شرط النبوة والرسالة الأساس هو الإظهار على الغيب، وفقا لقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (الجن 27-28)، وهو الذي تتفرع منه شروط النبوة الأخرى، ولكن ما المقصود بالإظهار على الغيب؟
الإظهار على الغيب لا يعني مجرد كثرة الرؤى والكشوف، بل المقصود بها أن هذا الغيب الكثير ينبغي أن يحتوي أنباء البشرى والإنذار، لقوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} (الأَنعام 49)؛ وتكون البشرى للمؤمنين الذين يؤمنون بالنبي بالغلبة والظهور على عدوهم، ويكون الإنذار للعدو بنزول العذاب أو الهلاك إذا تحدى النبي أو عاداه وأصر على عدواته ولم يتب ويرتدع.
والمعنى الآخر للإظهار على الغيب هو أن النبي يأتي محمولا على الغيب وظاهرا عليه وكأنه يركبه؛ وهذه صورة تمثيلية تجعل الغيب وكأنه موجة عالية يأتي النبي راكبا عليها. والمقصود هو أن هنالك أنباء غيبية سابقة جاءت من قبل على لسان أنبياء سابقين تصف زمان بعثته وعلاماته ومهمته، فعندما يحين وقتها تأتي ويشهد الناس تحققها، ثم يشهدون مجيء النبي مصداقا لها وكأنه فوقها؛ أي أن هذه الأنباء تظهره، وهو يتسنمها ويظهر عليها وكأنه يأتي راكبا عليها.
ونظرا إلى ما سبق، نجد أن هذا هو الجذع المشترك الذي يشترك فيه الأنبياء جميعا، مهما اختلفت أزمنتهم ومهامهم وأممهم. فلا نبي إلا من كان ظاهرا على الغيب بالمعنيين السابقين.
ونظرا إلى ما سبق أيضا، نجد أن المسيح الموعود الموعود نبي دون أدنى شك، لأن هذه المواصفات قد انطبقت عليه انطباقا تاما، بل يندر أن نجد نبيا – بخلاف سيدنا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم – قد جاء وفقا لهذه الأنباء الكثيرة الكثيفة، وقدَّم هذا القدر من البشرى والإنذار. فمعلوم أن المسيح الموعود قد جاء مصداقا للأنباء الكثيرة عن نزول المسيح في آخر الزمان وظهور المهدي وظهور الفرقة الناجية وعودة الخلافة على منهاج النبوة، وهذا ما يتعلق بالمعنى الأول للإظهار على الغيب. أما يتعلق بالمعنى الثاني الذي يقصد به كثرة الأنباء بالبشرى والإنذار، فمعلوم أن حضرته عليه الصلاة والسلام قد بشر الجماعة بالنصرة التي تحققت وتتحقق وبازدهار هائل خارق للعادة نلمس الآن بوادره بفضل الله، كما أنه اشتهر بالإنذارات لخصومه معارضيه من الأديان المختلفة الذين نزل على كثير منهم العذاب وفقا لأنبائه بصورة فائقة مذهلة، ومنهم من ارتدع وتراجع وفقا للأنباء وخُفِّف عنه العذاب أو رُفع.
أما كون نبوته غير مستقلة وظلية ونالها بفنائه في حب النبي صلى الله عليه وسلم وطاعته، فهذه قيود تفرضها خاتمية النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها لا تغيِّر في حقيقة أن نبوته عليه الصلاة والسلام هي نبوة حقيقة وفقا لمعيار للقرآن الكريم، وجاءت الأحاديث في تصديقها.
لذلك، من الخطأ الظن أن حضرته قد أصبح نبيا لمجرد كثرة الرؤى والكشوف، أو أن مجرد كثرة الرؤى والكشوف المزعومة عند شخص ما، التي كثيرا ما يداخلها نفث الشيطان وحديث النفس، إنما هي علامة على النبوة أو الاقتراب منها أو حتى على الصلاح؛ وهذا ما أوضحه حضرته وفصله تفصيلا في كتابه حقيقة الوحي، وفي مواضع أخرى من كتبه.
أما رؤى الصالحين وكشوفهم فلا تكون كثيرة بكثرة وحي الأنبياء، ولا تتحلى بصبغة التبشير والإنذار التي تخص عالَما من الناس، وكثيرا ما تكون تخصهم هم أو محيطهم الضيق وما يتعلق بهم، وقليلا ما تتعلق بغيرهم أو تكون ذات صبغة عالمية. والصالحون الحقيقيون لا يشيعونها، بل يعتبرونها من أسرار العلاقة الخاصة بينهم وبين الله تعالى، ولا يحدثون ببعضها إلا للخواص، ولا يعلنون شيئا من وحيهم إلا بأمر من الله تعالى؛ إذ يعتبرون أن الأصل هو الكتمان.
أما أن طاعة الله والرسول في هذه الأمة تورث المقامات التي منها مقام النبوة وفقا لقوله تعالى:
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } (النساء 70)
فهذا لا يعني أنه – بخلاف الذي جاء ظاهرا على الغيب، والذي هو وحده المسيح الموعود والإمام المهدي عليه الصلاة والسلام- يمكن لأحد أن يصبح نبيا فقط بهذا الشرط، وإنما المقصود أن الأولياء من الأمة سيرتقون إلى درجات الأنبياء من حيث المقام ويصبحون في عدادهم، ولكنهم لن يكونوا أنبياء مبعوثين ظاهرين على الغيب مطلوبٌ الإيمان بكل واحد منهم، بل يكون مطلوبا الإيمان إجمالا بهذا المقام في الأمة، وتفويض الأمر إلى الله تعالى.
ولهذا، فلا مجال للعبث أو الضلال أو النفث أو الدجل اتكاءً على فهم خاطئ لمفهوم الإظهار على الغيب ومفهوم نوال درجة النبوة بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه المفاهيم منضطبة ودقيقة ولا تسمح بشيء من هذا.