يوسف ؏ وامرأة العزيز
(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)
ليس المراد منه أنه تَشرَّف بالنبوة بمجرد أن بلغ شبابه، بل إنه من أسلوب القرآن أنه يترك أحيانًا أحداث الفترة المتوسطة جانبًا بذكر النتيجة فقط. توضّح هذه الآية أن سيدنا يوسف ؏ لم يقع في شَرَك امرأة العزيز، فباطلٌ قول بعض المفسرين بأنه كان على وشك أن يقع فريسة لإغرائها (الطبري).
أما قوله تعالى (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) (يوسف: 24) فالمراد من (رَبِّي) هو الله تعالى. وقد أخطأَ من قال بأن المراد منه رئيس الحرس الذي كان سيدنا يوسف في بيته (تفسير القرطبي). مما لا شك فيه أن العزيز كان قد أكرم مثوى يوسف وهيأ له إقامةً محترمة، ولكن وصول سيدنا يوسف إليه وتفكير العزيز في تكريمه أيضًا لم يكن إلاّ بفضل الله تعالى. فلا حق لنا أن نسيء الظّن في إنسانٍ كريم كيوسف فنتوهم أنه نسب نجاحه في ترك المعصية إلى الناس لا إلى أفضال الله تعالى. الحق أن كل ما ناله إنما ناله بحسب بشارات من الله تعالى، فلا شك أنه نَسَبَ ورعه وتقواه إلى فضل الله تعالى، إذ كان يرى في ارتكاب المعصية نكرانًا للنعم الإلهية.
وكما سبق فإن كلمة “الهمّ” تعني: عقد الإنسان العزم على فعل شيء، وإن لم يستطع تنفيذه لسبب من الأسباب. فالآية تعني أن زوجة العزيز أرادت أمرًا بيوسف ولكنها لم تقدر على تنفيذه، كذلك أراد يوسف أمرًا لامرأة العزيز ولكنه لم يستطع تنفيذه هو أيضًا.
يرى بعض المفسرين أن المراد من الآية أن كل واحد منهما أراد ارتكاب الفاحشة (الدر المنثور). ولكن هذا الرأي باطل تمامًا حيث أن امرأة العزيز احتالت لصرف يوسف عمّا في نفسه ولكنه لم يتأثر بمكائدها، بل ذكر ربه خشية، وحذّر المرأة من العواقب.
إذن فلا يمكن أبدًا أن يراد من قوله تعالى (وَهَمَّ بِهَا) أنه أراد بها سوءًا. فإن إرادة كل إنسان تفسَّر بحسب حالته، فالمراد من “هم بها” أنها كانت عازمة على أن تنحرف به إلى الشر، وأما هو فكان يريد لها أن تهتدي إلى الخير، بيد أنَّ الاثنين لم يفلحا فيما أرادا، إذ لم يقبل هو ما بغتهُ من سوء ولم تقبل هي ما أراد بها من خير.
كيف همّ يوسف بامرأة العزيز؟
أما قوله تعالى (لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) (يوسف: 25) فليس بمتعلق بقوله (وهمّ بها) بل هو جملة منفصلة مستقلة، وجوابها محذوف. والمراد من هذه الجملة أن يوسف رأى البراهين والآيات من الله تعالى في الماضي، ولولاها لما وجد هذه العزيمة والتصميم على مقاومة الشر. فمثلاً لم ينصح المرأة بالكفّ عن السوء بل بقيَ صامتًا، ولكنه قد رأى آيات الله فلم يكن يُتوقع منه إلاّ أن يصدها عن ارتكاب المعصية، ولكنها -لسوء حظها- لم تقبل نصيحته وأصرت على الفاحشة.
وقد اختلف المفسرون بمعنى البرهان الذي رآه يوسف، فمنهم من يرى أن يوسف أيضًا كان قد رضي بالإثم واستعد لارتكابه، فطلبت منه امرأة العزيز إلقاء رداء على صنم في بيتها لأنها كانت تشعر بالخجل منه، فتنبه يوسف وعاد إلى الصواب وقال: “أنا أحق بالخجل والحياء من ربي الذي يعلم ويرى” (الدر المنثور). بينما قال الآخرون إنه رأى في السقف عبارةً تقول: (وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً) (الإسراء: 33). وكأن القرآن كان قد تم نزوله حينئذ! ويرى غيرهم أنه رأى يدًا مكتوبًا عليها قول الله تعالى (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ) (الانْفطار: 11-12). ويزعم البعض أنه رأى صورة أبيه يعقوب ؏ وهو يعض أنامله، فرجع عمّا نواه. (ابن كثير).
والحق أن كل هذه المزاعم باطلة لا أساس لها من الصحة. وإنما يعني (بُرْهَانَ رَبِّهِ) تلك الآيات والبراهين التي كشفها الله ليوسف ؏ في الماضي؛ ومنها رؤياه التي بشره الله بها عن مستقبل باهر، والوحي الذي تلقاه وهو في البئر يبشره بالنجاة منها وبأنه سوف يحقق رقيًا غير عادي بحيث سيضطر إخوته في يوم من الأيام للمثول أمامه خاضعين. وأيُّ شك في أن الذي كان يهيئه الله لمثل هذه الإنجازات العظيمة لا يمكن أن يهينه ويخزيه هكذا أمام امرأة مشركة.
قوله تعالى (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ) (يوسف: 25) يعني أولاً أننا إنما أريناه الآيات والبراهين لكي نكفّه عن المساوئ والفواحش. والحق أن هذا هو الهدف الذي يحققه الله بإظهار الآيات والبراهين على عباده الأخيار. فكيف يمكن أن لا يتحقق هذا الغرض الإلهي في قضية يوسف بل تنقلب النتيجة تماما.
والمعنى الثاني، أن هذا الحادث وقع لكي ينجيه الله تعالى من صحبة هذه المرأة الشريرة. فمن الحقائق التي لا يحوم حولها الشك أن العيش في صحبة الأشرار يؤثر سلبيًا في عقل الإنسان وأفكاره. ولو أن امرأة العزيز لم تبدِ نيتها الشريرة بهذا الطريق لبقي يوسف في صحبة هذه المرأة وزميلاتها الفاسدات الأخلاق. فلم يرد الله أن يعيش يوسف في صحبتهن، فكشف عن نواياها الشريرة على الفور، وفصل بينه وبينهن بإرساله إلى السجن حيث ينقطع كليةً إلى عبادة الله تعالى على انفراد.
المماثلة الحادية عشرة: كما أن امرأة العزيز حاولت صرف يوسف عن الصراط المستقيم، كذلك سعى أعداء النبي ﷺ لصرفه عن دينه بشتى الإغراءات. فقد سجل التاريخ أن وفدًا من قريش جاءوه ﷺ ووعدوه أن يعطوه مالاً فيكون أغنى رجل بمكة، أو يزوّجوه من أراد من النساء وأن يجعلوه سيدًا عليهم شريطة أن لا يذكر آلهتهم بسوء. فردّ عليهم النبي ﷺ بمقولته الخالدة: “والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر لما تركته حتى يُظهره الله تعالى أو أهلك دونه“. (السيرة لابن هشام).
وهناك مشابهة أُخرى بين النبيين الكريمين وهي: كما أن الناس قالوا في تفسير بعض الآيات القرآنية عن يوسف ؏ بأنه كان قد مال إلى السيئة قليلا، كذلك زعموا في تفسير آيات من القرآن أن النبي ﷺ كان قد مال إلى الكفار قليلاً. فالحق أن القرآن لم يقصد أبدًا في هذه الآية ما ذهب إليه المفسرون.
ماهي قصة قميص يوسف؟
لما رأى سيدنا يوسف أن نُصْحَه لا ينفعها شيئًا، فكّر أنه لو بقي عندها مدة أطول فقد يعرّضه هذا للاتهام، فحاول الفرار من هناك. ولكن امرأة العزيز حاولت إيقافه ممسكة بثوبه من الخلف، فشقته شقًا مستطيلاً. وتزامن ذلك مع حضور زوجها إلى البيت، فحاولت إخفاء جريمتها بأن اتّهمت يوسف البريء بالاعتداء عليها، ثم لم تلبث أن اقترحت بنفسها عقابه بأن يُسجَن أو يعذَّب عذابًا أليمًا.
يبدو من كلمة (واستبقا الباب) أن سيدنا يوسف أسرع إلى الباب ليفتحه ويفر منها، ولكن امرأة العزيز بادرت إلى الباب لتمنعه من فتحه. فلو كانت هي التي تريد الفرار لما أخذت بمؤخر قميصه. فلاشك أنها جرّته من قميصه لتدفعه عن الطريق وَلتقف هي أمام الباب حتى لا يستطيع فتحه، ولكنها فشلت في هذه المحاولة.
هنا أيضًا يعارض القرآن التوراة في بيانها، فقد جاء فيها أن يوسف فرّ تاركًا ثيابه عند المرأة (التكوين 39: 13). ولو أخذنا بعين الاعتبار أن العبرانيين ما كان لباسهم عندئذ إلاّ قميصًا طويلاً واحدًا على العموم، فهذا يعني أن يوسف فرّ من عندها عاريًا، وهو أمر مكروه للغاية لا يتوقع صدوره عن إنسان كيوسف ؏. فلا ريب أن بيان القرآن هو الأقرب إلى العقل والمنطق، إذ لم يفر من عندها تاركًا ثيابه وراءه وإنما انشق قميصه من الخلف.
إنّ ما فعله يوسف هو الذي يليق بمقام عباد الله الأخيار، فإنه رغم كونه مظلومًا لم يبادئ الحديث عمّا حدث بل حاول ستر خطيئة المرأة، ولكنها لما اتهمته بالإثم كذبًا اضطر لبيان الواقع، وأخبر زوجها قائلاً: لم أُفكر أبدًا في الخطيئة وإنما هي التي كانت تحاول إغرائي بها بل وإرغامي عليها.
ثمّ إن الله بنفسه هيّأ ظروفًا برأت ساحة يوسف، حيث قام شاهد من أهلها يشهد لصالحه إذ نبَّه أنه لو كان يوسف هو الذي نوى بها الشر لكان هناك احتمال أكبر أن يتمزق قميصه من الأمام، ولكن قميصه قد تمزَّق من الخلف وهذا دليل واضح أن هذا المسكين كان يريد الفرار منها وأنها هي التي كانت تريد إيقافه ومنعه من الهروب.
وحيث إن القرآن لم يذكر من قبل حادثة تمزُّق القميص، يبدو أن هذا الشاهد هو أول من رأى القميص ممزقًا من الخلف، ولكنه لم يصرح بذلك خوفًا من غضب تلك المرأة، وإنما تحدث بأُسلوب وكأنه يبين قاعدة عامة لمعرفة الحقيقة في مثل هذه الظروف.
يبدو أن هذا من كلام العزيز. فعندما نبّهه الشاهد إلى فحص القميص ووجده ممزقًا من الخلف أدرك الحقيقة.
إن كيدكن عظيم
قال البعض بأن قوله تعالى (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) (يوسف: 29) يعني أن النسوة بطبعهن يملن إلى المكر والكيد بوجه خاص.
مما لاشك فيه أن النسوة بسبب تعرضهن للظلم والعدوان مِنَ الرجال عمومًا يَكُنّ أشدَّ مكرًا من الرجال وأمهَرَ منهم في التمويه والتعتيم، ولكن هذه العادة ترجع إلى هضم حقوقهن بأيدي الرجال. ومن أجل ذلك لا نجد هذه العادة في نساء الشعوب أو العائلات التي تؤدَّى فيها حقوق النساء كاملة، بَل نجد على النقيض من ذلك أن الرجال في الأمم المقهورة بأيدي الظالمين يلجأون أيضًا إلى المكر والخداع. فهذه العادة ليست خاصة بالنسوة فقط، وإنما هي نتاج الظلم وهي قائمة لدى الجنسين على حد سواء.
كما يجب أن نعلم أن عبارة (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) ليست قرارًا سماويًا وإنما هي من قول العزيز، وقوله ليس بحجة علينا. لقد تفوّه به غاضبًا، والذين لا يملكون أنفسهم عند الغضب يتفوّهون بمثل هذا الكلام، سواء كانوا من النسوة أو الرجال. إننا نرى دائمًا أنَّ كل جنس يرمي الجنس الآخر بشتى النقائص والعيوب. فمن اعتبرها قاعدة عامة أو حقيقة ثابتة فقد ساق دليلاً على جهله وقلة إِدراكه فحسب. إذ لا أحد يقصد من مثل هذه الأقوال أن المخاطَب أوجميع أفراد الجنس الآخر مخطئون. فمن حمل مثل هذه الأفكار الخاطئة عن جنس النساء الذي خرجت منه سيدات فاضلات عظيمات مثل مريم وخديجة وعائشة رضوان الله عليهن، فلا شك أنه لا يهين إلاّ نفسه.
وهنا نجد اختلافًا آخر بين ما ورد في القرآن وما ورد في التوراة، فإنها تذكر أن العزيز صدّق زوجته في قولها، وعَدَّ سيدَنا يوسف مجرمًا وغضب عليه. (التكوين 19:39 و20). ولكنها سرعان ما تعود لتؤيد القرآن بقولها: فدفع رئيس بيت السجن إلى يد يوسف جميع الأسرى الذين في بيت السجن. وكل ما كانوا يعملون هناك كان هو العامل (التكوين 22:39).
وعندما شاع خبر الحادث بين أقارب العزيز وسمعته بعض النسوة اللاتي كن صديقات لامرأته فيما يبدو، بدأن في نشر الخبر علنًا. ولكنهن -بغية التشهير بها- أَذَعْنَ الخبر بحيث يتوهم الناس وكأن الغرام بينهما لا يزال مستمرًا. وهكذا قدّمن الحادث بشكلٍ مشوّهٍ يوهم السامع وكأن سيدنا يوسف أيضا كان متورطًا في المعصية.
عرفت امرأة العزيز أن النسوة يتحدثنَ عنها بأسلوبٍ يبدو طيبًا ولكنهن في الواقع يَبْغين التشهير بها، حيث يوهمن الناس وكأن الفاحشة قد ارتُكبت فعلاً، رغم إعلان أهلها بأن الأمر ليس كذلك، وأدركت بأنهن يحسبن أن الغرام بينهما لا يزال قائمًا مستمرًا، مع أَن كل ما في الأمر أن بوادر الغرام قد ظهرت من امرأة العزيز، ولكن الأمر لم يتعدّ ذلك. فلكي تزيل “زليخا” هذه الأوهام والشبهات من أذهانهن، دعتهن إلى الطعام. فرتبت الموائد ووضعت سكينًا أمام كل واحدة منهن -ويتضح من ذلك أن استخدام السكاكين لتناول الطعام عادة قديمة، مثلما يرتبون اليوم السكاكين على الموائد قبل إحضار الأطباق- ثم أمرت امرأة العزيز يوسفَ أن يضع أمامهن الطعام. فلما رأينه أدركن من ملامح وجهه الكريم أنه ليس من صنف البشر الذين يأتون الفواحش. واعترفن بعظمته وطهارته، وبخطأ ظنهن فيه، وببراءته من التورط في الإثم مع المرأة.
ما معنى قطعن أيديهن؟
وأما قوله تعالى (قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) فيمكن تفسيره بطريقين:
الأول: أن ما رأينه من عظيم نبله وشرفه وبراءته بَهَرَهن لدرجة أنهن انهمكن في مشاهدة هذا المحيّا حتى إن بعضهن جرحن أيديهن بالسكاكين.
والثاني: أن هذا تعبير عن شدة الحيرة والدهشة بمعنى أنهن قمن بعضّ أناملهن من روعة المشهد وقلن: كيف خطر لنا أن نظن أن هذا المَلَك الكريم يمكن أن يقترب من الفاحشة. وعض الأنامل يدلّ كذلك على الندم. وقد جاء هنا بكلمة (أيدي) بدل (أنامل) بحسب عادتهم في ذكر الكل مكان البعض.
ولقد ورد في التلمود أنها وضعت أمامهن البرتقال، وأمرت يوسف بالقيام بخدمتهن، فانهمكن في رؤية وجهه الجميل منبهراتٍ فجرحن أيديهن.
أما الجملة (إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) فتعني أنهن عندما رأينه أقررن بعظمته وورعه، ولم يلبثن أن قلن إنه ملَك كريم. وهذا يعني أنه يمكن إطلاق كلمة “المَلَك” على البشر مجازًا.
لقد ذكرنا من قبل أن النسوة تحدثن بأسلوب يوهم بأن الفاحشة قد ارتُكبت فعلاً. ودفعًا لهذا الوهم قامت امرأة العزيز بدعوتهن إلى الوليمة. والظاهر أن هذه الفعلة يستحيل ارتكابها ما لم يرض بها الرجل، فلذا عرَّفت هذه المرأة صديقاتها بيوسف ؏ ليعترفن بأفواههن بأنه أسمى من الوقوع في هذه الرذيلة. ثم بيّنت لهن واقع الأمر قائلةً: لقد حاولت إيقاعه في شَرَكي ولكنه امتنع عما أريد منه. وكما هو بادٍ من حديثها فإنهن كنّ صديقات سوء، ولذلك بعد أن برّأت ساحته من الفاحشة أكدت لهن نيتها الشريرة نحوه قائلة: إنه إذا لم يخضع لرغبتي فسوف أرغمه على السجن وأذيقه الخزي والهوان.
والغريب أن المفسرين يقولون بأن يوسف مال إلى ارتكاب المعصية ولكن المرأة التي كانت محور الحادث والتي رأت في رفضه لرغبتها إهانة لها، نجدها تعلن أنه لم يقع في مكيدتها بالرغم من محاولتها المضنية، بل استعصم وسلِم.
ومن عجائب القدر أن المرأة هددته بالذل والهوان بإلقائه في غياهب السجن، ولكن السجن نفسه أصبح سببًا في عزة يوسف وشرفه، إذ جعله الله تعالى من خلال دخوله السجن مقربًا للملك، ووزيرًا للمال. وهكذا تحقق ما هددته به، كما أنجز الله وعده معه، ليبين أن كل شيء في قبضته وقدرته، فلو شاء لخَلَقَ من أسباب الخزي والذل دواعيَ العز والشرف. لقد أكد الله في الآية السابقة براءة يوسف بلسان امرأة العزيز، وهنا أكدها بلسان يوسف نفسه وهو يبتهل إلى ربه قائلاً: يا ربِّ إن لم تردَّ عني مكرهن فسوف أميل إليهن. مما يعني أنه لم يكن قد مال إليهن من قبل هذا، ناهيك أن يرتكب الفاحشة معها. أوليس غريبًا أن المرأة نفسها تعلن أنه لم يمل إليها، كما يؤكد ذلك يوسف بلسانه أيضًا، ثم إن النسوة اللاتي رأينه شهدْنَ أن صدور المعصية من مثل هذا الملَك الكريم أمر مستحيل، ويأتي المفسرون بعد الحادث بآلاف السنين لكي يعلنوا أن يوسف كان قد مال إلى ارتكاب الفاحشة أولاً، ولكنه تنبه فيما بعد وتاب!