المقال السابق: قصة سيدنا عيسى ؏ – تاريخ و ميلاد المسيح وهل تكلم المسيح وهو طفلا رضيعا؟
مقارنة بين الإنجيل والقرآن الكريم:
والواقع أننا عندما نقرأ الإنجيل بإمعان وتدبر نجد أن عقائد المسيحيين إنما هي حصيلة سوء الفهم، وأن ما يقوله القرآن الكريم هو الحق والصواب، وإليك بيان ذلك.
الأمر الأول: إن أول ما نسبه القرآن الكريم هنا إلى المسيح هو قوله (إني عبد الله). فلو أن الإنجيل قال أيضًا إن المسيح عبد الله لثبت أن القرآن على الحق. فنتوجه أولاً إلى هذا الأمر ونقدم على صدق بيان القرآن العبارة التالية من الإنجيل:
“ثم أُصعِد يسوع إلى البرية من الروح ليجرَّب من إبليس. فبعد ما صام أربعين نهارًا وأربعين ليلة جاعَ أخيرًا، فتقدَّمَ إليه المجرِّب وقال لـه: إن كنتَ ابن الله فقُلْ أن تصير هذه الحجارة خبزًا؟ فأجاب وقال: مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرُج مِن فم الله. ثم أخذه إبليسُ إلى المدينة المقدسة وأوقفه على جناح الهيكل وقال لـه: إن كنتَ ابن الله فاطرَحْ نفسك إلى أسفل لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بك، فعلى أياديهم يحملونك لكي لا تصدِم بحجر رِجلَك. قال لـه يسوع: مكتوب أيضًا: لا تجرّب الربَّ إلهَك. ثم أخذه أيضًا إبليسُ إلى جبل عال جدًّا وأراه جميع ممالك العالم ومجدها وقال لـه: أُعطيك هذه جميعَها إنْ خرَرتَ وسجدتَ لي. حينئذ قال لـه يسوع: اذهبْ يا شيطانُ، لأنه مكتوب: للرب إلهِك تسجد، وإياه وحده تعبد.
(أقول: إن هذه الفقرة تبين أنه بالرغم أن المسيح لم يسجد للشيطان إلا أن أُمّته سيسجدون للشيطان في آخر المطاف، لأن الإنجيل يخبر أن مُلك الدنيا يتيسر نتيجة السجود للشيطان).
ثم تركه إبليس، وإذا ملائكة قد جاءت، فصارت تخدمه” (متى 4: 1- 11).
كم هي مفصلة وصريحة هذه الفقرة في دلالتها على كون المسيح واحدًا من البشر! فإن أول ما ورد هنا أن الشيطان جاء لاختباره، ولا أحد من العقلاء يمكن أن يصدق أن الشيطان الذي جاء لاختبار المسيح كان لا يعرف من هو الإله، وما هي صفاته، وما قدرته. فحيثما ذُكر الشيطان في الكتاب المقدس نعرف منه أن الشيطان كائن متمرد، لم تتيسر له معرفة الله تعالى كاملةً، ولكنا نعرف من بيان الكتاب المقدس أيضًا أن الشيطان كان يعرف من هو الإله، وما هي صفاته وقدراته. فذهاب الشيطان إلى المسيح لاختباره، رغم معرفته أن اختبار الله تعالى محال، يكشف بجلاء أن الشيطان كان يعلم أن المسيح ليس بإله، وإلا فما الحاجة لأن يذهب لاختبار الإله؟ ثم ورد أن المسيح: “بعد ما صام أربعين نهارًا وأربعين ليلة جاعَ أخيرًا“. فلو كان المراد من صيامه أربعين نهارًا وليلة أنه لم يأكل في كل هذه المدة فلا غرابة في ذلك، فإن السيد “غاندي”× كان يصوم شهرين متتابعين.
× زعيم سياسي هندوسي شهير. (المترجم)
ثم إن الإنجيل يذكر هنا فقط جوعه دون العطش، وهذا يعني أن صيام المسيح كان عبارة عن الامتناع عن أكل الطعام دون الشراب، كما كان السيد “غاندي” يفعل حيث كان لا يأكل الطعام خلال صيامه، ولكن كان يشرب الماء وعصير الفواكه!
على أية حال، إن الإنجيـل يخبرنا أنه لما انتهـى صوم المسيح جاع، وجوعه يدل على أنه كان إنسـانًا، وليس إلهًا لأن الجـوع إنما يصيب الإنسانَ وليس الإلهَ. يقول المسيحيون على ذلك أن المسيح كان في الجسد الإنساني لذا كان بحاجة إلى الحوائج البشرية.
ولكنا نحن المسلمين نرى أن جسد المسيح كان جسدَ بشرٍ كما أن روحه أيضًا كانت روحَ بشرٍ. ونقول للمسيحيين: لقد أقررتم على الأقل بكون جسد المسيح جسدًا بشريًّا. وبقي الآن السؤال: هل كان في المسيح روح بشر أم روح إله؟ والجملة التالية تجيب على ذلك حيث ورد أن الشيطان قال له: “إن كنتَ ابن الله فقُلْ أن تصير هذه الحجارة خبزًا؟ فأجاب وقال: مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرُج من فم الله.”
والبيّن أن تحويل الحجارة إلى خبز هو في قدرة الله وليس في مقدرة الإنسان. ولذلك قال الشيطان ليسوع: ما دمتَ تدعي أنك ابن الله، والناس أيضًا يظنون أنك كائن خارق، فحوِّلْ هذه الحجارة خبزًا. ولكن المسيح لم يقدر على ذلك. وهذا يدل على أنه لم يملك أي قدرة كقدرة الله تعالى.
ويقول المسيحيون على ذلك: إن عدم تحويله الحجارةَ إلى خبز ليس دليلاً على أنه لم يملك أي قدرة كقدرة الله تعالى، لأن الأمر كان يتوقف على مشيئة المسيح. فإنه لو شاء لحوّل الحجارة خبزًا، ولكن لم يرد ذلك، فلم تتحول الحجارة خبزًا. فإذا كان المسيح لم يُرِ معجزة تحويل الحجارة خبزًا فليس في ذلك دليل على عجزه، وإنما المراد منه أنه لما رأى جسارة الشيطان ووقاحته رفض طلبه قائلا: من أنت حتى تأمرني بهذه الأوامر. فاخسأْ عني، فإني لن أحوّل الحجارة خبزًا.
والأغرب من ذلك أن المشايخ يقولون أن الشيطان لم يمس المسيح عندما كان وليدًا، بينما يعلن الإنجيل أن المسيح كان يسير مع الشيطان حتى بعد بلوغه سن الرشد والعقل، وليس لدقيقة أو دقيقين، بل أربعين يومًا بدون انقطاع.
ثم إن من أكبر صفات الإله معرفة علم الغيب، ولا بد لمدعي الألوهية من أن يعلم الغيب. ولكن المسيح يقول: “وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن، إلا الآبُ” (مرقس 13: 32).
وكذلك ورد في الإنجيل: “وفيما هو خارج إلى الطريق ركَض واحد وجثا لـه وسأله: أيها المعلِّم الصالح، ماذا أعمل لأرِث الحياةَ الأبدية؟ فقال لـه يسوع: لماذا تدعوني صالحًا. ليس أحد صالحًا إلا واحد وهو الله.” (مرقس 10: 17-18).
لقد قام المسيح ؏ هنا باثنين من الدعاوى:
أولهما: ليس أحد صالحًا إلا الله. والثانية: أن المسيح ليس صالحًا؛ والنتيجة الحتمية لذلك واحدة وهي أن المسيح لم يكن إلهًا. فسواء أن استعملتم الكلية الصغرى للمنطق أم الكلية الكبرى فلن تتوصلوا إلا إلى هذه النتيجة. فثبت جليًّا أن المسيح ؏ يعترف هنا بكونه إنسانًا.
كذلك ورد في الإنجيل أن الناس جاءوه بامرأة وقالوا لقد أمسكها القوم وهي تزني، وعقاب الزانية هو الرجم بحسب شرع موسى، وقد جئناك بها، فماذا ترى أنت؟ فقال لهم المسيح: من كان منكم بلا إثم فليتقدم وليَرْمِها قبل الجميع. فلما سمعوا هربوا جميعًا. فقال المسيح للمرأة: أين هؤلاء الذين أدانوكِ. قالت: لقد هربوا. قال: اذهبي، فأنا أيضًا لا أدينك.
فترى أن الكتبة والفريسيين يقولون إن شريعة موسى تأمر برجم مثل هذه المرأة، ولكن المسيح يقول لهم: يجب أن يرجمها أولاً من ليس لـه خطيئة. فلما فر الجميع من هناك قال المسيح لها: أنا الآخر لا أدينك. وهذا يعني أنه يعلن هنا أنه هو الآخر ليس مبرأً من الإثم. فثبت أن المسيح اعترف بكونه غير مبرّأ من الإثم، وبتعبير آخر، بكونه عبدًا من عباد الله تعالى.
الأمر الثاني: والأمر الثاني الذي عزاه القرآن الكريم هنا إلى المسيح ؏ أنه قال لقومه إن الله تعالى قد (آتانيَ الكتابَ). ونقرأ في الإنجيل قول المسيح: “لستُ أفعل شيئًا من نفسي، بل أتكلم بهذا كما علّمني أبي” (يوحنا 8: 28). فثبت بذلك أن المسيح ؏ لم يعرض على الناس أي تعليم من عند نفسه، بل كل ما عرضه عليهم كان مما علمّه الله تعالى، حيث يقول إنني لا أقول شيئًا من عندي، بل أقول لكم ما علمني أبي؛ إذ لا يحق لي أن أقول من عند نفسي شيئًا.
ويقول المسيح ؏ أيضًا: “لا تظنوا أني جئتُ لأنقُض الناموسَ أو الأنبياء. ما جئتُ لأنقُض بل لأكمِّل. فإني الحقَّ أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكلُّ” (متى 5: 17-18). هذه الفقرة تكشف جليًّا أن المسيح ؏ قد بُعث إلى اليهود لترويج التوراة بينهم. فثبت أن ما عزاه القرآن إلى المسيح بأنه قال إن الله تعالى (آتاني الكتابَ) صدق وحق تمامًا. لقد قال ؏ (آتاني الكتابَ) لأنه كان مأمورًا بالعمل بكتاب نبي سابق ودعوة الآخرين إلى العمل به، وأيضًا لأنه كان يتعلم التفسير الصحيح لذلك الكتاب السابق من خلال وحي الله تعالى. هذان الأمران كلاهما ثابتان من الإنجيل، فقد أعلن المسيح ؏ أنه لم يأت إلا لترويج التوراة ودعوة الناس إلى العمل بها، كما أكد أنه لا يعرض على الناس شيئًا من عنده، وإنما يقول لهم ما يعلّمه الله تعالى.
الأمر الثالث: ثم يعلن القرآن الكريم أن المسيح ؏ قال (وجعَلني نبيًّا).. أي أنه أخبر الناس أنه نبي من عند الله تعالى. وهذا أيضًا ثابت من الإنجيل حيث ورد فيه قول المسيح: “والذي أرسلني هو معي، ولم يتركني الآبُ وحدي، لأني في كل حين أفعل ما يرضيه” (يوحنا 8: 29). ثم ورد في الإنجيل أن الفريسيين لما قالوا للمسيح: “لنا أب واحد هو الله. فقال لهم يسوع: لو كان الله أباكم لكنتم تحبّونني لأني خرجتُ من قِبل الله وأتيتُ، لأني لم آتِ من نفسي، بل ذاك أرسلني.” (يوحنا 8: 41-42).
إن قوله ؏ “ذاك أرسلني” لبرهان ساطع على نبوّته ورسالته. إذًا فقد ثبت من هذه الفقرة أيضًا أن ليس في تسمية المسيح ؏ نفسَه “ابن الله” أي دليل على ألوهيته، لأن اليهود أيضًا كانوا يسمّون أنفسهم أبناء الله تعالى حيث يقول الفريسيون هنا: “لنا أب واحد هو الله.” فلم يكن للمسيح أي خصوصية في كونه ابن الله، إذ كان هذا التعبير شائعًا بكثرة بين اليهود حتى سموا أنفسهم أبناء الله تعالى. ولا غرابة في شيوع مثل هذه التعابير بينهم، لأن الذين في قلوبهم حب صادق لله تعالى، والذين لا يتهافتون على المتع المادية، بل يرغبون في الوصال بالله تعالى رغبة صادقة، فإنهم يرون الله تعالى على صورة الأم والأب عند استيلاء مشاعر الحب الإلهي عليهم؛ بل إن الله تعالى نفسه يتجلى أحيانًا لعباده المصطفين الأخيار في رؤاهم وكشوفهم على صورة الأم أو الأب. لقد كتب سيدنا المسيح الموعود ؏ أني رأيت الله تعالى على صورة أبي (جريدة “الحَكَم” عدد 10/5/1902 ص 7). وأنا أيضًا قد رأيت الله تعالى ذات مرة على صورة أمي – رضي الله تعالى عنها. فعباد الله الذين يخلصون حبهم لله تعالى يرون ربهم كالأب والأم عند فورة مشاعر الحب الإلهي. كما أن الله تعالى حينما يبدي لهم حبه من خلال الكشوف والرؤى فإنما يتجلى عليهم عادةً على صورة الأب والأم. أما السؤال: متى يتجلى في صورة الأب ومتى يظهر في صورة الأم فهو سر دقيق من الأسرار الروحانية. إن كل واحد من الأبوين يُعَدّ رمزًا للحب، غير أن هناك فرقًا بين حبهما، فحب الأُمّ له لون، ولحب الأب لون آخر، كما أن مسئوليات الأم مختلفة عن واجبات الأب. فإذا أراد الله تعالى أن يلفت نظر الإنسان إلى حب كحب الأم ومسؤوليات كمسؤولياتها فإنه يتجلى عليه على شكل أمه؛ وإذا أراد ﷻ لفت أنظار الإنسان إلى محبةٍ كمحبة الأب وواجباتٍ كواجباته فإنه يظهر عليه على شكل أبيه. ولما كان الأتباع والمؤمنون يسمعون من أنبيائهم أن الله تعالى يحبهم كحب الأمهات والآباء، فيستخدم هؤلاء أي الأتباع أيضًا مثل هذه الكلمات تقليدًا بأنبيائهم. وهذا ما حدث باليهود أيضًا. فلما بُعث فيهم الأنبياء، وأكثروا أمامهم مِن ذكر حب الله لهم ولطفه بهم، وقالوا إن الله تعالى يحبنا كحبّ الأم لابنها أو كحبّ الأب لابنه، جعل اليهود أيضًا يسمون الله أبًا لهم. وقد استخدم المسيح ؏ أيضًا التعبير نفسه، فقال إن الله أبي.
ثم قال المسيح ؏: “لأني لم آتِ من نفسي، بل ذاك أرسلني.” وهذا دليل بيّن على أن المسيح لما قال إني ابن الله فإنما قاله بمعنى أنه مرسل من عند الله تعالى.
أما النبوءة التي قد أشار إليها المسيح ؏ هنا فقد قال فيها إشعياء النبي: “روحُ السيّدِ الربِّ عليَّ، لأن الربَّ مسَحني، لأبشّر المساكينَ. أرسَلني لأعصِبَ منكسري القلب، لأنادي للمَسْبِيِّين بالعِتق وللمأسورين بالإطلاق. لأنادي بسَنةٍ مقبولةٍ للرب وبيوم انتقامٍ لإلهنا. لأعزّيَ كلَّ النائحين، لأَجعَلَ لنائحي صِهْيَون، لأعطيهم جمالاً عوضًا عن الرماد، ودُهْنَ فرحٍ عوضًا عن النَّوح، ورادءَ تسبيح عوضًا عن الروح اليائسة، فيُدعَون أشجارَ البِرِّ غَرْسَ الربِّ للتمجيد” (إشعياء 61: 1-3).
فيرى المسيحيون أن نبوءة إشعياء النبي هذه تنطبق على المسيح ؏. فإذا صحّ ذلك فقد ثبت أن الموعود في هذه النبوءة ليس بإلهٍ بل إنسان، كما تدل على ذلك كلمة “أرسلني” التي ترادف ما ذكره القرآن على لسان المسيح (وجعَلني نبيًّا).
ثم ورد في إنجيل متى: “ولما دخل أورشليمَ ارتجّت المدينة كلُّها قائلةً: مَن هذا؟ فقالت الجموع: هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليلِ” (متى 21: 10-11).
ويقول يوحنا في إنجيله إن المسيح ؏ ذهب ذات يوم إلى الهيكل وأخذ يعلّم القومَ، فتعجب اليهود وقالوا: كيف صار عالمًا بدون أن يتعلم. فقال المسيح لهم: “تعليمي ليس لي، بل للذي أرسلني” (يوحنا 7: 14-16).
فهنا أيضًا قد أعلن المسيح ؏ أنه رسول من الله تعالى. ذلك أن كمال الله تعالى كمال ذاتي، ولو كان المسيح إلهًا أو ابن الإله فكان لزامًا أن يتصف بهذه المعارف ككمال ذاتي؛ ولكنه يقر هنا بأنه ليس فيه أي كمال ذاتي، بل إن الله تعالى هو الذي بعثه، وليس هذا التعليم إلا من عنده تعالى.
ثم يضيف المسيح ؏ ويقول: “إن شاء أحد أن يعمل مشيئتَه يعرف التعليم: هل هو من الله أم أتكلم أنا من نفسي” (يوحنا 7: 17).. أي أن الباحثين عن الحق بصدق لو فحصوا الأمر لعلموا أن هذا التعليم ليس مني، بل هو من ربي.
وهذا الدليل نفسه يقدمه المسيح ؏ هنا ويقول: “وأيضًا في ناموسكم مكتوب أن شهادة رجُلَين حق. أنا هو الشاهد لنفسي، ويشهد لي الآبُ الذي أرسلني“. أما إذا ظننا أن قوله “أنا هو الشاهد لنفسي” يعني أنني ما دمتُ أنا أقول إني صادق، فلا شك في صدقي، لاختلت الموازين وعمّت الفوضى. فمتى يحق لشخص متّهَم بجريمة أن يقول للمحكمة: إني صادق لأني أنا الشاهد لنفسي، والشاهد الثاني هو الله تعالى؟ إنه لو قال ذلك لضحك الجميع عليه. فثبت أن المسيح ؏ قد قدم هنا الدليل الذي قد صار مثلاً سائرًا أعني قولهم إن الشمس نفسها دليل على طلوعها. إن المسيح ؏ لا يقدم شخصه هنا دليلاً على صدقه، وإنما يتحدى القوم بناء على حياته السابقة لدعواه. غير أن هذا يؤكد في كل حال أنه ؏ كان عبد الله ورسوله، ولم يدّع الأُلوهية قط.
ثم ورد هذا المعنى نفسه في مكان آخر من الإنجيل حيث جاء: “لأن يسوع نفسه شهد أنه ليس لنبيٍّ كرامةٌ في وطنه” (يوحنا 4: 44). فترى أن المسيح قد سمى نفسه هنا نبيًّا بكل صراحة وجلاء، إذ يقول لا يهان النبي إلا في وطنه وبين أقاربه وأهل بيته. وهذا يعني أيضًا أن بعض أقاربه أيضًا كانوا يعارضونه حتمًا.
ويقول الإنجيل أيضًا: “قالت لـه المرأة: يا سيد، أرى أنك نبي” (يوحنا 4: 19). وهذا يعني أن الناس أنفسهم كانوا يسمونه نبيًّا كما كان نفسه يفعل. ولكن المسيحيين اليوم يسمونه إلهًا.
الأمر الرابع: بعد ذلك قال القرآن الكريم هنا على لسان المسيح ؏ (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ) (مريم: 32). وهذه الألفاظ أيضًا تدل على أن المسيح ؏ كان بشرًا. ذلك لأن الله تعالى صاحبُ البركة في حد ذاته، أما الإنسان فإنما ينال البركة من عند الله تعالى. فالله مبارِك، والإنسان مبارَك. إن أحد أبنائي أيضًا يدعى “مبارَك”، وعندما يناديه أحد بالخطأ “مبارِك” أقوم بتصويب خطئه وأقول لـه: إنه “مبارَك”، وليس مبارِك، لأن الله تعالى هو المبارِك. وهنا يعلن المسيح ؏ أن الله تعالى قد جعلني مبارَكًا، فالذي يكون مبارَكًا لا بد أن يكون بشرًا، إذ ليس بوسع أحد أن يهب البركةَ لله تعالى. إن قوى الله وقدراتها كلها ذاتية، إذ لا يكتسب ﷻ أي قوة من غيره. فلو ثبت أن المسيح ؏ كان مبارَكًا.. أي كان لا يهب البركة بل كان يسأل البركة من الله ﷻ.. لثبت أيضًا أنه كان بشرًا.
ثم ورد في الإنجيل أن المسيح ؏ جاءه ذات مرة زوّار كثيرون، ومعه تلاميذه: “فأمَرهم أن يجعلوا الجميعَ يتّكئون رِفاقًا رِفاقًا على العشب الأخضر. فاتَّكأوا صفوفًا صفوفًا مئةً مئةً وخمسين خمسين. فأخَذ الأرغفةَ الخمسةَ والسمكتينِ، ورفَع نظرَه نحو السماء وبارك×. ثم كسَّر الأرغفةَ، وأعطى تلاميذَه ليقدّموا إليهم. وقسَّم السمكتين للجميع. فأكل الجميعُ وشبِعوا” (مرقس 6: 39-42).. أي أن المسيح قد طلب البركة من الله تعالى رافعًا وجهه إلى السماء، فأنـزل الله تعالى البركة في الطعام. فترى أن مرقس قد اعترف هنا أن الله تعالى مبارِك وأن المسيح ؏ مبارَك.
× علمًا أنهم قد حرفوا الترجمة العربية هنا فقالوا أن المسيح “بارَك”، ولكن قد ورد في النسخ الأردية والإنجليزية أنه “دعا للبركة” (المترجم).
فترى هنا أيضًا أن المسيح ؏ سأل البركة ثم كسّر الخبز. علمًا أن هذا الحدث هو الأساس لعبادة العشاء الرباني لدى المسيحيين.
الأمر الخامس: بعد ذلك يقول القرآن الكريم إن المسيح ؏ قال (وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ) (مريم: 32). وهذه الصفة أيضًا تختص بالبشر، إذ ليس هناك من يوصي اللهَ تعالى ويأمره بشيء، كما أنه لا مجال لأن يؤدي الله تعالى الصلاة. ثم إن الإنجيل أيضًا يؤكد أداء المسيح الصلاةَ حيث ورد: “وفيما هو يصلّي على انفراد كان التلاميذ معه، فسألهم قائلا: مَن تقُول الجموعُ أني أنا؟” (لوقا 9: 18).
لقد اتضح من هذه الفقرة جليًّا أن المسيح ؏ كان معتادًا على الدعاء، وكان يدعو عادةً من أجل رقيه ونجاح دعوته. ذلك لأن قوله: “مَن تقُول الجموع أني أنا؟” يوضح أنه كان دائم التفكير فيما يظن الناس به، فهل يعتبرونه صادقًا أم كاذبًا؟ فثبت أن المسيح ؏ كان يدعو لنجاح دعوته وانتشار جماعته.
ثم ورد في الإنجيل: “وإذْ كان يصلي في موضع لما فرَغ قال واحد من تلاميذه: يا ربُّ، عَلِّمْنا أن نصلي كما علّم يوحنا أيضًا تلاميذَه. قال لهم: متى صلّيتم فقولوا: أبانا الذي في السماوات، ليتقدسْ اسمُك، ليأتِ ملكوتُك، لتَكُنْ مشيئتُك كما في السماء كذلك على الأرض. خُبْزَنا كَفافَنا أَعْطِنا كل يوم. واغفِـرْ لنا خطايانا لأننا نحن أيضًا نغفِر لكل مَن يُذنِب إلينا. ولا تُدخِلْنا في تجربة، لكن نجِّنا من الشرير” (لوقا 11: 1-4).
لقد اتضح من هذا أيضًا أن المسيح ؏ كان معتادًا على الدعاء. وإن جملة “وإذْ كان يصلي في موضع لما فرغ” تدل على أنه كان يدعو في مكان ما في خلوة، فتأثر أتباعه من بكائه وابتهاله في الدعاء، فسألوه أن يعلّمهم ماذا يقولون في دعائهم. فعلّمهم هذا الدعاء.
فما أعظمَه وأوضحَه من برهان على صدق ما قاله القرآن الكريم على لسان المسيح ؏ (وأوصاني بالصلاة). ذلك لأن “أوصاه بكذا” يعني عهِد إليه (الأقرب) أي أمره بالقيام به دائمًا.
والزكاة هو الشيء الثاني المذكور هنا على لسان المسيح ؏: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ)(مريم: 32). وليكن معلومًا عن الزكاة أن مهمة الأنبياء إنما هي أن يوزعوا على الناس كل ما حباهم الله تعالى به من النعم. فالحق أن المراد من إخراج الأنبياء للزكاة هو حثُّهم أتباعَهم على أدائها.
ورد في الإنجيل أن الفريسيين جاءوا المسيح ؏ وقالوا لـه: أيجوز أن تُعطَى جزيةٌ لقيصرَ؟ وكان غرضهم من ذلك أنه إذا أجاب بالإيجاب فيثيرون القومَ ضده بحجة أنه يتملق للحكومة ويأمرهم بأداء الجزية لها، أما إذا أجاب بالنفي فيثيرون الضجة بأن المسيح قد تمرد على الحكومة… ففطِن المسيح ؏ لنواياهم الخبيثة حيث ورد: “فعلِم يسوعُ خبثهم وقال: لماذا تجرّبونني يا مُراؤون؟ أَرُوني معاملة الجزية. فقدَّموا لـه دينارًا، فقال لهم: لمن هذه الصورة والكتابة؟ قالوا لـه: لقيصر. فقال لهم: أَعْطُوا إذًا ما لقيصرَ لقيصرَ وما لله لله. فلما سمعوا تعجّبوا وتركوه ومضوا” (انظر متى 22: 18-22). لقد تبينَ من ذلك أن المسيح ؏ قد أقرّ بقانون إخراج حق الله تعالى من المال، وهذا هو ما يسمى الزكاة.
بعد ذلك يحكي لنا القرآن الكريم قول المسيح ؏ (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي) (مريم: 33).. أي لقد جعلني الله تعالى محسنًا إلى أمي. وهذا ما يؤكده الإنجيل أيضًا حيث جاء: “ثم نـزل معهما (أي مع أمه وزوجِها)، وجاء إلى الناصرة، وكان خاضعًا لهما. وكانت أمُّه تحفَظ جميعَ هذه الأمور في قلبها” (لوقا 2: 51). فثبت أن المسيح ؏ كان مطيعًا لأمه.
ثم يقول القرآن الكريم على لسان المسيح ؏ (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) (مريم: 33). ولفظ “الجبّار” من الأضداد. فمن معانيه إصلاح الشيء المكسور، وأيضًا التعالي بهضم حق الغير وإهانته. فكأن من الناس من ينال الرفعة والعظمة بطريق مشروع، ومنهم من يحاول الصعود بإسقاط الآخر وإهانته. وهذا يعني أن الله تعالى إذا وُصف بكونه “جبّارًا” فالمعنى أنه تعالى يُصلح ما فسد ويجبر ما كُسر، وحين يوصف الإنسان بكونه جبارًا فالمراد أنه يريد الصعود بظلم الآخرين وإسقاطهم. إذًا فالجبار من الناس من ليس حليمًا ولا رؤوفًا بالناس. وعليه فيعني قول المسيح ؏ (ولم يجعَلْني جبّارًا شقيًّا) أن الله تعالى قد هذّب أخلاقي وجعلني حليمًا ومحبًّا للناس.
ونجد في الإنجيل بهذا الشأن قول المسيح ؏: “احمَلوا نِيرِي عليكم وتعلَّموا مني، لأني وديعٌ ومتواضع القلب، فتجِدوا راحةً لنفوسكم، لأن نيري هيِّنٌ، وحملي خفيف” (متى 11: 29).
والوصف الثاني الذي وُصف به المسيح ؏ هنا في القرآن الكريم هو عدم الشقاوة. والشقاوة ضدُّ السعادة. علمًا أن هناك من الكلمات التي يتضح مرادها بذاتها، ولكن هنا بعض الكلمات التي لا يتضح مفهومها إلا بأضدادها مثل الشقي والسعيد.
فلنرجع الآن إلى الإنجيل لنعرف موقفه من بيان القرآن هذا. لقد ورد فيه قول المسيح ؏: “قد كلّمتُكم بهذا ليكون لكم فيَّ سلام. في العالم سيكون لكم ضيقٌ، ولكن ثِقُوا أنا قد غلبتُ العالمَ” (يوحنا 16: 33). أي ستحل بكم المصائب، حتى سيتمنى الناس أن يسحقوكم، ولكن كونوا على يقين أنني أنا الغالب في آخر المطاف.
إن كل نبي جاء إلى الدنيا قد عرض على العالم الدعوى نفسها، فقال أنا الغالب في نهاية الأمر، وليس لكل من يتصدى لي إلا الفشل. ولكن الغريب أن الناس يثورون غضبًا عندما نقول لهم نحن المسلمين الأحمديين الكلام نفسه، فيقولون كيف يمكنكم أن تقولوا إنكم الغالبون في النهاية. هذا على الرغم أن المدعين الكاذبين أيضًا يعلنون أن الفتح لهم في نهاية المطاف. إن الذي يعِده الله تعالى بالفتح والنصر إذا لم يقل إني أنا الغالب فماذا يقول يا ترى؟ وإن المسيح ؏ أيضًا يعلن هنا الأمر نفسه ويقول “ولكن ثِقُوا أنا قد غلبتُ العالمَ”، وكأنه قد قال هنا نفس ما عزا إليه القرآن الكريم بأنه قال أن الله تعالى لم يجعلني شقيًّا.
فثبت من ذلك أن كل تلك الأمور التي نسبها القرآن الكريم إلى المسيح ؏ لموجودةٌ في الإنجيل أيضًا. فزعم المسيحيين أن القرآن قد نسب إلى المسيح ما لم يقله قط يمثّل برهانًا ساطعًا على كذبهم أو على جهلهم بكتبهم.
لقد وصف الله تعالى يحيى ؏ أيضًا بهذه المزايا نفسها فقال (وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) (مريم: 16). غير أن ثمة فرقًا، وهو أن الله تعالى نفسه قد شهد بذلك عن يحيى ؏، أما المسيح ؏ فيقول بنفسه عن نفسه (وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) (مريم: 34).
الحق أنه ليس في هذه الكلمات أي دليل على أن المسيح وحده معصوم من مس الشيطان، وإنما معناها أن الله تعالى قد جعل في المسيح البركة منذ يوم ولادته. ولا خصوصية للمسيح ؏ في ذلك، فإن موسى وداود وسليمان وآلاف وآلاف غيرهم من الأنبياء -عليهم السلام- كانوا كلهم مباركين منذ ولادتهم.
وكما قلت سابقًا إن هذه الآية تدل، في بادئ الرأي، على عظمة المسيح ؏، حيث يقول المرء في نفسه كم كان المسيح عظيم الشأن حيث شمله السلام يوم ميلاده ويوم موته ويوم يُبعث بعد الموت؛ ولكن مفهومها الحقيقي هو أن المسيح ؏ ليس إلا بشرًا، وليس بإله أبدًا. إذًا فكان من الطبيعي، والحال هذه، أن يطعن المسيحيون في القرآن الكريم ويقولوا إنه قد افترى على المسيح هذه الكلمات ليُثبت أن إلههم كان مجرد إنسان.
أما عند الصليب حين مات المسيح بالفعل عند المسيحيين واليهود، وحين دخل في حالة شبيهة بالموت عندنا نحن المسلمين، فأيضًا لم يتركه الله تعالى، بل شمله السلام من عنده تعالى. فقد ورد في العهد الجديد: “يسوع الذي من الناصرة كيف مسَحه الله بالروح القدس والقوة، الذي جالَ يصنع خيرًا ويشفي جميعَ المتسلطِ عليهم إبليسُ، لأن الله كان معه” (أعمال الرسل 10: 38).
ثم كما ورد في موضع آخر قول المسيح ؏: “منذ الآن يكون ابنُ الإنسان جالسًا عن يمينِ قوةِ الله” (لوقا 22: 69).. أي سيظن العدو بناء على حادث الصليب أنه قد دمّرني، ولكني سأجلس على يمين الله تعالى، وسيتغمدني بفضله ورحمته ﷻ.
إن هذه وعودٌ بنـزول السلام على المسيح ؏ كما وردت في العهد الجديد، وإنها لبرهان حاسم على أن المسيح ؏ كان بشرًا، لا إلهًا، لأن الدليل على نـزول السلام على المسيح هنا هو كون الله تعالى معه، فثبت أن الله تعالى هو الذي كان يهب هذا السلام للمسيح. أما لو كان المسيح إلهًا حقًّا لقال إني إله، وموت الإله محال. ولكنه لم يقل هذا، كما لم يقل أني أتمتع بالسلام بقوتي وقدرتي، بل قال إن الله تعالى معي. فثبت أن المسيح ؏ كان بشرًا، لا إلهًا.
وبالإضافة إلى البعث بعد الموت هناك بعثٌ آخر مقدر لكل نبي في هذه الدنيا أيضًا، حيث يظهر في الدنيا ثانية في شخص نبي آخر. وهذا يعني أن من سنة الله تعالى أن يبعث بعد كل نبي صادق نبيًّا آخر يصدّق النبي السابق، وهكذا يُظهر الله على الناس صدق النبي الأول مرة أُخرى، ويُنـزل عليه السلام ثانية بشهادة النبي الجديد. لقد جاء موسى ؏ إلى الدنيا، وقام بإنجازات عظيمة، ولكن بعد انقضاء فترة طويلة على بعثته أخذ الناس يشكّون في صدقه رويدًا رويدًا، فبعث الله تعالى المسيحَ الذي شهد على صدق موسى أمام الناس، وهكذا نال موسى حياة جديدة من خلال المسيح الناصري عليهما السلام. أما يحيى والمسيح فقد نالا الحياة ثانية من خلال محمد رسول الله ﷺ. أما النبي ﷺ فيقول الله بشأنه (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ) (هود: 18).. أي كيف يمكن أن يكون كاذبًا مَن احتوت حياتُه على آلاف الآيات من عند الله تعالى، بالإضافة إلى الأنباء التي نبّأ بها موسى في حقه ﷺ، كما سنبعث بعد وفاته مأمورًا من عندنا ليعلن أن محمدًا ﷺ كان رسولاً صادقًا من عند الله تعالى. بتعبير آخر، يعلن الله تعالى هنا أن ذلك ماضي هذا الرسول ﷺ، وهذا حاله، أما فيما يتعلق بمستقبله فإننا لن نـزال نبعث من عندنا من السماء أناسًا سيشهدون أن محمدًا ﷺ كان رسولاً صادقًا من عند الله تعالى. وكأن هذا سيكون بمنـزلة بعثة ثانية لرسولنا الكريم ﷺ. ومن أجل ذلك نجد أن الله تعالى قد عبّر في سورة الجمعة عن مجيء الرسول ﷺ في “الآخَرين” بلفظ البعث إذ قال (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الجمعة: 3-4).. أي أن الله تعالى قد قدر لرسولنا ﷺ بعثتين: بعثة في الأوّلين الأُمّيّين، وبعثة في الآخرين. ولقد استخدم المسيح الناصري ؏ في قوله (ويوم أُبعَث حيًّا) كلمة البعث نفسها التي قد وردت بحق نبيّنا ﷺ في سورة الجمعة. فثبت من ذلك أن من أساليب القرآن استعمال كلمة البعث أيضًا بمعنى مجيء نبي يُحيي بشخصه النبيَّ السابقَ لـه، ويكشف صدقه على الدنيا.
وعليه فلا حاجة لتطبيق هذه الآية على يوم القيامة، إذ يمكن مشاهدة نـزول سلام الله على يحيى وعيسى في هذه الدنيا نفسها لدى بعثتهما الثانية.
ثم هناك اختلاف كبير حول حادث الصليب أيضًا. يقول عامة المسلمين أن المسيح لم يعلَّق على الصليب أصلاً، بينما نؤمن نحن المسلمين الأحمديين أنه قد علِّق على الصليب فعلاً، ولكنه لم يمت عليه. ويقول اليهود أنه عُلّق على الصليب ومات عليه، بينما يقول المسيحيون أنه عُلّق على الصليب ومات عليه، ثم أُعيدَ إلى الحياة ثانية. وهذا يعني أن أربعة من الطوائف الكبيرة في العالم لمختلفة في حادث الصليب نفسه اختلافًا كبيرًا. فمن جهة، هناك اختلاف كبير حول المسيح ؏ بين اليهود والنصارى والمسلمين، كما أن هناك اختلافًا كبيرًا حوله بين شتى فرق اليهود، ثم إن الفرق المسيحية نفسها تختلف حوله ؏.
لقد سُمي المسيح ؏ هنا (عيسى ابن مريم)، والمسيحيون يتضايقون من هذه التسمية أيضًا ويقولون: لماذا سمى القرآن مسيحنا “ابن مريم”، مع أنه ابن الله. لم يفعل القرآن ذلك إلا لإيذائنا وتجريح مشاعرنا، ولكي يرفض كونه إلهًا. والواقع أن الإنجيل نفسه قد سمى المسيح ؏ “ابن مريم”، حيث ورد فيه: “أليس هذا هو النجّار ابنُ مريم وأخو يعقوب ويوسى ويهوذا وسِمعان؟ أوَليست أَخَواتُه ههنا عندنا. فكانوا يعثُرون به” (مرقس 6: 3).. أي أن الناس لما رأوا المسيح قالوا كيف يقوم هذا بدعاوى عريضة بأن الله تعالى قد قطع معي وعودًا عظيمة، وتفضَّلَ عليّ بنعم كثيرة؟ أليس هو ابن مريم؟ أليس هو ذلك النجار الذي كان يصلح لنا الأسرّة والطاولات.
بنوة المسيح ؏:
أما اسم “ابن الله” الذي يطلقه المسيحيون على المسيح ؏، فقد ورد في التوراة بكثرة، فما كان صالحًا لتمييز المسيح عن الآخرين بصورة قطعية، لأن جميع الصالحين الأبرار هم أبناء الله تعالى بحسب التوراة. أما إذا كان المسيحيون يفسرون لفظ ابن الله بمعنى الابن الحقيقي لله تعالى فيجب أن يقدموا على ذلك دلائل ظاهرة، ولكن لا وجود لمثل هذه البراهين.
وغنيٌّ عن البيان أن أحد المفهومين المذكورين أعلاه لا ينطبق هنا.. أي أن قوله تعالى (ما كان لله أن يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ) لا يعني أبدًا أن ليس في الله القدرة على أن يكون لـه ولد. إذ يمكن أن يعزى مثل هذا القول إلى النساء، ولكن لا يقال هكذا عن الله تعالى. إذًا فإن المعنى الثاني هو الذي ينطبق هنا.. أي أن الله تعالى أسمى من أن يعزى إليه مثل هذا الأمر الدال على الضعف والهوان، فيقال أنه قد اتخذ ولدًا.
فبما أن المسيحيين يدّعون أن المسيح ؏ كان ابن الله تعالى فعليهم تقع مسؤولية تقديم الأدلة على صدق دعواهم. وغاية ما يمكن أن يدللوا به هو قولهم أن المسيح قد سُمِّي في الإنجيل “ابن الله” فهو ابن الله عندنا. فلنرجع إلى الإنجيل لنرى هل وردت كلمة “ابن الله” في الإنجيل بالمفهوم الذي يزعمه المسيحيون.
ورد في الإنجيل قول المسيح ؏: “ولكن الذين حُسِبوا أهلاً للحصول على ذلك الدهر والقيامة من الأموات لا يزوِّجون ولا يزوَّجون، إذ لا يستطيعون أن يموتوا أيضًا لأنهم مثل الملائكة، وهم أبناء الله إذ هم أبناء القيامة” (لوقا 20: 35-36).
يوضح المسيح ؏ هنا أن بعض الناس ينذرون حياتهم في سبيل الله تعالى، وهؤلاء لا يموتون موتًا روحانيًّا أبدًا، ويُسمَّون أبناء الله تعالى. وكأن المسيح ؏ يسمي كل الصالحين الأبرار “أبناء الله”. ثم ورد في العهد القديم أن الله تعالى قال لإرميا: “لأني صرتُ لإسرائيل أبًا، وأفرايمُ هو بِكري” (إرمياء31: 9). وهنا قد سمى الله تعالى بني إسرائيل كلهم “أبناء الله”، بينما اعتبر أفرايمَ، وهي إحدى القبائل الإسرائيلية، الابنَ البِكرَ لـه ﷻ.
ثم إن المسيح ؏ قد اعتبر اللهَ تعالى أبًا للجميع في الدعاء الذي علّمه أتباعَه حيث أمرهم أن يدعوا الله تعالى قائلين “أبانا الذي في السماوات ليتقدّس اسمُك” (متى 6: 9).
ثم ورد في الإنجيل قول المسيح ؏: “ولا تخافوا من الذين يقتُلون الجسد، ولكن النفسَ لا يقدرون أن يقتلوها. بل خافوا بالحريِّ مِن الذي يقدِر أن يُهلِك النفسَ والجسدَ كليهما في جهنم. أليس عصفورانِ يُباعان بفِلْسٍ، وواحدٌ منهما لا يسقُط على الأرض بدون أبيكم. وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها محصاةٌ” (متى 10: 28-30). ثم ورد في الإنجيل أن اليهود قالوا: “لنا أب واحد وهو الله” (يوحنا 8: 41). وهذا يدل على أن هذا التعبير كان شائعًا بين اليهود، فكانوا يسمون أنفسهم أبناء الله تعالى. كما أن التوراة نفسها أطلقت هذا الاسم على اليهود. ثم إن المسيح ؏ نفسه قد سمى الجميع أبناء الله تعالى، ونصحهم أن يدعوا الله تعالى قائلين “أبانا الذي في السماوات ليتقدس اسمُك“.
بعد هذه الكلمة التمهيدية أود أن أحيطكم علمًا أنه بالرغم أن التوراة لم تستخدم لفظ “الله” لذات البارئ ﷻ، إلا أن العهد القديم يؤكد كون الله تعالى واحدًا لا شريك لـه، حيث جاء: “اسمَعْ يا إسرائيلُ، الربُّ إلـهُنا ربٌّ واحد” (التثنية 6: 4). ففي لفظ “رب واحد” دلالة واضحة على كونه تعالى وحده لا شريك لـه. فثبت بذلك أن التوراة هي الأخرى تؤكد ما أعلنه القرآن الكريم في قوله تعالى (مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) (مريم: 36).
ثم إن رسائل حواريي المسيح ؏ أيضًا تنصّ على ذلك حيث جاء فيها: “للهِ الحكيمِ وَحْدَهُ، بيسوع المسيح، لهُ المجدُ إلى الأبد” (رسالة بولس إلى أهل رومية 16: 27).
فترى أن العهد القديم يعلن أن الله تعالى واحد لا شريك لـه، كما ينصّ عليه العهدُ الجديد أيضًا. فثبت أن التوراة والإنجيل كلاهما يتفقان مع القرآن الكريم، إذ يعلن كلاهما ما يعلّمه القرآن الكريم في قوله تعالى (ما كان لله أن يتخذ من ولد). ولكن المؤسف أن كلا الفريقين اليهود والنصارى قد اختلقوا الشرك صنوفًا وألوانًا منحرفين عن جادّة الحق. إن دراسة التوراة تكشف لنا أن جميع الأنبياء الذين بُعثوا إلى اليهود قالوا لهم: لقد بذلنا كل ما في وسعنا لنشرح لكم أن الله تعالى واحد لا شريك لـه، ولكنكم قوم لا يفقهون حديثًا وتعودون إلى الشرك مرة بعد أخرى.
ربنا يسوع المسيح ابن الله الحي يسامحك