الدجال هو الكذاب المموِّه الذي يعرف الحق ولكنه يكذب قصدا وعمدا، ويحاول خداع الناس بما لا يعتقد به بنفسه. فهو أول الكافرين بما يحاول خداع الناس به، ولكنه يمارس دجله وخداعه من أجل مصالحه.
ولم يُسمَّ الدجال دجالا لمجرد فساد عقيدته؛ ففساد المعتقد والقناعة به بحسن النية لا يجعل صاحبه دجَّالا، بل قد يكون معذورا لقلة علمه أو عدم اطلاعه على الحق، وقد يكون شخصا كهذا كريما مخلصا صادقا، أما الدجال فإنما سُمِّي دجالا بسبب إيمانه الراسخ بأن عقيدته فاسدة، ولكنه يحاول تزيينها وإظهارها على غير حقيقتها، بل ويحارب الحق بها ويحاول إضلال الناس. وهذه نقطة لطيفة متضمَّنة في وصفه بالدجال، وهي في الواقع السبب الأساس لهذه التسمية.
لذلك لا عجب أن الهجمة المسيحية على الإسلام، التي تعاظمت واشتدت وطأتها في القرنين الأخيرين، كان قد سبقها نفور من العقيدة المسيحية وانكماش لسلطة البابا والكنيسة الكاثوليكية خاصة ثم رجال الدين من البروتستانت أيضا. ومع تقلُّص هذه السلطة التي كانت قد أطبقت على أنفاس أوروبا لسنوات طويلة، ابتدع البروتستانت خاصة وسيلة لربط أنفسهم عضويا بالنظم السياسية الأوروبية – خاصة أن هذه الحركات كانت في أصلها ثورة على سلطة الكنيسة الكاثوليكية، وفي كثير من الأحيان كان السياسيون خلفها – وحاولوا تحت ستار هذه الدول بسط نفوذهم على النظم السياسية من ناحية، ومن ناحية ثانية إظهار أنفسهم على أنهم مستمرون في خدمة السياسات الأوروبية التي ليس في ذهنها سوى مصالحها والرغبة في نهب خيرات الدول والشعوب الضعيفة. فأغروا السياسيين الأوروبيين بأنهم سيخدمون أهدافهم، وأن في تحوُّل الشعوب المستعمَرة إلى المسيحية توطيدا لهذه النظم وسياساتها. ومن هنا نشأ نوع من التحالف بين الفئتين المبني على تقاطع المصالح، مع أن السياسيين وعامة الناس لا يؤمنون بالمسيحية ولا يعبأون بها، ولكنهم كانوا، ولا زال فريق كبير منهم إلى اليوم، يرون أن المسيحية بالنسبة لهم إنما هي هوية ثقافية توحدهم. فهم من ناحية يعلنون إلحادهم أو على الأقل عدم قناعتهم بالعقائد المسيحية فرارا من سخفها ومن الالتزامات الدينية، ولكنهم من ناحية ثانية لا يتخلون عن هويتهم المسيحية أيضا. وهم ليسوا مهتمين بانتشار المسيحية إلا بقدر أنها تخدم مصالحهم، ولا يؤمنون بمعتقداتها ولا يحترمونها، وما يهمهم إنما هو استتباب الأمن لهم، وهم مستعدون للتصدي للقساوسة المنصِّرين إن تطلب الأمر إذا تجاوزوا حدودهم أو أصبحوا سببا للفتنة أحيانا.
ولذلك فإن المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام قد ميَّز بوضوح بين النظام السياسي المتمثل بالدولة البريطانية في الهند وبين الدجال الذي هو القسس المسيحيون الدجالون الذين يخدعون العامة ويدجِّلون عليهم. فمما قاله حضرته حول ذلك:
” فاعلم أننا لا نسمي الدولة البريطانية دجالا معهودا، بل نعلم ونستيقن أن هذه الدولة محققة عاقلة مفكرة في حقائق الموجودات، وقد رزقها الله من العلم والحكمة والفلسفة وأنواع الصناعات، وحفّتْ بها لمعاتُ المعقولات، فهي تعرف الترهات، وتفضّ خَتْمَ سرِّ المزوّرات، وليست من الذين يرضون بالهذيانات. فكيف يمكن أن تؤمن بهذه الخرافات، بل تحسبها كسَمْرٍ لا أصل له أو كطَيفٍ مركَّب من الخزعبلات، ومع ذلك لا ميل لها أصلاً إلى الدينيات. وفتَن قلبها حبُّ الدنيا وشوق الحكومات، فهي غريقة في دنياها من الرأس إلى القدم في كل الخطوات، ولا تميل إلى دين.” (نور الحق)
وتوضيحا لحقيقة الدجال فقد بيَّن حضرته أنه القسس في هذا الزمان خاصة، وأن القسس في السابق لا ينطبق عليهم هذا الوصف لأنهم لم يكونوا دجالين كاذبين كهؤلاء الذين لا دين لهم والذين يحاولون تزيين المسيحية رغم قناعتهم ببطلانها، خاصة بعد ظهور الأدلة الواضحة على البطلان بسبب تطور العلوم وارتقاء الفكر الإنساني الذي لم يعد من الممكن إقناعه بهذه الخزعبلات، فيقول حضرته:
“وأُلقِيَ في روعي أن المسيح سمى الآخرِين من النصارى الدجالين لا الأولين، وإن كان الأولون أيضا داخلين في الضالّين المحرّفين. والسر في ذلك أن الأولين ما كانوا مجتهدين ساعين لإضلال الخَلق كمثل الآخرين، بل ما كانوا عليها قادرين. وكانوا كرجل مصفَّد في السلاسل ومقرَّن في الحبال وكالمسجونين. وأما الذين جاءوا بعدهم في زماننا هذا ففاقوا أسلافهم في الدجل والكذب، ووضَع الله عنهم أياصرهم وأغلالهم، ونجّاهم عن السلاسل التي كانت في أرجلهم ابتلاءً من عنده، وكان قدرًا مقضيًّا من رب العالمين.” (نور الحق)
الخلاصة أنَّ تعاظُم فتنة الدجال سبقه ورافقه نفور من العقائد المسيحية وضعف لسلطة الكنيسة الكاثوليكية خاصة، وهذا لكي تتم الحجة عليهم يصبح واضحا وجليا أن هؤلاء الذين يحاولون ترويج المسيحية عند المسلمين قد خربت ديارهم وهجر الناس المسيحية في بلادهم، وأن هؤلاء يشاطرون قومهم في عدم الإيمان بالعقائد المسيحية، ولكنهم يدَّعون أنها الحق دجلا وزورا، ويحاولون خداع الناس. فمسألة نفورهم من العقائد المسيحية وشهادتهم على أنفسهم بهذا يزيد مسألة أنهم هم الدجال وضوحا.
كذلك فإن الدجال لا يعني المسيحية عموما، ولم يكن وصف الدجال ينطبق على المسيحيين قبل هذا الزمان، إلا من باب أن بذرة فساد الدجال كانت فيهم منذ البداية، أما وصف الدجال فهو طابع القائمين على الحملات التنصيرية المسيحية خاصة، والذين يدَّعون الإيمان والتقوى وهم بعيدون كل البعد عن الصدق والطهارة، وليس أدلَّ من ذلك إلا الفضائح التي أزكمت الأنوف لكثير من القساوسة ورجال الدين، والتي ذِكْرها غني عن البيان. أما المسيحيون من قسس وعامة الناس ففيهم الكرام الذين مدحهم القرآن الكريم، والذين قال عنهم المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام أيضا:
” وإنّا أُمرنا أن نتمّ الحجّة بالرفق والحلم والتَؤُدة، ولا ندفع السيئة بالسيئة، إلا إذا كثُر سبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ الأمر إلى القذف وكمال الإهانة، فلا نسبُّ أحدًا من النصارى ولا نتصدّى لهم بالشتم والقذف وهتك الأعراض، وإنما نقصد شَطْرَ الذين سبُّوا نبينا صلى الله عليه وسلم وبالغوا فيه بالتصريح أو الإيماض. ونُكرِم قسوسًا لا يسبّون ولا يقذفون رسولنا كالأراذل والعامّة، ونعظّم القلوب النَّزِهة عن هذه العَذِرة، ونذكرهم بالإكرام والتكرمة. فليس في بيان منا حرف ولا نقطة يكسر شأن هذه السادات، وإنما نردّ سبّ السابّين على وجوههم جزاءً للمفتريات” (حاشية، نجم الهدى)
فقتل الدجال أو ما سمي أيضا بكسر الصليب في الحديث إنما يعني أن المسيح الموعود سيقضي على فتنة التنصير ويفنِّد حججهم ويُظهر دجلهم، وهذا ما وفقه الله تعالى به وكان فيه من الفائزين، والحمد لله رب العالمين.