ملاحظة: نرجو من القارئ الكريم الأخذ بعين الإعتبار أن المقالة التالية كتبت أثناء عدوان إسرائيل على غزة عام 2014، وننقل لكم المقالة التالية للعبرة والفائدة.
يقول الله تعالى في كتابه العزيز:
{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ } (الأَنْفال 62-63)
أي أن من واجب النبي صلى الله عليه وسلم أن يستجيب لأي دعوة لإيقاف القتال، دون شروط، وبغضِّ النظر عن الحالة التي عليها العدو من القوة أو الضعف، وحتى لو كان في الأمر خديعة مكشوفة يريد من ورائها العدو ترتيب صفوفه ولملمة خسائره ومن ثم الانقضاض على المسلمين مجددا. فالله تعالى قد تعهد بإفشال مخططات العدو وخديعته إن التزم المسلمون بهذا المبدأ.
وهذا الأمر القرآني هو في غاية الوضوح، وهو يجيب على فرضية أن العدو قد يطلب “السَّلْم” أي الهدنة المؤقتة أو السلام الدائم خديعة أو تكتيكا لتحقيق بعض المكاسب، ومن المفروغ منه أن العدو لن يطلب ذلك إلا لتحقيق فائدة له، ومع ذلك يأمر القرآن الكريم بالاستجابة لهذا النداء فورا دون شروط.
هذا الأمر القرآني واضح تمام الوضوح، وهذه الآية هي آية محكمة، بحيث لا يمكن أن تُأوَّل بأي صورة بخلاف هذا المعنى، كما لا تتيح المجال لأي تخصيص أو استثناء!
في هذا العدوان السافر على شعبنا في غزة أظهرت إسرائيل رغبة في السَّلم، وكانت رغبتها مخادعة بلا شك، فهذا العدوان مخطط له من قبل، ولكنها أوقعت الفصائل هناك في خديعتها لعلمها أنها لو قبلت بالمبادرة المصرية فإنهم سيرفضونها حتما، وكان المكسب الذي أرادته وحققته هو أن تظهر للعالم بمظهر المسالم، وأنها تريد إنهاء القتال والحفاظ على أرواح المدنيين، ولكن الفصائل هناك هي التي ترغب في استمرار القتال ولا تبالي بأرواح المدنيين! هذا الأمر أدى إلى أن تحظى إسرائيل بدعم غير مسبوق من المجتمع الدولي، وأطلق يدها بكل حرية لارتكاب جرائم يندى لها جبين الإنسانية، ضحيتها المدنيون الأبرياء الذين سحقهم الفقر والحصار لسنوات وجاءت هذه الحرب لتحصد أرواحهم.
لقد وقعت الفصائل في الخديعة، ولم يكن هذا جهلا أو حمقا للأسف، ولا أظن أن الأمر كان خافيا على كثير منهم، ولكنهم اشتروا برفضهم للمبادرة نصرا مزيفا لم يكن سوى طُعْم قدمته إسرائيل مدركة تماما بأنهم سيبتلعونه، وقد ابتلعوا هذا الطعم وفرحوا بظهور زائف أن إسرائيل الآن في حالة ضعف وهم في حالة قوة – بخلاف الواقع المرير- ولم يهتموا بالكمِّ الهائل من الدماء التي سُفكت والتي تُسفك، ولم يلتفتوا إلى المكاسب التي حققتها إسرائيل من هذه الخديعة، والتي على رأسها توسيع العدوان دون رادع أو وازع وبدعم دولي.
لو استهدت الفصائل بالهدي القرآني، وآثرت كلام الله تعالى على مبادئهم وثوابتهم ومسلَّماتهم التي لم يفحصوها على ضوء التعاليم القرآنية ويتحققوا من مدى تطابقها معها، وأطاعوا الله تعالى ورسوله، لأفشلوا خديعة إسرائيل وقيدوا أيديها ومنعوها من الاستمرار في عدوانها، وكسبوا فوق ذلك التأييد الإلهي الذي وعد بأن الذي يستجيب لأمره فسوف يحظى بنصرته.
ومن الواضح أن استمرار القتال حاليا هو في مصلحة إسرائيل، وأن المتضرر الوحيد هو الشعب الأعزل المسكين المسحوق في غزة، ولكن يجب أن يُدرَك بأن التعليم القرآني الحكيم العظيم الناصع يعتبر حالة القتال عموما حالة شاذة، لا يتم اللجوء إليها إلا اضطرارا، وينبغي أن تنتهي بأسرع ما يمكن، وأن تحقيق الأهداف بغير القتال هو الأَوْلى الذي يجب السعي نحوه دون تردد، كما حدث في صلح الحديبية، ولا يُعتبر القتال وسيلة لنشر الدين أو تحقيق مقاصده، بل هو للدفاع مقابل معتدين مقاتلين أصروا على العدوان. وفي رد العدوان فإن هذا التعليم العظيم يحرص على حقن الدماء والحرص على الأرواح من الجانبين؛ من جانب المؤمنين ومن جانب الكافرين، وتجنيب المدنيين الآمنين من النساء والأطفال والشيوخ القتل والتشريد، بل والحفاظ على الممتلكات والبنى التحتية والبيئة والمقدرات للأعداء.
فإذا كان مطلوبا من المسلمين أن يحرصوا على أرواح وممتلكات ومقدرات أعدائهم، أليس من باب أَوْلى أن يكونوا حريصين على مقدراتهم وأرواحهم وأرواح الأطفال والنساء والشيوخ والعزل من الناس الذين لا يتوانى العدو المجرم عن سحقهم تحت أقدام هجميته وبطشه وإجرامه؟ هل يأمر القرآن الكريم المسلمين بأن يكونوا لا مبالين بالأبرياء منهم وبدمائهم تحت أي مبرر أو ذريعة؟
المؤسف أن القاعدة التي يستند إليها الكثيرون، ويجعلونها عمليا فوق التعاليم القرآنية ويعتبرونها الدستور الأقدس والأرفع هي: “ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة“، وأن رفع السلاح في كل الظروف والمقاومة المزعومة مقدمة على كل ما سواها، وغفلوا عن أن ضياع فلسطين كان نبوءةَ وعيدٍ قرآنية وردت في قوله تعالى:
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ } (الأنبياء 106-107)
وغفلوا أن عودتها وعد قرآني يتطلب منهم العودة إلى الإيمان والعمل الصالح لكي يتحقق، وأن الوسيلة التي سيحققون بها النصر، والتي يجب أن يكثفوا جهودهم نحوها هي ما أرشد إليه القرآن الكريم عند ذكر هذا الوعد:
{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا } (الإسراء 8)
حيث يبيِّن الله تعالى أن المسلمين عندما سيعودون للصلاح فسيسيئون وجوه اليهود بصلاحهم ونصاعة تعاليمهم وأعمالهم وسلوكهم، وسيرى العالم الوجه السيئ القبيح لعدوانية اليهود وظلمهم السافر، وهذا سيكون السلاح الأقوى الذي سيؤدي إلى أن يدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة ويتبروا ما علوا تتبيرا.
المؤسف أن بعض الفصائل ما زالت مصرة بأفعالها وتصرفاتها على إطالة أمد ضياع فلسطين، وعلى تبييض وجه العدو، وعلى إساءة وجوههم هم ووجه الإسلام العظيم بالانحراف عن تعاليمه، رغم أن هذه الفصائل تدعي أنها تستهدي بالهدي الإسلامي وتتبع المنهج القرآني.
لو كان المطلوب هو القتال حاليا لتحرير فلسطين، ولو كان الوقت هو وقته، لمكَّن الله تعالى المسلمين من القوة ووضع أسبابها في أيديهم، ثم لنصرهم نصرا عزيزا مؤزرا كما هي عادته، بغض النظر عن الفارق المهول بين قوتهم وقوة أعدائهم. وعندما يحين الوقت، فستتحقق هذه النصرة بإذنه تعالى.
ينبغي أن تكون الهزائم المتلاحقة، والدماء المسفوكة، والخسائر المادية والمعنوية المتلاحقة التي يغرق فيها العالم الإسلامي منبها وموجّها للأمة بأن مسلكها خاطئ، وأن الطريق نحو النصر والعزة والمنعة هو بطاعة الله ورسوله، وبالعودة للصلاح والتقوى، وبترك المبادئ والتعاليم التي ما أنزل الله بها من سلطان والتي أصبحت مقدَّمة على القرآن الكريم وتعاليمه.
إن الطريق نحو خلاص الشعب الفلسطيني من المآسي والآهات والظلم هو بالخلاص أولا من الأفكار والتعاليم الفاسدة والمسالك الخاطئة التي يرفضها الإسلام العظيم. وينبغي أن تحدث ثورة فكرية في فلسطين لفحص كل المبادئ والأفكار والتوجهات والمسلَّمات التي يقدمها البعض ويدعون أنها نابعة من الإسلام، وأن يرتدع هؤلاء عن تكفير وتخوين كل من يخالف أفكارهم ومنهجهم، وأن يجعل الجميع القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم هي الحكم. عندها سنضع أقدامنا على أول الطريق.
لا نملك سوى البكاء.
والدعاء.
أن يهب الله العالم سلاما.
وأن يضع نورا في عقول العرب لتتقي الهلاك المتربص وترى الصديق من العدو.
اللهم آمين