يقول تعالى :
اهدِنَـــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ
للتدبر في معنى الصراط المستقيم في القرآن الكريم حسب المنظور النبوي وفهم سلف الأمة نقرأ في تفسير ابن كثير للآية أعلاه :
“وأمّا {الصراط المستقيم} فهو في لغة العرب: الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، ثم تستعير العرب الصراط في كل قول وعمل وصف باستقامة أو اعوجاج، واختلفت عبارات المفسرين من السلف والخلف في تفسير {الصراط}، وإن كان يرجع حاصلها إلى شيء واحد وهو (المتابعة للّه وللرسول) فروي أنه كتاب اللّه، وقيل: إنه الإسلام، قال ابن عباس: هو دين اللّه الذي لا اعوجاج فيه، وقال ابن الحنفية: هو دين اللّه الذي لا يقبل من العباد غيره، وقد فسّر الصراط بالإسلام في حديث (النواس بن سمعان) عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: “ضرب اللّه مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبوابٌ مفتَّحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داعٍ يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تعوجوا، وداعٍ يدعوا من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويْحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجْه، فالصراط الإسلام، والسوران حدود اللّه، والأبواب المفتحة محارم اللّه وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب اللّه، والداعي من فوق الصراط واعظ اللّه في قلب كل مسلم (رواه أحمد في مسنده عن النواس بن سمعان وأخرجه الترمذي والنسائي) وقال مجاهد: الصراط المستقيم: الحق، وهذا أشمل ولا منافاة بينه وبين ما تقدم ..” أ.هـ
فالواضح من كلام المفسر أن الصراط الذي ينشده المؤمنون داعين الله تعالى أن يرزقهم إياه إنما هو سبيل وطريق ونهج النبيين فما دونهم كما يلي :
“قوله تعالى {صراط الذين أنعمت عليهم} مفسّر للصراط المستقيم، والذين أنعم اللّه عليهم هم المذكورون في سورة النساء: {ومن يطع اللّه والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن ألوئك رفيقا}، وعن ابن عباس: صراط الذين أنعمتَ عليهم بطاعتك وعبادتك من ملائكتك وأنبيائك والصدّيقين والشهداء والصالحين، وذلك نظير الآية السابقة، وقال الربيع بن أنَس: هم النبيّون، وقال ابن جريج ومجاهد: هم المؤمنون، والتفسير المتقدم عن ابن عباس أعم وأشمل.” أ. هـ
وذلك يكون في الحياة الدنيا باتباع سنتهم وهديهم للرقي الروحي متابعة لما استنوه من نهج رباني حيث يقول المفسر عن ذلك نقلا عن ابن جرير رحمة الله عَلَيْهِ :
“قال ابن جرير رحمه اللّه والذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي أن يكون معنياً به وفقنا للثبات على ما ارتضيته ووفقت له من أنعمت عليه من عبادك من قول وعمل، وذلك هو الصراط المستقيم لأن من وُفِّق لما وفِّق له من أنعم عليهم من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين فد وفّق للإسلام.” أ.هـ
ويكون في الآخرة بنوال المنازل الرفيعة التي خصصت للأنبياء فما دون، فنقرأ من نفس التفسير للآية ٦٩ من سورة النساء {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا} ما يلي :
“أي من عمل بما أمره اللّه به ورسوله وترك ما نهاه اللّه عنه ورسوله، فإن اللّه عزّ وجلَّ يسكنه دار كرامته، ويجعله مرافقاً للأنبياء ثم لمن بعدهم في الرتبة، وهم الصديقون، ثم الشهداء، ثم عموم المؤمنين، وهم الصالحون الذي صلحت سرائرهم وعلانيتهم، ثم أثنى عليهم تعالى، فقال: {حسن أولئك رفيقاً}” أ.هـ
كما يسوق صاحب التفسير الرواية التالية من صحيح البخاري للتدليل على الأجر الأخروي وتباين منازل الأنبياء عمن هم دونهم:
“قال الإمام مالك بن أنس عن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : “إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم”، قالوا: يا رسول اللّه تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: “بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدَّقوا المرسلين” (أخرجه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم) قال تعالى: {ذلك الفضل من اللّه} أي من عند اللّه برحمته، وهو الذي أهّلهم لذلك لا بأعمالهم، {وكفى باللّه عليماً} أي هو عليم بمن يستحق الهداية والتوفيق.” أ.هـ
الكلام واضح من كلام النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم) وصحابته (رضوان الله عليهم أجمعين) بالوصول لمقام الأنبياء.
فالصراط المستقيم المنشود حسب ما سبق إنما يكون في الدنيا بمتابعة وتطبيق هدي النبيين بالدرجة الأولى للثبات على الحق والترقي الأخلاقي والروحي وتلك هي النعمة أن يفتح الطريق للوصول إلى أعلى سلم ذلك الرقي (الصراط المستقيم للنبيين) ونيل تلك الدرجة العالية الرفيعة (النبوة) في أعلى السلّم الهرمي الذي أثبته الله تعالى في القرآن الكريم تنازليا من النبوة فالصديقية فالشهادة فالصالحية فما دونها. يتضح من كل ما سبق أن النبوة كمقام لم تغلق في هذه الأمة ما دامت لا تخالف النبوة الأعلى الخاتمة أي نبوة سيدنا محمد (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم) التي هي فوق كل نبوة لما حازته من تشريف بالشريعة الكاملة التي لن تمحى ولن تزول يوما ولن يخلفها شرع آخر أو يعدّل في بنودها، وهكذا تكون النبوة التي أثبتها الله تعالى كأعلى مرتبة يطلبها العبد في الحياة الدنيا باتّباع النبوة الخاتمة (صراط الذين أنعمت عليهم) أي سبيل الأنبياء وَعَلَى رأسهم محمد المصطفى (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِه وَسَلَّم) مفتوحة للتنافس الروحي بين المؤمنين مهما صعب الطريق أو استحال، ولذلك فالمسيح الموعود في الأحاديث المتواترة عن النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم) الذي قال عنه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم) بأنه إمام منكم أي من المسلمين هو الذي نال هذا الشرف عن طريق الاتّباع الكامل للهدي النبوي الشريف حتى حظي بالمكالمة الإلهية الكثيرة (تلقي الوحي الإلهي كما في الحديث الصحيح) وكلّفه الله تعالى بإصلاح حال هذه الأمة التي انقسمت إلى فرق ومذاهب وطوائف مختلفة فيما بينها.
وبذلك نكون قد أثبتنا من كتاب الله تعالى وهدي نبيه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم) وأقوال أهل العلم دوام نعمة النبوة في هذه الأمة المباركة التي هي خير الأمم والتي قيل عن صلحائها بأنهم أظلال الأنبياء (علماء أمتي كأنبياء بني اسرائيل) وغير ذلك من كرامات ثابتة لمن انتهج سبيل النبيين والصالحين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ولا نعني بدوام نعمة النبوة أن النبوة التكليفية أي التي يتطلب الإيمان بصاحبها وعدم الكفر به مفتوحة لمن شاء وأحب، بل هي مغلقة إلا للمسيح الموعود عَلَيهِ السَلام، لأن هذا ما أخبرنا به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وهو ما ينتظره المسلمون فضلاً عن باقي أهل الأديان. فهذه النبوة التكليفية محصورة بالمسيح الموعود عَلَيهِ السَلام وحده، ولذلك قال عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام أن لا نبي بعدنا. أما النبوة التي قصدناها بالفتح فهي نبوة المقام أي التشريف الإلهي، وهذا لا يتطلب الإعلان ولا يترتب عليه كفر أو إيمان، أي هو مقام بين العبد وربه فقط. هنالك بالتأكيد من وصلوا لمقام النبوة في هذه الأمة وهو مصداق قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم “علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل” أي مماثلة؛ مقام. أما الحالمون الذين يدّعون النبوة بعد المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام فقد خالفوا المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام وهو ما يقضي على هذا الإدِّعاء قضاء مبرما. فهذا ما وفقنا الله تعالى إليه.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ