وضع القرآن الكريم ملامح قصة المسيح عليه السلام بوضوح تام، وإن كان مجملا، إذ قال تعالى:
{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ } (النساء 158)
أي أنه لم يمت على الصليب، وإن كانوا قد ظنوا ذلك.
ثم بيَّن القرآن الكريم أن الله تعالى قد بشَّره مسبقا بالنجاة من الموت على الصليب، وأخبره بأنه سيموت لاحقا ميتة طبيعية، ولن ينجح أعداؤه في قتله، كما لن ينجحوا في الإساءة إليه وتشويه سمعته، وسيكتب الله له ولأتباعه الغلبة إلى يوم القيامة، إذ قال:
{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } (آل عمران 56)
وبيَّن القرآن الكريم أنه بعد نجاته من الصليب، وبعد أن تعرَّض لأنواع المصائب والآلام، فقد هاجر هو وأمه ووجد مأوى وملجأ في قرار ومعين أي مياه متدفقة، إذ قال:
{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} (المؤمنون 51)
كما بيَّن القرآن الكريم أن المسيح عيسى بن مريم عليه السلام لم يكن سوى رسول الله، وأنه لم يدَّعِ الألوهية، وأنه قد نجح في تبليغ رسالته إلى قومه وأقامهم على التوحيد، وأنه بعد ذلك توفي وفاة طبيعية. كما يذكر القرآن الكريم شهادته التي ستكون يوم القيامة والتي سيعلن فيها أنه فارق قومه بالوفاة وهم على التوحيد، وأنه لم يعد إليهم بعد ذلك، وكان الله هو الشهيد عليهم إلى يوم القيامة، إذ يقول تعالى:
{ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } (المائدة 117-118)
ومن قبل أعلن القرآن الكريم طهارة السيدة مريم عليها السلام وصدَّقها بأنها قد حملت به دون أب، وأنها صدِّيقة صالحة، وأن المسيح قد جاء وفق الأنباء ثم البشارة التي أخبرت عن ولادته، وأن اليهود قد أجرموا برمي ولادته بالبهتان، إذ قال:
{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا } (النساء 157)
ووردت تفاصيل أخرى حول البشارة والولادة وخاصة في سورة مريم.
وهكذا نرى أن هنالك ثوابت في عقيدة المسلمين حول المسيح عليه السلام وهي:
طهارته وطهارة أمه، وأنه كان نبيا وليس إلها أو ابن إله ولم يدعُ إلا إلى التوحيد، وأنه لم يمت على الصليب قطعا، وأن الوفاة قد وقعت عليه.
ولكن، وبسبب ورود نبأ في الحديث الشريف أن المسيح سينزل في آخر الزمان، فقد تسرَّبت إلى عقيدة المسلمين بعض الأمور الفاسدة، التي تعلقت بنقطتي عدم الموت على الصليب والوفاة؛ وأساسها تفسير {شُبِّهَ لَهُمْ} (النساء 158) بأن قالوا بأن شبهه قد وقع على غيره وصلب عوضا عنه، وأن المسيح لم يمت بل رُفع إلى السماء قبيل الصلب ولا يزال حيا فيها إلى اليوم بانتظار نزوله من السماء! وهذا التفسير لا أساس له لا في قرآن ولا في حديث حتى ولو كان ضعيفا أو موضوعا؛ فالقرآن الكريم والحديث الشريف لا يذكران أن المسيح قد رفع إلى السماء، كما أن الحديث -وإن كان يذكر نبأ النزول – فلم يذكر كلمة السماء مطلقا. أما نظرية الشبيه فلا أثر لها، ولم ترد سوى في أقاصيص كأقصوصة ذكرها ابن كثير عن ابن إسحاق الذي يقول عند سردها: “وحدثني رجل كان نصرانيا فأسلم“!! فمن هذا النصراني؟ وما هو مصدره؟ وهل يقول النصارى أصلا بهذه القصة؟!
ومعلوم أن أقاصيص كهذه لا يقام لها وزن في علم الحديث والآثار الإسلامي الذي يستند بقوة على الرواية والتدقيق على الرجال وعدالتهم بل وضبطهم وحفظهم.
والمؤسف أن الذين تبنوا نظرية أن المسيح ما زال حيا في السماء وسينزل بنفسه من السماء، قد اضطروا باعتقادهم هذا إلى تجاهل عقيدة أساسية أكدها القرآن الكريم وكررها مرارا في مواضع عديدة تصريحا وإشارة؛ وهي وفاة عيسى عليه السلام وأنها قد تمت وانقضت، وهذا كله قد تولَّد من اعتقادهم بنزوله المادي من السماء، لذلك اضطروا للقول برفعه بجسده بخلاف تصريح القرآن الكريم والحديث الشريف، وهذا لكي يفتحوا المجال لنزوله حسب تصورهم. ولكي يتيحوا المجال لهذا الاعتقاد حاولوا تحريف معنى التوفي الذي لم يرد في القرآن الكريم إلا بمعنى الموت أو النوم مجازا ليصبح عندهم يعني الأخذ وافيا بجسده وروحه! وهذا المعنى باطل لا أصل له. ومعلوم أن التوفي قد ورد في القرآن 25 مرة، فكان مرتين بحق المسيح، ومرتين ليعني مجازا النوم، وفي 21 مرة جاء بمعنى الموت قطعا، كما أنه تعبير يجري على ألسنة العرب منذ القديم وما زال ساريا إلى يومنا هذا في وصف الموت دون أن يتبادر لأحد أي معنى آخر.
أما المسيحيون واليهود، فقد رأوا بأم أعينهم أن المسيح قد عُلِّق على الصليب، ورأوا وكأنه قد مات على الصليب، فاستسلموا لهذه الحقيقة التي لم تثبت وبنوا عليها اعتقادهم في كلا الديانتين. فبالنسبة لليهود، فإن مجرد موته على الصليب دليل كافٍ بأنه ليس نبيا وأنه ملعون لاعتقادهم بأن الذي يموت على الصليب ملعون وفق فهمهم لما جاء في التثنية:
{«وَإِذَا كَانَ عَلَى إِنْسَانٍ خَطِيَّةٌ حَقُّهَا الْمَوْتُ، فَقُتِلَ وَعَلَّقْتَهُ عَلَى خَشَبَةٍ، 23فَلاَ تَبِتْ جُثَّتُهُ عَلَى الْخَشَبَةِ، بَلْ تَدْفِنُهُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، لأَنَّ الْمُعَلَّقَ مَلْعُونٌ مِنَ اللهِ.} (اَلتَّثْنِيَة 21 : 22-23)
فمن ناحية كان اليهود قد اتهموا والدته بالزنا في البداية ثم رأوه قد مات تلك الميتة التي جعلها الله للملعونين، فكان هذا كافيا لإغلاق ملفه عندهم إلى الأبد. أما المسيحيون فقد وجدوا أنفسهم في ورطة كبيرة، إذ شاركوا اليهود التسليم بأن المسيح قد مات ميتة اللعنة وأقروا بها، ولكنهم نسجوا على هذه اللعنة عقيدة عجيبة ادعوا فيها أنه كان ينبغي أن يموت ملعونا فداء للبشرية ليكفِّر عن خطايا الناس جميعا! ودافعوا عن ولادته دون أب بقولهم إن أباه هو الله نفسه! ثم حاولوا ربط قصة الخلق وآدم والبشرية والخطية كلها ربطا عجيبا ليحوِّلوا موت المسيح على الصليب وولادته المحرجة بالنسبة لهم لتكون مصدر فخار لا عار. ومعلوم أن هذه المعتقدات كلها قد جاءت متأخرة، وأن الأناجيل لم تذكرها، بل إن رسائل بولس الذي بدأ القول بألوهية المسيح وبفدائه لا تحتوي على شيء من معتقدات المسيحية المتأخرة التي ظهرت في القرن الثالث الميلادي.
وعلى كل حال، فإن القرآن الكريم قد حل الإشكال من أساسه؛ بإعلانه الصريح أن المسيح لم يمت على الصليب، وأن اليهود والنصارى قد اشتبه الأمر عليهم وظنوه قد مات وهو لم يمت حقا، وأنهم في عقيدتهم بتكذيب المسيح بالنسبة لليهود أو بالاعتقاد بالكفارة والفداء بالنسبة للمسيحيين وما يتعلق بها من عقائد معقدة تراكبت كلها على عقيدة الموت على الصليب التي تشكل العمود الفقري للمعتقدات المسيحية إنما قد أخطأوا خطأ فادحا، لأن الأصل الذي بنيت عليه قد ثبت بطلانه.
والواقع أنه من السهل بالنسبة للمسيحيين أن يتوصلوا إلى الحقيقة التي أعلنها القرآن الكريم فيما لو نظروا إلى ما بين أيديهم في الأناجيل. فقد أعلن المسيح مسبقا أنه سيدخل بطن الأرض لثلاثة أيام وثلاث ليال كما دخل يونان (يونس) عليه السلام بطن الحوت، وأن هذه ستكون آيته الوحيدة التي يقدمها، إذ جاء في الإنجيل:
{38حِينَئِذٍ أَجَابَ قَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ قَائِلِينَ:«يَا مُعَلِّمُ، نُرِيدُ أَنْ نَرَى مِنْكَ آيَةً». 39فَأَجابَ وَقَالَ لَهُمْ:«جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ. 40لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَال، هكَذَا يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي قَلْب الأَرْضِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَال. 41رِجَالُ نِينَوَى سَيَقُومُونَ فِي الدِّينِ مَعَ هذَا الْجِيلِ وَيَدِينُونَهُ، لأَنَّهُمْ تَابُوا بِمُنَادَاةِ يُونَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ ههُنَا!} (إِنْجِيلُ مَتَّى 12 : 38-41)
فكما أن يونس قد دخل بطن الحوت حيا وخرج منه حيا كذلك “ابن الإنسان” سيدخل بطن الأرض حيا ويخرج منه حيا. وكما أن يونس قد حقق نجاحا وآمن به قومه بعد حادثة الحوت بعد أن عاد إليهم، فالمسيح يؤكد أنه أعظم من يونس وأن قومه سيستمعون لكلامه ويؤمنون به بعد خروجه من بطن الأرض بصورة أعظم مما حدث مع يونس.
واللافت أن الإنجيل يذكر خروج المسيح من قبره حيا ونجاته بعد الصلب بكل وضوح، إذ عندما ذهبت السيدة مريم والنسوة اللاتي كن معها إلى القبر يوم الأحد وجدن الصخرة مزحزحة ولم يجدن جسد المسيح داخل القبر. ثم رأينه يقف مرتديا زي بستاني خارج القبر ويقول لهن:
{لِمَاذَا تَطْلُبْنَ الْحَيَّ بَيْنَ الأَمْوَاتِ} (إِنْجِيلُ لُوقَا 24 : 5)
ثم التقى بتلميذين له في عمواس بعد أيام، ثم التقى ببقية تلاميذه في الجليل بعد أربعين يوما، وقد أكل وشرب معهم وجعلهم يلمسون جروحه. فلو نُظر إلى هذا الأمر بتجرد وببساطة فإن النتيجة الحتمية هي أنه قد نجا قطعا، ولا مكان لفكرة أنه قد مات ثم عاد إلى الحياة مرة أخرى، أو أن طبيعته قد تغيرت بعد هذه الحادثة، لأن الأحداث تشهد أنه بقي بشرا بعدها، وكان يتحرك خفيا خوفا من أن يقبض عليه مرة أخرى، ولم يكن في الأمر عجائب أو معجزات أو أمور جلالية.
وفي الأصل فإن الإنجيل قد ذكر أمورا هامة تؤكد أنه لم يمت على الصليب؛ ومنها الوقت الذي اختاره بيلاطس للصلب لكي لا يبقى معلقا فترة طويلة، وتعاطفه مع المسيح ومحاولة إنجائه بدعوة اليهود والشفاعة له عند اليهود، ثم كيف أنه عندما وكزه الضابط الروماني بالحربة في جنبه بعد أن أغمي عليه قد خرج دم وماء مما يعني أنه كان حيا، وكيف أنهم لم يكسروا عظامه كما فعلوا باللصين اللذين صلبا إلى جانبه واللذين لم يكونا قد ماتا بعد لكي يموتا على الأرض – علما أن القتل على الصليب كان يتطلب مدة تصل إلى ثلاثة أيام أو أكثر أحيانا لكي يموت المعلق من الألم والجوع والعطش ومن مضاعفات الجروح. وهذه الأمور كان قد درسها علماء غربيون في القرنين الماضيين واستنتجوا منها أن المسيح قطعا لم يكن قد مات على الصليب، وهذه الدراسات أصبحت كثيرة ومنتشرة في يومنا هذا. فالنظر إلى القصة بتجرد دون سلطة عقيدة تحاول توجيه الأحداث وحرفها عن مسارها الصحيح يؤدي إلى الخلوص إلى هذه النتيجة بكل بساطة.
ولقد بقيت قصة المسيح قضية تمحورت حولها الأديان الثلاثة واتخذت مواقف عقدية أساسية منها بناء على أفهام مغلوطة، إلى أن جاء هذا العصر الذي جاء فيه الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام الذي بمجيئه قد أكمل القصة من كل الجوانب.
فقد بيَّن حضرته أن المسيح لم يمت على الصليب بشهادة القرآن وإعلانه الصريح الواضح، ثم من ناحية ثانية قد بين الأدلة على ذلك من الإنجيل. ومع أن عددا من العلماء الغربيين كانوا قد توصلوا إلى هذه الحقيقة بدراستهم لوقائع الإنجيل كما ذكرنا سابقا، كما قال بذلك عدد من العلماء المسلمين بناء على ذلك، إلا أن أحدا لم يقدم تفسيرا متكاملا لما حدث بعد ذلك، وبقيت جوانب هامة من القصة غير مترابطة. كما أن مسألة نزول المسيح في آخر الزمان عند المسلمين قضية إشكالية ليس من السهل حلها. فالذي قدَّمه حضرته كان أن المسيح قد هاجر بعد نجاته من الصلب بصحبة والدته وعدد من تلاميذه إلى بلاد الشرق حيث أفغانستان وأطراف الهند وكشمير حيث كانت القبائل الإسرائيلية التي سباها نبوخذ نصَّر الملك البابلي وأسكنها هناك، ثم استقر به المقام في كشمير التي هي الربوة ذات القرار والمعين وهناك توفي ودُفن. وأنه قد حقق نجاحا بأن آمنت به قبائل بني إسرائيل في تلك البلاد وهيأها للإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي قد بشر به، وهذا ما جعلهم يدخلون الإسلام لاحقا، وبذلك يكون قد صدق إذ قال أنه أعظم من يونس وأن ما تحقق له أعظم مما تحقق ليونس عليه السلام. وهنالك أيضا إشارات في الإنجيل إلى أنه سيهاجر ويلتقي بهذه القبائل التي أسماها “خراف بيت إسرائيل الضالة”، كقوله:
{لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ} (إِنْجِيلُ مَتَّى 15 : 24)
وقوله:
{وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هذِهِ الْحَظِيرَةِ، يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضًا فَتَسْمَعُ صَوْتِي، وَتَكُونُ رَعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَرَاعٍ وَاحِدٌ.} (إِنْجِيلُ يُوحَنَّا 10 : 16)
أما بالنسبة للمسيحيين، فإن حقيقة عدم موت المسيح على الصليب – الذي لا بد أن يكون قد مات مصلوبا عليه ثم قام بالنسبة لهم – يجعل العقيدة المسيحية والإيمان المسيحي باطلة تماما، ويصبح من غير المجدي مجرد النظر فيها، وهذا باعتراف بولس بنفسه الذي قال:
{وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ، فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضًا إِيمَانُكُمْ} (رِسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ الأُولَى إِلَى أَهْلِ كُورِنْثُوسَ 15 : 14)
ولهذا يعدُّ هذا التوضيح كسرا للصليب الذي بنيت عليه هذه العقيدة، كما أنه كسر له بتبيان أن الصليب لم ينجح في انتزاع روح المسيح رغم أنه قد كان سببا لآلامه. ولكن هذا ينبغي ألا يؤلم أي مسيحي يحب السيد المسيح، بل الواجب أن يفرح بهذا لأن الله تعالى قد نجّى مسيحه الحبيب ولم يفلح أعداؤه في القضاء عليه. ولن يؤدي هذا إلا إلى أن يتخلى المسيحي فقط عن كل ما بني على هذه العقيدة من أمور خاطئة كرامة للمسيح الذي أحبه.
أما بالنسبة للمسلمين، فرغم أن هذه القصة لا تصطدم مع معتقدهم وإيمانهم كما هو حال المسيحيين بل تعززه، نرى أن قطاعا من المشايخ وأشياعهم من التقليديين يعارضون هذا ويصرون على قولهم بنظرية الشبيه الذي يعتقدون أنه قد وقع عليه شبه المسيح لأنهم ظنوا أن القرآن الكريم ينفي حتى مجرد تعليق المسيح الصليب لأنه يقول: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} (النساء 158)، وهذه القصة تقول أنه قد علق ولم يصلب بمعنى أنه لم يمت على الصليب، فيرون أن قبول مجرد التعليق مخالفة للقرآن بينما نظرية الشبيه تعالجها! مع أن أسلوب القرآن الكريم هنا لا ينفي الصلب بمعنى أنه مجرد التعليق على الصليب بل ينفي الصلب بمعنى القتل صلبا أو على الصليب بعد أن نفى القتل عموما بأي وسيلة.
والواقع، وبالتدبر في الآية نجد أن أسلوب القرآن الكريم يوحي أن التعليق قد حصل حتما رغم أن الموت على الصليب لم يحدث. وهذا الأسلوب قد استخدمه القرآن الكريم في مواضع أخرى كقوله تعالى:
{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأَنْفال 18)
فهل يمكن أن يستنتج أحد من هذه الآية أن المسلمين لم يقتلوا أحدا من المشركين وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرم شيئا؟ أم المقصود أنكم وإن قتلتوهم بأيديكم إلا أنني أنا الذي قتلتهم بتأييدي لكم وتدبيري وتوفيقي، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان قد رمى بحفنة من الحصى إلا أنني أثرت عاصفة بعد هذه الرمية ذرت التراب في عيونهم فكانت رمية النبي صلى الله عليه وسلم وكأنها رمية الله تعالى؟ الواقع أن هذا الأسلوب في النفي والاستدراك من بعده إنما يفيد أن هنالك حقيقة مخبأة خلف الحقيقة المشهودة والمعروفة. فهو ليس نفيا لحقيقة، بل تبيان لجوانب أخرى منها عادة ما تكون أكثر أهمية. ففي هذا السياق يصبح واضحا أن قصد القرآن الكريم أنهم لم يصلبوه بمعنى أنهم لم ينجحوا في قتله على الصليب، واشتبه الأمر عليهم، رغم أنهم علقوه عليه ورآه اليهود والنصارى وأجمعوا على ذلك.
فلو تجاوز المسلمون هذه النقطة وأدركوا أنها لا تخالف النص القرآني ولا الأسلوب القرآني فإنهم سيجدون سهولة في قبول هذه القصة.
بعد ذلك لم يبق سوى عقيدة نزول المسيح في آخر الزمان وكيفية تحققها، وهي التي قد أدت إلى الانحرافات في العقيدة الإسلامية حسب ما ذكرنا سابقا. وقد حلَّها حضرته بتبيان أن مسيح القرآن متوفى ولن يعود إلى يوم القيامة بشهادة القرآن، ولذلك لا نستطيع أن نتغافل عن هذا، ولن يكون أمامنا خيار سوى أن نفهم بأن المسيح النازل لن يكون هو بنفسه بل مثيله وشبيهه كما هي العادة المتعلقة بالأنباء المستقبلية، وأنه لم يكن هنالك صعود إلى السماء ولن يكون هنالك نزول من السماء. والعجيب أن لهذه القصة مثيل عند اليهود والمسيحيين، إذ كان اليهود يؤمنون بأن إلياس قد صعد إلى السماء وأنه سينزل بنفسه من السماء قبل ظهور المسيح، فرد عليهم المسيح بنفسه قائلا عن يحيى عليه السلام:
{وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَقْبَلُوا، فَهذَا هُوَ إِيلِيَّا الْمُزْمِعُ أَنْ يَأْتِيَ} (إِنْجِيلُ مَتَّى 11 : 14)
وبين بأنه لم يصعد أحد إلى السماء بجسده، ولن ينزل أحد بجسده، وأن قدومه هو نزول روحاني من السماء، رغم أنه قد ولد على الأرض، كما هو حال الأنبياء دوما:
{وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ.} (إِنْجِيلُ يُوحَنَّا 3 : 13)
وهكذا، وإكمالا للدائرة، فقد أعلن حضرته أن الله تعالى أنبأه بأنه هو المقصود من نزول المسيح في آخر الزمان، وبيَّن بأنه مصداق للعديد من الأنباء القرآنية والتي وردت في الحديث الشريف التي تتعاضد فيما بينها لتدل على شيء واحد؛ كنبأ الرجل الفارسي الذي سيكون خليفة النبي صلى الله عليه وسلم في بعثته الثانية الواردة في سورة الجمعة في قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} (الجمعة 4) والتي فسرها النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح الحديث الشريف، ونبأ تفرق الأمة وظهور الفرقة الناجية، ونبأ قيام الخلافة على منهاج النبوة ثانية، ونبأ المماثلة مع بني إسرائيل في الفضل والفساد وغيرها.
وهكذا فقد أصبح واجبا على المسلمين والمسيحيين أن يقبلوا بالمسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام الذي لم يوضح الحقائق هذه فحسب، بل كان قدومه هو النزول الموعود الذي ينتظره المسلمون والمسيحيون بل واليهود أيضا. بل والأعجب من ذلك أن الأديان الأخرى في العالم تحتوي كلها عقيدة الانتظار وتترقب مبعوثا أو عودة أنبيائها مرة أخرى لكي ينتصروا لهم على كل الأديان، وكل الأنباء المتعلقة بهؤلاء قد تحققت فيه ليجمع الناس على دين الإسلام عند أقدام سيدنا محمد المصطفى صلى الله عليه سلم.