(محاضرة ترد على شبهة نسب العنف إلى الإسلام)
للإجابة على هذا السؤال ينبغي أن نستذكر معاني الإسلام أولا، ثم تاريخ نشأة الإسلام ومواقف النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، ونرى إن كان لهذه التهمة أي مسوِّغ.
الإسلام كلمة عربية مشتقة من الجذر “سَلَمَ“، وصيغتها في العربية صيغة المصدر، أي وكأنها في تركيبها اللغوي توحي بأنه الدين الذي جعله الله تعالى مصدرا للسلام في معتقداته وشريعته، وبالاعتقاد به وبتطبيقه سينال الإنسان سلامه الخاص ويكون مصدرا للسلام في محيطه ومجتمعه ثم للعالم أجمع.
ومما يستفاد من معنى الإسلام هو أن يكون من عدَّ الإسلام شعاره أنه يترك أي خصومة ويرغب عنها، ويؤدي حقوق الآخر سلفا ويسلمه ما يستحق قبل أن ينال ما يرغب، وأنه ينزع دوما نحو السلام والمسالمة ولا يرغب في الخصومات عموما.
فلو كان الإسلام منهجا قائما على العنف واغتصاب حقوق الآخر والأنانية فلماذا يختار هذه الاسم الرائع الذي بمجرد سماعه تطرب الأذن ويرتاح القلب؟
أما من الناحية الاصطلاحية والعقائدية، فإن الإسلام بصفته الدين الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم يعد نفسه استمرارا واستكمالا لكل رسالة سماوية، وأن كل رسالة سماوية لم تكن سوى صورة وجزء من هذا الدين، والفارق فحسب هو أن هذا الدين قد وصل إلى كماله ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم. لذلك لا يرى الإسلام تناقضا بينه وبين أي دين آخر، بل يقرُّ بأنه لا بد أن يكون قد بُعث نبي في كل أمة، وأن كل المقدَّسين لدى الأمم مهما انحرفت تعاليمهم من بعدهم قد كانوا أنبياء في الحقيقة، ولا حاجة للإساءة لهم أو اتهامهم، بل الواجب هداية الناس للمعتقدات الصحيحة وتقديم الإسلام بصفته إرجاع تراثهم وكنزهم المفقود إليهم. فلا يرى الإسلام تناقضا بينه وبين أي دين، ولا يبني نفسه على دمار المعتقدات أو الأديان الأخرى، بل يوجب الإيمان بالأنبياء جميعا ويوجب احترام معتقدات الآخرين الأصلية. أما المعتقدات التي انحرفت إلى الشرك وابتعدت عن المصدر الحقيقي، فإن الإسلام يرى أن من حق كل إنسان أن يختار المعتقد الذي يرغب به، وأن هذا الحق مكفول لمن يدعي التدين أو الإلحاد، وأن الله تعالى وحده الذي يحاسب على هذا، وأن البشر ليسوا مخولين بمحاسبة أحد على عقيدته، وواجب المسلمين أن يقدموا الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، ويبينوا بأن هذا هو الحق من ربكم، ولمن شاء أن يؤمن ولمن شاء أن يكفر، كما يقول تعالى:
{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}
(الكهف 30)
ولهذا فإن الاختلاف في المعتقدات ليس مبررا للخلاف في الإسلام، ولا يوجب على المسلمين تغييره إلا بالحكمة والموعظة الحسنة إشفاقا على الناس ورحمة ورأفة بهم، ولا يجوز لهم أن يستخدموا العنف لإزالة الكفر وإجبار الناس على الإيمان.
وبالعودة إلى تاريخ نشأة الإسلام، نرى أن نبي الإسلام سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم كان سلاما يمشي على الأرض. فرغم صعوبة العيش وظروف فقره ويُتمه وحرمانه إلا أنه كان عفيف النفس عزيزا لا يرغب في الدنيا وما فيها وكأنه ليس منها، وكانت سعادته تكمن في إسعاد الآخرين وجلب الأمن والسكينة لهم بكل ما استطاع. كان يقضي نهاره في خدمة الخلق والضعفاء، ويقضي ليله في دعاء وابتهال لله تعالى أن يرفع عن البشرية الألم والمعاناة وأن يجلب الله تعالى الأمن والسلام للعالم الذي كانت الصراعات تمزِّقه وكانت المظالم والمفاسد قد امتلأ بها البر والبحر في حينه. فالعالم كان غارقا في العنف والظلم والقسوة والهجمية في ذلك الوقت، ولم يكن محتاجا إلى حركة جديدة لتعزيز هذا العنف أو مجاراته، بل كانت القلوب الطاهرة التي آلمها الظلم تطمح إلى مخلِّص للبشرية من هذا الواقع الفاسد الذي كان باديا وكأنه يقود العالم نحو الدمار والفناء.
وبالنظر إلى سيرته صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة نرى أنه وصحابته الكرام كانوا ضحية المظالم الكثيرة، وقد ضجَّت شوارع مكة بهذه المظالم، فقتِّل المسلمون من رجال ونساء وشيوخ دون رحمة، وتعرَّضوا لعذاب شديد، ولكنهم لم يسعوا لمقاومة هذا العنف بالعنف، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم دوما بالصبر مرة بعد أخرى. وعندما كانوا يطلبون منه الدعاء بأن ينصرهم الله تعالى ويرفع عنهم هذه المظالم كان يحثهم على مزيد من الصبر.
ورغم كل المظالم، ورغم أهمية مكة المكرمة بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم ولدينه، إلا أنه كان يبحث عن ملاذ آمن له ولصحابته ليمارسوا دينهم بحرية ويتمكن من إيصال رسالة الأمن والسلام لقومه ثم للعالم. فلم يتمسك بأن يبقى في مكة، بل وحث الصحابة على الهجرة إلى الحبشة ثم إلى المدينة المنورة، وكان واضحا أنه ليس هنالك أي منهج أو مخطط لمواجهة العنف بالعنف، بل حيثما وصل الظلم والاضطهاد أوجه كان من المناسب البحث عن ملاذ آمن في أرض الله الواسعة تاركا بكل أسف وأسى موطنه وأرض آبائه وأجداده بل وأقدس مقدساته. فهذا هو منهج الإسلام الذي سجَّله القرآن الكريم، الذي يبين أن السبيل للنجاة من المظالم والاستضعاف وظروف القهر إنما هي الهجرة وليس مقاومة العنف بالعنف، واعتبر من ظلم الإنسان لنفسه أن يبقى في هذه الظروف وهو قادر على الهجرة، ولم يقل إن الواجب عليه أن يواجه العنف بالعنف. فيقول تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا * وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }
(النساء 98-101)
وبالفعل، هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته إلى المدينة المنورة، وأقام عهدا مع أهل المدينة من مسلمين وغير مسلمين ومن أهل الكتاب من اليهود يتساوى فيه المواطنون في الحقوق والواجبات ويعدُّون أمة ودولة وكيانا واحدا، وبدأ صيغة لم يشهد التاريخ مثلها من قبل من التعايش والتسامح بين الناس على اختلاف أديانهم، وأزال العداوات والخصومات والاقتتال بين أهل المدينة الذين كانت قد مزقتهم وسفكت دماءهم. ولكن الظالمين لم يتركوا النبي صلى الله عليه وصحابته ولاحقوهم إلى هناك إلى مجتمعهم الجديد، وأرادوا أن يقضوا عليهم وعلى الذين آووهم. ورغم أن المنطق المسلَّم به أن الكيان أو الدولة أو المجتمع الذي يتعرض لعدوان فمن حقه أن يدافع عن نفسه ويرد العدوان، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مأذونا بهذا الدفاع، إلى أن جاء الإذن الإلهي بقوله تعالى:
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }
(الحج 40-41)
وجاء هذا الإذن مشروطا بتوفير الحرية الدينية للأديان والمعتقدات الأخرى قبل توفيرها للمسلمين، وحمَّل المسلمين مسئولية توفير هذه الحرية والأخذ على يد الظالمين الذين لا يقبلون بهذه الحرية ويسعون لفتنة الناس في دينهم وإجبارهم وإكراههم. وقد علَّق الله تعالى هذا الإذن بوجود هذه الفتنة، وبيَّن بأن فتنة الإكراه في الدين لو زالت فينبغي أن يتوقف القتال، إذ يقول تعالى:
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ }
(البقرة 194)
وهذا ما التزم به النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لم يقاتل إلا المعتدين الذين جاءوا لقتاله والقضاء عليه وعلى المسلمين، وكل تحركاته العسكرية إنما كانت لتوفير الأمن والسلام للمسلمين وللناس جميعا، وكان دائما توَّاقا للأمن والسلام ومستعدا فورا لأي معاهدة سلام أو هدنة تنهي القتال، لأنه ببساطة لم يرده في يوم من الأيام، ولأن هذه هي تعاليم الإسلام. فرغم أن الأعداء كانوا يراوغون ويطلبون السلام أو المهادنة عندما يضعفون لينقضوا على المسلمين ثانية بدافع الخداع إلا أن الله تعالى قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم للاستجابة إلى طلب السلام وإيقاف القتال حتى ولو كان في الأمر خديعة، فيقول تعالى:
{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ }
(الأَنْفال 62-63)
وليس هذا فحسب، بل أعلن الإسلام أن عتاة المعتدين المجرمين سيعفى عن جرائمهم فيما لو تابوا توبة نصوحة ودخلوا الإسلام، مما أغرى من مارس أشد أنواع الجرائم والقسوة تجاه المسلمين أن يلجأ إلى هذا الملاذ الآمن خداعا منه كي لا يحاسب على جرائمه. وبما أن هذا الخداع كان واردا بل متوقعا من جانب هؤلاء فقد احتار الصحابة أنفسهم بسبب هذا المبدأ الذي كان يبدو ساذجا أو سببا لنجاة هؤلاء المجرمين، فرد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم قائلا:
{أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ}
(صحيح البخاري، كتاب الإيمان)
فمجرد الادعاء بدخول الإسلام كان كافيا، حتى لو كان من باب الخداع للنجاة من الجرائم. ويبدو من التاريخ أن عددا كبيرا من المجرمين استفادوا من هذا، ودخلوا الإسلام نفاقا، ثم ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ظنا أن الإسلام قد ضعف وأصبح من الممكن شن العدوان ثانية، ولكن الله تعالى قد نصر المسلمين في هذه الظروف الحالكة على يد أبي بكر الصديق، لأنه قد أعلن مسبقا بأنه سيحمي المسلمين من تبعات هذا المبدأ، ومهما حدث من الخداع فلن يضر المسلمين شيئا.
وهكذا نرى أن الإسلام وإنْ أمر بالدفاع المشروع الذي لا بد منه، إلا أنه قد قدَّم تسهيلات كثيرة للمعتدين لينالوا العفو ولينجو من جرائمهم، وكان متساهلا إلى حد كبير ومتنازلا من أجل السلام بما قد يبدو أقرب إلى السذاجة بمعيار أهل الدنيا. ولا يمكن أن نجد نظيرا لهذا في التاريخ.
والواقع أن الإسلام جاء بتصريح عظيم لا يمكن أن نجد مثيلا له فيما سبق وكان هو المبدأ الذي يفسر تعاليم الإسلام ومسلك النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته، وهو قوله تعالى:
{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}
(البقرة 257)
أي أنه لا يجوز إكراه أحد فيما يتعلق بالدين الذي يختاره، وليس مسموحا للمسلمين أن يكرهوا أحدا على اعتناق الإسلام، بل يجب أن تترك الحرية لمن يشاء أن يختار الدين الذي يشاء. فالإسلام إنما يأمر بإقامة الحرية الدينية بكل وسيلة ممكنة، وينهي أي خصومة أو عدوان بدأه المعتدون بمجرد أن يميلوا للسَّلم والمهادنة، سواء كان هذا بنية حقيقة أو مخادعة.
فبعد هذا كله، الذي ليس إلا غيضا من فيض، هل يمكن اتهام الإسلام بأنه دين يدعو إلى العنف أو أن العنف جزء من الوسائل لإقامته أو من منهج عمله أو من أهدافه؟
أما إذا استغل البعض وجود بعض المتطرفين المنحرفين عن الإسلام الذين يمارسون جرائمهم باسمه وقالوا إن هذا هو الإسلام، فإنما يرتكبون ظلما عظيما، فالإسلام بريء من عملهم وسلوكهم ومعتقداتهم براءة كاملة.
والواقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أنبأ بنفسه أن زمنا سيأتي على المسلمين عندما يتطرق الفساد إلى الدين، وسيظهر هؤلاء المتطرفون الذين يمارسون جرائمهم باسمه ظلما وعدوانا، فهذا الأمر ليس مستغربا بالنسبة لنا، ولكنه أيضا أنبأ أنه في ذلك الزمان سيُبعث شخص من أمته صلى الله عليه وسلم بصفته مسيحا موعودا وإماما مهديا ليعيد المسلمين إلى حقيقة الإسلام، ويبدد كل هذه الشبهات التي تثار ضد هذا الدين، ويعيد تشكيل جماعة المؤمنين ويلحق الآخرين بالأولين. ونحن في الجماعة الإسلامية الأحمدية نعلن أن مؤسس هذه الجماعة حضرة مرزا غلام أحمد القادياني عليه السلام هو ذلك المبعوث، والذي ردَّنا مجددا إلى هذا الإسلام العظيم وكشف لنا حقيقته. لقد بيَّن حضرته أن الإسلام لا يعني سوى الفناء في العبودية لله تعالى ثم الفناء في خدمة الخلق، وأن المسلم هو من ينذر نفسه في هذا السبيل.
يقول المسيح الموعود ؏ معرِّفا حقيقة الإسلام:
“إن المعاني المقبولة للإسلام اصطلاحا هي ما أشير إليه في الآية الكريمة: (بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) بمعنى أن المسلم من يُسلِم كل كيانه في سبيل الله تعالى، أي أنه يكرس نفسه وينذرها لله تعالى ولاتباع مشيئته والفوز برضاه؛ ثم يقوم بالأعمال الصالحة لوجهه تعالى، ويبذل في سبيله جميع طاقاته وقدراته، أي أنه يصبح لله تعالى فحسب، اعتقادًا وعملاً. فاعتقادا هو يعتبر كل كيانه شيئًا خُلق لمعرفة الله تعالى وطاعته ولنيل محبته ولكسب رضاه. أما عمليا فهو يقوم بالأعمال الصالحة بكل ما أعطي من الله من قوة وقدرات، خالصة لوجه الله تعالى، بكل اندفاع وحماس واستغراق وكأنه يرى وجهَ معبوده الحقيقي في مرآة طاعته….
والآن بإمكان كل ذي عقل سليم أن يفهم، على ضوء هذه الآية الكريمة، أن حقيقة الإسلام وجوهره لا تتجذر في أحد إلا حينما يكرّس نفسه لله ويقفها في سبيله تعالى بكل قواه الباطنة والظاهرة؛ ويردّ تلك الأمانات التي وُهبت له من الله إلى الله سبحانه وتعالى الذي هو المعطي الحقيقي عز وجل؛ ويُظهر إسلامه بصورة حقيقية كاملة من خلال مرآة عمله لا بمجرد اعتقاد دون عمل؛ أي أن الشخص المدعي بالإسلام يثبت أن يديه ورجليه، وقلبه وذهنه، وعقله وفهمه، وغضبه ورحمته، وحلمه وعلمه، وجميع قواه الروحانية والجسدية، وشرفه وماله، وراحته وسروره، وكل ما يملك من قمة رأسه إلى أخمص قدمه ظاهرًا وباطنًا، حتى إن نياته وخواطر قلبه وعواطف نفسه كلها قد أصبحت خاضعة لإرادة الله تعالى كما تكون أعضاء الإنسان تابعة له وتحت سيطرته.
وخلاصة القول، يجب عليه أن يُثبت أن نقاء سريرته وصدق أعماله قد بلغ درجة بحيث إن كل ما كان له لم يعد له الآن، بل أصبح لله تعالى، وأن تنخرط كل جوارحه وقواه في سلك الخدمة الإلهية وكأنها جوارح الحق عز وجل.. أي أن يصبح اللهُ سمعَ الإنسان الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يبطش بها، ورجلَه التي يمشي بها، كما جاء في الحديث الشريف.”
ويتابع حضرته عليه السلام فيبين أن جوهر الإسلام لا يتحقق إلا بطاعة الخالق والعبودية المطلقة له عز وجل من ناحية، ومن خلال خدمة الخلق المتفانية المخلصة ابتغاء مرضاته من ناحية أخرى. وهذا لن يحصل إلا بالقضاء على الأنانية وخشية الناس والطمع، وبالقضاء على أهواء النفس الأمارة التي تحاول إبعاد الإنسان عن هذه الغاية، فيقول:
“ويتضح جليًا من خلال التدبر في هذه الآية أن نَذْر الحياة في سبيل الله – وهو حقيقة الإسلام وجوهره- إنما يتحقق بالقيام بأمرين، أحدهما أن يتخذ الإنسانُ اللهَ تعالى وحده معبودًا ومقصودًا ومحبوبًا له، وألا يُشرك أحدا في عبادته ومحبته له، وخوفه ورجائه منه، وأن يقبل بطيب الخاطر آدابَ تقديسه وتسبيحه وعبادته وعبوديته، وأحكامه وأوامره وحدوده وقضائه وقدره السماويَّين؛ وأن يقبل جميع هذه الأحكام والحدود والقوانين والأقدار بكامل التفاني والتذلل والإرادة…
والأمر الثاني هو أن يكرس حياته لخدمة عباده ومواساتهم ومساندتهم وحمل أثقالهم ومشاطرتهم أحزانهم، وأن يتحمل الأذى من أجل الآخرين، وأن يرضى بالآلام لنفسه من أجل راحتهم…
إذًا فلا يقال لأحد مسلمٌ حقيقةً إلا إذا حدث في حياته الغافلة انقلابٌ عظيم تتلاشى معه جميع نقوش نفسه الأمارة بكل ثوائرها. فبعد هذا الموت تسري فيه حياة جديدة ليصبح تقيا نقيا محسنًا لوجها الله، وتكون هذه الحياة طاهرة لدرجة لا يملؤها سوى طاعة الخالق ومواساة الخلق.“
فهذا هو الإسلام العظيم الذي جاء به المبعوث رحمة للعالمين، وقد ابتدأت النشأة الثانية لهذا الدين ببعثة الإمام المهدي والمسيح الموعود وسيغمر الأرض كلها، ويرى العالم حقيقة هذا الدين وينعم بالسلام الذي يدعو إليه ويريد هذا الدين إقامته. ورغم أن اتهام الإسلام بالعنف لا يستقيم عند أي منصف، إلا أنه سيأتي اليوم الذي سيقرَّ فيه العالم بهذه الحقيقة، ولن يبقى لهذا الاتهام أي أثر. وستشرق حينها الأرض بنور ربها، والحمد لله رب العالمين.