ورد في الأثر عن رفع المسيح عَلَيهِ السَلام ما سنقرأه في الروايتين التاليتين من كتاب البداية والنهاية لابن كثير رحمه الله :
“حكى الحافظ ابن عساكر من طريق يحيى بن حبيب، فيما بلغه، أن مريم عَلَيْهِٰا السَلام سألت من بيت الملك بعد ما صلب المصلوب بسبعة أيام وهي تحسب أنه ابنها، أن ينزل جسده، فأجابهم إلى ذلك ودفن هنالك، فقالت مريم لأم يحيى: ألا تذهبين بنا نزور قبر المسيح؟ فذهبتا فلما دنتا من القبر قالت مريم لأم يحيى: ألا تسترين فقالت: وممن أستتر؟
فقالت: من هذا الرجل الذي هو عند القبر، فقالت أم يحيى: إني لا أرى أحداً، فرجت مريم أن يكون جبريل، وكانت قد بعد عهدها به، فاستوقفت أم يحيى وذهبت نحو القبر، فلما دنت من القبر قال لها جبريل، وعرفته: يا مريم أين تريدين؟ فقالت: أزور قبر المسيح فأسلم عليه وأحدث عهداً به.
فقال: يا مريم إن هذا ليس المسيح، إن الله قد رفع المسيح وطهره من الذين كفروا، ولكن هذا الفتى الذي ألقي شبهه عليه وصلب وقتل مكانه. وعلامة ذلك أن أهله قد فقدوه، فلا يدرون ما فعل به، فهم يبكون عليه، فإذا كان يوم كذا وكذا فأت غيض كذا وكذا فإنك تلقين المسيح.
قال: فرجعت إلى أختها، وصعد جبريل، فأخبرتها عن جبريل وما قال لها من أمر الغيضة. فلما كان ذلك اليوم ذهبت فوجدت عيسى في الغيضة، فلما رآها أسرع إليها، وأكب عليها فقبل رأسها، وجعل يدعو لها كما كان يفعل، وقال: يا أمه إن القوم لم يقتلوني، ولكن الله رفعني إليه وأذن لي في لقائك، والموت يأتيك قريباً فاصبري، واذكري الله كثيراً، ثم صعد عيسى فلم تلقه إلا تلك المرة حتى ماتت.” (البداية والنهاية لابن كثير ج 2 ص 113)
ورد في البداية والنهاية أيضا عن ابن جرير عن عبد الصمد بن معقل الرواية الطويلة التي نقتبس منها ما سبق وتلى حادثة الصلب كما يلي :
“.. فلما أصبح أتى أحد الحواريين إلى اليهود فقال: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح، فجعلوا له ثلاثين درهماً فأخذها ودلهم عليه، وكان شبه عليهم قبل ذلك، فأخذوه واستوثقوا منه وربطوه بالحبل، وجعلوا يقودونه ويقولون: أنت كنت تحي الموتى، وتنتهر الشيطان، وتبرئ المجنون، أفلا تنجي نفسك من هذا الحبل؟
ويبصقون عليه ويلقون عليه الشوك حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها، فرفعه الله إليه وصلبوا ما شبه لهم، فمكث سبعاً، ثم إن أمه والمرأة التي كان يداويها عيسى فأبرأها الله من الجنون جاءتا تبكيان حيث كان المصلوب، فجاءهما عيسى فقال: على من تبكيان؟ قالتا: عليك.
فقال: إني قد رفعني الله إليه ولم يصبني إلا خير، وإن هذا شيء شبه لهم، فأمرا الحواريين أن يلقوني إلى مكان كذا وكذا فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر، وفقد الذي كان باعه ودل عليه اليهود.
فسأل عنه أصحابه فقالوا: إنه ندم على ما صنع فاختنق وقتل نفسه، فقال: لو تاب لتاب الله عليه. ثم سألهم عن غلام كان يتبعهم يقال له يحيى فقال: هو معكم فانطلقوا فإنه سيصبح كل إنسان منكم يحدث بلغة قوم فلينذرهم وليدعهم.” انتهى
وقد علّق الرواي على هذه الرواية كما يلي :
“وهذا إسناد غريب عجيب، وهو أصح مما ذكره النصارى من أن المسيح جاء إلى مريم وهي جالسة تبكي عند جذعه، فأراها مكان المسامير من جسده، وأخبرها أن روحه رفعت وأن جسده صلب، وهذا بهت وكذب واختلاق وتحريف وتبديل، وزيادة باطلة في الإنجيل على خلاف الحق، ومقتضى الدليل.” (البداية والنهاية ج 2 ص 112)
إذاً فرفْع وتطهير المسيح عَلَيهِ السَلام لم يكن رفعاً للجسد بل رفع المنزلة والدرجة، إذ لم يُقتَل ولم يصلب كما أذيع عَنْهُ وكذا كان حياً والتقى بوالدته وتلاميذه بعد أن أذن الله له، فقد كان مختبئا من أعين اليهود كما تنص الأناجيل. وقد سجلت الأناجيل ظهور المسيح عَلَيهِ السَلام للتلاميذ بعد حادثة الصلب ولم تكتفي بمجرد ظهوره بل أكّدت على كون هذا الظهور بالجسد ودعوة المسيح التلاميذ للمسه ومشاركتهم الأكل للدلالة المهمة على أن الظهور كان ماديا للشخص بجسده نفسه ولم يكن كشفاً من الكشوف. وَعَلَى الرغم من مخالفة الرواية التي أوردها ابن كثير لروايات الإنجيل حول قضية شبيه المسيح حيث تؤكد الأناجيل التاريخية على أن الذي صُلب هو المسيح نفسه بينما تنفي الروايات الإسلامية ذلك وتذهب إلى أن المصلوب هو شخص آخر شبيه بالمسيح وتستنكر ظهوره بالجسد وتلمح كما في الرواية الثانية على ظهوره في الكشف أو التمثل كما دلت عَلَيْهِ الرواية الثانية بأنه كان فعلاً بين يدي اليهود ولم يُرفَع إلا من على الصليب مما ينفي قصة القاء الشبه قبل القبض عَلَيْهِ ! على الرغم من هذا الإختلاف الواضح ألا أن الرواية من المصدرين تؤكد ظهور المسيح عَلَيهِ السَلام حياً بعد حادثة الصلب. فيثبت أن الرفع والتطهير ليس إلا رفع الدرجة والمنقبة كما ثبت الرفع من كتاب الله تعالى للمؤمنين وغير ذلك.
سردت بعض الروايات عمر المسيح عَلَيهِ السَلام عند الرفع بأنه كان في سن الثالثة والثلاثين ونحوه كما في الرواية التالية:
“قال حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب أنه قال: رفع عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.” (تفسيرابن كثير)
وعند جمع الرواية السابقة مع الرواية التالية :
قال رسول الله ﷺ: “إن عيسى ابن مريم عاش عشرين ومائة، وإني لا أراني إلا ذاهباً على رأس الستين.” (كنـز العمال للمتقي الهندي رقم الحديث 32262)
قال صاحب المقاصد الحسنة: “أما حديث: ما بعث الله نبياً إلا عاش نصف ما عاش النبي قبله فهو حديث معروف، ذكره أبو نعيم في الحلية والفسوي في مشيخته عن زيد بن أرقم به مرفوعاً، وسنده حسن لاعتضاده. وعن عائشة كانت تقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي قبض فيه لفاطمة إن جبريل كان يعارضه القرآن في كل عام مرة وإنه عارضني بالقرآن العام مرتين وأخبرني أنه أخبره إنه لم يكن نبي إلا عاش نصف عمر الذي كان قبله وأخبرني أن عيسى بن مريم عاش عشرين ومائة سنة ولا أراني إلا ذاهباً على رأس الستين فبكت.” (المقاصد الحسنة)
عند جمع الروايتين معاً نخرج بنتيجة مذهلة، وهي أن المسيح (عَلَيهِ السَلام) كان قد رُفع (رفع المقام والمنقبة عن لعنة الصلب) في سن الثلاثين ثم عاش بعد ذلك حتى بلغ المائة والعشرين.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ