فرضية خلق القرآن – هل القرآن مخلوق، وما هو العرش؟

لقد تسبّبت فرضية خَلْقِ القُرآن وعدم خَلْقِه بظلمٍ عظيمٍ وتقاتل بين المسلمين في عصور سابقة للأسف الشديد، فكان الذي يرفض هذه النظرية يُقتل شرّ قتلة ويُعذّب بلا رحمة، ثم أصبح العكس صحيحاً بعد ذلك، فراحَ ضحيّة هذه الفتنة عظماء العلماء الذين رفضوا المداهنة في الحق رحمة الله عليهم أجمعين. ولو عَقَلَ المتشبثون بنظرية خَلْق القُرآن والمعارضون لها -الذين اضطهدوا مخالفيهم حدّ الموت- لو عَقَلَوا كلام الله تعالى لعلموا أنَّ [لا إكراه في الدين] أوضح وأهمّ وأثبت من كون القُرآن الكَرِيم مخلوق أو غير مخلوق. فإكراه الناس وظلمهم أعظم عند الله تعالى وأشدّ من أن يعرف الإنسان أنَّ القُرآن الكَرِيم مخلوق أو غير مخلوق. فالمخلوق إذا كان مجرّد تصنيف لفظي أي أنَّ كُلّ ما عدا الله تعالى وصفاته الأزلية التنزيهية مخلوق فلا بأس بذلك، ولكن أيضاً لا يصحّ هذا اللفظ بعمومه كما سنرى إنْ شاءَ الله تعالى، فلا بأس فقط من حيث المعنى عند من يدّعي هذا القول .. لان القول بأن القُرآن الكَرِيم مخلوقٌ معناه أنَّ القرآن المجيد ماهو إلا مخلوق مُعرَّض للنقص والزوال، وهذا اتّهامٌ لله تعالى الذي لا يمكن أن يعتري كلامه النقص ولا الزوال وهو القائل ﷻ ﴿وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾ ! فكلام الْحَقُّ سبحانه وتعالى لا يمكن إلا أن يكون كاملاً لا يعتريه النقص ولا التبديل ولا الزوال، لأنه صفة تنزيهية أزليّة. فكلّ هذه الحوادث المؤلمة تدلّ على ضيق أفق أصحاب هذه النظرية.

إحدى أُسِس هذه النظرية هي ظنَّ فرقة المعتزلة بأن (الجَعْل) هو (الخَلْق)، وهذا غير صحيح لأن الخَلْق هو صُنع الله تعالى للمخلوق بينما الجعل هو مرحلة تلي الخلق وتعني الصنع الروحي أو المعنوي حيث يقول تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾

فالخلق شيء والجعل شيء آخر.

أما القول بأن الوجود إما خالق أو مخلوق فالأهمّ فيه هو التفريق بين وجود الخلق ووجود الخالق، لأن الوجود المادّي يضم كُلّ عناصر/أجزاء المادّة، وَلَكِنَّ وجود الخالق وجُودٌ ليس كمثله شيء، أي لا يمكن القياس بوجود الخلق على وجود الخالق حيث لا يقاس المحدود بمن ليس كمثله شيء، ولذلك فالقول بدون أخذ هذه الحقيقة بنظر الاعتبار باطل تماماً. لأن لله تعالى صفات تنزيهية أزلية بأزليته ﷻ مثل الربوبية والملكوت وغيرها، وهي أزلية مع الله تعالى لا نعلم عن حقيقتها شيء، فَلَمْ يكن الله تعالى يوماً بلا كلام ولا ملكوت ولا عرش والعياذ بالله. فقياس صفات الله تعالى التنزيهية الأزلية بالمخلوق الحادث والميت يصطدم مجدداً بـ “ليس كمثله شيء”. فعرش الله تعالى مثلاً لا نعلم عنه إلا ما ينعكس علينا في الدنيا من هذه الصفة الإلهية كما بيَّنَ المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام بأن العرش هو كلام وأوامر الله تعالى العليا التي تقوم الملائكة بحملها للمخلوق وتدبيرها فتصبح أوامرُ الله تعالى كالروح الحيّة في الجسد الميت فتحييه وتدير شؤونه.

وكما يظهر من القُرآن الكَرِيم فإن كلام الله تعالى هو الوحي أي التجلّي لأمر الله تعالى لعباده، فلا يمكن والحال هذه القول أنَّ الوحي عبارة عن مادة منطلقة من جوهر الله -تعالى عن ذلك- كما يدعي أصحاب الثالوث بأن الكلمة صارت جسداً أو تجسدت لتعيش وتموت. لذلك فالكلمة هي وحي الله تعالى يلقيها في قلب عبده كما ثبت بنص القرآن المجيد، فلا تصبح مخلوقاً بمجرد سطرها على ورق بل الورق والحبر هما المخلوق الذي يحتاجه البشر لحفظ كلام ووحي الله تعالى، فهو وحي الله تعالى وأوامره وليس قطعة منه تعالى عن ذلك علواً كبيرا.

فإذا اعتُبِرَ الوجود خالقاً ومخلوقاً بمعنى أنَّ الكلمات المسطورة على الورق هي المخلوق فلا بأس في ذلك من هذا الوجه، أما أن يُعتبر كلامَ اللهِ محدوداً فالله تعالى يردُّ على هذا الزعم بقوله سبحانه:

﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾

فلا حدود لكلام الله تعالى.

أما العكس أي اعتبار كلام الله قد توقف، فهذا إضافة لكلّ ما سبق تعطيلٌ لصفة تنزيهية من صفاته ﷻ، لأن القُرآن تعليم الله تعالى للإنسان. وهنا يعترض بعض أصحاب فرضية خلق القُرآن الكَرِيم؛ بما أنَّ القُرآن كأمر إلهي قد صَدَرَ في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فمعنى ذلك أنه لَمْ يكن له وجود قبل ذلك، وهذا يعني بأنه أي القُرآن الكَرِيم أصبح مُحدثاً أي حدث بعد أن لَمْ يكن كذلك قبل بعثة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. وخير من يردّ على هذا الافتراض هو الله نفسه تبارك وتعالى حيث يقول سبحانه وتعالى:

﴿الرَّحْمَٰنُ . عَلَّمَ الْقُرْآنَ . خَلَقَ الْإِنْسَانَ . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾

فالقُرآن ليس مخلوقاً كالإنسان بل هو عِلْمٌ بينما الإنسان هو المخلوق. فلا يصحّ الخلط بعد ذلك بين الخلق والعِلم لأن القُرآن الكَرِيم وضّح وفي مكان واحد بأن القُرآن هو (تعليم) إلهي وليس من المخلوقات، أما (المخلوق) فهو الإنسان المتلقّي لهذا العِلم !

وقد حسم المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام أيضاً هذه القضية مؤكداًً أنَّ كلام الله تعالى ليس بمخلوق بل هو أمرٌ فقط، فيقول حضرته:

“لو خطرَتْ ببال أحدٍ شبهة أنه عند إعمال الإنسان الفكر والنظر، كيف يتطرّق إلى قلبه المكرُ الخيِّر والمكر السيئ والحِكم الدقيقة المتعلقة بكلّ خيرٍ وشرٍ والزيفُ والمكائد، وكيف تتطرّق إلى قلبه فكرة مفيدة فجأة أثناء التفكير والتأمل؟ فجوابها أنَّ كُلّ هذه الأفكار إنما هي خلْق الله وليست أمْر الله. وهناك فرقٌ دقيقٌ بين خلْق الله وأمرِ الله. إنّ المرادَ من خلْق الله هو فِعله ﷻ: أي أنَّ الله يخلقُ شيئاً في العالم بواسطة الأسباب وينسبه إلى نفسه لكونه علّة العلل. وأما المراد من الأمر فهو ما يكون من عند الله خالصاً دون واسطة الأسباب ولا يكون لأي سبب دخْل فيه، فكلام الله الذي ينـزل من الله القادر يكون نزوله من عالَـم الأمر وليس من عالَـم الخلق. وأما ما سواه من الأفكار التي تنشأ في قلوب الناس عند إعمالهم النظر والفكر، فهي من عالَـم الخلق كلّها، إِذْ أنَّ قُدرة الله تتصرّف فيها في الخفاء بواسطة الأسباب والقوى.” (البراهين الأحمدية)

وهو ما أكّده خليفة المسيح الأول نور الدين رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في تفسير قوله تعالى: {اِنَّا جَعَلۡنٰہُ قُرۡءٰنًا عَرَبِیًّا لَّعَلَّکُمۡ تَعۡقِلُوۡنَ} كما يلي:

“{اِنَّا جَعَلۡنٰہُ قُرۡءٰنًا عَرَبِیًّا لَّعَلَّکُمۡ تَعۡقِلُوۡنَ} الزخرف: حدثتْ جدالات عديدة حول كلمة (جَعَلۡنٰا) لأن فرقة من المسلمين أعلَنَتْ بأن القُرآنَ (مخلوقٌ) بناء على هذه الكلمة (جعلنا). وَلَكِنَّ الإمام أحمد بن حَنْبَل ؒقال: «قولوا (جَعَلَ) ولا تقولوا (خَلَقَ).» -أي أنَّ معنى {جَعَلۡنٰہُ} هو (بَـيَِّـنَّــاهُ)- وبهذا المعنى أُزيلَ الإشكال.” (ارشادات نور، المجلد 3، ص 365)

وقد طُرِحَ في زمن المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام سؤال عن أمرٍ مماثلٍ تمامَ المُماثلة بل هو عين الموضوع الخاص بصفة تنزيهية لله تعالى هي في الحقيقة شاملة لموضوعنا كما سيتبين وهو؛ هل العرش مخلوقٌ أم غير مخلوق، فأجاب الْمَسِيحُ الموعودُ عَلَيهِ السَلام مُعيداً جزء من خطابه الذي نُشر مراراً من قبل كالتالي:

“النقاش حول كون العرش مخلوقاً أو غير مخلوقٍ عبثٌ. لا يثبت من الأحاديث أنه متجسد قَطّ. لقد عُبّر بكلمة العرش عن مقام العلوّ. فلو عددتموه متجسداً فلا بُدَّ من عدِّ الله أيضاً متجسداً. فليكن معلوماً أنَّ علوّه ليس مادياً حتى تكون لها علاقة بالجهات بل هذا علوّ روحاني. إنَّ البحث عن كون العرش مخلوقاً أو غير مخلوق بدعة اختُرعت فيما بعد. إنَّ الصحابة لَمْ يثيروا هذا البحث قَطّ وَلَكِنَّ الناس يثيرونه الآن ويعطون قليلي الفهم فرصة الاعتراض. يمكن فهم معنى العرش الحقيقيَ إذا كان المرءُ مطّلعا على صفات الله الأخرى أيضاً.” (الملفوظات)

إذن لا يصح القول بأن القُرآن مخلوق لأنه كلام الله تعالى أي هو من صفات الله تعالى التنزيهية مثل العرش بل هو أحد الصفات التنزيهية لله تعالى الداخلة في مفهوم العرش كما سيتبين بعد قليل، فالنقاش حول كون القُرآن مخلوق أو غير مخلوق إنما هو عبثٌ بحسب المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام. وهذا هو سبب عدم تناول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام لمسألة خلْق العرش والقرآن وغير ذلك بالتصريح لأنها مسألة عبث فقط حيث العرش صفة جامعة لصفات الله تعالى التنزيهية ومنها الكلام. ولولا طرْح أحدهم هذا السؤال على حضرته عَلَيهِ السَلام لما ذكر الموضوع لأن السؤال حوله دون فهم معنى العرش عبث يترفع المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام عن الخوض فيه.

وقد فَصَّلَ حضرة المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام في موضوع العرش فقال حضرته:

“ثمّ اعْلَمْ أنَّ لِله تعالى صفاتٌ ذاتية ناشئة من اقتضاء ذاته، وعليها مدارُ العالمين كلّها، وهي أربعة: (1) ربوبية (2) ورحمانية (3) ورحيمية (4) ومالكية، كما أشار اللهُ تعالى إليها في هذه السورة وقال: (1) رَبِّ العالمينَ (2) الرَّحْمَنِ (3) الرَّحِيمِ (4) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. فهذه الصفات الذاتية سابقة على كل شيء ومحيطة بكل شيء، ومنها وجودُ الأشياء واستعدادها، وقابليتها ووصولها إلى كمالاتها. وأما صفة الغضب فليستْ ذاتية للهِ تعالى، بل هي ناشئةٌ من عدم قابلية بعض الأعيان للكمال المطلق، وكذلك صفة الإضلال لا يبدو إلا بعد زيغ الضالين.

وأما حصر الصفات المذكورة في الأربع فنظرًا على العالم الذي يوجد فيه آثارها. ألا ترى أنَّ العالم كلّه يشهد على وجود هذه الصفات بلسان الحال، وقد تجلّت هذه الصفات بنحوٍ لا يشك فيها بصيرٌ إلا من كان من قومٍ عمين. وهذه الصفات أربعٌ إلى انقراض النشأة الدنيوية، ثم تتجلّى من تحتها أربع أخرى التي من شأنها أنها لا تظهر إلا في العالم الآخر، وأوّلُ مَطالِعِها عرشُ الرب الكريم الذي لَمْ يتدنس بوجودِ غير الله تعالى وصار مظهرًا تامًّا لأنوار رب العالمين، وقوائمه أربعٌ: ربوبية ورحمانية ورحيمية ومالكية يوم الدين. ولا جامِعَ لهذه الأربع على وجه الظلّيّة إلا عرشُ الله تعالى وقلبُ الإنسان الكامل، وهذه الصفات أمّهات لصفات الله كلّها، ووقعت كقوائم العرش الذي استوى اللهُ عليه، وفي لفظ الاستواء إشارة إلى هذا الانعكاس على الوجه الأتمّ الأكمل من الله الذي هو أحسن الخالقين. وتنتهي كل قائمة من العرش إلى مَلَكٍ هو حاملُها، ومدبّرُ أمرها، وموردُ تجلياتها، وقاسِمُها على أهل السماء والأرضين. فهذا معنى قول الله تعالى: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانيةٌ)، فإن الملائكة يحملون صفاتٍ فيها حقيقة عرشية. والسرّ في ذلك أنَّ العرش ليس شيئاً من أشياء الدنيا، بل هو برزخ بين الدنيا والآخرة، ومبدأٌ قديم للتجليات الربانية والرحمانية والرحيمية والمالكية لإظهار التفضُّلات وتكميل الجزاء والدين. وهو داخلٌ في صفات الله تعالى، فإنه كان ذا العرش من قديم، وَلَمْ يكن معه شيء، فكُنْ من المتدبرين.

وحقيقة العرش واستواء الله عليه سِرٌّ عظيم من أسرار الله تعالى وحكمةٌ بالغة ومعنى روحاني، وسُمِّيَ عرشاً لتفهيم عقول هذا العالم ولتقريب الأمر إلى استعداداتهم، وهو واسطة في وصول الفيض الإلهي والتجلي الرحماني من حضرة الحق إلى الملائكة، ومن الملائكة إلى الرسل. ولا يقدَح في وحدته تعالى تكثُّرُ قوابلِ الفيض، بل التكثر ههنا يوجب البركات لبني آدم، ويعِينهم على القوة الروحانية، وينصرهم في المجاهدات والرياضات الموجبة لظهور المناسبات التي بينهم وبين ما يصلون إليه من النفوس كنفس العرش والعقول المجردة إلى أن يصلون إلى المبدأ الأول وعلّة العلل. ثم إذا أعان السالكَ الجذباتُ الإلهية والنسيمُ الرحمانية، فيقطع كثيراً من حجبه، وينجيه من بُعد المقصد وكثرة عقباته وآفاته، وينوِّره بالنور الإلهي ويُدخله في الواصلين. فيكمل له الوصول والشهود مع رؤيته عجائباتِ المنازل والمقامات. ولا شعورَ لأهل العقل بهذه المعارف والنكات، ولا مَدخَل للعقل فيه، والاطلاعُ بأمثال هذه المعاني إنما هو من مشكاة النبوة والولاية، وما شمّت العقل رائحته، وما كان لعاقل أن يضع القدم في هذا الموضع إلا بجذبة من جذبات رَبِّ العالمين.

وإذا انفكّت الأرواحُ الطيبة الكاملة من الأبدان، ويتطهرون على وجه الكمال من الأوساخ والأدران، يُعرَضون على الله تحت العرش بواسطة الملائكة، فيأخذون بطور جديد حظًّا من ربوبيته يغاير ربوبيةً سابقة، وحظًّا من رحمانية مغايرَ رحمانيةٍ أولى، وحظًّا من رحيمية ومالكية مغايرَ ما كان في الدنيا. فهنالك تكون ثماني صفات تحملها ثمانية من ملائكة الله بإذن أحسن الخالقين. فإن لكل صفة مَلَك مُوَكَّلٌ قد خُلق لتوزيع تلك الصفة على وجه التدبير ووضعها في محلها، وإليه إشارة في قوله تعالى: (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا)، فتدبَّرْ ولا تكُنْ من الغافلين.

وزيادة الملائكة الحاملين في الآخرة لزيادة تجلياتٍ ربانية ورحمانية ورحيمية ومالكية عند زيادة القوابل، فإن النفوس المطمئنة بعد انقطاعها ورجوعها إلى العالم الثاني والربّ الكريم تترقى في استعداداتها، فتتموج الربوبية والرحمانية والرحيمية والمالكية بحسب قابلياتهم واستعداداتهم كما تشهد عليه كشوف العارفين. وإنْ كنت من الذين أُعطيَ لهم حظٌّ من القرآن، فتجد فيه كثيراً من مثل هذا البيان، فانظرْ بالنظر الدقيق لتجد شهادة هذا التحقيق، من كتاب الله رب العالمين.” (كرامات الصادقين)

فالعرش إذن هو اسمٌ للصفات الإلهية التنزيهية التي لا شريك لله تعالى بها وهي صفات أزلية ثابتة لله تبارك وتعالى. هذا العرش أو الصفات التنزيهية لله تعالى يمكن أن تتجلّى أيضاً في الإنسان إلى درجة محدودة وتصبح صفات إلهية تشبيهية إذا اتّبع الْإِنسَانُ تعاليم الله تعالى وأصبح مظهراً وانعكاساً للصفات التشبيهية كالرحمة والكرم والغفران والعدل والإحسان وغيرها من صفات تنعكس من صفات الله تعالى العظمى. فهذه الصفات التنزيهية التي أيضاً يستمد من انعكاسِها الْإِنسَانُ الأخلاقَ الفاضلة والتعاليم السامية للرقي الروحاني هي التي تسمّى حملةً العرش أو أركان العرش ويقوم بتدبيرها وتوصيلها للناس الملائكة في الدنيا والآخرة، وكما تتجلّى هذه الصفات في الدنيا بأربع كما في سورة الفاتحة (ربّ العالمين، الرحمن، الرحيم ومالك يوم الدين) حسب تعليم المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام (انظر: ينبوع المعرفة، الخزائن الروحانية، ج 23، ص 98-277)، فستتضاعف هذه الصفات الأربع إلى ثمانية في الآخرة، أي ستتضاعف الصفات الإلهية في الآخرة والتي سيتمتع المؤمن برؤيتها والعيش في ظلها كما في قوله تعالى:

﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾

أي أنَّ أركان العرش الإلهي أو حَمَلَتَه فوق الناس -دستورهم الأعلى والأسمى- ستكون ثمانية أركان بدل الأربع في الدنيا. لذلك ستتجلى الصفات الإلهية التنزيهية في الآخرة في ثمان صفات تشبيهيّة بعد أن تجلّت بأربع صفات في الدنيا. وبالتالي لا يصدر من الإله الأزلي من صفة إلا وكانت أزلية بأزلية الله تعالى وليست مخلوقة سفلية أي دون الله تعالى، فالكلام صفة خاصة بالله تعالى لا تحتاج إلى حادث بل العكس هو الصحيح أي تحدث الحوادث فتكون مجرد تحصيل حاصل لكلام الله تعالى الذي هو في علمه من الأزل فينزل كقول إلهي ليسمعه البشر ويحتفظوا به لينالوا السعادة الأبدية.

وما أجمل وصف حضرة مرزا بشير أحمد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الذي قال:

“الْحَقُّ أنَّ مفهوم الألوهية ومفهوم الخَلق مفهومان متضاربان تماماً، ومن المستحيل عقليا أن يجتمعا معاً في وجودٍ واحد، لأن مفهوم الألوهية يقتضي أن يُطلق اسمُ الإله على وجودٍ يفوق الجميع، أما مفهوم الخَلق فيقتضي أنَّ الذي نعُدّه مخلوقاً يجب أن يكون فوقه وجُودٌ آخر. فهذان المفهومان لا يمكن أن يجتمعا في مكان واحد بأي حال. … فعندما نستخدم عن وجودٍ كلمة “الإله” تخطر ببالنا بعض الصفات التي بسببها يستحقّ أن يُسّمى إلهاً وينفرد عن الأشياء الأخرى كلّها. أي أنَّ تلك الصفات بمنـزلة العمود للألوهية. ولو فُصلت عنه تلك الصفات لما بقي إلـهاً قط. فمثلا يخبرنا العقل أنه إذا كان هناك إلـهٌ فيجب أن يكون أزلياً، أي موجوداً من الأزل، ويخبرنا العقل أنه إذا كان هناك إلـهٌ فليكُن غير فانٍ، وإذا كان هناك إلـهٌ فليكن قائماً بذاته دون سندٍ أي وجودٍ آخر، وإذا كان هناك إلـهٌ فليكُن قادراً على كُلّ شيء، أي يجب أن يتحلّى بقدرةٍ كاملةٍ وألّا يقدرُ أحدٌ على التدخّل في أفعاله، ويخبرنا العقلُ أنه إذا كان الإله موجوداً فليكُن أحداً لا شريك له وألّا يكون هناك وجودٌ سواه يمكن أن يدّعي كونه ندّاً له. يخبرنا العقلُ أنه إذا كان هناك إلـهٌ فيجب أن تكون صفاته دائمة ومستقلة أي ألا يكون قيام صفاته مقتصراً على مشيئة وجودٍ آخر. هذه بضع صفات ذكرتُها على سبيل المثال ويجب وجودها من منطلق العقل فيمن نسميه إلهاً لأن بقاء نظام العالم -كما يجري حالياً وكما ظلَّ جارياً منذ القدم- محالٌ من دون هذه الصفات. أي هذه الصفات وصفات مماثلة أخرى بمنـزلة العمود لعرش الألوهية، ولا بقاء له بدونها بأي حال. ولكن لو قبلنا اللهَ مخلوقاً لاضطررنا إلى إنكار جميع صفاته، وليس هناك صفة من صفاته يمكن بقاؤها مع قبوله مخلوقاً. فمثلاً من الواضح أنه إذا كان اللهُ مخلوقاً فلا يمكن أن يكون قديماً، بل لا بد من الاعتراف بكونه حادثا. وإذا كان مخلوقاً فلن يكون غير فانٍ، بل لا بد من الاعتراف بكونه فانيا. وإذا كان مخلوقاً لا يمكن أن يكون قائماً بذاته بل يجب الاعتراف بكونه قائماً بسنَد وجودٍ آخر هو خالقه ومالكه. وإذا كان الإله مخلوقاً فلن يكون قادراً على كل شيء بل لا بُدَّ من كون قدراته محدودة، وأنَّ خالقه ومالكه يقدر على التدخل في أعماله متى يشاء وكيفما يشاء. كذلك إذا كان مخلوقاً لا يمكن الإيمان به أحداً، لأنه لا بُدَّ من القبول بإمكانية أنَّ هناك آلهة أخرى سواه، لأن الذي يستطيع أن يخلق إلهاً واحداً لماذا لا يكون قد خلق آلهة أخرى كثيرة لإثبات صفته “الخالق” وسعة حكومته وسلطنته؟ وإذا كان الإله مخلوقاً لا يمكن عَدّه مستقلاً وحرّاً في أيّ من صفاته بل لا مندوحة من القبول بأن كُلّ صفةٍ من صفاته تعتمد على مرضاة الوجود الأعلى الذي خَلَقه لأن كُلّ صفة من صفات المخلوق أيضاً تكون مخلوقةً ويجب الاعتراف بأنها تعمل تحت حُكم الخالق. باختصار، إنّ عَدَّ اللهَ مخلوقاً يُسفر عن بطلان جميع صفاته التي نضطر بسببها إلى التسليم بقيام عرش الألوهية عقلياً، ويُعزل الله عن عرش ألوهيته ويقف في صف الذين يبحثون عن سنَد خالقهم ومالِكهم في كُلّ شيء وليس لهم حياة مستقلة قَطّ. ملخّص الكلام أنه أياً كان منظور تفكيرنا ورؤيتنا نجدُ مفهوم الألوهية والمخلوقية متناقضَين تماماً، ولا يمكن أن يجتمعا في وجودٍ واحدٍ مطلقا.” (إلهنا، مرزا بشير أحمد ؓ)

فلا يوجد شيء مخلوق إلا وكان عرضة للزوال والموت، فهل يليق ذلك بكلام الله تعالى وتعاليمه؟ لذلك لا يصدر شيء من صفات الإله الكاملة الخاصة به تعالى إلا كان كاملاً وليس سفلياً معرّضاً للزوال، أما مسألة كتابته في ورق لسهولة الاحتفاظ به وقرائته فهذا لا يعدم كونه كما هو بلفظه المنطوق كلام الله تعالى.

وقد فَصَّلَ المُصْلِحُ المَوْعودُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في تفسير المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام للعرش كما يلي:

“قوله تعالى {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}. لقد اختلفوا في العرش الإلهي، فيرى بعضهم أنه عرش مادي مخلوق، ويقول البعض: لا علم لنا بحقيقته، وكفانا الإيمان به فحسب. (روح المعاني)

ولقد كتب سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام بحثًا مستفيضًا لطيفًا حول العرش، وقال إنه في الحقيقة اسمٌ للصفات الإلهية التنـزيهية (أي التي ينفرد بها الله سبحانه وتعالى وحده)، التي هي صفات أزلية أبدية لا تتبدل، وتنكشف من خلال الصفات الإلهية التشبيهية (أي التي لها شبهٌ وانعكاس في أخلاق الإنسان إلى حدٍ ما)، وهذه الأخيرة هي التي تسمّى حاملةً للعرش، بدليل قوله تعالى {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} .. أي سوف يحمل العرش الإلهي يوم القيامة ثمانية أركان. أي أنَّ الصفات الإلهية التنـزيهية سوف تتجلّى عندئذ عن طريق صفات تشبيهيّة ثمانٍ كما تتجلى الآن في الدنيا بأربعٍ، وهذه الأربع هي: ربّ العالمين، الرحمن، الرحيم ومالك يوم الدين. ‎(ينبوع المعرفة)

وبما أنَّ الصفات الإلهية تنكشف لنا بواسطة الملائكة فلذلك استخدم الضمير (هُم) بدلاً من (ها) فقال (فوقهم). وكما أنَّ الملوك يُعبّرون عن جلالتهم وعظمتهم بالجلوس على العرش، فكذلك تجلّت عظمته الحقيقية في كونه صاحب العرش، أي باتّصافه عزّ وجل بصفات تنـزيهيّة لا يشاركه ولا يشابهه فيها الخلق أدنى مشاركة أو مشابهة أبدًا.

يظنُّ البعض أنَّ العرش شيء مخلوق ماديّ، وذلك لفَهمهم الخاطئ لآيات من القرآن الكريم، كقوله تعالى {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ}، ودليلهم أنَّ العرش مادام محمولاً فلا بدَّ أن يكون شيئًا مخلوقًا ماديًا.

والحق أنَّ استدلالهم غير سليم، لأن “الحمل” لا يراد به دائماً حمل الشيء المادي، بل يُستخدم أيضاً لبيان حقيقة الشيء، كقول الله جل جلاله: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} الأحزاب.

والمراد بالأمانة هنا الشريعة، ويعني قوله تعالى {ظَلُومًا جَهُولاً} أنه كثير الظلم لنفسه وغير مبالٍ بالعواقب. وحملُه الأمانةَ إنما يعني أن يعمل بالشريعة، لِيُظهر بذلك محاسنها للناس. وهكذا فإن حمْل العرش يعني هنا بيان حقيقة العرش. ذلك لأنه ليس بوسع الإنسانِ إدراك الصفات الإلهية التنـزيهية، اللهم إلا بواسطة الصفات التشبيهية. وهكذا تصبح هذه الأخيرة حاملةً للأولى وتساعد على إدراكها. فنحن نعلم مثلاً أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى جامعٌ لكلّ المحاسن، ولكن لَمْ يحصل لنا هذا العلم والإدراك إلا من خلال صفاته التي لها علاقة بالإنسان .. ككونه جلّ جلاله ربًا، ورحمانًا، ورحيمًا ومالك يوم الدين، فكلّها صفات إلهية، ولكنها صفات متشابهة، إِذْ يتصف الإنسان أيضاً بأخلاق مشابهة لها وإنْ كان ذلك في نطاقٍ محدودٍ جدًا، كما أنَّ تجلّيات هذه الصفات الإلهية المتشابهة تكون مؤقتة، لأنها صفات يتجلى بها اللهُ على المخلوق الفاني. ومع ذلك فلولاها لما تيسّر لنا في الحقيقة أيَّ إدراك ولو ضئيل بكون الله سبحانه وتعالى جامعًا للصفات الحسنة وكامل المحاسن.

وهناك آية أخرى يقدّمها البعض دليلاً على زعمهم أنَّ العرش مخلوقٌ مادي، وهي قوله سبحانه وتعالى {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} المؤمنون. يقولون: رَبُّ العرش يعني خالقه، فالعرش إذًا مخلوق مادي.

ولنعلمْ أنَّ ربَّ الشيء لا يعني خالقه فحسب، بل يعني صاحبه أيضاً، كما يقولون: رَبُّ المال أي صاحبُه. فربُّ العرش يعني صاحبه.

فكلمة {وَرَبُّ الْعَرْشِ} تعني أنَّ لِله سبحانه وتعالى صفات تنـزيهية كما أنَّ له صفات تشبيهية، وقــد أشار إلى التشبيهـية منها بذِكْرِ خَلْق السماوات والأرض، كما أشار إلى التنـزيهية منها باستوائه على العرش.

أما لماذا استخدم “رَبَّ العرش” بدلاً من “ذو العرش” أو صاحبه؟ فلنعلمْ أنَّ في ذلك حكمةً أيضاً. إِذْ يظنُّ بعضُ الجُهّال من الفلاسفة أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى علّةٌ للعلل فقط، وأنَّ صفاته إنما تصدر بصورة اضطرارية تلقائية، دون أية إرادة منه جلّ جلاله. فردَّ اللهُ سبحانه وتعالى على هؤلاء بإضافةِ صفاته (أي عرشه) إلى صفته “الرب” الدالة على التصرف والسلطان، ليُبّين أنَّ صفاته لا تصدر أبدًا صدورًا اضطراريًا، وإنما تتجلّى كيفما تريدُ لها إرادتُه المطلقة ومشيئته الحكيمة. فالحقُّ إنَّ هذا الأسلوب القرآني قد جاء دحضاً لاعتراضٍ خطيرٍ، وبيانًا للنظرية الإسلامية في هذا الصدد.

والآية الثالثة التي يستدلّون بها على كون العرش مخلوقًا مادّيًا، قولُه تعالى {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} هود:8، يقولون: بما أنَّ العرش على الماء المادّي فلا بد أن يكون عرشاً ماديًا مخلوقًا. والحقُّ أنَّ الماء هنـا ليس مادّيـًا، إِذْ لَمْ يكن له وجود قبل خَلـْق السماوات والأرض، وإنما كان جزءًا منها وقد خُلق بعدها. ولو أنهم قالوا بأن العرش وُضع بشكل مادّي على الماء المادّي بعد خـلق السماوات والأرض، فهذا أيضاً لن يستقيم، لأننا لا نرى أي عرش موضوع على الماء بل لا نجد آثارًا أو علامات لذلك. إنَّ الله سبحانه وتعالى حكيم وقول الحكيم لا يخلو من حكمة. فأي جدوى وحكمة من ذكر شيء لا يَمُتّ إلينا بِصِلَة، ولا علاقة لنا به. فمثل هذا العرش المزعوم لا يكشف لنا العظمة الإلهية لأن الله سبحانه وتعالى جعلنا في معزل عن إدراك حقيقته. فلا الماء هنا مادّي إذًا ولا العرش مادّي. وإنما الحق أنه -في لغة الوحي والدين- يعبَّر بالماء عن كلام الله سبحانه وتعالى. فالآية تعني أنَّ العرش الإلهي موضوع على الكلام الإلهي، بمعنى أنَّ العظمة الإلهية أكبر وأسمى من أن يُدركها العقل الإنساني، إلا أنه يستطيع إدراكها إلى حدٍ ما عندما تأخذ صفات الله التنـزيهية -من خلال كلامه ووحيه- طابعَ المُماثلة والتشابه. ومن أجل ذلك أردفَ سبحانه وتعالى ذلك بقوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ}. والعلاقة بين الوحي والصفات الإلهية التشبيهيّة وبين أعمال الإنسان لواضحة بينة، ولكن من ذا الذي بإمكانه أن يزعم أنَّ عرشاً مادياً غير مرئي موضوعاً على الماء المادي يلعب أيَّ دور في كون أعمالنا حسنة أو سيئة، أو يزعم أنَّ مِثل هذا البيان يعود علينا بِأَيِّ نفع.

ثمّ إنه لزعمٌ يرفضه العقل والمنطق السّليم أيضاً، إِذْ إنه لممّا يتعارضُ مع العقل تماماً أنَّ اللهَ تعالى بعد أن خلق السماوات والأرض احتاجَ إلى عرش مادّي! كلا، بل إنَّ الإله الذي قدر منذ الأزل على أن يحكم الكون دون أيّ عرش مادّي كان بإمكانه أن يحكمه أيضاً في المستقبل دون أي احتياج للعرش المادّي.

ولو أنهم قالوا بأنه تعالى يتبوأ هذا العرش المادي إظهارًا لجلاله وجبروته وعظمته لقلنا: إنما يتمُّ هذا الغرض إذا كان هناك شيء يستطيع الإنسان رؤيته، وما دام العرش المزعوم غير مرئي، ولا يُرى له أثرٌ ولا معالم، فكيف يتحقق الهدف المنشود إذًا؟

ومما يدلُّ على أنَّ العرش هنا يعني الصفات الإلهية التنـزيهية قولُ الله تعالى {لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} المؤمنون. إذ يتبين من الآية أنَّ للعرش الكريم علاقة خاصة بما يُثبت توحيد البارئ تعالى. وبديهيّ أنَّ الدليل الحقيقي الحيوي على توحيد البارئ إنما يتمثل في صفاته التنـزيهية، ذلك أنَّ صفات الله التشبيهيّه يشاركه ويشابهه فيها أيضاً المخلوقُ ولو إلى حدٍ ما، ولذلك نجد ذوي العقول السّاذجة يعانون معاناةً شديدةً في فهم قضية توحيده سبحانه وتعالى.” (التفسير الكبير)

وهكذا فإن العرش هو مجموع الصفات التنزيهية لله تبارك وتعالى التي يدركها الإنسان بتجلياتها الأربع في الدنيا عن طريق الصفات التشبيهية وذلك ليدرك الإنسان تنزيه الله تعالى وتوحيده. وتفريده بالصفات التي لا يشترك فيها أحد معه تبارك وتعالى ومنها الكلام أي القُرآن الكَرِيم الذي لا يصح القول بأنه مخلوق لا قول عبث.

بقي فقط أن نقدّم للقرّاء الكرام والباحثين تعاليم المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام في تنزيه الله تعالى وكيف أنَّ الله ﷻ لا يحدّه مكان ولا زمان، فلا يوجد تعالى في السماء على عرش مادّي فتفرغ منه الأرض، ولا على الأرض مادياً فتفرغ منه السماء، بل الله تعالى بكلّ شيء محيط دون أن يحتاج إلى التواجد في مكان أو تركه لأي مكان، فيقول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام:

“يا من يملكون السمع .. أَنصِتوا! ماذا يُرِيدُ اللهُ منكم؟ إنما يُرِيدُ أن تكونوا لـه وحده. لا تشركوا به أحداً .. لا في السماء.. ولا في الأرض. إنَّ إلهنا هو ذلك الإله الذي هو حيٌّ الآن أيضاً كما كان حيًّا من قبل، ويتكلّم الآن أيضاً كما كان يتكلم من قبل، ويسمعُ الآن أيضاً كما كان يسمع من قبل. إنه لظَنٌّ باطل أنه ﷻ يسمعُ الآن ولكنه لَمْ يعُد يتكلم. كلا، بل إنه يسمع ويتكلم أيضًا. إنَّ صفاته كلها أزلية أبدية، لَمْ تتعطل منها صفة قَطّ، ولن تتعطل أبدًا. إنه ذلك الأحد الذي لا شريكَ له ولا ولدَ ولا صاحبة. وإنه ذلك الفريد الذي لا كفوَ لـه، والذي ليس كمثله أحدٌ متفردٌ في صفاته، والذي ليس له ندّ. ولا شريك له في صفاته، ولا تتعطل قوة من قواه. إنه قريب على بُعده، وبعيد على قربه، وإنه يمكن أن يُظهر نفسه لأهل الكشف على سبيل التمثل، إلا أنه لا جسمَ له ولا شكلَ. وإنه فوق الجميع، ولكن لا يمكن القول إنَّ أحدًا تحته؛ وإنه على العرش، ولكن لا يمكن القول إنه ليس على الأرض. هو مجمع الصفات الكاملة كلّها، ومَظهر المحامد الحقة كلّها، ومنبع المحاسن كلّها، وجامع للقوى كلّها، ومبدأ للفيوض كلّها، ومرجع الأشياء كلّها، ومالك لكلّ ملك، ومتصف بكلّ كمالٍ، ومُنـزّه عن كُلّ عيب وضعف، ومخصوص بأن يعبده وحده أهلُ الأرض والسماء، ولا شيء مستحيل لديه. إنَّ جميع الأرواح وما فيها من القوى، وجميع الذرات وما فيها من القوى من خلقه هو، ولا شيء يظهر بدونه. إنه يُجلّي نفسَه بنفسه عن طريق قواه وقدراته وآياته، ولا نصل إليه إلا عن طريق ذاته. ويتجلى دائماً على الأبرار بوجوده ويُريهم قدراته، وبها يُعرَف هو وبها تُعرف سبيله التي فيها رضاه. إنه يرى ولكن بدون عيون جسمية، ويسمع ولكن بدون آذان عنصرية، ويتكلم ولكن بدون لسان مادّي. هكذا فإن من أعماله الإيجاد من لا شيء، كما تشاهدون أنه يخلق في مشهد الحلم عالَـماً آخر بدون أية مادّة ويُري في حيّز الوجود كلَّ مَن كان قد فنى وصار معدومًا. وعلى هذه الشاكلة تكون كل قدراته. والأحمقُ من يكفر بقدراته، والأعمى من لم يطّلع على عميق قواه. إنه يفعل كُلّ شيء ويقدر عليه إلا ما يخالف شأنه أو ما يتنافى مع وعوده. هو الواحد في ذاته وصفاته وأفعاله وقدراته. لقد سُدّت أبواب الوصول إليه إلا بابٌ فَتَحَه القُرآنُ المجيدُ، وَلَمْ تعُد هناك حاجة لاتّباع جميع الرسالات والكتب السماوية السابقة، لأن النبوّة المُحَمَّدية احتوتها جميعًا. فالأبوابُ كلّها مُغلقة إلا بابها. إنها مشتملة على كُلّ الحقائق المُوصِلة إلى الله تعالى. لن تأتي حقيقة جديدة بعدها، كما ليستْ من حقيقة سابقة إلا ووُجِدت فيها. لذلك قد خُتمتْ عليها كلّ نبوّة، وهكذا كان ينبغي أن يكون، لأن لكلّ بداية نهايةً.” (الوصية)

فالله تعالى حيٌّ سميعٌ بصيرٌ متكلمٌ مستوٍ على العرش أي أنَّ مجموع صفاته توحيديّة عُلياً فَوْقَ كُلّ فوقٍ مادّي لا يشاركه بها أحدٌ ولا يمكن إلا رؤية تجلّياتها بصورة محدودة فقط عن طريق مَلَكات الإنسان المحدودة المحتاج للعين والأذن واللسان والقلب والجسد ليُدرك كُلّ منها وبجهاد النفس يمكنه أن يرى تجلّيات صفات الله تعالى التشبيهية ويُدرك معنى صفاته التنزيهية تبارك وتعالى. ولذلك فإن كلام الله تعالى صفة تنزيهية أزلية لا تحتاج إلى هواء ولسان وأذن وما إلى ذلك بل يراها ويسمعها ويعيها النبيُّ وحده بكشفٍ خاص لا يسمعه ولا يراه مَن حوله إلا أن يشاء الله تعالى ذلك، ثم يسجّل ما سمعه قلبه وشاهده على ورق لكي يستفيد منه الناس جميعاً جيلاً بعد جيل. فما كان على المعتزلة قتل الناس ونشر الفتن بسبب أمر عبثي، وتبقى المعتزلة بعد كُلّ ما حدث فكراً له ما له وعليه ما عليه، ولكن المتأخرين منهم اليوم شطحوا كثيراً في المادّية وإضاعة الوقت والجهد في هذا العبث، لأن الموضوع لا فائدة منه حيث صفات الله التنزيهية ومن ضمنها الكلام ومجموعها العرش هي صفات أزلية وليست محدثة زائلة، فيصبح الموضوع مجرد نزاع لفظي لا طائل منه. والمؤمن ليس من صفته العبث، هداهم الله، آمين.

وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ