمة (كهلاً). إذا كان الكلام في الكهولة يُعَدّ معجزة، فيمكن أن يعد الكلام في المهد أيضًا معجزة؛ أما إذا كان الكلام في الكهولة أمرًا عاديًا، فلا بد أن يراد بالمهد هنا ذلك السن الذي يتكلم فيه عامة الأولاد.
والجواب هو نفس ما ذكرته أعلاه بأن الكلام يكون في حد ذاته معجزة أيضًا بغض النظر عن العمر. فمثلا إن القرآن الكريم لمعجزة عظيمة جدًّا، ولكن هل نـزل القرآن على النبي ﷺ وعمره شهرانِ أم أربعون عامًا؟ لقد بدأ نـزوله على النبي ﷺ في سن الأربعين، واستمر نـزوله حتى سن الثالثة والستين، ومع ذلك نعد هذا الكلام معجزة؟ فهل نعتبره معجزة لأنه نـزل عليه ﷺ وسنُّه شهران وثلاثة أشهر؟ كلا، بل نعدّه معجزة لنوعية هذا الكلام؟ فإننا نؤمن بأن القرآن كلام عظيم منقطع النظير حتى إن العالم كله لعاجز عن أن يأتي بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا.
فالمراد أن المسيح سيتكلم كلامًا إعجازيًّا في زمن شبابه وإعداده، وكذلك في زمن كهولته. والحق أن الأنبياء كلهم يتكلمون بمثل هذا الكلام، لكونهم من المحبوبين المقربين لدى الله تعالى. فهذا هو رسولنا الكريم ﷺ الذي لم يزل يتكلم بكلام لا يبلغ شأوَه كلامُ المسيح ولا كلام موسى عليهما السلام؛ إذ لا قيمة للتوراة والإنجيل إزاء القرآن الكريم؟ مع أنه ﷺ قد تكلم بهذا الكلام منذ سن الأربعين. فالله تعالى وحده الذي كان قادرًا على أن يخبر إذّاك أن المسيح سيتكلم بمثل هذا الكلام العظيم. إذًا فالمعجزة لا تكمن في أن يتكلم ولد سنه شهران، وإنما تكمن في المزايا والمحاسن التي يتسم بها هذا الكلام. فلا داعي لتفسير لفظ (في المهد) بأن المسيح تكلم في صغره، بل إذا كان قد تكلم في شبابه بما ليس في وسع الإنسان العادي أن يتفوه به فكان ذلك أيضًا معجزة. شأنه شأن رسولنا الكريم ﷺ الذي تكلم بالقرآن في سن الأربعين، ومع ذلك كان كلامه معجزة منقطعة النظير. فكما أن كلام النبي ﷺ وموسى وغيرهما من الأنبياء في السن المتقدمة كلامًا إعجازيًّا، وكان الله تعالى وحده القادر على التنبؤ بنوعية كلامهم، كذلك الحال بالنسبة لكلام المسيح. فثبت أن الله تعالى ما أنبأ عن كلام المسيح لأنه سيتكلم في المهد، وإنما أنبأ بذلك نظرًا إلى نوعية كلامه إذ سيكون متحلّيًا بصفة الإعجاز، ومن أجل ذلك ذكر الله تعالى مع المهد كلمة الكهل أيضًا؛ ذلك لأن الكلام الخاص كما يكون إعجازيًّا في الشباب يكون إعجازيًّا في الكهولة والشيخوخة أيضًا.
ثم إن كل ما قاله يصبح كذبًا وزورًا. يقول إني عبد الله، وأؤدي الصلاة، مع أنه لم يكن يقوم عندئذ بأي عبادة، بل لو أنه بدأ الصلاة وفق ادعائه هذا، لرمَتْه أُمُّه بعيدًا وذهبت، ليظل ملطخًا بنجاساته طوال النهار.
ثم يقول (آتاني الكتابَ). وأي كتاب أعطاه الله في ذلك الوقت، يا ترى؟
ثم يقول (وجعلني نبيًّا)، مع أن هذا كذب، لأنه لم يكن قد بُعث نبيًّا في ذلك الوقت.
ثم يقول (وجعلني مباركًا أينما كنتُ) (مريم: 32). كان لا يستطيع المشي أيضًا، بل كانت أمه تحتضنه هنا وهناك، ومع ذلك يقول إن بركة الله معي أينما ذهبتُ!
ثم يقول (وأوصاني بالصلاة)، مع أنه كان لا يقدر على أن يتطهر من نجاسته، بل كان الآخرون يقومون بتنظيفه وتطهيره. ثم إنه كان لا يعرف عندها كيف يصلي؟
ثم قال وأوصاني الله بِـ (الزكاة). كانت أمه هي التي تصنع لـه الخِرَق والأسمال، ومع ذلك يقول إن الله تعالى أمرني بأداء الزكاة.
وثم قال (وبَرًّا بوالدتي).. أي جعلني الله مطيعًا لأمي. متى كان بوسعه عندها أن يطيع أُمَّه؟ بل بالعكس كانت تسقيه لبنها، وتحمله هنا وهناك؛ وتبيت لياليها ساهرةً على راحته.
ثم قال (ولم يجعَلْني جبّارًا شقيًّا). كان يبكي لو قرصه أحد قرصة بيده، فأنَّى لـه أن يكون عندئذ جبارًا شقيًّا. إذًا فلو سلّمنا بأنه قد تكلم بهذا الكلام في صغره لعُدَّ كلامه هذا كله كذبًا وزورًا.
الحقيقة أن السيدة مريم ظلت مقيمة في مكان خارج مدينتها بعد ولادة المسيح لمدة طويلة، ولما بلغ الثلاثين من عمره (لوقا 3: 23) وشرفه الله تعالى بالنبوة رجعت معه إلى قومها. ويبدو أن أقاربها المشاكسين ظلوا متربصين بها، فلم ينفعها غيابها عن المدينة، واطلع هؤلاء على السر الذي حاولت كتمانه، أو أن الله تعالى نفسه أراد أن يفشو سرها لتزداد المعجزة جلاء وعيانًا… فلما رجعت ورأوا معها مولودها المشهور الخبر عيّروها به. فما استطاعت الرد عليهم خجلاً، بل (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ) (مريم: 30). ولكن الولد أصبح الآن شابًّا، وقد صار نبيًّا، فرد عليهم وقال: ما هذا الهراء الذي تهذون به. (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (مريم: 31).. أي أنني إنسان متخلق بأخلاق الله، وإن صفاته تعالى تنعكس في أعمالي وتصرفاتي. وقد أعطاني الله الكتاب، وبعثني نبيًّا. فهل مثلي يكون من أولاد الحرام؟
ثم قال (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا) (مريم: 32). فلو قلنا أنه قد نطق بهذا الكلام وهو طفل رضيع، فهذا يعني أنه كان في أيام رضاعته يتجول في المدينة هنا وهناك، ويؤدي الصلوات، ويؤتي الزكاة، مع أنه أمر لا يعتقد به أي من المسلمين ولا النصارى.
ولكن المسيح ؏ لو لم يتفوه بكل “هذه الأباطيل”، وإنما اكتفى بقوله: يا عم، لِمَ تظلم أُمّي، وما هذا الهراء الذي تهذي به ضدها، لهرب عنه أحبار اليهود ورهبانهم. إذًا فإن هذه الدعاوى العريضة لا تترك هذا الحدث معجزة أبدًا، وإنما تجعله كذبًا صريحًا لا يمكن أن يقتنع منه العدو أبدًا.
فليس المراد من (المهد) هنا زمن الطفولة والصغر، وإنما قد تكلم المسيح بهذا الكلام فيما بعد حين بلغ ثلاثين سنة أي قبل الكهولة التي هي ما بين سن الثلاثين إلى الخمسين حيث تبدأ بعده الشيخوخة. لقد بُعث المسيح نبيًّا في سن الثلاثين، وبقي في وطنه حتى الثالثة والثلاثين من عمره. فتكلم مع أهل وطنه في المهد والكهولة، أما في الشيخوخة فتكلم مع أهل البلاد الأُخرى.
المقال التالي: قصة سيدنا عيسى ؏ – بنوة المسيح ومقارنة بين الإنجيل والقرآن الكريم – هل المسيح ابن الله؟
اسلوب الكتابة ركيك ويأتي بالضجر على القارئ رغم أهمية المعلومات ..