يقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين -سواء كان بولس الرسول أو البشير لوقا أو غيره- بأن المسيح قد صَلَّى بدعاء مرير أن ينقذه الله من الموت على الصليب كما يلي:
«وَالْمَسِيحُ، فِي أَثْنَاءِ حَيَاتِهِ الْبَشَرِيَّةِ عَلَى الأَرْضِ، رَفَعَ أَدْعِيَةً وَتَضَرُّعَاتٍ مُقْتَرِنَةً بِصُرَاخٍ شَدِيدٍ وَدُمُوعٍ، إِلَى الْقَادِرِ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنَ الْمَوْتِ. وَقَدْ لَبَّى اللهُ طَلَبَهُ إِكْرَاماً لِتَقْوَاهُ.» – الرسالة إلى العبرانيين ٥:٧
وذلك طبقاً لما ورد في إنجيل لوقا الذي يصور لنا شدة هذا الدعاء وكيف صَلَّى يسوع بحرارة وبكاء للنجاة من كأس الموت:
«وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ، وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ” -لوقا ٢٢:٤٤
فهذا النص مع النص الذي سبقه يصرح بكل وضوح بأن المسيح دعا لله تعالى دعاء حاراً أن ينجيه من الموت على الصليب فاستجاب الله تعالى دعائه ونجاه من تلك الميتة الملعونة، وهذا النص هو في الواقع تحقق لنبوءة العهد القديم التي وردت في المزامير والتي يقول الأحبة المسيحيون بأنها تتنبأ عن المسيح كما يلي:
«أُبَارِكُ الرَّبَّ فِي كُلِّ حِينٍ. تَسْبِيحُهُ دَائِماً فِي فَمِي. تَفْتَخِرُ نَفْسِي بِالرَّبِّ، فَيَسْمَعُنِي الْوُدَعَاءُ وَيَفْرَحُونَ. مَجِّدُوا الرَّبَّ مَعِي، وَلْنُعَظِّمِ اسْمَهُ مَعاً. الْتَمَسْتُ الرَّبَّ فَأَجَابَنِي، وأَنْقَذَنِي مِنْ كُلِّ مَخَاوِفِي. الَّذِينَ تَطَلَّعُوا إِلَيْهِ اسْتَنَارُوا، وَلَمْ تَخْجَلْ وُجُوهُهُمْ قَطُّ. هَذَا الْمِسْكِينُ اسْتَغَاثَ، فَسَمِعَهُ الرَّبُّ وَأَنْقَذَهُ مِنْ جَمِيعِ ضِيقَاتِهِ. مَلاَكُ الرَّبِّ يُخَيِّمُ حَوْلَ خَائِفِيهِ، وَيُنَجِّيهِمْ. ذُوقُوا وَانْظُرُوا مَا أَطْيَبَ الرَّبَّ. طُوبَى لِلرَّجُلِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ. اتَّقُوا الرَّبَّ يَا قِدِّيسِيهِ، لأَنَّهُ لَيْسَ عَوَزٌ لِمُتَّقِيهِ. تَحْتَاجُ الأَشْبَالُ وَتَجُوعُ، وَأَمَّا طَالِبُو الرَّبِّ فَلَا يُعْوِزُهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ. تَعَالَوْا أَيُّهَا الْبَنُونَ وَأَصْغُوا إِلَيَّ، فَأُعَلِّمَكُمْ مَخَافَةَ الرَّبِّ. فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِحَيَاةٍ سَعِيدَةٍ وَأَيَّامٍ طَيِّبَةٍ، فَلْيَمْنَعْ لِسَانَهُ عَنِ الشَّرِّ وَشَفَتَيْهِ عَنْ كَلاَمِ الْغِشِّ لِيَتَحَوَّلْ عَنِ الشَّرِّ وَيَفْعَلِ الْخَيْرَ. لِيَطْلُبِ السَّلاَمَ وَيَسْعَ لِلْوُصُولِ إِلَيْهِ لأَنَّ الرَّبَّ يَرْعَى الأَبْرَارَ بِعِنَايَتِهِ وَيَسْتَجِيبُ إِلَى دُعَائِهِمْ. وَلَكِنْ يَقِفُ ضِدَّ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الشَّرَّ لِيَسْتَأْصِلَ مِنَ الأَرْضِ ذِكْرَهُمْ. يَسْتَغِيثُ الأَبْرَارُ، فَيَسْمَعُ لَهُمُ الرَّبُّ وَيُنْقِذُهُمْ مِنْ جَمِيعِ ضِيقَاتِهِمْ. الرَّبُّ قَرِيبٌ مِنْ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ، وَيُخَلِّصُ مُنْسَحِقِي الرُّوحِ. مَا أَكْثَرَ مَصَائِبَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنْ مِنْ جَمِيعِهَا يُنْقِذُهُ الرَّبُّ. يَحْفَظُ عِظَامَهُ كُلَّهَا، فَلَا تُكْسَرُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا. الشَّرُّ يُمِيتُ الشِّرِّيرَ، وَالَّذِينَ يُبْغِضُونَ الصِّدِّيقَ يُعَاقَبُونَ. الرَّبُّ يَفْدِي نُفُوسَ عَبِيدِهِ، وَكُلُّ مَنِ اعْتَصَمَ بِهِ يَنْجُو.» – المزامير ٤: ٢٢-١
فهذا اعتراف صريح من الكتاب المقدس عند الأخوة المسيحيين بأن المسيح عَلَيهِ السَلام قبل محاولة اليهود لقتله على الصليب رفع الدعاء المؤثر والتضرع الحار والبكاء المستمر والنحيب والدموع أن ينقذه الله تعالى من هذه الميتة الملعونة، فاستجاب الله له وأنجاه من الموت على الصليب وذلك لكونه عَلَيهِ السَلام من عباده المتّقين الذين يخافونه ﷻ ويخشون عذابه، فسمع الله ﷻ لدعائه ولم يتركه ﷻ بل نجاه كما وعد سبحانه وتعالى ! فهذا درس لنا جميعاً من المسيح عَلَيهِ السَلام في استجابة الله دعاء عبيده الذين يذكروه ويطلبوه في أحلك الظروف وقد بين القرآن الكريم أن لا أحد غير الله تعالى يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء !
وللمسيح الموعود حضرة مرزا غلام أحمد عَلَيهِ السَلام قول عظيم حول استجابة الدعاء ورد في معرض تفسير سورة الفاتحة، حيث يقول حضرته:
«ومَن ناجى ربَّه ذاتَ بكرة بهذا الدعاء بالإخلاص وإمحاض النيّة، ورعاية شرائط الاتّقاء والوفاء، فلا شك أنه يحلّ محلّ الأصفياء والأحبّاء والمقرّبين. ومن تأوّهَ آهةَ الثكلان في حضرة الربّ المنّان، وطلَب استجابةَ هذا الدعاء من الله الرحمن، خاشعا مبتهلا وعيناه تذرفان، فيُستجاب دعاؤه ويُكرم مثواه، ويُعطى له هداه، وتُقوَّى له عقيدتُه بالدلائل المنيرة كالياقوت، ويُقوَّى له قلبُه الذي كان أوهنَ من بيت العنكبوت، ويُوفَّق لتوسعة الذَّرْع ودقائق الورع، فيُدعى إلى قِرى الروحانيين، ومطائب الربانيين. ويكون في كل حال غالبا على هَوًى مغلوبٍ، ويقوده برعاية الشرع حيث يشاء كأشجع راكب على أطوعِ مركوبٍ، ولا يبغي الدنيا ولا يتَعَنَّى لأجلها، ولا يسجد لعِجْلها، ويتولاه الله وهو يتولى الصالحين. وتكون نفسه مطمئنة ولا تبقى كالمبيد المُضِلّ، ولا تُحَمْلقُ حملقةَ الباز المُطِلّ، ويرى مقاصدُ سلوكه كالكرام، ولا تكون سُحبه كالجَهام، بل يشرب كل حين من ماء مَعين.
وحثَّ الله عباده على أن يسألوه إدامةَ ذلك المقام، والتثبّت عليه والوصول إلى هذا المرام، لأنه مقام رفيع، ومرام منيع، لا يحصل لأحد إلا بفضل ربه، لا بجهد نفسه، فلا بد من أن يضطر العبد لتحصيل هذه النعمة إلى حضرة العزة، ويسأله إنجاحَ هذه المُنْية بالقيام والركوع والسجدة والتمرغ على تُرْب المَذلّة، باسطًا ذيل الراحة، ومتعرضًا للاستماحة، كالسائلين المضطرين. وجملةُ [غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ] إشارةٌ إلى رعاية حسن الآداب، والتأدب مع ربّ الأرباب، فإن للدعاء آدابًا، ولا يعرفها إلا من كان توّابًا، ومن لا يُبالي الآداب، فيغضب الله عليه إذا أصرّ على الغفلة وما تاب، فلا يرى من دعائه إلا العقوبة والعذاب، فلأجل ذلك قلّ الفائزون في الدعاء، وكثر الهالكون لِحُجب العُجْب والغفلة والرياء. وإن أكثر الناس لا يدعون إلا وهم مشركون، وإلى غير الله متوجهون، بل إلى زيد وبكر ينظرون، فالله لا يقبل دعاء المشركين، ويتركهم في بيدائهم تائهين، وإن حَبْوة الله قريب من المنكسرين. وليس الداعي الذي ينظر إلى أطراف وأنحاء، ويُختلب بكل برق وضياء، ويريد أن يُترِع كُمَّه ولو بوسائل الأصنام، ويعلو كلَّ ربوة راغبا في حَبْوة، ويبغي معشوق المرام ولو بتوسل اللئام، والفاسقين. بل الداعي الصادق هو الذي يتبتل إلى الله تبتيلا، ولا يسأل غيره فتيلا، ويجيء اللهَ كالمنقطعين المستسلمين، ويكون إلى الله سيرُه، ولا يعبأ بمن هو غيرُه، ولو كان من الملوك والسلاطين» (كرامات الصادقين، ص ٨٢-٨٣)
ولننتبه أيها الأحبة لقوله في المزمور “مَلاَكُ الرَّبِّ يُخَيِّمُ حَوْلَ خَائِفِيهِ، وَيُنَجِّيهِمْ.“، فهذا النص ينطبق على ما ورد في نص إنجيل لوقا الذي سبق مباشرة:
«وظَهَرَ لهُ مَلاكٌ مِنْ السَّماءِ يُقَوِّيه.» لوقا ٢٢:٤٣
فالذي يظهر له ملاك الرب ليقويه حتماً ليس هو الرب (رب العالمين) بالإضافة لكون النص لا يدع مجالاً للشك في كونه نبوءة تتعلق بالمسيح عَلَيهِ السَلام لا شخصاً آخر وبصورة قاطعة.
كذلك تبين النصوص أعلاه بأن المسيح عَلَيهِ السَلام كان يرجو الحياة الطويلة ولذلك رزقه الله تعالى عمرا طويلا كما أخبر نبينا المصطفى خاتم النبيين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بأن المسيح عَلَيهِ السَلام عاش حتى بلغ سن الـ١٢٠ عاما، الحديث أخرجه الطبراني رحمه الله في المعجم الكبير بسند رجاله ثقات، عن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنها وأرْضاها أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، قال في مرضه الذي توفي فيه لفاطمة رَضِيَ اللهُ عَنها وأرْضاها عند لقاءه ﷺ جبريل عَلَيهِ السَلام:
«أَخْبَرَنِي [أي جبريل عَلَيهِ السَلام] أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَاشَ عِشْرِينَ وَماِئةَ سَنَةٍ وَلَا أُرَانِي إِلَّا ذَاهِبًا عَلَى رَأْسِ السِّتِّينَ» (المعجم الكبير ١٠٣١ ، ٢٢/٤١٧)
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ