هذا الموضوع جزء من سلسلة بداية الخلق، لقراءة المواضيع السابقة من هنا: كيف بدأ خلق الإنسان؟ من هو آدم؟
مفهوم الجن:
وأما قولـه تعالى في الآية (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ) (الحجر: 28). فيعني أن أُولئك البشر -الذين نسمّيهم هنا الجن- كانوا ذوي طبائع نارية، بمعنى أنهم كانوا يستشيطون غضبًا بسرعة، ولا يطيعون النظام بسهولة. وبالفعل هكذا كانت حالة البشر قبل آدم ؏. لقد كان آدم أولَّ إنسان حقق الكمال في الأخلاق والمدَنية، ولذلك صار أولَّ إنسان تلقى الوحي الذي هو ذو صلة وثيقة بالأخلاق والحضارة. فالذين تبعوا هذا الداعي إلى النظام والمدَنية بحيث قضوا على أهوائهم النفسانية، ورسموا نقوشَ طاعة الله على ألواح قلوبهم، فسُمّوا أصحاب الطبائع الطينية، لأن الطين يقبل التشكل والنقش. وأما الذين آثروا الحرية الفردية على طاعة النظام والقانون فسُمّوا أصحاب الطبائع النارية، بمعنى أنهم تمردوا مثل شعلة النار التي تأبى أن يسيطر عليها أحد. وبما أنهم كانوا يبيتون مختفين تحت سطح الأرض فلذلك سُمّوا بالجن أيضًا.
ولو قيل: كيف تقول إن الجن هنا يعني أصحاب الطبائع النارية من البشر مع أن الله يعلن هنا صراحة: (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ)، أي أن الجن قد خُلقوا من النار؟ فالجواب أن الله ﷻ يعلن أيضًا في موضع آخر: (خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ) (الأنبياء: 38)، ومعناه حرفيًّا: أنه خُلِقَ مِن العجلة. وقد قال أصحاب البصيرة النافذة من المفسرين: معناه أن الإنسان مطبوع على العجلة، أي يتعجل في طلب كثير من الأشياء التي تضره، كما قال الله تعالى: (وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً) (الإسراء: 12). وتقول العرب للذي يكثُر مِنه الشيءُ: خُلِقْتَ منه، وكما تقول: خُلِقتَ مِن تَعَبٍ، وخُلِقْتَ مِن غَضَبٍ، تريد المبالغة في وصفه بذلك. (فتح البيان، والبغوي).
وكذلك يقول الله تعالى في موضع آخر: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) (الروم: 55)، أي أن الإنسان عند ولادته يكون ضعيفًا ويحتاج إلى مساعدة الآخرين. ولا أحد يفسر كلمة “الضعف” هنا بأنها مادة كالتراب أو الخشب يُخلق منها الإنسان!
وقبل إنهاء تعليقي هذا أود أن أضيف أن كثيرًا من الأسلاف يتفقون معي -على الأقل- في أنه لا وجود للجن الذين يمكن أن يقابلوا الناس ويركبوهم ويعطّلوا عقولهم ويسخّروهم في بعض الأعمال، كما تزعم العامة. فقد كتب العلامة أبو حيان: “قال الجبائي: هذه الآية تدل على بطلان قول من زعم أن الشيطان والجن يمكنهم صرع الناس وإزالة عقولهم، كما تقول العامة، وربما نسبوا ذلك إلى السحرة. قال: وذلك خلاف ما نص الله تعالى عليه.” (البحر المحيط، سورة الحِجر، قوله تعالى: إلا عبادَك منهم المخلَصين).
ولو قيل: إن بعضا من الأسلاف قد ذكروا رؤية الجن، فالجواب أن ما رأوه كان من قبيل الكشوف التي تعني رؤية بعض المشاهد في عالم المجاز والتمثيل، وهذا ليس بأمر مستبعَد. ولكن لما حكى هؤلاء كشوفَهم للناس حسِب العامة منهم هذه الكائنات التمثيلية كائنات حقيقية، مغترّين بما كان شائعًا بينهم من عقائد خاطئة عن الجن، وكذلك بسبب ورود هذه الكلمة في القرآن الكريم.
غير أن ما فهمتُ بناء على كثير من الأدلة القرآنية هو أن عقيدة عامة الناس عن الجن التي تقول بأنهم يتصلون بالبشر ويعملون لهم المستحيل فهي ليست إلا ضربًا من الوهم، أو من قبيل شعوذة بعض السحرة، التي لا يستطيع العامة أن يعرفوا مصدرها، فيعزونها إلى الجن. إنني ملمٌّ بهذا العلم وأعرف الكثير من الحيل التي يلجأ إليها هؤلاء المشعوذون.
غير أنني لا أنكر أن الإنسان ربما كان في البداية كائنًا ناريًّا، ثم بتأثير التقلبات الجوية والزمنية تطوَّرَ إلى كائن طيني، بمعنى أنه بعد هذا التحول كان أساس خَلقه على ما تُنتجه الأرض؛ وكان آدم سيدًا لأوائل هذه الكائنات. وهذا ليس بأمر مستبعَد، بل إن علم الجيولوجيا أيضًا يؤكد أن الأرض في بدايتها كانت كرة نارية ملتهبة، وأن قشرتها الترابية خُلقت فيما بعد. فلا يُستبعد أن تكون بداية خلق الإنسان من النار قبل المرحلة الترابية من خلقه. ولكن كل هذه الأمور لا تخرج عن حد التخمين، ويستحيل الجزم بها، لذلك لا أكتب عنها أكثر.
مفهوم الشيطان:
الحق أن الإنسان ما دام قد مُنح القدرة على عمل الخير والشر كليهما فكان لِزامًا أن يُخلَق أيضًا ما يحفزه عليهما، ولأجل ذلك خلق الله ﷻ هذين الحافزين أي الملائكة والشيطان حتى قبل خلق الإنسان. فأمر الملائكة أن تحفز الإنسان على الخير وأن ترتب النتائج وفق أعماله، بينما سمح للشيطان أن يحاول دعوةَ الإنسان إلى الشر ما استطاع إليه سبيلاً.
ولما بعث الله آدمَ كان في هذه الدنيا -إلى جانب أتباع آدم- أُناسٌ آخرون لم يخضعوا للنظام الذي أتى به، وقد سمى الله ﷻ رئيسَ الفئة المتمردة على آدم بالشيطان أو إبليس لأن ذلك الرئيس ظلٌّ للشيطان الحقيقي. وما وقع بين آدم والرئيس المتمرد من أحداث في فترة طويلة ذكره الله ﷻ على شكل حوار موجز.
وليكن معلومًا أن الشيطان -الذي خُلق كحافز على الشر والذي هو غير مرئي كالملائكة- لا يأتي الناسَ بنفسه في صورة متجسدة ليحدّثهم ويؤذيهم، بل الحق أن الذين تتسبَّب سيئاتهم في زلّة أقدامهم عن درجة الصلاح هم الذين يصبحون أظلالاً للشيطان، وأعمالهم هي التي تُنسب إلى الشيطان. كذلك كل الحوافز الأُخرى على المعصية أيضًا تسمَّى شيطانًا، حيث ورد في الحديث: “قال رسول الله ﷺ: لَيْسَ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنْ الشَّيَاطِينِ قَالُوا وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ” (مسند أحمد، ج1، مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب عن النبي ﷺ) فلا يأمرني إلا بالخير. أي لقد أحرزت الكمال في التقوى لذلك فإن الأُمور التي تدفع بالناس إلى المعصية تزيدني أنا صلاحًا. وليس المراد من قوله ﷺ أن لكل إنسان شيطانًا مستقلا، وأن الشيطان الذي وكِّل به ﷺ قد صار مسلمًا. لو كان هذا هو المعنى فلماذا كان النبي ﷺ يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم. مما يعني أن الشيطان الحقيقي كان على حالته لم يتغير منه شيء، ولكن ما ينوب عن الشيطان من أفكار ورغبات كان قد أسلم وأذعن للنبي ﷺ، وأما من كان يمثّل الشيطانَ من البشر كأبي جهل وغيره فلم يُسلموا بل ما برحوا على شرهم ومكرهم.
وأما الزعم أن ذلك الكائن غير المرئي الذي يسمى شيطانًا هو الذي خرج بنفسه متجسدًا لمعارضة آدم فهو زعم باطل بداهةً، ومخالف للواقع والتجربة. فإننا نعرف من القرآن الكريم أن الشيطان أتى آدمَ وزوجتَه وتحدَّث معهما لإغوائهـما. فلو كان ذلك الذي أتاهما هو الكائن نفسه الذي يحث على المعصية فلم لا يستطيع الآن أبناءُ آدم رؤيةَ ذلك الشيطان بتلك العين التي رآه آدمُ بها؟ ولم لا يستطيعون الحديثَ مع الشيطان بذلك اللسان الذي تحدث به آدم معه؟ ولم لا يأتي ذلك الشيطان الناسَ لإغوائهم الآن أيضًا؟ خاصة أن القرآن الكريم لا يقول أبدًا بأن جسد آدم كان مختلفًا عن أجساد أبنائه اليوم حتى يقال بأن آدم استطاع بذلك الجسد رؤيةَ الشيطان وحوارَه، ولكن أبناءه لا يستطيعون ذلك لاختلاف أجسادهم عن أبيهم. فما دام الأبناء أيضًا يملكون اليوم الأجسادَ والقدراتِ نفسها التي تمتع بها أبوهم آدم، وما دام الشيطان هو هو لم يتغير، فيجب أن يراه مئات الآلاف من البشر اليوم، ويجب أن يقابِل هو بجسده كلَّ الصالحين من بني آدم، سعيًا منه لإغوائهم. ولكن لا نجد بين البشر آلافًا ولا مئات بل ولا عشرات ممن يشهدون على أنهم مروا بمثل هذا الاختبار سواء في حالة الكشف أو الرؤيا، اللهم إلا ما نجد في القصص والأساطير التي لا ينهض على صدقها دليل ولا برهان. ولكن الشيطان الذي أتحدث عنه فإنه ما زال إلى اليوم يعرقل طريق كل نبي بالطريقة نفسها التي لجأ إليها في زمن آدم، ويأبى ويستكبر كما أبى واستكبر أمام آدم، بل هذا هو دأبه مع كل الصالحين في كل زمان ومكان.
أجاب رأسُ الفئة المعارضة لآدم: إن آدم كائن ذليل حقير لذلك لا يعاف الطاعة والانقياد، ويرى هو وأتباعه تقليد الآخرين مفخرةً، ولكني لست ذليلاً حقيرًا مثلهم إذ خلقتَني مطبوعًا على الحرية والإباء، فكيف يمكن لي أن أرضى بطاعته.
هذه العبارة أيضًا هي من قبيل المجاز والتمثيل، إذ تعني أن العدو الأكبر لآدم وأتباعَه حسِبوا النظام الذي جاء به آدم منافيًا لحرية الضمير ورأوا في اتّباعه إهانةً لهم، فرفضوا الخضوع له، ظانين أنهم أحسن نظامًا وأمثل طريقًا مما يدعو إليه آدم. وقد عُبّر عن هذا المفهوم هنا بمصطلح الخِلقة الطينية والخِلقة النارية.
لقد ذكر الله ﷻ من قبل أن عباده الذين يُخلِصهم ويختارهم لا يملك عليهم الشيطان أي سلطة ولا تصرف، وأما الآن فأخبر الله تعالى كيف يصبح العباد مخلَصين حيث قال: (هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) (الحجر: 42) أي أن من واجبي أن أهديهم إلى سبيلي، وسوف أدلّهم على سبيلي بالوحي والإلهام، فيصِلون إليّ رأسًا، ولا يمكن أن ينحرفوا عن سبيلي إلى سبيل الشيطان المردود.
لقد بين الله تعالى هنا أنه لا يكون هدفًا للانحراف عن صراط الله المستقيم إلا الذي ما يزال في طور البحث عنه ﷻ، ولكن الذي يكون قد وصل إلى الله ﷻ ووجده فإنما يسعى للمزيد من قربه تعالى، ومن المحال أن يُغويه الشيطان ويُضلّه، إذ كيف يمكن لإنسان أن ينكر ما شاهده بأم عينه وما جرّبه بنفسه؟
وفي هذا إيماءة إلى أن الفطرة الإنسانية نقية طاهرة، حيث بين الله تعالى أنه لا يَضلّ عن الصراط السوي إلا من يُنجّس بنفسه فطرته النقية ويتبع خطوات الشيطان. ولقد أوضح الله ﷻ هذا المعنى في مكان آخر من القرآن الكريم بقوله (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس: 11) أي لا يَهلك إلا من يُفسد نفسه الطاهرة ويدفنها تحت تراب المعاصي.
بارك الله فيكم