شرح المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام فقال:
“أما الحديث الذي يقول النبي ﷺ فيه بكل وضوح وصراحة بأنه كان كَشفاً أو رؤيا، فقد أورده الإمامُ البخاريُّ ومسلمٌ في صحيحيهما. وهنا ذَكَرَ العلماءُ إشكالية أولاً، ثم قدمّوا لها ردّاً دقيقاً جداً. وهذا الرد الجميل يؤيد موقفنا بكل قوة، حتى إنه بمنـزلة كلمة الفصل بيننا وبين معارضينا، وهو أنَّ النبي ﷺ يقول في الحديث المتفق عليه إنه رأى المسيح ابن مريم يطوف بالكعبة، ثم يقول إنه رأى المسيح الدجال أيضا يطوف بالكعبة. فهذا الكلام يستلزم أنْ يكـون للمسيحِ ابن مريم والمسيِح الدجال هدفٌ واحدٌ، وأن يكونا على الصراط المستقيم وتابعَِين صادقَِين للإسلام، بينما يتبين مِن أحاديث أخرى أنَّ الدجال سيدّعي الألوهية. فما معنى طوافه بالكعبة إذن؟ لقد رد العلماء على ذلك وقالوا إنَّ حَمْل مثل هذه الكلمات على الظاهر خطأ كبير، بل جاء هذا الكلام بصورة كشوف ورؤى يجب تأويلها، كما تؤول الرؤى عادة. فتأويله أنَّ الطواف لغةً هو الدوران حول شيء. ولا شك أنه كما سيطوف عيسى ؑ-عند نزوله- بمهمة نشر الدين ويسعى جاهداً لإنجازها، كذلك يطوف الدجال -عند خروجه- بمهمّة عيثه الفساد ناوياً إكمال مهمته.” (إزالة الاوهام ص 217)
ونقتبس أيضاً من كتاب “احذروا الدجال يجتاح العالم” ما يلي:
“جاء في عدد من أحاديث رسول الله ﷺ أنّ الدجّال لا يستطيع دخول مكّة والمدينة، لأنّ الله عزّ وجل قد حرّم عليه دخولهما، ولكننا نقرأ في أحاديث أخرى أنّ الدجّال يدخل مكّة ويطوف بالكعبة. جاء في صحيح مُسْلِم ومسند ابن حنبل في حديث رسول الله ﷺ الحديث التالي:
«.. وإني أوشك أنْ يؤذن لي بالخروج فأخرج فأسير في الأرض، فلا أدرع قَرْيَة إلاّ هبطتها في أربعين ليلة، غير مكّة لأنها وطيبة، هما محرّمتان علي كلتاهما».
وكذلك روى ابن ماجة عن رسول الله ﷺ الحديث التالي:
«.. لا يبقى شيء من الأرض إلاّ وطئه -أي الدجّال وظهر عليه إلاّ مكّة والمدينة، فإنه لا يأتيهما من نقب من نقابهما إلا لقيته الملائكة بالسيوف صلتة ..».
يتأكد من هذين الحديثين أنّ الله عزّ وجل قد حرّم على الدجال دخول مكّة والمدينة بالرغم من أنّه سيظهر على الأرض كلها، في حين أننا نقرأ في الحديث التالي أنّ الدجّال يدخل مكّة ويطوف بالكعبة أيضا.
جاء في صحيح البخاري في الحديث الذي رواه عبد الله بن عمر عن رسول الله ﷺ قال:
«.. وأراني الليلة عند الكعبة في المنام، فإذا رجلٌ آدم كأحسن ما يُرى من أُدمِ الرجال تضرب لَمّتُه بين منكبيه. رَجْلٌ الشعر يقطر رأسه ماء، واضعاً يديه على منكبي رجلين وهو يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا المسيح بن مريم. ثم رأيتْ رجلاً وراءه، جعداً قططاً أعورَ العين اليمنى، كأشبه ما رأيتُ بابن قطـن، واضعاً يديه على منكبي رجل يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟ قالوا: المسيح الدجّال». (صحيح البخاري كتاب الرؤيا وصحيح مُسْلِم).
أجمع العلماء على أنَّ رؤى الأنبياء حقّ لأنها من الله، ونجد في هذا الحديث أنّ الدجال يدخل مكّة ويطوف بالكعبة؛ في حين جاء في الحديث الآخر أنّ مكّة والمدينة محرّمتان على الدجال ولا يستطيع دخولهما، فكيف يمكن فهم هذا التناقض؟! ثم كيف يمكن لعملاق قَدِرَ على الأرض جميعها أن يعجز عن دخول مدينتين صغيرتين منها؟ وما القوى التي ستمنعه في حين أنّه قد ملك القوى كلها، كما تُبيّن الروايات التي تتحدث عنه؟ ومن الأسئلة الإشكالية التي قد تُثيرها الأحاديث أيضاً –في نظر بعضهم: كيف يدخل الدجّال مكة ويلتقي بالمسيح الموعود عليه السلام في حين أنّ الدجّال لا يستطيع مواجهته؟ إذ ورد في أحاديث الرسول ﷺ أنّ الدجّال إذا رأى المسيح الموعود ذاب كما يذوب الملح أو كما يذوب الرصاص، أو انماث كما تنماث الشحمة في الشمس، أو أنه يموت بنَفَسِهِ لانه كافر، فقد ورد أنّه لا يحلُّ لكافر يجد ريح نَفَس المسيح الموعود عليه السلام إلا مات. (راجع هذه الأحاديث في بحث الدجّال في مصادر الحديث الشريف).
وجاء أنّ القاضي عيّاض أجاب عن هذا الإشكال فقال:
«إنّ رؤيا الأنبياء وإن كانت وحياً، إلاّ أنّ منها ما يقبل التعبير».
ويؤكد العلّامة علي القاري هذا المذهب في الفهم فيقول:
«قال التوريشي: إنّ طواف الدجال عند الكعبة مع انّه كافر، مؤوّل بأنَّه رؤيا النبي ﷺ أو من مكاشفاته، إذ كوشف بأنّ عيسى في صورته الحسنة التي ينزل عليها يطوف حول الدين لإقامة أموره وإصلاح فساده، وأنّ الدجّال في صورته الكريهة التي يظهر عليها يدور حول الدين يبغي العوج والفساد.» (المرقاة شرح المشكاة ج 5، باب بين يدي الساعة).” انتهى الاقتباس
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ