العدوان حسب شريعة التوراة
يأمر الكتاب المقدس بالعدوان والتوسُّع والهجوم على الشعوب المجاورة؛ والمبرر أنَّ الربَّ قد قرر أن هذه الأرض التي تشغلها هذه الشعوب هي من حق بني إسرائيل، وأنهم بعدوانهم وتوسعهم يحققون وعد الربِّ، ويعاقبون هذه الشعوب التي حولهم على عدم إيمانهم بالله واتخاذهم آلهة أخرى. وعقب هذا العدوان، يحصر الكتاب المقدس مصير هذه الشعوب المعتدى عليها بين الإبادة الجماعية والاسترقاق! وبهذا فإن الكتاب المقدَّس يأمر صراحة بالعدوان الذي تتبعه المجازر والعبودية والاسترقاق. فقد جاء في الكتاب المقدس:
«حِينَ تَقْرُبُ مِنْ مَدِينَةٍ لِكَيْ تُحَارِبَهَا اسْتَدْعِهَا إِلَى الصُّلْحِ، 11فَإِنْ أَجَابَتْكَ إِلَى الصُّلْحِ وَفَتَحَتْ لَكَ، فَكُلُّ الشَّعْبِ الْمَوْجُودِ فِيهَا يَكُونُ لَكَ لِلتَّسْخِيرِ وَيُسْتَعْبَدُ لَكَ. 12وَإِنْ لَمْ تُسَالِمْكَ، بَلْ عَمِلَتْ مَعَكَ حَرْبًا، فَحَاصِرْهَا. 13وَإِذَا دَفَعَهَا الرَّبُّ إِلهُكَ إِلَى يَدِكَ فَاضْرِبْ جَمِيعَ ذُكُورِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ. 14وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالأَطْفَالُ وَالْبَهَائِمُ وَكُلُّ مَا فِي الْمَدِينَةِ، كُلُّ غَنِيمَتِهَا، فَتَغْتَنِمُهَا لِنَفْسِكَ، وَتَأْكُلُ غَنِيمَةَ أَعْدَائِكَ الَّتِي أَعْطَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ. 15هكَذَا تَفْعَلُ بِجَمِيعِ الْمُدُنِ الْبَعِيدَةِ مِنْكَ جِدًّا الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ مُدُنِ هؤُلاَءِ الأُمَمِ هُنَا. 16وَأَمَّا مُدُنُ هؤُلاَءِ الشُّعُوبِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيبًا فَلاَ تَسْتَبْقِ مِنْهَا نَسَمَةً مَّا، 17بَلْ تُحَرِّمُهَا تَحْرِيمًا: الْحِثِّيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ، كَمَا أَمَرَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ» (اَلتَّثْنِيَة 20 : 10-17)
ويسجِّل الكتاب المقدس بعد ذلك أحداثا مروِّعة لقتل النساء والأطفال وإبادة المدن بما فيها، واختطاف النساء العذراوات واستحيائهن، تطبيقا لهذا الحكم الوحشي.
ولا شك أنَّ هذه التصرفات الوحشية من الاستعباد والاسترقاق والإبادة كانت عرفا سائدا بين الشعوب في حروبها فيما بينهما من قبل، ولكن الكتاب المقدس أقرَّ هذه الأفعال الهمجية والوحشية وعزَّزها، وقدمها على أنها تعاليمُ الربِّ واجبةُ التطبيق، بدلا من أن يعمل على اجتثاثها فيخرج البشرية من هذه الدوامة من المظالم.
تأثير شريعة التوراة على التاريخ المسيحي
وقد تعزَّزت هذه التعاليم وترسَّخت بسبب أنها طُبِّقت أيضا على نطاق واسع على يد الإمبراطورية البيزنطية المسيحية التي كانت تحظى بنفوذ واسع وتسيطر على مناطق شاسعة من العالم القديم. فتعاليم الكتاب المقدَّس وقصصه عن حروب بني إسرائيل هي من شكَّلت فكرَ وضمير الشعوب المسيحية؛ خاصة أن المسيحية البولسية تعتبر الشعوب المسيحية توسيعًا لفكرة شعب الله المختار، وأن الأرض بما فيها هي ميراثهم الموعود الذي من حقهم الحصول عليه. وبدلا من أن تسعى المسيحية إلى تحرير العباد من العبودية، وبدلا من أن تدين التعاليم الوحشية في الكتاب المقدس، قامت بتطبيقها وتثبيتها وإشاعة المظالم المترتبة عليها.
الفرق بين تعاليم التوراة والإسلام في التعامل مع الشعوب
أما الإسلام، دين الرحمة، فهو الذي تقدَّم بكل قوة وشجاعة وتصدَّى لهذه التعاليم واجتثَّها ونهى عنها وأدانها وحذَّر من عواقبها.
ففيما يتعلق بالعدوان والتوسع، فلم يعتبر الإسلام الأرض مِلكا للمسلمين يجب أن يحوزوه، ولم يأمرهم بالتوسع والعدوان، بل نهاهم عن أن يمدوا أعينهم إلى ما في يد الآخرين من الخيرات والثروات؛ كما في قوله:
{ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } (طه 132)
كما لم يأمرهم بمحاسبة الناس ومعاقبتهم على كفرهم، بل كفل لهم الحرية الدينية وصرَّح في كثير من المواضع، كما في قوله تعالى:
{ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } (الكهف 30)
واعتبر الإسلام أن المحاسبة على الاعتقاد والديانة هي من اختصاص الله تعالى يوم القيامة، ولا دخْل للمسلمين أو غيرهم من الناس فيها.
القتال في الإسلام
وبهذه التعاليم الراقية العادلة التي تصنع السلام وتثبته بين الشعوب، فقد أبطل القرآن الكريم مبررات القتال والعدوان التي أصّلها الكتاب المقدس واستند إليها، وعندما أباح القتال فلم يُبح الإسلام إلا لقتال المقاتلين المعتدين، واعتبر قتال غير المعتدين عدوانا، حيث يقول تعالى:
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة 191)
فالقتال المشروع في الإسلام هو حالة خاصة اقتضاها عدوان الآخرين، وهو في سبيل الله لرفع الظلم عن المستضعفين وتحقيق العدل والأمن والسلام في العالم، لا من أجل تحقيق مقاصد الإسلام ونشره، أو تحقيق الرفاه الاقتصادي للمسلمين، أو إنشاء دولتهم وزيادة رقعتها، أو لأي سبب آخر.
وفي إعلانه أنَّ واجب المسلمين ينحصر في بلاغ الناس لا في حسابهم على معتقداتهم، وأقر الإسلامُ حقَّ الأفراد والشعوب في حريتهم الدينية، بل اعتبر أنه إذ يأذن للمسلمين بالقتال دفاعا فيوجب عليهم أن يقاتلوا دفاعا عن حرية الآخرين وعن دور عبادتهم، وليس عن حريتهم هم فحسب، حيث قال تعالى:
{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } (الحج 40-41)
الرق والاسترقاق في الإسلام
أما فيما يتعلق بالرق، فقد أدانه الإسلام واعتبره حالة شاذة ينبغي إزالتها من العالم. وإذا كان العدوان والتوسع هو المقدمة للرق ومصدره الأكبر، فبتحريم العدوان وإبطاله سدَّ الإسلام هذا المصدر الذي أباحه الكتاب المقدس وفتحه على مصراعية. ثم إذا نشب القتال ردا لعدوان المعتدين، فلم يأمر الإسلام باسترقاق المقاتلين، والذي هو المصدر الأكبر للاسترقاق، ناهيك عن المدنيين الآمنين، بل اعتبر هؤلاء المقاتلين أسرى، واعتبر أن مصيرهم ينحصر بين المنِّ والفداء لا غير، حيث يقول تعالى:
{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (محمد 5)
وعلاوة على ذلك، فقد نهى الإسلام عن الأسر إلا إذا نشبت حرب طاحنة. فالذين يستسلمون في المعركة هم وحدهم من يحق لكم أن تأخذوهم أسرى، ولا يحق لكم أن تختطفوا مقاتلين إذا لم تنشب المعركة؛ حتى وإن كانت حالة العداء قائمة، كما لا يحق لكم أن تأسروا غير المقاتلين في كل حال:
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (الأَنْفال 68)
وبذلك فقد أغلق الإسلام الباب الثاني للرق، وهو باب الاختطاف بداعي العدواة، وأكَّد على إباحة الأسر فحسب بعد الحرب الطاحنة، وحذَّر من اتخاذ العداوة ذريعة للأسر الذي هو مقدّمة للاسترقاق، علاوة على أنه لم يعتبر الأسرى رقيقا أصلا.
وهذا خلاف الكتاب المقدس الذي لا يميز بين المقاتل وغيره، ولا يراعي حالة الحرب وحالة السلم، ويعتبر كل الشعب المستسلم أو المهزوم عبيدا أرقاء إن نجوا من الإبادة الجماعية!
كيف أصل الإسلام لاستئصال الرق من المجتمع؟
أما عن الوسائل التي قررها للإسلام لاجتثاث الرقَّ فكانت أولا الإدانة وإعلان المساواة بين البشر من أول يوم، ثم اعتبر الإسلام أن أهم القربات وأوائلها التي أمر بها والتي يمكن أن يتقرب بها المؤمن إلى الله هي تحرير الرقاب. اعتبر الإسلام أن حالة الرقِّ لا تحول بين تقدِّم الإنسان الروحاني بل وفي منزلته في جماعة المؤمنين؛ حيث كان من كبار الصحابة الأوائل العبيدُ. وأكَّد الإسلام أنه لا فضل لعبد على سيد ولا لسيد على عبد إلا بالتقوى، وأن من واجب السيد أن يحترم إنسانية العبد، ويطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل ما لا يطيق، ويعينه، وألا يضربه، وإن فعل يتحرر تلقائيا. ثم اعتبر أن من حق العبد أو الأمَة أن يتحررا، وألا حقَّ للسيد أن يجبر العبد على حياة الرق، أو الأمَة على أن تكون ملك يمينه أو زوجته، بل يحق لهما المكاتبة، حيث يقول تعالى:
{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} (النور 34)
والمكاتبة هي أن يسمح لهما بالعمل واكتساب الرزق وتسديد ثمن تحريرهما. وهذه المكاتبة ليس هدفها الأساس استرداد حق السيد أو ماله الذي بذله، بل هدفها تأهيل العبد أو الأمَة بعمل كريم يمكنهم من العيش بعفة وكرامة فيما بعد. بينما لو كان طريق تحريرهم مسدودا، أو لو تم تحريرهم دون تأهيل أو إعداد فمن السهل أن يتحول العبد إلى الجريمة والسرقة والسلب والنهب، أو أن تتحول الأمة إلى الدعارة والبغاء، لأن هذه هي أسرع الوسائل للكسب. ومما يدل على ذلك هو أن الآية قد حضَّت السيد في نهاية المكاتبة أن يعطي العبد أو الأمَة المال لكي يستعينوا به في حياتهم الجديدة. ثم أمر الإسلام بأن يُعتبروا بعد تحريرهم موالي يرتبطون برابطة كرابطة القربى مع سادتهم السابقين الذين حرروهم، ويصبحون كالأهل والعشيرة.
وجعل الإسلام كفَّارات لبعض الآثام والأخطاء بتحرير الرقاب، كما جعل من مسئولية الدول، وليس الأفراد فحسب، أن ينفقوا في تحرير الرقاب، وجعلها مصرفا من مصارف الزكاة والصدقات.
وباختصار، فقد نظَّف الإسلام نفايات الفوضى والظلم المترتب على العداون ثم الرقِّ الذي كان يملأ العالم ويزكم الأنوف بسبب تعاليم الكتاب المقدس وتصرفات اليهود والنصارى تطبيقها له. ثم أغلق كل أبواب الرق وجفف منابعه.
ماذا عن بعض الاعتداءات التي جرت بإسم الإسلام؟
ومما يدعو إلى الأسف واللوعة، هو أنه قد خرج من المسلمين من يؤمن بأن الإسلام أمر بالتوسع والعدوان وأباح الرق، وأن من واجب المسلمين أن يرغموا الناس على الإسلام أو أن يعاقبوهم على كفرهم! ويدَّعون أنهم يتبعون سلف الأمة، ويتبعون الكتاب والسنة! والحقيقة أن هؤلاء كتابهم هو الكتاب المقدس وسنتهم هي سنة اليهود والنصارى. وبهذا صدق عليهم نبأ النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال:
{عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَالَ فَمَنْ} (صحيح البخاري, كتاب أحاديث الأنبياء)
أما عن مغالطاتهم وتأصيلاتهم وحججهم الداحضة فمصدرها تطبيق رؤيتهم على التاريخ والسيرة أو محاولة استقرائه بهذه الرؤية المنحرفة، والإسلام بريء منها براءة تامة. إن نصاعة تعاليم الإسلام ونصاعة تاريخه الحقيقي، إضافة إلى إنجازاته العظيمة التي حققها وأعلى بها شأن الإنسانية وأشاع بها العدل والسلام والرحمة، لا يمكن حجبها أو تجاهلها.
واجب المسلمين اليوم
ومما لا شك فيه أن من واجب المسلمين أن يدينوا هذه الأفكار وهذه التصرفات، وأن يعلنوا براءة الإسلام منها، ولكن ينبغي أيضا على الذين يحاولون انتقاد الإسلام نظرا إلى هذه الأفعال المغلوطة والتصرفات الإجرامية من هذه الفئات المارقة عليهم أن يعلموا أن مصدر هذه التعاليم هو كتابهم المقدس وتاريخه الإجرامي؛ الذي يعتبر وفقا للأعراف والقوانين الدولية الحالية جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تستوجب العقاب.