يقول الله تعالى:
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) – البقرة 31
شرح الكلمات
قال: القول يستعمل على أوجه؛ أظهرها أن يكون للمركب من الحروف، المبرَز بالنطق، مفردا أو مركبا؛ الثاني: يقال للمتصور في النفس قبل الإبراز باللفظ؛ الثالث: للاعتقاد نحو “فلان يقول بقول أبي حنيفة”؛ الرابع: يقال للدلالة على الشيء نحو قول الشاعر: “امتلأ الحوض وقال قطني” :المفردات”. وهناك أمثلة أخرى في اللغة لاستخدام القول لبيان حقيقة حادث، نحو قول الشاعر:
“قالت له العينان سمعًا وطاعة وحدرتا كالدر لمَّا يثقَّبِ”
وقول آخر:
“قالت له الطير تقدَّم راشدا إنك لا ترجع إلا حامدا”. “اللسان”
الخامس: يقال للعناية الصادقة بالشيء؛ السادس: في الإلهام نحو قوله تعالى (قلنا يا ذا القرنين) “المفردات”
وقال الثعالبي: ومن سنن العرب أن تعبر عن الجماد بفعل الإنسان كما قال الراجز: امتلأ الحوض فقال قَطْي “فقه اللغة”.
الملائكة: جمع مَلَك، أصله مأْلَك، وقيل هو مقلوب من ملْأَك، و الملأك و الأُلوك هو الرسالة، ومنه، ألِكْني أي أبْلِغُهُ رسالتي.
وقال: إنه من المِلْك. والمتولي من الملائكة شيئا من السياسات يقال له مَلَك، ومن البشر يقال له مَلِك”المفردات”.
وقال البعض إن المَلَك من لأَك، يقال: ألاكه إلى فلان إلاكَةً: أبلغه عني رسالة. وهذا يعني أن الملَك كان في الأصل مَلأَك ثم حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال “الأقرب”. ألاك الشيء: أداره في فمه.
ولاك الفرس اللجامَ: عضَّ عليه “التاج”. وكأن الرسول يلوك الرسالة في فمه أي يراجعها حتى لا تفلت منه. ومنه سُمي الرسل الذين يأتون برسالة الله إلى الأنبياء ملائكة. فالملائكة اسم لكائنات تنزل برسالة الله إلى الناس، وتنفذ إرادته في الدنيا؛ أو اسم لكائنات شديدة القوى.
خليفة: الخليفة جمعه خلفاء: يعني الإمام الذي ليس فوقه إمام؛ الذي يخلف ويقوم مقامه؛ السلطان الأعظم أو الملك أو الحاكم. والخلافة: الإمارة؛ النيابة عن الغير.. إما لغيبة المنوب عنه أو لموته أو لعجزه أو لتشريف المستخلف. والمعنى الشرعي للخلافة الإمامة”الأقرب”.
نسبِّح: سبَّح الله وسبح له: نزَّهه من العيوب والنقائص. وسبَّح: صلى؛ قال سبحان الله “الأقرب”.
والتسبيح هو التنزيه لله من الصاحبة والولد؛ وقيل تنزيه عن كل ما لا ينبغي له أن يوصف به. وجماع معناه: بعده تبارك وتعالى عن أن يكون له مثل أو شريك أو ندّ “اللسان”. ومعنى “سبحانك اللهم”: أنزِّهك وأبرِّئك يا رب من كل سوء؛ و “سبحانك” مصدر يقوم مقابل الفعل؛ قيل: دل على التنزيه من جميع القبائح التي يضيفها إليه المشركون. وفي “العجائب للكرمني” أن “سبحان ” مصدر سبَّح.. إذا رفع صوته بالدعاء والذكر. والتسبيح قد يطلق ويراد به الصلاة والذكر والتحميد والتمجيد. وسميت الصلاة تسبيحا لأن التسبيح تعظيم الله وتنزيهه من كل سوء (التاج).
والسبح: المر السريع في الماء أو الهواء، والتسبيح تنزيه الله تعالى لأن أصله المر السريع في عبادة الله. وجُعل ذلك في فعل الخير كما جعل الإبعاد في الشر، فقيل أبعده الله! وجعل التسبيح عاما في العبادات قولا كان أو فعلا أو نية “المفردات”.
نقدس: التقديس التطهير. ومعنى قوله تعالى (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) أي نطهر الأشياء ارتساما (أي امتثالا) لك. وقيل نقدسك أي نصفك بالتقديس “المفردات”. والفرق بين السبُّوح والقدّوس، وهما من أسماء الله تعالى، أن السبوح الذي ننزهه عن كل سوء؛ والقدوس هو المبارك ذو البركة، الجامع للمحاسن كلها، والطاهرُ أي الطاهر بنفسه ويطهر الآخرين”اللسان”. فالفرق بين التسبيح والتقديس أن التسبيح فيه تنزيه أما التقديس فيجمع التنزيه والتعظيم.
التفسير
يرى بعض المفسرين أن الخليفة المذكور هنا هو آدم “عليه السلام”، سماه الله خليفة لأنه قدر له أن يكون نبيا منفذا لأحكام الله تعالى. وإني أرى هذا الرأي، ولكني لا اتفق مع من قال بأن الملائكة كانوا سكان الأرض قبل آدم.. لأنه لا سند لذلك. وكذلك لا أتفق مع القول بأن الجن من غير البشر هم السكان السابقون، فهو قول واهٍ وزعم لا دليل عليه. وتسمية آدم خليفة لكونه جاء بعد الملائكة أو الجن باطل، وسبب واه، إذ إن الخليفة يصلح لأن يطلق على كل شيء مخلوق لأنه يخلف مخلوقا جاء قبله.. والحال أنه لا يملك أحد تحديد بداية الخلق.
كما لا يصح عندي القول بأن الخليفة هم ذرية آدم من بعده، لأن القرآن عندما أراد ذكر خلافة الشعوب بعد آدم استخدم صيغة الجمع مثل قوله تعالى:
(وهو الذي جعلكم خلائف الأرض)”الأنعام: 166″.
(هو الذي جعلكم خلائف في الأرض)”فاطر: 40″.
(ثم جعلناكم خلائف في الأرض)”يونس: 15″.
(وجعلناهم خلائف)”يونس: 74″.
(واذكروا إذ جعلكم خلفاء)”الأعراف: 70″.
(ويجعلكم خلفاء الأرض)”النمل: 63″.
بعد أن أشار القرآن إلى اصطفاء المصطفى صلى الله عليه وسلم وبعثته إلى الناس بالقرآن الكريم الذي لا ريب فيه، وهدى للمتقين، من عند الله تعالى.. ذكر اصطفاء الله تعالى لآدم.. فدلَّ بذلك على أن نزول الوحي السماوي وبعث الأنبياء ليس من البدع، بل إنه سنة مطردة منذ خلق الإنسان على هذه البسيطة، ولا يزال مستمرا دون انقطاع، وأن آدم هو الإنسان الأول، ومعه بدأ نزول الوحي السماوي، وأن الله تعالى لم يترك الإنسان مهملا مضيعا أبدا، بل مازال قائما على هدايته منذ البداية.
وبذكر قصة آدم مع الملائكة يقدم القرآن درسا مفيدا للناس فيما يتعلق بالوحي والنبوة، وهما من أمور الغيب. فقد أشار الله تعالى بتساؤل الملائكة إلى حقيقة أن الناس عادة، قبل بعث نبي، لا يدركون الحاجة إلى الوحي وإرسال نبي إلى أن يبعثه الله، فيتم رسالته، ويظهر للناس مدى حاجتهم إليه، وذلك بسبب ما يحدث من تطورات تدفعهم إلى الاعتراف بأنه لولا ظهوره لظلت الدنيا محرومة من تطور نافع. إن تساؤل الملائكة يشير إلى أنه حتى أمثال الملائكة لا يستطيعون إدراك حقيقة ذلك التطور العظيم الذي يحدث في الدنيا بعد بعث نبي من الأنبياء، فما بالك بالأشرار والسفلة من الناس. فمن لوازم الحكمة ألا يخالف المرء أمرا قبل وقوعه.. إذا لم يمكن له الإيمان به، بل عليه أن ينتظر ذلك المبعوث حتى يتم عمله، فإن يك صادقا تحقق صدقه بعمله، وأن يك كاذبا تبين كذبه بعمله. وقد ذكر القرآن هذا المعنى على لسان واحد من قوم فرعون فقال: (و إن يك كاذبا فعليه كذبه، وأن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم)”غافر:29″. وقال (أتى أمر الله فلا تستعجلوه، سبحانه وتعالى عما يشركون * ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون)”سورة النحل:2،3″.
وذِكرُ الملائكة في هذا الوضع إشارة إلى دورهم في مهمة المبعوث السماوي. يخبرنا القرآن الكريم.. وسائر الأديان تؤيده في ذلك، أن تدبير أمر هذا العالم يتم بإذن الله تعالى بواسطة الملائكة.. فهم مأمورون بإتمام الأعمال المختلفة.. فهناك ملائكة لتنفيذ أوامر الموت، وملائكة موكلة بالكواكب وحركاتها، وملائكة لتدبير الأمطار والرياح. وفي الأمر الإلهي للملائكة بجعل آدم خليفة ثم السجود له.. إشارة إلى أن الملائكة مكلفون بتأييد آدم في مهمته كخليفة أو نبي، ولذلك فإن فلاح النبي في مهمته أمر حتمي.. إذ تسانده الملائكة المدبرون لنظام هذا العالم. ونرى في حياة الأنبياء من الشواهد ما يدل على هذه الحقيقة. ففي نجاة نوح من الطوفان، وسلامة إبراهيم من النيران، واجتياز موسى البحر وهلاك فرعون؛ ونجاة عيسى من الصليب، وانتصار “رام شندر جي” رغم إحداق أعدائه به، وغلبة “كرشن جي” على أعدائه الجبابرة، وتغلب “زردشت” على أعدائه الأشداء، وفوق كل ذلك كله وأعظم منه.. مبارزة الرسول صلى الله عليه وسلم لجميع العرب وهو وحيد منفرد، وانتصاره عليهم جميعا بصورة خارقة.. في كل تلك الحوادث معجزات بينات لا يمكن إنكارها إلا من قبل العميان المعاندين، ودلالة على صدق هذه الحقيقة، وتذكير للناس بأن الملائكة الذين أمروا بمساندة آدم مأمورون أيضا بمساندة محمد صلى الله عليه وسلم في مهمته، وأنهم سوف يحدثون تطورات حاسمة يترتب عليها الانتصار النهائي لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرغم من كل العداء.
وتشير الآية أيضا إلى أن آدم خلق على هذه الأرض وكانت مهمته في هذه الدنيا، وعلى هذه الأرض ذاتها.. وذلك بخلاف ما يزعم البعض من أن آدم أدخل الجنة التي يدخلها الصالحون بعد موتهم. ومما يدعوا للتعجب.. إن الله عز وجل يقول (إني جاعل في الأرض خليفة)، ومع ذلك يصر البعض على دخول آدم في الجنة الموعودة في الآخرة. وقد قال بعضهم بأن الله خلق آدم أولا على الأرض ثم أدخله الجنة.. ولكن الآية لا تسيغ هذا القول، لأنها صريحة في جعل الخليفة في هذه الأرض. ومن البين أنه يستخلف في الأرض من أجل هدف وغاية، ولا يتحقق ذلك بدخول آدم في الجنة.
وآيات القرآن الأخرى تدحض هذا الزعم فمثلا: يقول تعالى عن الجنة الموعودة بأنها (لا لغو فيها ولا تأثيم)”سورة الطور:24″.. ولكن الجنة التي دخلها آدم معه الشيطان، وحرضه على معصية الله تعالى. ثم يصف الله الجنة بقوله (لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين)”سورة الحجر:49″.. لكن آدم أخرج من الجنة. وكذلك يقول عن الجنة (ولكم فيها ما تدَّعون)”سورة فصلت:32″، ولكن آدم أخرج من الجنة بسبب اقترابه من الشجرة. وجاء في وصف جنة الآخرة (نتبوأ من الجنة حيث نشاء)”سورة الزمر:75″، ولكن آدم أمر بألا يقرب الشجرة.
تبين مما سبق أن جنة آدم (عليه السلام) كانت على هذه الأرض، لأنه كان خليفة لأهل هذه الأرض، فكان محتما بقاؤه فيها حتى الموت.
وقد اعترض بعض الناس على قوله (وإذ قال ربك للملائكة..)، فقالوا:
- لقد استشار الله تعالى الملائكة، فهل هو عز وجلّ بحاجة إلى الاستشارة؟
- ارتاب الملائكة في حكم الله تعالى بقولهم (أتجعل فيها من يفسد فيها).. فهل لهم حق الاعتراض على حكم الله تعالى؟
- لقد تحقق قول الملائكة وأفسدت ذرية آدم في الأرض.
وقبل أن أجيب عن هذه الأسئلة ينبغي أن نفهم معنى كلمة “قال“. إن هذه الكلمة التي ترددت في الآية لا يعني أن الله عز وجل قد دعا الملائكة والناس إلى مجلس، ثم وجه الخطاب إلى الملائكة؛ وإنما المراد منها التعبير عن المتصور في النفس قبل الإبراز باللفظ، كما جاء في شرح الكلمات. وقد ورد هذا الأسلوب في القرآن كما في قوله: (ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول)”سورة المجادلة:9″. وهي أيضا تدل على لسان الحال كما جاء في القرآن الكريم: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين)”سورة فصلت:12″.
فليس من الضروري أن يكون القول الوارد في الآية الكريمة قد تم بصورة ظاهرة، وإنما أريد بهذا الحوار تصوير لما جرى على لسان حال كل شيء من الاستجابة لحكم الله تعالى.
وإذن فإن ما تحكيه آيتنا من قول إما مناقشة بلسان الحال، أو أنه تصوير للوحي السماوي الذي أنزل على الملائكة، وهذا ما أرجحه. وكل ما قال الله تعالى للملائكة إعلان بقراره تعالى لا يمُتُّ إلى الاستشارة بصلة.. لأن سياق الآية وألفاظها لم تذكر الاستشارة.. لا صراحة ولا ضمنيا، فالآية تقول: (إني جاعل في الأرض خليفة)، فليت شعري! من أين استخرج المعترضون معنى الاستشارة؟ إن الله تعالى أخبر ملائكته بالأمر كي ينشط كل واحد منهم في نطاق عمله لمناصرة آدم “عليه السلام”، ويدرك الأمر الموجه له ويتفهم نواحيه الغامضة. فإذا استفسر عن شيء منها فليس ذلك عن اعتراض، وإنما استزادة من العلم. ولا أدل على براءة الملائكة من تهمة الاعتراض من قولهم: (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك).
ومن زاوية أخرى يمكننا أن نأخذ هذه العبارة كتساؤل شبيه بالاعتراض. ذلك أن آدم كما كان نائبا لله تعالى، كذلك كان هناك أناس شبيهون بالملائكة.. يجوز تسميتهم ملائكة. فيمكن أن يكون قد خطر ببال هؤلاء أنهم ما داموا يعبدون الله عز وجل بقدر ما أتوا من العقل.. فأي حاجة هناك لبعث إنسان بالشريعة؟ وفي ضوء هذا المعنى تعتبر هذه العبارة ردًّا على ما خطر ببال هؤلاء من اعتراض. فكلما يبعث الله نبيًّا فإن أصحاب الصلاح في الظاهر يفكرون بنفس هذا الأسلوب. فمن كان منهم ذا تقوى حقيقية يفطن لخطئه، ويؤمن بإمام زمانه، وأما اللذين تنقصهم التقوى الحقيقية الكاملة فتزل قدمهم، ويخرجون من صفوف الملائكة إلى صفوف الأبالسة.
هذا المشهد يتكرر في زمن كل نبي.. ففي زمن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا نجد شخصا اسمه زيد، وكان يدعي أنه يتبع ملة إبراهيم حنيفا، ويدعو العرب قبل بعثة النبي إلى عدم الإشراك بالله تعالى. ومرة على الأكل مع النبي، فرفض الأكل معه بحجة أنه لا يأكل مع المشركين. فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لم يقع في الإشراك بالله قط. وبعد فترة عندما ادعى النبي صلى الله عليه وسلم بأنه بعث رسولا من الله تعالى لم يوفق هذا الرجل إلى التصديق به، وإنما قال: لو كان الله باعثا نبيا لبعثتي أنا الذي حاربت الشرك طيلة الحياة.”البخاري، كتاب المناقب، مناقب الأنصار؛ وسيرة ابن هشام”.
فانظروا كيف أن هذا الرجل الذي كان قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بمثابة ملك من الملائكة بين العرب.. رفض أن يؤمن به صلى الله عليه وسلم، واعتبر بعثته عبثا. وأمثال هؤلاء يوجدون في عصر كل نبي، ورغم أنهم يكونون فيما يظهر ظلالا للملائكة.. إلا أنهم يدخلون في الأبالسة بالاعتراض على بعث إمام زمانهم.
أما المسألة الأخيرة.. من حيث تحقق قول الملائكة وعدم تحقق قول الله تعالى.. فهي أيضا ناشئة عن تفكير قاصر، فالله تبارك الله تعالى ولم يقل بنفي الفساد وسفك الدماء، بل إن مفهوم سفك الدماء والفساد متضمن في إعلان بعث “خليفة”. يقول الله صحيح أن بعث آدم كخليفة يعني أن أفعال الناس سوف تقاس بمقياس الشريعة وسوف تعد بعضها فسادا وسفكا للدماء، ولكنه مع ذلك سيحقق غاية عظيمة لا يمكن أن يحققها أحد من سائر المخلوقات. ويؤكد هذا قوله تعالى (إني أعلم ما لا تعلمون).. حيث لم يخطئهم في دعواهم، بل قال: هناك شيء أعرفه ولا تعرفونه. وهكذا وجد الملائكة الجواب على سؤالهم كما تحقق ما أخبرهم الله به.
ورب سائل عن قوله: (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء).. أهذا يتصل بآدم، أم ببعض من بُعث إليهم، أم بذرية آدم المقبلة؟
والجواب عن ذلك أن هذه الجملة تتصل بهؤلاء الثلاثة جميعا. أما علاقتها بآدم فلأنه أول الأنبياء، وعلى يده جاءت الشريعة قيدا على الإنسان. ومن البين أن من يتولى أمر تطبيق النظام قد يعمد أحيانا إلى سجن بعض الأفراد، وقتل المجرمين منهم.. توطيدا لدعائم النظام، وقد يفرض الضرائب عند الضرورة. وهذه التصرفات قد تبدو ببادئ النظر نوعا من الفساد عند من لا يعرف مصالح النظام، وعندئذ يتساءل متحيرا: كيف يجوز الاستيلاء على أموال الناس بالإكراه؟ وكيف يسجن الأحرار ويقتل الأحياء؟ ولكن لا يمكن أن يقوم بتثبيت قواعد الأمن من دون فرض الضرائب وسجن المجرمين وقتل القاتلين.
وأما علاقة ذلك القول بمن بعث إليهم آدم وبذريته المقبلة، فذلك لأن حدود الشريعة هي التي تميز المسيء من المحسن، والمذنب من البريء. إن الحيوان يفترس ويقتل ويلدغ ولا يعد مفسدا، لأنه محروم من العقل الذي يفرق بين الخير والشر، ولا يخضع لحدود الشريعة. وهكذا كان البشر قبل آدم، فإذا بلغ الإنسان من العقل مبلغا يؤهله لاتباع الشريعة.. كان عندئذ التمييز بين المفسد والمصلح، وأصبح منذ ذلك الوقت مطالبا على لسان آدم ألا يعتدي على حق غيره ولا يفسد في الأرض، وأصبح الحاكم المنفذ للشريعة مسئولا عن إعطاء كل ذي حق حقه. ومن خالف الشريعة فهو المفسد أو سافك الدماء.. الأمر الذي لم يكن معروفا قبل الشريعة.
ومن الطرائف الغريبة أن الإنجيل أشار إلى هذا المعنى ولكن بصورة ناقصة في رسالة بولس إلى رومية.”.. لأن الناموس ينشئ غضبا، إذ حيث ليس ناموس ليس أيضا تعدٍّ.. على أن الخطية لا تحسب إن لم يكن ناموس“”صح:4،5”. ولقد استدلت المسيحية بهذا المعنى الناقص استدلالا خاطئا إذ ظنت أن الشريعة محض عقاب، وأن المسيح الناصري هو الذي نجى الإنسان من هذا العقاب. وهكذا تغافلوا عن أنَّ الخطيئة سم. وهي ليست سما لأن الشريعة حسبتها كذلك، بل لأنها في حد ذاتها سم. ولذلك عدها الله تعالى معصية. إن وصف السم بالسمية لا يزيد من مضرته، بل إنه يفتح أمام الإنسان أبواب اجتنابه والنجاة منه. إن الطفل الصغير محروم من الوعي والشعور الصائب، ولذلك كانت أفعاله حرة مطلقة من المسؤولية، فإذا فعل ما يؤذيه أو يؤذي غير كان غير مسؤول عن فعله، لا لأن ما فعله ليس بشرّ.. وإنما لأن الطفل لا يقدر على التمييز بين الخير والشر. وعندما يبلغ الطفل مبلغ الإدراك والفهم الواعي يُحكم على فعله بالصواب والخطأ، وعلينا عندئذ أن نُعلمه الأوامر والنواهي.. أي ماذا يفعل وماذا يترك، وعليه أن يعمل وفق ما نعمله.. فإن فعل أصاب وإن خالف أخطأ.
وقصارى القول: إن سؤال الملائكة يعني أن حالة البشر سوف تتغير بعد نزول الشريعة وتعيين خليفة، وعندئذ سيكون منهم المفسدون وسفاكو الدماء طبقا لهذه الشريعة، وما كانوا من قبل الشريعة يدانون على مثل هذه الأفعال.. فاستفسارهم هذا في محله ويحتاجون شرحه وبيانه. ولم تكن الحكمة الإلهية ترمي إلى إدانة الإنسان ووصمه بالإجرام، وإنما كان الفكر الإنساني قد بلغ عندئذ من التقدم والدنو من الكمال بحيث تترك أفعاله هذه أثرا سيئا في قلبه، فلذلك أراد الله تعالى أن ينزل على البشر وحيه، فيصطفي آدم من بينهم خليفة ليقود البشرية إلى مكانتها المرموقة، ويسعى إلى تلك المثل العليا التي أصبح الإنسان مستأهلا لها.
وهنا نقطة جديرة بالذكر.. فكل ما قاله عز وجل عند استخلاف آدم قول صحيح تماما.. وتساؤل الملائكة أيضا تساؤل صائب.. والاختلاف بينهما إنما هو من ناحية وجهة النظر فقط. فالله تعالى كان يرى من استخلاف آدم تجليا عظيما لظهور سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم.. فآدم هو المرحلة الأولى لوضع البشرية على طريق الكمال.. الذي يصل إلى ذروته في شخص خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، بينما كانت الملائكة تخشى على البشرية من أجل مظاهر الشر المصطبغة بصبغة أبي جهل وأمثاله.
إن تأسيس الخلافة سيكون مدعاة لإنزال العقاب بطائفة معدودة من المفسدين والقاتلين، ولكن هناك طائفة أخرى قدر لها أن تتفوق على الملائكة أنفسهم، وتنال محبة الله والقرب منه. وهذه الطائفة الناجحة هي الغاية من خلق هذا المجتمع الإنساني المنظم. ولوجود هذه الطبقة الممتازة من البشر.. لا يجرؤ أحد على الإدعاء بفشل النظام البشري، بل إن كل واحد من أفراد هذه الفئة العليا لجدير بأن يُخلق هذا النظام من أجله. وأعلاهم شأنا وأحقهم بذلك.. هو محمد صلى الله عليه وسلم، الذي خاطبه الله تعالى فقال له: “لولاك لما خلقتُ الأفلاك“.
هذا الحديث القدسي ورد في حق المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقد تلقى أشخاص كمَّل إلهامات مماثلة. وهؤلاء الأبرار الكاملون لدليل على أن مشيئة الله هي الحكيمة ولم يكن لمخاوف الملائكة أي وزن.
وقول الملائكة: (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) يبطل الظن باعتراضهم على الله تبارك وتعالى، فهم الحامدون المقدسون، وما كان لحامد مقدس لله أن يعترض على أمر من الله عز وجل.. إنهم إنما يتساءلون عن ذلك لفهم حقيقة الأمر لا غير.
ويمكن أن يكون لهذه العبارة معنى آخر، فالملائكة يعبرون بقولهم هذا عن الشك في كمال عبادتهم لله قائلين: إننا نحمدك ونسبحك ونقدس لك بما في وسعنا، ولعل ضعفا قد حدث في عبادتنا هذه، فاقتضى ذلك خلق كائن آخر يكون ظلا لك. ومن ناحية هذا المعنى لا يكون في قول الملائكة مظنة الاعتراض، وإنما هو مظهر لطيف رائع لخشية الله تعالى، وهو الأجدر بشأن المقربين عند الله عز وجل.
وقوله: (قال إني أعلم ما لا تعلمون) جواب مجمل كافٍ لإقناع أمثال الملائكة المقربين.. لأنهم يعرفون عظمة الله عز وجل. فلما قال تعالى: إني أعلم ما لا تعلمون من المصالح العظيمة في خلق آدم أيقنوا بأنه هو الحق. ثم أراد الله تعالى أن يبين ذلك للأجيال المقبلة من بني آدم، ولذلك أورد جوابا مفصّلا كما سنرى في الآيات التالية.
ومما يجدر بالذكر أيضا أن القرآن الكريم يتميز عن الكتب السماوية الأخرى بأنه يجمع بين التسبيح والتحميد والتقديس. إن التسبيح يتضمن التنـزيه عن العيوب، وأهل السمو لا يقنعون بصفات التنزيه، لأن الكمال يتطلب الصفات الإيجابية الحقيقية. إن نفي بعض العيوب لا يعطي الصورة الحقيقية، ولكن ذكر الصفات الثابتة الإيجابية هو الذي يجلي الحقيقية. فمثلا لو قلنا إن الله تبارك وتعالى ليس بمادة، وأنه لا يجوع ولا يعطش، ولا يأخذ نوم ولا يطرأ عليه موت، ولا يخضع للأهواء.. تبين للسامع من قولنا هذا أن الله تعالى مختلف عن سائر الموجودات بعض الاختلاف.. ولكن لا يستبين له من ذلك عظمة الله وكبرياؤه بحيث يقدره حق قدره.
لقد اهتمت الديانات البدائية بناحية التنزيه والتسبيح، لأن العقل الإنساني لم يكن قد بلغ عندئذ مبلغا من كمال النشوء بحيث يدرك ناحية الحمد والتقديس. ولكن القرآن الكريم لم يُولِ للصفات الإلهية التنزيهية اهتماما كبيرا، وإنما أعطى للناحية التقديسية أعظم الأهمية، وبها يقدم للناس صورة واضحة جلية للصفات الإلهية لم يسبق لها مثال في الوضوح والشمول والتمام، بحيث يعرف الإنسان عن ربه ما يملأ قلبه حبًا وإجلالا لصاحب الحمد المطلق والقداسة التامة. وعلى سبيل المثال يقول القرآن الكريم عن الله تعالى أنه: (لا يموت)”سورة الفرقان:59″، (لم يلد)، (ولم يولد)”سورة الإخلاص:4″،(لا يُطعَم)”سورة الأنعام:15″، (لا تأخذه سنة ولا نوم)”سورة البقرة:256″.
إذا تأملنا هذه الصفات السلبية وجدناها لا تتحدث في الحقيقة عن عظمة الله، وإنما هي صفات تبطل معتقدات الشرك الشائعة في النصارى وأمثالهم من المشركين، الذين كانوا يصفون الله تعالى بصفات البشر. لقد صرح القرآن في هذه الآيات أن الآلهة التي تأكل الطعام وتمشي في الأسواق، وتولد من بطون الأمهات، وتتزوج وتنجب، وتنام ويغلبها النعاس من التعب.. ليست من الله تعالى في شيء.. إنه متعال عن كل ذلك علو كبيرا.
أما صفته (ليس كمثله شيء)”الشورى:12″، فهي أيضا ليست سلبية محضة، وإنما تبين أن الله تعالى ذكر لنا في القرآن الكريم صفاته الإيجابية الذاتية بصورة تقربها إلى فهمنا، ولكن علينا ألا ننخدع بها ونحسبها تشابه صفات الإنسان، فإنها في الحقيقة مختلفة عنها تمام الاختلاف. إن الله تعالى متكلم، ولكنه لا يتكلم بالكيفية التي يتكلم بها البشر بحيث يحتاج إلى لسان وحلق وشفاه وما إلى ذلك من أدوات النطق البشري. وهو يسمع ويبصر، ولكنه (ليس كمثله شيء) في سمعه وبصره. وهكذا يعرفنا القرآن الكريم بالصفات الإلهية الذاتية مع بيان اختلافها عن الصفات البشرية.
إن قول الملائكة: (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) إشارةٌ إلى ما يراه ذوو العرفان الكامل من عباد الله المقربين. إنهم لا يرون الله تعالى عن طريق صفاته التنزيهية السلبية، بل يتشرفون بعرفانه عن طريق صفاته الحقيقية الإيجابية. كما أنه إشارة أيضا إلى أن القرآن الذي يؤكد على وجود هذه الصفات الإيجابية الحقيقية.. سيكون ذريعة إلى خلق المظاهر الملائكية التي تهتم بالحمد والتقديس مع اهتمامهم بالتسبيح، وأنها ستقرب الوجود الإلهي إلى عباد الله بصفاته المتصلة بتجلي قدرته تعالى، ولن يقتصر اهتمامها على صفاته التنزيهية السلبية التي تجعله، جل وعلا، كما لو كان وجودا خفيا متواريا منقطعا عن عباده.
والحق أن الاتصال الكامل بالله عز وجل لا يمكن إلا بالتفكر في صفاته الإيجابية والانتفاع بها، ومن يتمسك بالتسبيح فقط فإنما يعترف بأن لله تعالى وجودا أسمى؛ لكن الذي يسبح بحمده فإنه يراه إلها حيا فعالا، ويُحظي به الآخرين أيضا.
لقد علم الله عز وجل أمة الإسلام بقول الملائكة هذا درسا عظيما، فعلى المسلمين ألا يكتفوا بتنزيه الله تعالى بالصفات السلبية، بل عليهم أيضا أن يذكروه بالصفات الإيجابية كي يستفيدوا منها ويحمدوه بها، ويكونوا بذلك الجواب العملي على تساؤل الملائكة، والبرهان الفعلي على أهمية خلق البشر بتفوقهم في التسبيح والحمد، ويصبحوا شهادة حاسمة على كمال حكمة الله عز وجل.
بعض مفاهيم الآية على ضوء آيات أخرى
أولا: إن آدم عليه السلام هو الحلقة الأولى من سلسلة النظام الإنساني، بدأ الله به نزول الوحي السماوي إلى الناس حسبما ورد في القرآن الكريم. وأود أن أكشف الغطاء عن أن آدم المذكور في هذه الآية لم يكن أبا البشر الذي بدأ به خلق الإنسان، فالقرآن الكريم لا يصدق هذا الزعم، ولا يقول بأن الله تعالى خلق آدم دفعة واحدة، ثم خلق زوجه حواء من ضلعه.. بل إن ذلك القول مأخوذ من التوراة وغيرها من الكتب، وعزوه إلى الإسلام افتراء عليه. جاء في التوراة: ” وقال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا، فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الأرض وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض. فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكرا وأنثى خلقهم، وباركهم الله، وقال لهم اثمروا واكثروا واملئوا الأرض.. وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقا، ووضع هناك آدم الذي جبله.. وقال الرب الإله: ليس جيدا أن يكون آدم وحده، فأصنع له معينا نظيره.. وأوقع الرب الإله سباتا على آدم فنام، فأخذ واحدة من أضلاعه، وملأ مكانها لحما، وبنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم، فقال آدم هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي، هذه تدعى امرأة، لأنها من امرئ أخذت“”سفر تكوين،صح 1 و 2”.
وتقول الكتب الهندوسية إن خلق الإنسان تم بصورة زوجية، إما بانشطار الإله إلى شطرين عند البعض، أو بانقسام (براهما) عند الآخرين، ومنه انتشر النوع الإنساني.
إن قصص خلق الإنسان هذه جاءت بأسلوب المجاز، ويبدو أن الكتاب المتأخرين ألحقوا بها زيادات هنا وهناك من عند أنفسهم فجاءت بهذه الصورة الأسطورية. ولكن هناك تشابها بين مختلف القصص الواردة في كتب الهندوسية، وتتفق في خطوطها العامة.
وقام “دارون” أحد علماء وفلاسفة العصر الحديث، بتقديم النظرية القائلة بنشأة جرثومة الحياة على الأرض، ثم أخذت تنشأ وتنمو بعد عدد من التطورات المتتابعة عبر الزمن الطويل إلى أن وصلت إلى طور الحيوانات المتنوعة، وأخيرا وصلت إلى نوع أشبه ما يكون بالقرد، ومن هذا النوع الحيواني تطور وجود الإنسان. فطبق هذه النظرية، جاء خلق الإنسان الحلقة الأخيرة من نشوء بذرة الحياة، و أن الإنسان لم يخرج إلى الحياة دفعة واحدة.
ولقد حاول بعض العلماء الألمانيين والفرنسيين المعاصرين تصوير المعتقدات الهندوسية والبابلية القديمة بقوالب العلوم الطبيعية.. فقالوا إن وجود الله هو الذي نشأ وتطور إلى وجود الإنسان، أو بعبارة أخرى: إن مبدأ النواميس الأزلية هو الذي تحول إلى صورة الإنسان.. الذي هو آخر طور من هذا الارتقاء المطرد.
أما القرآن فقد اختار طريقا بديعا لكشف أسرار خلق هذا الكون وإزالة الستار عن حقائقه الغامضة.. يختلف عن سائر هذه الآراء. يتبين من تعاليم القرآن أن سنة الارتقاء والتطور جارية في العالمين الروحاني والمادي دون مراء، وأن العالم المادي قد بلغ منتهى أوج كماله بعد تطورات ارتقائية طويلة، وكذلك وصل العالم الروحاني إلى قمة كماله بعد أن طوى مراحل الارتقاء الطويلة. ولكن القرآن الكريم لا يسلم بأن الإنسان كان آخر حلقة من سلسلة الارتقاء في الحيوانات المختلفة، وإنما يقول بأن التطور الإنساني مستقل بنفسه ومنفصل عن غيره من التطورات، وأنه ليس مجرد مظهر صادف التطور الحيواني، ويتبين ذلك من قوله تعالى: (ما لكم لا ترجون لله وقارا * وقد خلقكم أطوارا * ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا * وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا * والله أنبتكم من الأرض نباتا * ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا)”سورة نوح:14 إلى 19″.
يتبين من هذه الآية ما يلي:
- تدل كلمة “أطوار” على أن خلق الإنسان قطع أحوالا وحدودا ومراحل عديدة قبل أن يكتمل.
- أن خلق الإنسان بدأ قبل خلق السماوات و الأرض، وأن مراحله الأخيرة كانت من الأرض بعد ذلك.. أي أن مراحل الخلق الإنساني بدأت على صورة ما حينما كانت السماء والأرض مجرد دخان، ثم تطورت هذه الصورة فيما بعد إلى أن اكتملت صورة الإنسان على الأرض بعد خلق السماوات و الأرض.
- أنه بعد أن تجمعت المادة الدخانية وتكونت منها السماوات والأرض، دخلت مرحلة جديدة في خلق الإنسان، فبرز فيها وجوده من بطن الأرض إلى ظهرها كمثل النبات الضعيف الذي لا يتحرك ويستمد غذاءه من رطوبتها، ثم أخذ يتحول شيئا فشيئا إلى صورة وجود متحرك.
- أن ما يجري على الإنسان بعد موته لدليل على صدق ما يقرره القرآن بهذا الشأن. فالجسد يتحول إلى تراب، الأمر الذي يشهد على أن بدأ الخلق كان من الطين. ثم يقول: إن موت الإنسان وتحوله إلى التراب لا يعني أن جميع أجزائه تفنى وتفقد الحياة، بل يُبقي الله تعالى منه تلك الحالة المتطورة الدائمة بعد خلقه من الطين.. والتي يعيدها إليه ببعثة أخرى يحاسب فيها الإنسان بأعماله.
ومجمل القول إن خلق الإنسان بحسب تعليم القرآن، لم يكن دفعة واحدة ولا في وقت واحد، بل إنه تعالى أسس بنيان خلقه منذ بدأ خلق النظام الكوني، ثم أنبته من الأرض نباتا متطور النشوء في مختلف الأزمان، وأعطاه الصورة الإنسانية، ووهب له العقل والشعور.
ويذكر القرآن للإنسان حالة أخرى سابقة لتلك، وهي التي لم يوجد فيها حتى ولا جرثومته البدائية أو ذراته الأولى.. فيقول: (أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا)”سورة مريم:68″. وفي هذه الآية يقرر أن الله تعالى مؤلِّف مادة الخلق الإنساني بعد أن خلقها من عدم.
وآيات القرآن الكريم تتناول موضوع الخلق مشيرة إلى مراحله المتعددة، مثلا:
- (والله خلقكم من تراب).”سورة فاطر:12″.
- (الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين)”سورة السجدة:8″.
- (وهو الذي خلق من الماء بشرا..)”سورة الفرقان:55″.
- (وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون)”سورة الأنبياء:31″.
- (ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين)”سورة السجدة:9″.
ويتبين من هذه الآيات أن المرحلة الأولى لخلق الإنسان كانت دور نشأته من الطين، ثم لما تطورت نشأته بهذا الطريق أخذت ذريته تتناسل من ماء مهين.. (من مني يمنى)”سورة القيامة:38″.
ويتضح أيضا أن دور نشوء الإنسان من الطين يختلف عن دور تناسله من الماء المهين.
ثم إن القرآن فيما تحكيه آياته يبين لنا أن خلق الإنسان لم يكن بنشأة متطورة من الحيوانات الأخرى، بل إن الجرثومة الإنسانية منذ بدء الخلق كانت مستقلة بذاتها، مختصة لتكون بصورة الإنسان، فالله تعالى يقول في الآية إن ذرية الإنسان أخذت في التناسل بعد أن صار الإنسان بشرا سويا، ولكن التسليم بنظرية (دارون) يستلزم الإقرار بأن الإنسان كان يتناسل عن طريق الحيوانات حتى قبل أن يبلغ مبلغ البشرية.
وهناك آية أخرى تدلنا على كيفية الإنسان قبل أن يكون بشرا.. قال تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا).”سورة الدهر:2″.. أي أن الإنسان في هذا الدور من حياته لم يكن قد نشأت فيه القدرة الفكرية، ولم يكن عندئذ كائنا ناطقا عاقلا، وإنما كان كائنا منطويا على قوة كامنة للتقدم والتطور..
ثم تقول الآية التالية لها: (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه)”سورة الدهر:3″. وفي هذا إشارة إلى أن تناسل الإنسان بطريق النطفة بدأ بعد أن ظهر بصورة الكائن الحي، وكانت نطفته هذه أمشاجا، أي خليطا من القوى المتنوعة التي تميز النطفة الإنسانية عن نطفة سائر الحيوانات. ونطف الحيوانات الأخرى ليست بأمشاج، أي أنها ليست خليطا من قوى مختلفة، لذلك فليست الحيوانات قادرة على اختيار طرق مختلفة. ولكن البشر الذين خُلقوا من نطفة أمشاج فهم مختلفون في أمزجتهم، وقادرون على الاختلاف في اختيار الطرق. أما القِرد فيتمتع اليوم أيضا بنفس القوى التي كان يتمتع بها قبل آلاف السنين، وكذلك الأسد وسائر الحيوانات الأخرى.. ولكن ذرية الإنسان المخلوق من “نطفة أمشاج” اختلفوا عن آبائهم في أفعالهم وقواهم، فأصبحوا قادرين على التقدم المستمر في العلوم والفنون. وكأن في كلمة “نطفة أمشاج” إشارة إلى كون الإنسان حيوانا ناطقا.
وتكتمل الآية بقوله: (فجعلناه سميعا بصيرا)”سورة الإنسان:3″.
وهاتان الصفتان تدلان على المبالغة والكمال، وهما ميزتان تختصان بالإنسان دون سائر الحيوانات. الحيوان يسمع ولكنه ليس سميعا، لأنه لا يعقل أو يفكر في ما يسمع. وهو يبصر، ولكنه ليس بصيرا، لأنه لا يتفكر فيما يرى ولا يعمل عقله فيه. وهكذا فإن آدم كان أول مظهر لتلك القوى المودعة في النطفة الأمشاج والتي تجلت في الصفتين: السميع والبصير.
ولا يراد بالآيات السابقة النفي المطلق لوجود البشر قبل آدم، بل إنها تدل على أن الجنس البشري كان موجودا قبله، ولكن لم يتصف أحد منهم بهاتين الصفتين غير آدم (عليه السلام)، لأن قواهم لم تتطور إلى حد يؤهلهم لسماع كلام الله تعالى والنظر في آياته ومظاهر قدرته، فلذلك لم ينزل إليهم عندئذ الوحي السماوي، ولم يظهر الله لهم آياته الخاصة بالشريعة. ولما ترقى الإنسان وتقدم في نشأته حتى صار (سميعا بصيرا).. اصطفاه الله لكلامه، وشرفه بوحيه. وقد ورد في القرآن الكريم ما يوضح المراد بهاتين الصفتين من أنهما تدلان على النظر الفكري والفهم لآيات الله وتدبرها.. قال تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون * مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع. هل يستويان مثلا أفلا تذكرون)”سورة هود:24، 25″.
فالسميع البصير هو من عرف آيات الله فآمن بها وعمل الصالحات، وأما الذين لا يفطنون لها، أو لا يدركونها، أو يتعامون عنها ويعرضون.. فهم عمي صم.
مما سبق من الآيات يتبين أنت خلق البشر، كما يقدمه القرآن الكريم، لم يكن دفعة واحدة، ولم يبدأ بخلق آدم (عليه السلام)، بل إن آدم كان أول مظهر لحالة الكمال البشري التي استحق بها أن يدعى أنسانا حقيقيا جدير بحمل الشريعة. وبذلك جاز أن يكون آدم أبا البشر من الناحية الروحية، لأنه المبتدأ للعالم الروحاني، وكان أول إنسان تشرف بالوحي الإلهي، ولكنه ليس بالمحتم أن يكون أبا للبشر من الناحية الجسمانية، بل من الممكن أن يوجد عندئذ بعض بني نوع الإنسان من نسل أناس آخرين من البشر، منهم من آمن بآدم ومنهم من لم يؤمن به في حياته، ولكنهم لا زالوا يدخلون في نطاق المطالبين بالإيمان به.
وإذا تأملنا بعض آيات القرآن التي تتناول خلق آدم لتبين لنا أن النوع الإنساني لم يبدأ به، وأن كثيرين من البشر كانوا موجودين في عصره.. منها قوله تعالى:
(وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة * قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء).
وقوله: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم)”سورة الأعراف:12″.
وقوله: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما..)”سورة طه:116″.
وقوله: (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)”سورة الحجر 27.. 30″.
وقوله: (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)”سورة ص:72..73″.
فخلق الإنسان المذكور في هذه الآيات لا يشير إلى خلق آدم بذاته كما زعم بعض الناس، وإنما المراد به خلق البشر البدائي. ويجوز أن يكون الله تعالى قد أخبر الملائكة عند أول خلقه للبشر، بأن هذا البشر سيكون في يوم من الأيام المقبلة أحق بتلقي الوحي، ثم بعدئذ عندما حان استخلاف آدم أخبرهم مرة ثانية بقوله: (إني جاعل في الأرض خليفة)، وذلك بعد أن تمت تسوية آدم لهذا المنصب الجليل، كما أشار إلى ذلك بقوله: (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي).
ويصدق هذا المعنى قوله تعالى: (الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين * ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قيلا ما تشكرون)”سورة السجدة: 8.. 10″.
تبين هذه الآية أن ترتيب خلق الإنسان كما يلي:
- خلق الإنسان أولا من طين،
- ثم استمرار نسله بالنطفة المنوية،
- ثم تمام اكتمال القوى الإنسانية فيه،
- ثم بعد ذلك نزول الوحي الإلهي عليه.
فآدم الذي تشرف بكلام الله تعالى.. كان من ذرية الناس الذين خُلقوا من النطفة، وليس من الذين تطوروا من خلق الطين كحلقة أولى للبشرية.
وثمة آيات أخرى تدل على أن آدم (عليه السلام) لم يكن أول إنسان ظهر في الوجود، بل كان في عصره كثير من الناس غيره.. ففي سورتنا يقول الله تعالى: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة). ويصح من الناحية اللغوية أن يكون المراد بالزوج الأصحاب والجماعة، وبمعنى ذلك أن بني نوعه أيضا كانوا موجودين من قبله.
ثم قال عز وجل بعد هذه الآية: (وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو * ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ).. وهنا الخطاب للجماعة، وبعدها قال: (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) وقال أيضا: (قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى *)”سورة طه:124″.
وخطاب آدم هنا يراد به جماعة آدم وجماعة الشيطان، وهما الجمع.
ولعل هناك من يتساءل عن أن مفهوم الآية الأخيرة يدل على أن الشيطان كان من جنس البشر، مع أن القرآن ينص على اختلاف جنسيهما حيث قال: (قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك، قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين)”سورة الأعراف:13″، وفي موضع آخر قال عن الشيطان: (كان من الجن ففسق عن أمر ربه) “سورة الكهف:51”.
كما جاء في الجن قوله تعالى: (وخلق الجان من مارج من نار)”سورة الرحمن:16″.
وجوابنا على ذلك بأن القرآن يفرق بين إبليس والشيطان، فحيثما ذكر الامتناع عن السجود لآدم نسبه إلى إبليس، وحينما ذكر محاولة إغواء آدم أسندها إلى الشيطان.. وإليكم بعض الشواهد:
- (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس، أبى واستكبر وكان من الكافرين)،.. (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه).”سورة البقرة:35،37″.
- (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس. لم يكن من الساجدين)،..(فوسوس لهما الشيطان..)”سورة الأعراف:12، 21″.
- (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى)، (فوسوس إليه الشيطان) (سورة طه: 117، 121)
واختلاف الكلمتين في كل مرة لا يخلو من حكمة، والقرآن الحكيم يرعى الحكمة في كل كلمة من كلماته، فمن المستحيل أن يكون الاختلاف بين الكلمتين فيه دون حكمة.. فلزم أن يكون الممتنع عن السجود غير الذي حاول الإغواء.. ولذلك أطلق على الأول اسم: إبليس، وعلى الثاني اسم: الشيطان.
أما الجواب الأجدر بالاعتبار، فهو أن القول بخلق الجان من النار لا يعني ولا يستلزم أن يكون إبليس أو الجن قد خلقوا فعلا من النار المادية، وإنما يدل هذا الأسلوب اللغوي العربي على أن إبليس كان مطبوعا على طبائع نارية من التمرد والعصيان. ومثل هذا الأسلوب ورد في القرآن الكريم في مواضع أخرى مثل: (خلق الإنسان من عجل سأوريكم آياتي فلا تستعجلون)”سورة الأنبياء:38″، و (الله خلقكم من ضعف)”سورة الروم:55″.
والخلاصة:
- أن خلق آدم كما أخبر القرآن الكريم.. لم يتم دفعة واحدة، بل إن الجزئيات الدقيقة تطورت في نشوئها، ومرت بمراحل عديدة مختلفة إلى أن تحولت للصورة الإنسانية.
- أن مكونات الإنسان منذ بدايتها في أبسط صورها كانت مهيئة لتكون في النهاية ذلك الكائن البشري، وليس كما زعم الفلاسفة.. نتيجة تطور مصادف في الحيوانات المختلفة.
- أن الوجود البشري الأول لم يكن يتلقى الوحي السماوي، ولكن جيلا من سلالته التي خلقت من النطفة هو الذي وصل إلى حد من الكمال أهّله لتلقي الوحي، وأول من حاز هذا المقام الجليل هو مَن أسماه القرآن الكريم.. آدم.
- أنه كان قبل آدم، وفي زمنه، كثيرا من بني جنسه. وقد اختار الله تعالى آدم ليكون خليفة يجمع شملهم بنظام وهداية سماوية، وأن معاصريه هؤلاء معه في تلك الجنة الأرضية التي عاش فيها، وأنهم أخرجوا منها أيضا معه.
وأذكر في هذه المناسبة حوارا جرى بين مؤسس الجماعة الأحمدية وبين مُنجم أسترالي حول مسألة خلق آدم. وقد زار هذه المنجم عدة مدن في الهند والتقى معه في لاهور حيث دار بينهما هذا الحوار:
سؤال: ورد في التوراة أن آدم أو الإنسان الأول ظهر في أرض جيحون وسيحون، وقطن هناك، فهل هؤلاء المقيمون في أمريكا وأستراليا وغيرها هم أيضا من أبنائه؟
جواب: لسنا نقول بذلك، ولا نتبع التوراة في هذه القضية.. فنقول بما تدعيه من أن الدنيا بدأت بخلق آدم منذ ستة أو سبعة آلاف عام، ولم يكن قبل ذلك شيء، فكأن الله عز وجل كان متعطلا. كما أننا لا ندعي أن بني نوع الإنسان الذي يقطنون اليوم في مختلف أنحاء الأرض هم أولاد آدم هذا الأخير، بل إننا نعتقد بأن بني الإنسان كانوا موجودين قبله.. كما يتبين من كلمات القرآن الحكيم.. (إني جاعل في الأرض خليفة). فلا يمكن لنا الجزم بأن سكان أستراليا وأمريكا من أولاد آدم هذا، ومن الجائز أن يكون بعض الأوادم الآخرين.
وأشير بهذا الصدد إلى كشف عجيب رآه الشيخ محي الدين بن عربي، وهو شخصية إسلامية بارزة، فقد قال:
“ أراني الحق تعالى فيما يراه النائم.. وأنا أطوف بالكعبة مع قوم من الناس لا أعرفهم بوجوههم، فأنشدونا بيتين نسيت أحدهما وأذكر الثاني وهو:
لقد طفنا كما طفتم سنينا بهذا البيت طرًا أجمعينا
فتعجبت من ذلك. وتسمى لي أحدهم باسم لا أذكره، ثم قال لي: أنا من أجدادك. قلت:كم لك منذ مت؟ فقال: لي بضع وأربعون ألف سنة. فقلت له: فما لآدم هذا القدر من السنين؟! فقال لي: عن أي آدم تقول، عن هذا الأقرب إليك عن غيره؟ فتذكرت حديثا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله خلق مائة ألف آدم، وقلت: قد يكون ذلك الجد الذي نسبني إليه من أولئك “.”كتاب الفتوحات المكية،ج3، الفصل الخامس في المنازلات، باب 309”.
يفهم من هذا الكشف أن آدم الموحى إليه، والذي ينتسب إليه بنو آدم اليوم، لم يكن آدم الأول، بل إنه آخر الآوادم. وكذلك يظهر منه أن كلمة “آدم” قد تستعمل كصفة أيضا بمعنى الجد الأكبر، وأن الوجود البشري مازال مستمرا منذ أقدم العصور، وأن الدور المذكور في الأحاديث النبوية الشريفة.. والمحدد بسبعة آلاف سنة.. إنما أريد به دور آدم الأخير فقط.. وليس أدوار البشرية جمعاء.
ورب سائل يقول: إذا كان الجيل البشري موجودا قبل آدم المذكور، وأنه تتابعت ولادته عن نطفة، فلماذا إذن يقول القرآن الحكيم بأن الخلق من زوجين؟.. ولماذا قيل في الحديث النبوي أن المرأة قد خلقت من ضلع أعوج؟
والجواب على ذلك أن الآيات المتضمنة لهذا الموضوع.. لا تذكر آدم بتاتا، بل إنها تصرح بأن الله تعالى خلق الإنسان من نفس واحدة وجعل منها زوجها.. فيقول:
- (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها.. وبث منهما رجالا كثيرا ونساء. واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام..)”سورة النساء:2″.
- (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها، فلما تغشها حملات حملا خفيفا فمرت به، فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين) “سورة الأعراف:190”.
- ( خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها..)”سورة الزمر:7″.
ولا يراد بالنفس الواحدة هنا البشر الأول أو آدم “عليه السلام”.. وإنما يراد بها أن الأفراد والآحاد تنشأ منهم الأمم الكبرى، وأن الأجيال إذا اقتفت آثار آبائهم صاروا مثلهم.. إنْ كفارا فكفارا، وإن مؤمنين فمؤمنين.
أما قوله تعالى: (جعل منها زوجها) فيعني أنه تعالى خلق زوجها من نوعها ليكون الزوجان متجانسين.. يؤثر أحدهما في الآخر.
ولا ينخدعن أحد بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالنساء خيرا فإن المرأة خُلقت من ضلع)”صحيح مسلم، كتاب الرضاعة، باب الوصية بالنساء”.. فالحديث لا يختص بزوج آدم، بل يخص جميع نساء العالم، وهيئة ولادة النساء معلومة مشهودة، ولا يريد الحديث المعني الظاهري للضلع، بل إن المراد به: (فإنهن خلقهن من ضلع استعارة للمعوج، أي خلقن خلقا فيه الاعوجاج)”كتاب مجمع بحار الأنوار، ج1، للشيخ محمد الطاهر”.
والخلاصة أن الآيات السابقة والحديث المذكور.. لا يدلان على أن آدم الذي جعله الله خليفة كان هو أول البشر، أو أن زوجته خلقت من جسمه، ولكن الآيات تتناول جميع بني الإنسان كقاعدة كلية شاملة لجميع هذا النوع رجالا كانوا أو نساء.
تمدُّن آدم
ولما كان آدم “عليه السلام” هو أول من جعله الله تعالى خليفة في هذه الأرض، كي يقيم التمدّن الإنساني، وهو الهدف الحقيقي من بعثته واستخلافه.. كان من المناسب هنا أن نذكر المبادئ التي تأسس عليها تمدن آدم:
- نظام الزواج: إذ شُرع لأتباعه ما لم يكن قد عرفوه من قبل علاقة شرعية محددة بين الرجل والمرأة طبقا لأمر الله تعالى: (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة).”سورة البقرة: 36″.
- نظام التحليل والتحريم: فقد بدأ الأمر بالعمل طبقا لبعض الأحكام والنهي عن بعض الأعمال كما قال تعالى: (وكلا منها رغدا حيث شئتما.. ولا تقربا هذه الشجرة..)”سورة البقرة: 36″.
- نظام التعاون على تهيئة وسائل الطعام والشراب للجميع.
- نظام الكساء.
- نظام السكن.
ويجمع هذه النظم الثلاثة الأخيرة قول الله تعالى: (إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى)”سورة طه 119،120″. وليست هذه صورة مفصلة لجنة آدم كما زعم بعضهم خطأ، بل إنها الصورة المرسومة لتمدن آدم والتي دعا إليها المجتمع الإنساني الأول. إن اجتماع الناس يؤدي أحيانا إلى حرمان قسم من الناس من وسائل الغذاء والكساء، فعلى الآخرين الذين يتمتعون بخيرات التمدن أن يسعوا جهدهم لسدّ هذا الفراغ، ويتعاونوا على إعانة الفقراء والمسنين والعاجزين، ويهيئوا لهم حاجتهم من الغذاء والكساء والخباء.
الخلافة
إن كلمة ” خليفة ” تطلق على المعاني التالية:
- الذي يخلف عن قوم أو شخص خلا.
- الذي ينوب عن حاكم أعلى في حياته لتنفيذ أحكامه ببلد آخر.
- الذي يقوم من بعد شخص ليضطلع بسلطاته ويدير أعماله، أو يواصل نسله وولده.
ولكن معنى هذه الكلمة في القرآن الكريم يتردد في ثلاثة استعمالات:
- الخليفة بمعنى النبي، كما في آيتنا الحالية؛ لأن فضيلة آدم لا تتوقف على مجرد الأبوة لجيل جديد، بل إن فضيلته الكبرى هي تشرفه بالنبوة كما تصرح هذه الآية. وقد وُصف داود “عليه السلام” بهذه الصفة في قوله تعالى: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله..)”سورة ص: 27″.
- الخليفة من يخلف عن قوم هلك من قبل.. كما جاء على لسان هود”عليه السلام”: (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح..)”سورة الأعراف:70″.
- الخليفة الذي يخلف عن نبي ويقتدي بأثره، ويوجه قومه إلى شريعته، ويجمع شمل أمته من الأنبياء كان أو غيرهم..كما قال موسى لهارون “عليهما السلام”: (اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين)”سورة الأعراف:143″.
والأمة الإسلامية موعودة في القرآن بهذه الأنواع الثلاثة من الخلافة وعدا مؤكدا، لكن مع الأسف ظل المسلمون معرضين عن هذه الحقيقة فلم يستفيدوا بنعمة الخلافة حق الاستفادة، وفقا لقوله عز وجل: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني لا يشركون بي شيئا، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون)”سورة النور:56″.
ولقد أوفى الله عز وجل بوعده في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ أورث المسلمين مكانة الأمم الخالية، وأهلك أعداءهم ودمرهم تدميرا. فلو تمسك المسلمون بالإيمان والعمل الصالح لظل عزهم وشرفهم ثابتا شامخا، ولكنهم، وأسفاه، انصرفوا بعد برهة من الزمان عن الدين، واندفعوا نحو الدنيا.
إن الجماعة الإسلامية الأحمدية تعتقد أن الله تعالى قد فتح بمؤسسها مرزا غلام أحمد (عليه وعلى مُطاعه الصلاة والسلام) أبواب النبوة المحمدية النابعة من معين سيده وسيدنا ومولانا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم.. تلك النبوة اللائقة بشأنه الأجلّ الأعظم، والمختصة بأمته فقط، والتي تعكس أنوار كمالاته صلى الله عليه وسلم، لأجل إصلاح هذا العصر الغاصّ بالفتن، ولاسترداد مجد الإسلام الغابر، وبهذه الجماعة جدد الخلافة للأمة المسلمة، وأنشأ بها جماعة نشيطة تلبي دعوة الخلافة إلى خدمة الإسلام، ولا تزال بفضل الله تعالى، وببركة الاقتداء الكامل بالمصطفى صلى الله عليه وسلم ساهرة على الكفاح المتواصل لاستعادة حقوق الإسلام والمسلمين في جميع أنحاء العالم. وليس ببعيد ذلك اليوم المبارك الذي تعلو فيه كلمة الإسلام الحق، وتندحر جموع الكفر.. مصداقا للبشارة الإلهية: (سيهزم الجمع ويولون الدبر)”سور القمر:46″.. إن شاء الله، وهو على كل شيء قدير.
الملائكة
وفي هذه الآية الكريمة جاء ذكر الملائكة، ويحسن بنا أن نذكر هنا ببعض التفصيل، إذ إن الجيل الجديد من الشبان المتأثرين بالفلسفة العصرية.. بعد أن أخطئوا الطريق إلى معرفة الله تعالى، وتقاصروا عن إدراك وجوده وصفاته عز وجل، ظنوا أن وجود الملائكة باطل لأنه ينافي الألوهية؛ والذين لم تزل بهم عقيدة دينية طمأنوا أنفسهم بقولهم إن الملائكة ليست إلا من قبيل المشاعر الصالحة التي يختلج بها قلب الإنسان.
والواقع أن وجود الملائكة لا يتعارض أبدا مع كمال الألوهية، وأيا كانت الصورة التي اخترتموها من هاتين الصورتين، فإن وجود الملائكة لا يكون مظنة الارتياب والاعتراض. فإذا كان الله تعالى فعالا منذ الأزل تسألنا: هل كان يتخذ عندنئذ وسائط من مخلوقه لأجل القيام بأعماله.. أي هل كانت هناك سنن طبيعية لوجود هذا الكون عند بدء الخليقة.. أم كان كل تطوّر يحصل بنفسه دون أي قانون أو سبب.. كعجائب الشعوذة والسحر؟ ولئن سلّمنا بأن كيان هذا العالم وبنيته تقتضي خضوع كل تطور حادث فيه لقاعدة أو سنة ما.. اضطررنا للتسليم بأن الله عز وجل خلق بعض الوسائط لتكوين هذا العالم، وأصدر سننا خاصة سببت وجود هذا العالم بهذه الصورة. فإذا سلمنا بذلك، ولا بد من التسليم، فلا مفر إذن من الإقرار بأن وجود الملائكة أربأ وأسمى عن الاعتراض، لأنه إذا لم يكن اختيار وسيلة ما منافية بقدرة الله تعالى فإن اختيار وسيلة غيرها لا يعد أيضا منافيا لقدرته عز وجل.
وكذلك إذا اعتقنا بأن لله عز وجل علاقة فعالة بإدارة هذا العالم اليوم أيضا، فلا داعي إذن إلى الاعتراض على وجود الملائكة.. فإن الله تعالى يستعمل النطفة الإنسانية للولادة، ويبرد غليل الإنسان بالماء، وينور على العالم بالشمس.. وإذا كانت هذه الوسائط لا تنال من قدرته، فكيف يكون توسيطه تعالى للملائكة في إدارة نظام هذا الكون مدعاة إلى المساس بكبريائه وجبروته؟
والحق.. كما يتبين من القرآن، وتصدقه نواميس القدرة الإلهية، أن الله عز وجل، بقدرته الكاملة أخضع نظام العالم لقانون واسع متشعب.. يقول تعالى: (رفع سمكها فسواها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها)”سورة النازعات:29،30″، وتدلنا هذه الآية على أن النظام السماوي مؤسس على قانون كامل.. منه ما هو خفي كالليل، ولا يتبين إلا بإمعان النظر وإمعان التدبر؛ ومنه ما هو ظاهر واضح وضوح النهار، ويتبين من الوهلة الأولى.. هذان النوعان من نواميس القدرة بيِّنان للناظرين فيهما، فالشمس والقمر مثلا يعرف الناس بعض تأثيراتهما، ولكن بعض أسرارها في غاية الخفاء حتى أن العلماء المتخصصين لا يزالون يبحثون فيها لمعرفة أسرارهما.
إن أول حلقة في سلسة العلل والمعلولات هي الملائكة. فالقول بأن وجودها ينافي القدرة الإلهية وهمٌ أوهى من بيت العنكبوت.. فإن العالم كله قائم على آلاف العلل والمعلولات، ولا يقول عاقل بأن هذه القوانين تتعارض مع قدرة الله تعالى، فكيف يكون وجود الملائكة كحلقة أولى في السلسلة مما ينال مع قوته وسلطانه عز وجل. إذا كان النور سببا لإبصار العين، وذبذبات الهواء علة لحاسة السمع.. ولا يمس ذلك قدرة الله، فكذلك وجود الملائكة كعلة في إدارة نظام هذا الكون لن ينال شيئا من قدرة الله تعالى.
وكما أن الملائكة هي العلة الأولى لخلق الإنسان، كذلك هي العلة النهائية للاتصال بالله تعالى. يقول عز وجل: (وإن إلى ربك المنتهى)”سورة النجم: 43″.. أي أن المصير النهائي لكل مخلوق لإلى الله تعالى. وهذا الاتصال الأخير يتم عن طريق الملائكة كما يفهم من قوله تعالى: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا)”سورة غافر:8″.
ونوجز القول هنا عن الملائكة بأنهم كائنات روحانية، خلقهم الله تعالى كالحلقة الأولى في خلق العالم المادي، وجعلهم المدبرين له. وهم ليسوا عند الله تعالى كأصحاب الحظوة المقربين عند الملوك؛ بل إن الله تعالى أوجدهم سببا مبدئيا وعلة أولى لإدارة نظام هذا العالم، ولإجراء التطورات والتغيرات الظاهرة في الكون، وهم لا يبرحون قائمين على إحداث التطورات في العالم بإذن الله تعالى، وطبق القواعد التي حددها عز وجل.
إن الذين مروا بتجارب روحية أتيحت لهم معرفة الملائكة ومشاهدتهم، فقد ورد في الإنجيل نزول الملائكة على بعض الصالحين والصالحات، ونزول جبريل على المسيح الناصري (عليه السلام). وذكر القرآن الكريم والأحاديث النبوية نـزول الروح الأمين جبريل على سيدنا ومولانا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم. وفي هذا العصر حظي مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية بهذا الإتصال الملائكي. كما إنني تشرفت شخصيا ببعض المشاهدات بفضل الله تعالى ورحمته. إن الذين يحسبون الملائكة مجرد قوى كامنة في الإنسان يبنون رأيهم على الوهم والجهل وإنكار تجارب الصادقين، ولكن المرء إذ نال المشاهدة الشخصية لا يمكن له إلا اليقين بحقيقة وجودهم.
إن هذه الآية الكريمة تشكل الدليل الناصع على أن من سنة الله المستمرة بعث الأنبياء عند مقتضى الحاجة إليهم، وأنه تعالى عند ذلك يخبر ملائكته بخبر ظهور النبي، فينشط كل منهم في نطاق عمله، ويحرك في الأجواء التيارات الخاصة بتأييد ذلك المبعوث ونصرته.
وتحمل الآية أيضًا الإشارة إلى أن مثل هذا الاعتراض ليس بمستغرب أو مستبعد عند بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعند نزول القرآن الكريم، بل كان لا بد من ذلك وفقا لسنة الله المتواترة منذ آدم “عليه السلام”.