بداية نقول بأن التوفي في هذه الأية الخاصة بعيسى عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام قد اختلف حوله المفسرون، فمنهم من قال بالموت ومنهم من فسر التوفي بالنوم أو الاستيفاء وما إلى ذلك. ونقتبس من تفسير الثعالبي:
“وقوله تعالى إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك الآية اختلف في هذا التوفي فقال الربيع هي وفاة نوم وقال الحسن وغيره هو توفى قبض وتحصيل أي قابضك من الأرض ومحصلك في السماء وقال ابن عباس هي وفاة موت ونحوه لمالك في العتبية وقال وهب بن منبه توفاه الله بالموت ثلاث ساعات ورفعه فيها ثم أحياه بعد ذلك وقال الفراء هي وفاة موت ولكن المعنى إني متوفيك في أخر أمرك عند نزولك وقتلك الدجال ففي الكلام تقديم وتأخير..” (الجواهر الحسان في تفسير القرآن، عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات – بيروت، 1/272)
وقد أورد البخاري قول ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كما يلي:
{إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا , وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ , ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [آل عمران: ٥٥]
قَالَ الْبُخَارِيُّ:
“{وَإِذْ قَالَ اللهُ}: يَقُولُ: قَالَ اللهُ، وَ {إِذْ} هَاهُنَا صِلَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {مُتَوَفِّيكَ}: مُمِيتُكَ.” (صحيح الْبُخَارِيُّ ج 6 ص 54)
كذلك ورد قول ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في فتح القدير للشوكاني:
“وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله {إني متوفيك} يقول : مميتك وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن قال : متوفيك من الأرض.” (فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، محمد بن علي الشوكاني، 1/521)
وهو ما نقله السيوطي رحمه الله أيضا:
“أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس في قوله إني متوفيك يقول: إني مميتك.” (الدر المنثور، عبد الرحمن بن الكمال جلال الدين السيوطي، دار الفكر – بيروت ، 1993، 2/224)
وفيما يلي بيان اتفاق بعض المفسرين مع رأي ترجمان القرآن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حول معنى التوفي في الآية:
يوافق صاحب “تفسير اللباب في علوم الكتاب” أيضا على هذا المعنى ويورد قول ابن عباس أيضا بعد أن يسوق اختلاف المفسرين حول معنى التوفي:
“{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}، فيه وجهان: أحدهما: وهو الأظهر أن يكون الكلام على حاله -من غير ادعاء تقديم وتأخير فيه- بمعنى إني مستوفي أجلك ومؤخرك وعاصمك من أن يقتلكَ الكفارُ، إلى أن تموت حتفَ أنفِك -من غير أن تُقتَل بأيدي الكفار- ورافعك إلى سمائي. الثاني: أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، والأصلُ: رافعك إليَّ ومتوفيك؛ لأنه رُفِعَ إلى السماء، ثم يتوفى بعد ذلك، واواو للجمع، فلا فرق بين التقديمِ والتأخيرِ قاله أبو البقاء. ولا حاجة إلى ذلك مع إمكان إقرار كل واحد في مكانه مما تقدم من المعنى، إلا أن أب البقاء حمل التوفي على الموت، وذلك إنما هو بَعْدَ رَفْعِه، ونزلوه إلى الأرض وحُكمِه بِشريعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كما ثبت في الحديثِ. فعلى الأول ففيه وجوهٌ: أحدها: إني متمم عمرك، وإذا تَمَّ عمرُك فحينئذٍ أتوفَّاك كما قدمناه. الثاني: إني مُميتُك، والمقصود منه ألا يصل أعدؤه من اليهود إلى قتله. وهو مروي عن ابن عبَّاسٍ ومحمد بن إسحاق.” (تفسير اللباب في علوم الكتاب، أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني ت 775هـ، 4/109)
ويتفق إبراهيم القطان رحمه الله في تفسيره مع رأي ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حول الموت وزاد عَلَيْهِ تفسيره للرفع بأنه رفع المكانة لا الجسد:
“وقد فسّر الألوسي قوله تعالى {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} بمعنى: إني مُسْتوفٍ أجَلَك ومميتُك حتفَ أنفك لا اسلِّط عليك من يقتُلُك، وهو كنايةٌ عن عصتمه من الأعداء وما كانوا بصدَدِه من الفتك به عليه السلام. وظاهرٌ ان الرفع الذي يكون بعد استيفاء الأجَل هو رفْع المكانةٍ لا رفع الجسد، خصوصاً وقد جاء بجانبه قولُه: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ} مما يدل على أن الأمر أمرُ تشريفٍ وتكريم.” (تيسير التفسير، إبراهيم القطان ت 1404هـ، 1/450)
نبذة عن المؤلف إبراهيم القطان: ( 1334 – 1404 هـ = 1916 – 1984 م) قاض أديب. مولده ووفاته في عمان الأردن، دخل الأزهر، وتخرج فيه، وعمل بالقضاء 1942- 1947، ومنه انتقل إلى وزارة المعارف (التربية والتعليم الآن) مفتشاً للغة العربية والتربية الإسلامية، وظل فيها إلى عام 1961. وفي العام الذي يليه عين قاضياً للقضاة، ووزيراً للتربية والتعليم، فسفيراً لبلاده بالمغرب فالكويت، فباكستان، فقاضياً للقضاة مرة أخرى عام 1977 حتى وفاته، وكان من أعضاء مجمعي اللغة العربية بعمان والقاهرة. وكان دمث الخلق، طلق المحيا. له (عثرات المنجد) و (تيسير التفسير). وشارك في تاليف أكثر من ثلاثين كتاباً مدرسياً في التربية الإسلامية واللغة العربية منها (النصوص الأدبية) و (القواعد الوافية).
نقلاً من ذيل الأعلام
ويوافق أيضا صاحب “تفسير السراج المنير” حول معنى الإماتة كما يلي:
“{يا عيسى إني متوفيك} أي: مستوفي أجلك ومعناه إني عاصمك من أن يقتلك الكافر ومؤخرك إلى أجل كتبته لك ومميتك حتف أنفك لا قتلاً بأيديهم..” (تفسير السراج المنير، محمد الشربيني الخطيب، 1/489)
ويؤكد صاحب “تفسير التحرير والتنوير” على هذا المعنى كما يلي:
“والتوفي نزع الروح من الجسد وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى : {إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك} في سورة آل عمران وهو المراد هنا ولا جدوى في حمله على غير هذا المعنى مما تردد فيه المفسرون.” (التحرير والتنوير، تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد، محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي ت 1393هـ، 1/1530)
فهذه الشريحة من العلماء وأهل التفسير متفقون على أن التوفي معناه الإماتة وأنه هو الأصل، وتدعم ذلك حجة الذين يرون التوفي بمعنى النوم أو الإنامة لأنهم لا يستشهدون بغير آية هو الذي يتوفاكم في الليل التي وردت فيها قرينة صرف معنى الإماتة إلى الإنامة. كذلك يسند هذا المعنى أصحاب الرأي القائل بتقديم وتأخير كلمات الآية بما يناسب عقيدة نزول المسيح التي كانت سبباً جلياً في الاختلاف حول التوفي الذي اتفق جميعهم على أن أصله هو الإماتة ويمكن صرفه للنوم بقرائن لصرف المعنى الأصلي كما تقدم. فالقائلون بالتقديم والتأخير يتفقون على أن التوفي هو الإماتة ولكنها متأخرة حسب تفسيرهم.
وبهذا أثبتنا بدون الحاجة للقواميس بأن التوفي في أصله هو الإماتة ولا يصرف إلا بقرينة وهو قول الجماعة الإسلامية الأحمدية ولله الحمد.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ