يقول المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام :
“وأمّا ذكر رفعه بالخصوصية في القرآن، فكان لذبّ ما زعم اليهود وأهل الصلبان، فإنهم ظنوا أنه صُلب ولُعن بحكم التوراة، واللعن يُنافي الرفع بل هو ضدّه كما لا يخفَى على ذوي الحصاة. فردّ الله على هاتين الطائفتين بقوله: (بَل رَّفَعَه اللهُ إِلَيْهِ). والمقصود منه أنه ليس بملعون بل من الذين يُرفعون ويُكرمون أمام عينيه. وما كان إنكار اليهود إلاّ من الرفع الروحاني الذي لا يستحقّه المصلوب، وليس عندهم رفع الجسم مدار النجاة فالبحث عنه لغو لا يلزم منه اللعن والذنوب. فإن إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى، ما رُفع أحدٌ منهم إلى السماء بجسمه العنصري كما لا يخفَى، ولا شك أنهم بعدوا من اللعنة وجُعلوا من المقرّبين. ونجوا بفضل الله بل كانوا سادة الناجين. فلو كان رفع الجسم إلى السماء من شرائط النجاة، لكان عقيدة اليهود في أنبيائهم أنهم رُفعوا مع الجسم إلى السماوات.
فالحاصل أن رفع الجسم ما كان عند اليهود من علامات أهل الإيمان، وما كان إنكارهم إلاّ من رفع روح عيسى وكذلك يقولون إلى هذا الزمان. فإن فرضنا أن قوله تعالى: (بَلْ رَّفَعَه اللهُ إِلَيْهِ) كان لبيان رفع جسم عيسى إلى السماء، فأين ذكر رفع روحه الذي فيه تطهيره من اللعنة وشهادة الإبراء، مع أن ذكره كان واجبا لرد ما زعم اليهود والنصارى من الخطاء. وكفاك هذا إن كنت من أهل الرشد والدهاء. أتظن أن الله ترك بيان رفع الروح الذي يُنجّي عيسى مما أُفتِيَ عليه في الشريعة الموسوية، وتصدّى لذكر رفع الجسم الذي لا يتعلّق بأمر يستلزم اللعنة عند هذه الفرقة؟ وليس تحته شيء من الحقيقة، وما حمل النصارى على ذلك إلاّ طعن اليهود بالإصرار، وقولهم أن عيسى ملعون بما صُلب كالأشرار، والمصلوب ملعون بحكم التوراة وليس ههنا سعة الفرار. فضاقت الأرض بهذا الطعن على النصارى، وصاروا في أيدي اليهود كالأسارى، فنحتوا من عند أنفسهم حيلة صعود عيسى إلى السماء، لعلّهم يُطهّروه من اللعنة بهذا الافتراء. وما كان مفرّ من تلك الحادثة الشهيرة التي اشتهرت بين الخواص والعوام، فإن الصليب كان موجبا للعنة باتّفاق جميع فرق اليهود وعلمائهم العظام. فلذلك نُحِتت قصة صعود المسيح مع الجسم حيلة للإبراء، فما قُبِلت لعدم الشهداء، فرجعوا مضطرّين إلى قبول إلزام اللعنة، وقالوا حملها المسيح تنجيةً للأمّة. وما كانت هذه المعاذير إلاّ كخبط عشواء، ثم بعد مدّة اتّبعوا الأهواء، وجعلوا متعمّدين ابن مريم لله كشركاء. وصار صعود المسيح وحمله اللعنة عقيدة بعد ثلاث مائة سنة عند المسيحيين، ثم تبع بعض خيالاتهم بعد القرون الثلاثة الفيج الأعوج من المسلمين”. (الهدى والتبصرة لمن يرى، الخزائن الروحانية، مجلد 18 ص 362-364)
“ومن عجائب قدرة الله أنه جمع لإنقاذ المسيح عدةَ عوامل في وقت واحد، حيث اشتدّ الظلام لدى تعليقه على الصليب، وحدث زلزال، ورأت زوجةُ بيلاطس الرؤيا، واقترب حلول ليلة السبت العظيم الذي كان حرامًا أن يتركوا فيه أحدًا على الصليب، ومال قلب الحاكم إلى إنقاذ المسيح بسبب تلك الرؤيا المُنذرة؛ كما جعل الله المسيحَ كالمغشي عليه من الموت لكي يبدو للجميع كالأموات، وبثَّ في نفوس اليهود الرعبَ بإظهار الآيات المهوِّلة كالزلزال وغيره فخافوا أن ينـزل عليهم العذاب؛ بالإضافة إلى تخوّفهم من بقاء الجثث على الصليب ليلةَ السبت؛ ثم إن اليهود حين رأوا المسيح في حالة الإغماء حسبوه ميّتًا؛ كما أن شدّة الظلام والزلزال والفزع كل هذه الأمور دفعتهم لأن يهتمّوا ببيوتهم ويقلقوا على أهلهم وعيالهم؛ كما أخذ الذعر يطغى على قلوبهم، لأنهم تساءلوا أن هذا الرجل إذا كان كافرًا كاذبًا، كما ظنّوه، فلماذا ظهرتْ تلك العلامات المهيبة عند تعذيبهم له، وبشكل لم يسبق له نظير، فلم يستطيعوا من شدّة فزعهم أن يتبيّنوا ما إذا كان المسيح قد مات في الواقع أم لا. والحق أن جميع هذه الأمور كانت تدابير إلهية لإنقاذ المسيح؛ وإلى ذلك تُشير الآية الكريمة (ولكن شُبِّهَ لهم).. أي أن اليهود لم يتمكّنوا من قتل المسيح، ولكن الله تعالى شبَّه عليهم الأمرَ، فظنّوا أنهم قد قتلوه؛ الأمر الذي يتقوّى به أملُ أولياء الله في فضله بأنه قادر على إنقاذ عباده بأية طريقة شاء”. (المسيح الناصري في الهند، 54-55)
“هذا، وإن نجاة المسيح من الموت على الصليب كانت أمرًا محتومًا لسبب آخر أيضًا وهو أنه قد ورد في الكتاب المقدّس: ملعون كلّ من يُعلَّق على الخشبة. وكلمة اللعنة تتضمن معنًى شنيعًا بحيث يصبح إطلاقه على إنسان مقدس مثل المسيح عيسى، ولو للحظة واحدة، ظلمًا عظيمًا وتعسّفًا صارخًا؛ لأن معنى اللعنة عند علماء اللغة كافة مرتبطٌ بقلب الإنسان، ولا يُدعى أحد ملعونًا إلا إذا صار قلبه بالفعل مسودًّا بالخروج عن طاعة الله، ومحرومًا من رحمة الله، وخاليًا من حبّه، وصفرًا من معرفته -سبحانه وتعالى- ممتلئًا بسموم الغواية، بعد أن أصبح كالشيطان شقيًّا أعمى، بحيث لا يبقى فيه ذرّةٌ من نور معرفة الله وحبه، بل تنقطع أية صلة له بالله من الصدق والوفاء، حتى تظهر بينه وبين الله الكراهيةُ والبغضاء والنفور والعداوة، بحيث يصير الله عدوًّا له ويصير هو عدوًّا لله، ويتبرّأ الله منه ويتبرّأ هو منه؛ وبالاختصار إنه يرث كلَّ صفة من صفات الشيطان، ومن أجل ذلك سُمِّي الشيطان لعينًا.
فتبين أن مفهوم كلمة “الملعون” نَجِسٌ قَذِرٌ بحيث يستحيل تمامًا انطباقُه على أي إنسان صالح يفيض قلبه بحب الله تعالى!” (المسيح الناصري في الهند، ص 19)
“كما يتبيّن من الإنجيل أيضًا أن المسيح ؏ كان على يقين تام من استجابة دعائه، وكان يعوّل على ذلك الدعاء تمام التعويل؛ ولذلك فلما قُبض عليه وعُلّق على الصليب، ولم يجد الظروف ملائمةً لآماله صرَخَ بشكل عفوي: “إيلي إيلي لَما شَبَقْتَني.. أي: إلهي إلهي لماذا تركتَني”. يعني لم أكن أتوقّع مطلقًا أن يكون مصيري هكذا، وأن أموت على الصليب؛ بل كنتُ موقنًا بأنك ستستجيب دعائي.
فاتضح جليًّا من كلا الموضعين في الإنجيل أن المسيح نفسه كان واثقًا من صميم فؤاده أن دعاءه مستجاب لا محالة، وأن بكاءه طيلة الليل لن يذهب هدرًا؛ وكان بنفسه قد علّم حواريّيه، بناء على أمر من الله تعالى، أَنِ ادْعُوا اللهَ يستجِبْ لكم؛ بل قصّ عليهم كمثال قصةَ القاضي الذي كان لا يخشى الله ولا مخلوقه، ليستيقن الحواريون بأن الله يستجيب الدعاء. فلا شك أن المسيح كان قد علم من الله بأن مصيبة عظيمة ستنـزل به، ولكنه، كعادة العارفين بالله، ألحّ في الدعاء إيمانًا منه بأن لا مستحيلَ أمام الله، وأن كل محو وإثبات بيده. ولذلك فلو لم يُستجَبْ دعاء المسيح نفسه حينئذ – والعياذ بالله – لترك هذا في نفوس الحواريين تأثيرًا سلبيًّا. فكان من المستحيل إذًا أنْ يقدَّم لهم مثل هذا النموذج الذي من شأنه أن يدمِّر إيمانهم؛ إذ لو أنهم رأوا بأمّ أعينهم أن دعاء نبي مقدّس كالمسيح لم يُستَجبْ رغم تضرّعه طوال الليل، لوقعوا في فتنة عظيمة في إيمانهم؛ ولذلك فكان من مقتضى رحمة الله تعالى أن يستجيب دعاءه. واعلموا يقينًا أن الدعاء الذي تمَّ في المكان الذي اسمه “جَثْسَيماني” كان قد لقي القبولَ من الله حتمًا”. (المسيح الناصري في الهند، ص 32-33)
“يقول الله -سبحانه وتعالى- في القرآن الكريم: (وما قتلوه وما صلبوه ولكنْ شُبِّه لهم… وما قتلوه يقينا).. أي الواقع أن اليهود لم يتمكّنوا من قتل المسيح، ولم يُهلكوه على الصليب، وإنما اشتبه الأمر عليهم، فظنوا أنه قد مات على الصليب؛ ولكنهم لا يملكون من الأدلّة والبراهين ما تطمئنّ به قلوبُهم بأن نفسه ؏ قد خرجت على الصليب يقينًا.
ولقد صرّح الله في هذه الآية بأن المسيح قد عُلِّق فعلًا على الصليب وأُريدَ قتلُه دون شكّ، ولكن اليهود والنصارى منخدعون في ظنهم أنه قد مات على الصليب حقًّا، إذ الواقع أن الله تعالى قد هيأ أسبابًا أدّت إلى نجاته من الموت على الصليب”. (المسيح الناصري في الهند، ص 53-54)
“وفي آية: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ) إشارة أخرى، وهي أن النصارى زعموا أن عيسى صُلِب لأجل تطهيرهم من المعاصي، وظنوا كأنه حمل بعد الصلب جميع ذنوبهم على نفسه، وهو كفّارةٌ لهم ومطهِّرهم من جميع المعاصي والخطيئات، ففي نفي الصلب ردٌّ على النصارى وهدمٌ لعقيدة الكفّارة، ومع ذلك ردٌّ على اليهود واستئصال لكيدهم الذي احتالوا اعتصاما بالتوراة، وإظهارٌ لبرية عيسى ؏ من بهتان تلك الأقوام. فهذا هو السبب الذي ذكَر الله قصةَ صلب عيسى في القرآن وكَذَّبَه، وإلا فما كان فائدة في ذكره، وكم من نبي قُتل في سبيل الله وما جاء ذِكر قتلهم في القرآن. فخُذْ مني هذه النكتة وكن من المصدقين”. (حمامة البشرى، ص 68-69)
“ثم انظرْ وتدبّرْ.. وهبك الله من عنده قوة الفيصلة.. إن النـزاع كان في الرفع الروحاني لا في الرفع الجسماني، فإن اليهود كانوا منكرين من رفع عيسى إلى الله كما يُرفَعُ المطهَّرون المقرَّبون من النبيين، وكانوا يصرّون – لعنهم الله – على أن عيسى ؏ من الملعونين لا من المرفوعين، كما أنهم يقولون إلى هذه الأيام. وكانوا يستدلون – غضب الله عليهم – على ملعونيته ؏ من مصلوبيته، فإن المصلوب ملعون غير مرفوع في دينهم كما جاء في التوراة في كتاب الاستثناء. فأراد الله تعالى أن يُبرّئ نبيَّه عيسى من هذا البهتان الذي بُني على آية التوراة وواقعة الصلب، فإن التوراة يجعل المصلوب ملعونا غير مرفوع إذا كان يدّعي النبوة ثم مع ذلك كان قُتل وصُلب، فقال – عز وجل – لذبّ بهتانهم عن عيسى: (مَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبوهُ) ، (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ)، يعني الصلب الذي يستلزم الملعونيةَ وعَدْمَ الرفع من حكم التوراة ليس بصحيح، بل رفعَ الله عيسى إليه، يعني إذا لم يثبت الصلب والقتل لم يثبت الملعونية وعدم الرفع، فثبت الرفع الروحاني كالأنبياء الصادقين وهو المطلوب.
هذه حقيقة هذه القصة، وما كان ههنا جدال ونزاع في الرفع الجسماني، وما كان هذا الأمر تحت بحث اليهود أصلا، وما كان غرضهم متعلقا به، بل علماء اليهود كانوا يمكرون لتكذيب المسيح وتكفيره، ويُفتّشون لتكذيبه وتكفيره حيلةً شرعية، فبدا لهم أن يصلبوه ليُثبتوا ملعونيته وعدم رفعه الروحاني كالأنبياء الصادقين بنص التوراة لئلا يكون حجة لأحد بعد كتاب الله، فصلبوه بزعمهم، وفرحوا بأنهم أثبتوا ملعونيته وعدم رفعه بالتوراة، ولكن الله نجّاه من حيلهم وقتلهم، فأخبر عن هذه القصة في كتابه الذي أنزل بعد الإنجيل حَكَمًا عَدْلًا ومُبيِّنًا لظلمِ كلِّ قوم وإيذائهم وكيدهم ومُكذِّبًا للكافرين. فكأنه يقول: يا حزب الماكرين! يا أعداء الصدق والصادقين! لم تقولون إنّا قتلنا المسيح ابن مريم وصلبنا وأثبتنا أنه ملعون غير مرفوع؟ فأُخبرُكم أيها القوم الخبيثون، أنكم ما قتلتموه وما صلبتموه ولكن شُبّه لكم، وأنت تعلمون في أنفسكم أنكم ما قتلتموه يقينا، بل نجّاه الله من مكركم ورزَقه الرفعَ الروحاني الذي كنتم لا تريدون له وتمكرون لئلا يحصل له ذلك المقام، فقد حصل له ورفعه الله وكان الله عزيزا حكيما. وهذا القول.. يعني قوله تعالى: (عَزِيزًا حَكِيمًا).. إشارةٌ إلى أن الله يُعزّ من يشاء، ويحفظ عزة أصفيائه بحكمته الدقيقة البالغة اللطيفة، لا يضرها مكرُ ماكر كما ما أضرّ عزّةَ عيسى مكرُ اليهود، بل أعزّه ورفعه ودمّر الماكرين”. (حمامة البشرى، ص 113-114 الحاشية)