تتفق الجماعة الإسلامية الأحمدية مع جميع علماء الدين على أن من مات لا يعود مرة أخرى إلى الدنيا أبدا، فقد قرر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من مات فقد قامت قيامته، وفي الحديث الذي رواه جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى كلم أباه كفاحا بعد استشهاده في معركة أحُد، فقال له يا عبدي تمنَّ عليَّ، فأراد عبد الله أن يُحييه الله مرة أخرى ويعود إلى الدنيا حتى يُجاهد ويُقتل في سبيل الله، فقال له الله: “سبق مني القول أنهم لا يرجعون”. وهذا هو ما قرره سبحانه وتعالى في كتابه العزيز.. إذ إنه قضى بأن من توفّاه الله لا يعود مرة أخرى إلى هذه الحياة الدنيا أبدا. وفي ذلك يقول: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} (الأنبياء:96)
{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ}(يس:32)
{مَا يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَاْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ وَنُفِخَ في الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} (يس:50-53)
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ. كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِنْ وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(المؤمنون:100-101)
هذه هي السُنّة التي قدرها الله تعالى، وهذا هو القانون الذي قضى به سبحانه وأوضحه تمام الوضوح في هذه الآيات الكريمة: أن من أهلكه الله تعالى فلا يعود ولا يرجع مرة أخرى إلى الحياة الدنيا، وإنما يعود فقط إلى الحياة يوم البعث بعد أن يُنفخ في الصور كما تشير آيات سورة يس. وعلى ذلك فقد قضى الله على الإنسان أن يموت موتة واحدة فقط فقال سبحانه:{لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}(الدخان:57)
{إِنَّ هَؤُلاَءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ} (الدخان:35-36)
{قَالَ تَاللهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعّذَّبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (الصافّات:57-61)
ويتضح من هذه الآيات الكريمة أن كلاّ من المؤمنين وغير المؤمنين يعلم تماما أنه ليس للإنسان سوى موتة واحدة فقط، فهذا هو قضاء الله وقدره.
ولا يعني هذا بتاتا أن الله تعالى لا يستطيع أن يُعيد إنسانا هلك ومات إلى هذه الحياة الدنيا، كما لا يعني أن قدرة الله تقصر أو تعجز عن إعادة من توفاه الله إلى هذه الدنيا، فحاشا لله أن تحدّ قدرَتَه حدود، وتعالى سبحانه أن يعجز عن عمل شيء، ولكن الأمر لا يتعلق بقدرة الله تعالى، وليست القضية هي أن الله يستطيع إعادة المتوفى إلى الحياة أو لا يستطيع، فمع التسليم الكامل بأنه لا يعجز عن فعل شيء.. إلا أنه لن يُعيد من هلك ومات إلى هذه الحياة الدنيا.. لا لأنه يعجز عن ذلك، ولكن لأن هذا هو ما قرره سبحانه بنفسه، وهذه هي سُنّته التي لن تجد لها تبديلا ولن تجد لها تحويلا، فإن الله تعالى وصف نفسه بالحكمة كما وصف نفسه بالقدرة، وحكمة الله تقتضي أن لا يختلف قوله مع فعله، فهذا أمر يمقته الله تعالى مقتا شديدا، ويوبخ سبحانه المؤمنين الذين تختلف أقوالهم مع أفعالهم، إذ يقول:{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} (الصف:4)
نعم إن الله على كل شيء قدير، ولكنه سبحانه لا يظلم أحدا.. ليس لأنه لا يستطيع أن يظلم، ولا لأن قُدرته تقصر عن الظلم، ولكن لأنه قرر بنفسه وقال: {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (الكهف:50) وقال: {إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} (النساء:41)
وحين قضى الله سبحانه وتعالى أن يَتَوَفَّى أحدًا من البشر، فقد قضى أن يمسك النفسَ التي قضى عليها الموت، كما أوضح ذلك في قوله:
{اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتي لَمْ تَمُتْ في مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى} (الزمر:43)
وقد شرح سبحانه وتعالى معنى التوفي في هذه الآية شرحا وافيا فقال إنه سبحانه يتوفى الأنفس حين موتها ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها، فأما الأنفس التي يتوفاها الله تعالى حين موتها فهي تلك التي لا تعود مرة أخرى إلى الحياة الدنيا، لأنه يمسك تلك النفس التي قضى عليها الموت بعد التوفي، وأما الأنفس التي يتوفاها الله تعالى في منامها فهي الأنفس التي لم تمت وهي تلك التي يرسلها ويردها إلى أجل مسمى.
وأكد سبحانه هذا القانون الذي قدّره بنفسه في العديد من الآيات مثل قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (العنكبوت:58)
وتوضح هذه الآية أن كل نفس.. بغير استثناء.. تذوق الموت، ثم ترجع إلى الله ولا ترجع إلى الدنيا. وعلى ذلك فإن الجماعة الإسلامية الأحمدية تختلف مع أولئك الذين يحاولون إرجاع عيسى بن مريم عليه السلام إلى هذه الحياة الدنيا مرة أخرى بعد أن توفاه الله، ويدّعون أن الله تعالى قادر على أن يستثنيه من هذا القانون، ونقول لهم إن الله تعالى لم يقض باستثناء أحد، ولا يتعلق الأمر بقدرة الله، وإنما يتعلق بحكمته وسُنّته التي قررها.
ومما قاله مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية في هذا الموضوع:
الإنسان لا يموت مرتين
”…. فحاصل كلامهم أن للخلق كلهم موتا واحدا وللمسيح موتين. ولكننا إذا نظرنا في كتاب الله سبحانه فوجدنا هذا القول مخالفا لنصوصه البينة، ألا ترى أن الله تبارك وتعالى قال في كتابه المحكم حكاية عن مؤمن مغبط نفسه بما أعطاه الله من الخلد في الجنة والإقامة في دار الكرامة بلا موت: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (الصافات:59-61).
فانظر أيها العزيز.. كيف أشار الله تعالى إلى امتناع الموت الثاني بعد الموتة الأولى، وبشرنا بالخلود في العالم الثاني بعد الموت، فلا تكن من المنكرين. وأنت تعلم أن الهمزة في جملة: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} للاستفهام التقريري، وفيها معنى التعجب، والفاء ههنا للعطف على محذوف، أي أنحن مخلّدون منعمون مع قلة أعمالنا وما نحن بميتين؟واعلم أن هذا سؤال من أهل الجنة حين يسمعون قول الله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (المرسلات:44)، كما رُوِيَ عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى{هَنِيئًا}: فعند ذلك يقولون أفما نحن بميتين إلاّ موتتنا الأولى. واعلم أن قولهم هذا يكون على طريقة الابتهاج والسرور، ثم اعلم أن الاستثناء ههنا مفرغ.. وقيل منقطع، بمعنى: لكن. وفي كل حالٍ يثبت من هذه الآية أن أهل الجنة يُبَشرون بالدوام والخلد ويُبَشرون بأن لهم لا موت إلاّ موتتهم الأولى، وهذا دليل صريح على أن الله ما جعل لأهل الجنة موتين بل بشرهم بالحياة الأبدية بعد الموت الذي قد قُدّرَ لكل رجل. وقال في آخر هذه الآية: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، فأشار إلى أن دوام الحياة وعدم الموت مع نعيم وسرور وحبور من التفضلات العظيمة، فإذا تقرر هذا فكيف يُتَصَوَّر ويُظَنُّ أن نبيا كمثل عيسى.. مع كونه من المقربين.. محروم من هذا التفضل العظيم؟ وكيف يُتَصَوَّرُ أن الله يخلف وعده ويرده إلى الدنيا وآلامها وآفاتها ومصائبها وشدائدها ومراراتها، ثم يميته مرة ثانية، سبحانه هذا بهتان عظيم. وما كان لأحد أن يعود لمثله بعد ما اطّلع على خطئه إن كان من المؤمنين“.
استدلال أبي بكر بعدم الموت مرتين
”…. ثم نرجع إلى كلماتنا الأولى ونقول إن الآية التي ذكرناها آنفا.. أعني قوله تعالى: {إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى}، قد استدل بها الخليفة الأول أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه إذا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلف الناس في وفاته، وقال عمر ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بموت حقيقي، بل يأتي مرة ثانية في الدنيا ويقطع أنوف المنافقين وأيديهم وآذانهم، فأنكره الصدّيق ومنعه من ذلك، ثم بادر إلى بيت عائشة رضي الله عنها وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ميتا على الفراش، فنـزع عن وجهه الرداء وقبّله وبكى، وقال: إنك طيب حيا وميتا، لن يجمع الله عليك الموتين إلا موتتك الأولى، فرد بذلك القول قول عمر، وكان مأخذ قوله تعالى: { إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى}، وكانت لأبي بكر مناسبة عجيبة بدقائق القرآن ورموزه وأسراره ومعارفه، وكان له ملكة كاملة في استنباط المسائل من القرآن الكريم، فلذلك هُدِيَ قلبه إلى الحق وفهم أن الرجوع إلى الدنيا موتة ثانية، وهي لا يجوز على أهل الجنة بدليل قوله تعالى حكاية عن أهلها: {إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}. فإن رجوع أهل الجنة إلى الدنيا ثم موتهم وَوُرُود آلام السكرات والأمراض عليهم نوع من التعذيب، وقد نجّا الله إياهم من كل عذاب، وآواهم عنده بإعطاء كل حبور وسرور من يوم انتقالهم إلى الدار الآخرة، فكيف يمكن أن يرجعوا إلى دار التعذيبات مرة ثانية؟ فهذا معنى قول أهل الجنة: {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} (الشعراء:139).
فحاصل الكلام.. إن أبا بكر الصدّيق ردّ بهذه الآية قول عمر رضي الله عنه، ثم ما اكتفى على ذلك بل قصد المسجد وانطلق معه رهط من الصحابة فجاء وصعد المنبر، وجمع حوله كل من كان موجودا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أثنى على الله وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم وقال: أيها الناس.. اعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفي. فمن كان يعبد محمدا صلى الله عليه وسلم فليعلم أنه قد مات، ومن كان يعبد الله فإنه حيّ لا يموت، ثم قرأ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}(آل عمران:145). فاستدل بهذه الآية على موت رسول الله صلى الله عليه وسلم بناءًا على أن الأنبياء كلهم قد ماتوا، فلما سمع الصحابة قول الصدّيق رضي الله عنه، ما ردّ أحد على قوله، وما قال أحد له: أيها الرجل.. إنك كذبت أو أخطأت في استدلالك أو ذكرت استدلالا ناقصا وما كنت من المصيبين.
فلو كانوا معتقدين أن عيسى حيّ إلى ذلك الزمان لردّوا على أبي بكر، وقالوا كيف تفهم من هذه الآية موت الأنبياء كلهم؟ ألا تعلم أن عيسى قد رُفع إلى السماء حيا ويأتي في آخر الزمان؟ فإذا كان عيسى راجعا إلى الدنيا مرة ثانية وأنت تؤمن به، فأي حرج ومضايقة في أن يأتينا رسولنا صلى الله عليه وسلم أيضا كما زعمه عمر.. الذي يجري الحق على لسانه، وله شأن عظيم في الرأي الصائب، ولرأيه موافقة بأحكام القرآن في مواضع، ومع ذلك فهو ملهم ومن الْمُحَدَّثين؟ وإن وفاة نبينا صلى الله عليه وسلم للمسلمين مصيبة ما أصيبوا بمثلها.. فليس من العجب أن يرجع نبينا صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا، بل رجوعه إلى الدنيا أحق وأولى وأنفع من رجوع المسيح، وحاجة المسلمين إلى وجوده المبارك أشد وأزيَد من حاجتهم إلى وجود المسيح. لكنهم ما ردّوا على الصدّيق بهذه الكلمات بل سكتوا كلهم ونبذوا من أيديهم سهام الإنكار، وقبلوا قوله وبكوا وقالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون. ونظروا إلى موت الأنبياء كلهم واطمأنوا بها، فإنهم ماتوا كلهم وما كان أحد منهم من الخالدين.
وإذا ثبت أن رجوع أهل الجنة والذين قعدوا عند مليك مقتدر بحبور وسرور ممنوعٌ، وخروجهم من نعيمهم ولذّاتهم يُخالف وعد الله، فكيف يُجَوِّزُ العاقل المؤمن أن المسيح عليه السلام محروم من هذا الفوز العظيم، ولكل بشر موت وله موتان؟ أليس هذا مما يخالف نصوص القرآن؟ فتدبر وسَلِ الله يهب لك فهم المتدبرين. وقد قال الله تعالى في مقامات أخرى: {وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (الحجر:49)، وقال: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} (الزمر:43)، وقال: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} (الأنبياء:96). فانظر أيها العزيز! كيف نترك هذا الحق الصريح بناء على خيالات واهية وتحكمات فاسدة؟ فتفكر واتق الله إن الله يحب المتقين.
لا رجوع حقيقي إلى الدنيا
وربما يختلج في قلبك أن رجوع الموتى إلى الدنيا بعد دخولهم الجنة ممنوع، ولكن أي حرج في رجوعٍ كان قبل دخول الجنة؟ فاعلم أن آيات القرآن كلها تدل على أن الميت لا يرجع إلى الدنيا أصلا، سواء كان في الجنة أو في جهنم أو خارجا منهما، وقد قرأنا عليك آنفا آية: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ}، {أَنَّهُمْ لاَ يَرْجعُونَ}. ولا شك أن هذه الآيات تدل بدلالة صريحة على أن الذاهبين من هذه الدنيا لا يرجعون إليها أبدا بالرجوع الحقيقي، وأعني من الرجوع الحقيقي رجوع الموتى إلى الدنيا بجميع شهواتها ولوازمها، ومع كسب الأعمال من خير وشر، ومع استحقاق الأجر على ما كسبوا، ومع ذلك أعني من الرجوع الحقيقي لحوق الموتى بالذين فارقوهم من الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة الذين هم موجودون في الدنيا، وكذلك رجوعهم إلى أموالهم التي كانوا اقترفوها، ومساكنهم التي كانوا بنوها، وزروعهم التي كانوا زرعوها، وخزائنهم التي كانوا جمعوها. ثم من شرائط الرجوع الحقيقي أن يعيشوا في الدنيا كما كانوا يعيشون من قبل، ويتزوجوا إن كانوا إلى النكاح محتاجين، وأن يؤمنوا بالله ورسوله فيُقبل إيمانهم ولا يُنظر إلى كفرهم الذي ماتوا عليه بل ينفعهم إيمانهم بعد رجوعهم إلى الدنيا وكونهم من المؤمنين. ولكنا لا نجد في القرآن شيئا من هذه المواعيد، ولا سورة ذُكرت فيها هذه المسائل، بل نجد ما يخالفه كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين خَالِدِينَ فِيهَا} (البقرة:162-163).
فانظر كيف وعد الله للكافرين لعنة أبدية، فلو رجعوا إلى الدنيا وآمنوا بكتبه ورسله لوجب أن لا يُقبل عنهم إيمانهم، ولا يُنـزع عنهم اللعنة الموعودة إلى الأبد كما هو منطوق الآية، وأنت تعلم أن هذا الأمر يُخالف هدايات القرآن كما لا يخفى على المتفقهين.
وأما إحياء الموتى من دون هذه اللوازم التي ذكرناها، أو إماتة الأحياء لساعة واحدة ثم إحياؤهم من غير توقف كما نجد بيانه في قصص القرآن الكريم فهو أمر آخر، وسر من أسرار الله تعالى، ولا توجد فيه آثار الحياة الحقيقية ولا علامات الموت الحقيقي، بل هو من آيات الله تعالى واعجازات بعض أنبيائه، نؤمن به وإن لم نعلم حقيقته، ولكنا لا نسميه إحياءً حقيقيا ولا إماتة حقيقية. فإن رجلا مثلا أُحْيِيَ بعد ألف سنة بإعجاز نبي ثم أُمِيتَ بلا توقف، وما رجع إلى بيته، وما عاد إلى أهله وإلى شهوات الدنيا ولذّاتها، وما كان له خيرة من أن تُرد إليه زوجه وأمواله وكل ما ملكت يمينه ومن ورثاء آخرين، بل ما مس شيئا منها ومات بلا مكث ولحق بالميتين، فلا نسمي مثل هذا الإحياء إحياءً حقيقيا بل نسميه آية من آيات الله تعالى ونفوض حقيقته إلى رب العالمين.
ولا شك أن إحياء الموتى وإرسالهم إلى الدنيا يقلب كتاب الله بل يُثبت أنه ناقص، ويوجب فتنا كثيرة في دين الناس ودنياهم، وأكبرها فتن الدين. مثلا كانت امرأة نكحت زوجا فتوفي فنكحت زوجا آخر فتوفي فنكحت ثالثا فتوفي، فأحياهم الله تعالى في وقت واحد فاختصموا فيها بعولتها، وادّعى كل واحد منهم أنها زوجته، فمن أحق منهم في كتاب الله الذي أكمل أحكامه وحدوده؟ وكيف يحكم فيهم القاضي؟ وكيف يحكم في أموالهم و أملاكهم وبيوتهم من كتاب الله؟ أتؤخذ من الورثاء وترد إلى الموتى الذين صاروا من الأحياء؟ بيّنوا تُؤجَروا، إن كنتم على قول الله ورسوله مطلعين. (يقصد حضرته أن كتاب الله لم يحتو على أي تشريع لمثل هذه الأمور، وحيث إن كتاب الله قد اكتمل بكل التشريعات التي تحتاجها الإنسانية إلى يوم القيامة، فيعني هذا أن هذه الأمور لا يمكن وقوعها في الحياة الدنيا)
وكذلك الإماتة التي كانت لساعة أو ساعتين ثم أُحْيِيَ الميت، فليست إماتة حقيقة بل آية من آيات الله تعالى، ولا يعلم حقيقتها إلا هو. وأنت تعلم أن الله ما وعد بحشر الموتى في القرآن إلا وعدًا واحدًا وهو الذي يظهر عند يوم القيامة، وأخبر عن عدم رجوع الموتى قبل يوم القيامة، فنحن نؤمن بما أخبر وننـزه القرآن عن الاختلافات والتناقضات، ونؤمن بآية: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} (الزمر:49)، ونؤمن بآية: {وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (الحجر:49).”