قصة يوسف في السجن
(رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) (يوسف: 34)
لقد ذكرنا إلى الآن عديدًا من المشابهات بين سيدنا يوسف والرسول الكريم عليهما السلام، ولكن هذه الآية توضح الفارق بين النبيين الكريمين، وتبين فضل النبي وعظمته ﷺ. ذلك أن سيدنا يوسف يستغيث الله تعالى بأن ينقذه من تلك المصيبة بإلقائه في المصيبة الأُخرى، ولكن من سنّة الرسول الكريم محمد ﷺ أنه كان يسأل ربه العافية والخير دائمًا، لأنه عزّ وجل قادر على ردّ المصيبة بإعطاء النعمة.
أي أن الله تعالى خيّب آمالهن الشريرة في يوسف وجعلهن يَيْأسْن منه، كما زاد قلبه قوة وثباتًا.
لم يكن دخوله السجن استجابة لدعائه، لأن الدعاء لدخول السجن لم يكن حلاً حقيقيًا لما هو فيه، وقد ذكرت الآية السابقة أن الله تعالى صرفَ عنه كيدهن استجابة لدعائه. لا شك أن يوسف ؏ كان قد دعا ربّه أن يُدخله السجن، ولكن الله تعالى استجاب لدعائه بأن دفع بَلاءَه بطريق آخر أفضل دون أن يُدخله السجن. ثم إنه بعد مرورِ فترةٍ من الزمن طرأت ظروف مختلفة أدت إلى دخوله السجن، كما يصرح الله تعالى (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) (يوسف: 36). وأرى أن المراد من الآيات المذكورة هنا هو الفضيحة المتزايدة التي تعرضت لها امرأة العزيز، فرأوا من الأنسب أن يسجنوه ليتوهم الناس أن يوسف هو الجاني وأن امرأة العزيز بريئة، وذلك محاولةً منهم لاستعادة ما فقدته هذه المرأة من عزة واحترام.
تقول التوراة بأن العزيز سجن سيدنا يوسف أول ما نشب الخصام (التكوين 39: 19). ولكن القرآن الكريم يعارض التوراة في زعمها هذا ويرى أنه سُجن فيما بعد. وكما سبق أن بينتُ فإن بيان التوراة مرفوض حتى بناءً على ما ورد فيها في أماكن أُخرى، فمثلاً قد جاء فيها: “فسخط فرعون على خَصِيَّيه رئيسِ السقاة ورئيسِ الخبّازين، فوضعهما في حبس بيت رئيسِ الشُّرَط في بيتِ السجن المكانِ الذي كان يوسف محبوساً فيه. فأقام رئيس الشرط يوسفَ عندهما” (التكوين40: 2-4). فثبت جليًا أن العزيز كان يرى يوسف ؏ صادقًا في قوله حول الحادث، وأنه لم يسجنه في بداية الأمر، وإنما اضطر لسجنه فيما بعد لبعض المصالح الأُخرى.
قوله تعالى (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ) (يوسف: 37)، لا يعني بالضرورة أنهما دخلا السجن في نفس اليوم أو الوقت الذي دخل فيه يوسف. نعم، لا بدّ أن يكونا قد أُسكنا في السجن في المكان الذي كان يسكنه يوسف ؏. وهذا ما تؤكده التوراة أيضًا، حيث جاء فيها: فسخط فرعون على خصيّيه رئيس السقاة ورئيس الخبازين؛ فوضعهما في حبس بيت رئيس الشرط في بيتِ السجن، المكانِ الذي كان يوسف محبوسًا فيه. فأقام رئيس الشرط يوسف عندهما (التكوين40: 2).
المماثلة الثانية عشرة: هنا أيضًا نجد تشابهًا بين سيدنا يوسف وبين نبينا المصطفى عليهما السلام، إذ إن سيدنا يوسف ؏ -كما يبدو- كان لا يجد فرصةً لدعوتهما إلى الله فلذا وَجَدَ في سؤالهما إيّاه فرصةً سانحةً للتبليغ مدركًا أنهما لا بد أن يصغيا إلى حديثه انتظارًا لسماع تأويل الأحلام.
هكذا كان يفعل رسولنا الكريم ﷺ، ففي بداية دعوته عندما أراد تبليغ الرسالة ولم يسمعه أعيان مكة. دعاهم لمأدبة طعامٍ، وبعد أن فرغوا من الطعام أراد دعوتهم إلى الإسلام، ولكنهم لم يستمعوا له، وخرجوا من عنده. فأقام لهم مأدبة أُخرى، ولكنه في هذه المرة أخذ حيطته وشرح لهم دعواه قبل إحضار الطعام، فاضطروا للإصغاء إليه وهم في انتظار الطعام. فهذه الآية تبين لنا سنّة أنبياء الله عليهم السلام في مجال تبليغ الدعوة، وعلينا أن نتأسّى بها دائمًا في وعظنا حتى نتمكن من قول ما نريد من حيث لا نثقل على الناس.
كيف أنساه الشيطان ذكر ربه؟
يقول الله تعالى: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ * وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) (يوسف: 42-43).
لقد فسّر البعض قوله تعالى (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ)، بأن الشيطان أنسى يوسف أن يذكر ربّه ﷻ أي أن يقول: إن شاء الله. والحق أنه لم يكن هناك من داعٍ ليقول يوسف: إن شاء الله، كما لم يحدث منه هذا التقصير. بل قد جاءت كلمة (رب) في قوله: “ذِكْرَ رَبِّهِ” بمعنى الملك كما جاءت أيضًا في قوله: (عِنْدَ رَبِّكَ). فلا داعي لأخذ كلمة (رب) هنا بمعنى الرب ﷻ، لنستدل بذلك أَنَّ يوسف ؏ تغافل عن ذكر الله ﷻ، بل المعنى الواضح البسيط هو أن هذا الفتى الناجي من السجن أنساه الشيطان ذكر يوسف عند سيده، أي الملك، بمعنى أنه بسبب الأعمال الشيطانية مثل شرب الخمر وتوزيعها زال عن الفتى التأثيرُ الطيب الذي تركته فيه صُحبةُ يوسف ؏، فلم يفكر في يوسف ولم يذكره عند الملك كما وصّاه بذلك. فبالرغم من هذا المعنى الواضح للآية، الذي يبرئُ ساحة يوسف من مثل هذا التقصير، لا داعي أن نأخذ بأي معنىً آخر يسيء إليه ؏.
رؤيا ملك مصر
(أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ) (يوسف: 47)
يبدو أن فرعون كان موقنًا إلى حد بعيد بصدق الرؤيا التي رآها، ولذلك لم يكتف بسؤالهم عن تأويلها، بل قال: أخبروني ماذا تقترحون عليّ فعله إن كنتم تفهمون. وهذا يعني أن الله تعالى أراه الرؤيا بوضوح وهيبة بحيث تركت في قلبه وقعًا عظيمًا جعله يصدقها ويسعى للنجاة من عواقبها المنذرة، إذ لولا هذا التأثير العميق للرؤيا في قلبه لما ذكرها لحاشيته، وبالتالي لم تتهيأ الأسباب للإفراج عن يوسف ؏. قالوا إنها أحلام مختلطة، فيها الحق وفيها الباطل، ومشوبة بشوائب حديث النفس، ولا يمكن اعتبارها من الله بشكل كامل، ولا نستطيع تعبيرَ مثل هذه الأحلام إذ لا يمكن الجزم في حكمها. والمراد أننا لا نقدر على تأويل هذه الأحلام التي قد اختلط فيها الحق بالباطل.
فعندما لم يقدر هؤلاء على تأويل حلمه، وتهرّبوا من الإجابة عن سؤاله بقولهم: إنها أضغاث أحلام، تذكَّرَ هذا الفتى قصة ما رآه هو وصاحبه في السجن من أحلام، وقال في نفسه: إن أحلامنا أيضًا كانت تبدو أضغاث الأحلام، ولكن يوسف ذكر لها تأويلاً معقولاً تحقق فيما بعد تمامًا، فلربما يذكر يوسف تعبيرًا لرؤيا الملك أيضًا. فاستأذن حاشيةَ الملك أن يرسلوه إلى يوسف ليعرف منه التأويل. ولا غرابة في سؤال الملك حاشيتَه عن تأويل الرؤيا، إذ كان للكهّان ورجالات الدين عندئذ نفوذا في البلاد وحظوة في البلاط.
ويجب أن نتذكر هنا أمرًا لطيفًا: لا شك أن النجاح كان حليفًا لكلٍّ مِن سيدنا يوسف ؏ والنبي ﷺ، ولكن هناك فارقًا أيضًا. كان نجاح سيدنا يوسف مقدّرًا بواسطة الآخرين لذلك قدّر الله أن يرى الملك تلك الرؤيا التي كانت سببًا في رقي يوسف ؏، وأما النبي ﷺ فقد أراد الله له أن ينال الرّقيّ بطريق مباشر من لدنه تعالى، فلذا بشّره الله بالفوز عن طريق الوحي مباشرة ولم يرضَ الله له أن يستعين بالناس وهو يرقى سُلَّم التقدّم والازدهار.
المماثلة الثالثة عشرة: وهي أن الله تعالى كما نبّأ في زمن يوسف ؏ بوقوع القحط والمجاعة لِسبع سنين، كذلك أخبر النبي ﷺ بسنين كسِنِي يوسف، حيث جاء في الحديث الشريف عن عبد الله بن مسعود: “كان هذا لأن قريشًا لما استعصوا على النبي ﷺ دعا عليهم بسنين كسِنِي يوسف. فأصابهم قحطٌ وجَهدٌ حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجَهدِ. فأنزل الله تعالى: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ)(الدخان: 11-12) قال: فأُتي رسول الله ﷺ فقيل: يا رسول الله، استسقِ اللهَ لِمُضَرَ فإنها قد هلكت… فاستسقى فسُقُوا (البخاري، التفسير، سورة الدخان).
تفسير الرؤيا
المراد من قوله: (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا) (يوسف: 48)، أنه لا مناص لكم من أن تزرعوا هذه السنين السبع بجد وتعب دون انقطاع حتى توفروا الغلال لسِني المجاعة والجفاف. أما إذا قصّرتم في الجهد أو تهاونتم في أخذ الحيطة في الاستهلاك، فلن تقدروا على تحمل وطأة المجاعة.
كما أخبرهم سيدنا يوسف ؏ كيف يحفظون الغلال فقال: إذا تركتم القمح في سنابله كان أدعى لحمايته من الديدان والسوس. ولعله ؏ توصل إلى هذه الحيلة مما ورد في رؤيا الملك نفسها، حيث فكّر أن رؤيته السنابل مع البقرات ربما تتضمّن إشارةً إلى حفظ الحبوب في سنابلها. أي ثم تأتي أيام القحط تَستَهلكون فيها كل ما ادخرتموه من حبوب وغلال إلا قليلاً. وقوله (إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ) يعني أنكم ستضطرون حتمًا لتوفير بعض الغلال. وهذا الاضطرار يتمثل في توفير بعض الحبوب، إبقاءً على البذر للمرة القادمة، أو خوفًا من أن تمتد المجاعة مدة أطول.
الإفراج عن يوسف
أراد الملك الإفراج عن يوسف ؏ بعد ما رأى أن الكهنة الذين هم على دينه قد فشلوا في تفسير رؤياه، بينما أتى سيدنا يوسف بتأويل رائع مقرون بعلاج للمصيبة التي تنتظرهم، كما سمع الملك من ساقيه أنه سبق أن تحقق ما ذكره يوسف من تعبير لما رآه هو وصاحبه في السجن من أحلام. ولكن حمية يوسف أبت أن يخرج من السجن إلاّ بعد أن تُبرَّأ ساحته مما رُمي به. ويبدو أنه ؏ فكّر في نفسه أنه لو خرج منه دون أن تُعلن براءته من التهمة فلربما يثير البعض القضية نفسها أمام الملك في المستقبل، فيصدّقهم. فالأفضل أن تُرفع إليه القضية الآن لكي يتحرى فيها ويطمئن، حتى لا يستغلها أحد للتآمر عليه فيما بعد.
حسن وحكمة يوسف
أود أن أذكر هنا كلمة حكمةٍ لا يتذكرها الناس عمومًا، ألا وهي أن اعتبار العمل حسنًا أو سيئًا يتوقف على اختلاف وجهات النظر. فأحيانًا يكون هناك أمران متعارضان تمامًا فيما يبدو، ولكن باختلاف زاوية النظر إلى كل منهما ينقلب هذان الأمران إلى حسنتين أو سيئتين. وما فعله سيدنا يوسف ؏ أيضًا يندرج تحت هذا القبيل من الأفعال. فعندما دعاه الملك كان أمامه خِياران اثنان فقط: إما أن يخرج من السجن دون تردد، أو أن يُثبت براءته أولاً ثم يخرج. وهذان أمران متعارضان في الظاهر، ولكن يمكن اعتبار كل واحد منهما حسنًا أو سيئًا بتغيير زاوية النظر إليه.
ذلك أنه ؏ لو امتنع عن الخروج من السجن بسبب الغطرسة والزَهْو قائلاً: لن أخرج منه ما لم يعترف القوم بخطئهم لعُدَّ عمله هذا معصيةً.
كذلك لو أنه خرج من السجن على الفور مؤْثراً راحةَ نفسه على مصلحةٍ دينيةٍ، لكان هذا إثمًا. ولكن الواقع أنه ؏ لم يرفض الخروج من السجن استكبارًا وتعاليًا، وإنما سببه -كما ذكره هو نفسه- ألاّ يتوهم سيده أنه خانه في أهله أثناء غيابه. هكذا فإن نيته الطيبة جعلت رفضه من أفضل الأعمال الصالحة.
ولكن هناك زاوية نظر أُخرى تجعل خروجه الفوري من السجن من أفضل الأعمال، وهي النظر إلى أهمية أداء الواجب. ذلك أن النبي مأمور أن يبلغ الناس رسالة الله، ومهمّته هذه تفرض عليه أن يضحي في سبيل ذلك بكل غالٍ ورخيص حتى بكرامته وشرفه. أما لو بقي النبي مسجونًا فإما أنه لن يقدر على تبليغ رسالة الله أو أن نطاق دعوته يكون محدودًا وضيقًا جدًا. فلو نظر سيدنا يوسف من هذا المنظور وخرج من السجن دون تبرئة ساحته من التهمة، مُؤْثرًا أداء واجبه على الحفاظ على كرامته وشرفه، لكان ذلك تضحية عظيمة منه. ومن هذه الزاوية نظر الرسول الكريم ﷺ إلى حادث يوسف ؏ حيث فَضَّل الخيار الثاني قائلا: “لو لبثتُ في السجن ما لبث يوسف لأجبتُ الداعي“. (البخاري، الأنبياء) وفي رواية عن أبي هريرة ؓ: “لأسرعتُ الإجابة وما ابتغيت العذرَ” (مسند أحمد، ج2، ص346).
وكل عاقل يدرك أن ما يفضّله النبي ﷺ هو الأفضل، إذ لا جرم أن محافظة الإنسان على كرامته وشرفه عملٌ حسنٌ عظيم، ولكنه لو ضحّى به لوجه الله تعالى، معرِّضًا نفسه للاتهام والطعن، بغيةَ تبليغ رسالة الله، أو لتحقيق مصلحة دينيةٍ أو قوميّة لكان أفضل من أن يهتم أولاً بالمحافظة على شرفه وكرامته، ولو بنيّة طيبةٍ.
وحصحص الحق
يبدو أن الملك عندما سمع التفسير الذي ذكره سيدنا يوسف ؏ أيقن على الفور بطهارته وورعه، وأدرك -حتى من قبل الفحص والتحري- أن التهمة الموجهة إليه باطلة، ولذلك خاطب النسوة وقال: (مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) (يوسف: 52). كما يتضح من الآية أنهن اشتركن فيما بعد مع امرأة العزيز للتآمر على يوسف ليقع في فخها، لأن قول الملك هذا يوحي بأن خبر الحادث كان قد بلغه. ولكن الأكيد أن النساء لم يراودنه لأنفسهن وإنما لامرأة العزيز. فربما قالت له النساء: عليك بالرضوخ لرغبتها وإلا سوف تلقيك هي وراء قضبان السجن. أمّا لو كن يحاولن مراودته لأنفسهن لكان القرآن صرَّح بذلك.
ويبدو من قول الملك أن هذا الحادث كان جزءًا من الحادث السالف نفسه، وأن النسوة أدركن عندما خاطبهن الملك بهذا الأسلوب أَنه سوف يؤيد يوسف في موقفه، وأن إخفاء الحق أكثرَ من ذلك سوف يعرّضهن للخطر، فأتين بالحق، ولكن بكلمات تبرئ ساحة يوسف وفي الوقت نفسه لا تعرِّض امرأة العزيز لأي اتهام. أما هي فأصابها الفزع وأدركت أن الفضيحة موشكة، وأنهن سوف يكشفن سرها الآن، فعليها أن تبادر بالاعتراف بجريمتها هي بنفسها لتنجوَ من العقاب الذي قد ينزله الملك بها، فقالت دون أن يسألها الملك: (الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ). أما قوله تعالى (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) (يوسف: 53)
فقد اختلف المفسرون في تعيين صاحب هذا القول فَنَسَبَهُ البعض إلى امرأة العزيز، حيث قالت: لم أخن يوسف في غيابه. ولكن هذه الكلمة لا يمكن أن تتفوه بها تلك المرأة، لأنها كانت قد خانت بالفعل، ولذلك أؤيد من قال إن هذا من كلام يوسف، والمعنى: لم أخدعه ولم أخفِ عنه شيئًا، إذ كان من المحتم أن تُرفع القضية إلى الملك في يوم من الأيام، فيظن أني خدعته، بإخفاء حقيقة أمري عنه لأتبوأ هذا المنصب.
وقد يكون الضمير في (لِيَعْلَمَ) عائدًا على الملك، والضمير في (لَمْ أَخُنْهُ) عائدًا على العزيز، والمراد: ليعلم الملك أني لم أغدر بالعزيز الذى أحسن إليّ، لكي لا يظن أن هذا الذي قد غدر بمن أحسن إليه ربما يغدر بي أيضًا. ويبدو أن الله تعالى أخبر يوسف ؏ بالوحي أنه سوف يتقلد منصبًا عند الملك، فلذلك قام بتبرئة ساحته من الخيانة لكي لا يتهمه أحد بها أثناء وزارته للملك…
لقد وجّه الملك بقوله هذا تأنيبًا لطيفًا للعزيز الذي كان يوسف في بيته، وكأنه يقول له: لِمَ لَم تُقدِّر هذا الشخص العظيم حق التقدير، فالآن سوف أقربه مني لينال حقه من التقدير والتكريم.
وكان هذا التقدير من الملك قبل اللقاء بيوسف، ولكنه عندما اجتمع به أُعجب به أكثر من ذي قبل، فقال له: ستحظى بمنزلة خاصة في بلاطي.
كما طمأنه بقوله: (أمين) أي أنني لم أشُّك قط في أمانتك، كما سنثق بك كل الثقة في المستقبل أيضًا.