حكم التجديف في الإسلام
يقول الخليفة الرابع حضرة مرزا طاهر أحمد رحمه:
“يخطو الإسلام خطوة أبعد من أي دين آخر في إقرار حرية الإنـسان في القول والتعبير. التجديف، ولا شك، عمل بغيض مُدَان على أسـس خلقية وأدبية، ولكن لم يُشرِّع له الإسلام أي عقوبة دنيوية.. بالرغم من الرأي الشائع اليوم في عالم الدين. لقد درستُ القرآن دراسـة مكثفـة متكررة، وبتركيز عميق.. فلم أجد فيه آية واحدة تعلن أن التجـديف جريمة يُعاقَب عليها بيد الإنسان.
ومع أن القرآن الكريم يصدُّ بكل شدةٍ السلوكَ والحديث غير المحتشم وجرْحَ مشاعر الناس بسبب أو آخر.. فإن الإسلام لا يفرض للتجديف عقوبة في هذه الحياة الدنيا، ولا يَولِّي أحدا هذه السلطة.
ورد ذكر التجديف في القرآن المجيد خمس مرات:
١- ذكره بوجه عام فقال:
﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ (النساء:١٤١)
﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ ( الأنعام : ٦٩)
.. ما أجمله من موقف في مواجهة قبح التجديف الدميم!
لا يسمح الإسلام لأي إنسان بأن يأخذ في يده حق معاقبة المُجدِّف، ولكنه يعلن أن تسجيل موقف الاستنكار والاحتجاج على التجـديف واجب.. يتم التعبير عنه بمغادرة المجلس الذي يُستهزأ فيه بالقيم الدينيـة ويُسخر منها. ولم يقرر القرآن المجيد أي عقوبات مادية أخرى، بل ولم يأمر حتى بمقاطعة المُجدِّفين مقاطعة دائمة.. بل على العكس، يبين القرآن الكريم في وضوح تام أن الإعراض لا يمتد إلا بقدر الفترة التي يخـوض فيها المجتمعون في حديث التجديف والسخرية بالمقدسات.
٢- ثم ذكر التجديف في الأنعام حيث بَحث مسألة التجديف مـن الناحية النظرية.. ليس فقط بالنسبة لله جل وعلا، وإنما بالنسبة للأصنام والمعبودات الخيالية الأخرى دون الله تعالى. ويستولي جمـال التعـاليم القرآنية على قلب المرء عندما يقرأ قوله:
﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام : ١٠٩)
والخطاب هنا موجَّه إلى المسلمين. فهم ممنوعون منعا باتا من سـب الأصنام والآلهة الوهمية عند الوثنيين. وأشيرَ هنا إلى أن ذلك قد يـؤدي بالآخرين إلى الثأر بالتجديف ضد الله تعالى. وأيضا في هـذا البحـث الافتراضي عن التجديف ضد الله تعالى وضد الأوثان على حد سواء.. لم يقرر الله أي عقاب مادي في كلتي الحالتين.
وأخلاقيات هذا التعليم غنية بالحكمة العميقة.. فإذا ارتكب جريمـةَ جرحِ المشاعر الروحية لغيره، فإن من حق المجـروح أن يـرد بـنفس العملة.. بغض النظر عن طبيعة معتقداته وكونها حقا أو بـاطلا.. ولا يُسمح لهذا ولا ذاك أن يتجاوز هذا الحد عند الثأر.
ويمكن للمرء أن يستخلص من هذا أن الإساءة الروحانية يُثـأر لهـا بوسائل روحانية.. تماما كما يُثأر للاعتداء المادي بانتقام مادي مماثـل دون تجاوز للحد.
٣- وذكر التجديف في القرآن الكريم فيما يتعلق بالـسيدة مـريم والمسيح عيسى عليهما السلام فقيل:
﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾ (النساء : ١٥٧)
وتشير هذه الآية إلى الموقف التاريخي لليهود المعاصـرين للمـسيح عيسى. وطبقا لهذه الآية، ارتكب اليهود تجديفا فظيعا عنـدما رمـوا السيدة مريم بأنها – معاذ الله – غير عفيفة، وزعموا أن ابنها (عليهمـا السلام) من ميلاد مريب. وقوله تعالى (بُهْتَانًا عَظِيمًا) يدمغ بكل قوة ويدين بكل شدة هـذه الحماقة النكراء من جانب اليهود. ومع هذا –ويا للعجب– لم يتقرر ضدهم أي عقاب مادي.
٤- ومن المثير للاهتمام ملاحظة أنه بينما يُجـرِّم القـرآنُ اليهـود لتجديفهم ضد السيدة مريم وابنها عيسى (عليهما السلام).. فإنه أيضا يلوم النصارى لتجديفهم ضد الله تعالى إذ يدعون أن له ابنا مولودا من زوجة بشرية. وفي الآية التالية يعلن القرآن أنها جريمة فادحة، ومع ذلك لم يشرع لها عقوبة جسدية من أي نوع، ولم يُفوِّض إلى أيـة سـلطة بشرية توقيع عقوبة على ذلك:
﴿مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ ۚ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾ (الكهف : ٦)
دعوني أصل إلى أشد النقاط حـساسية، إنهـا أشـد حساسية بمعنى أن مسلمي اليوم حساسون للتجديف ضد نبي الإسـلام ﷺ أكثر من حساسيتهم للتجديف ضد أي شيء آخر.. حتى وإن كان ضد الله تعالى!
ومع ذلك فهناك واقعة تجديف خطيرة إلى حد أنها سُجلت في القرآن الكريم، وتتعلق بشخص يُدعى عبد الله بن أُبَيِّ بن سلول، المعـروف في التاريخ الإسلامي بلقب ’رأس المنافقين‘. ففي أثناء العودة من إحـدى الغزوات نادى ابن أُبَيِّ هذا مع أصحابه أنه عند الوصـول إلى المدينـة سوف يطرد الأعزُّ منها الأذلَّ:
﴿يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ۚ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (المنافقون:٩)
وفهم كل واحد من الصحابة ما تنطوي عليه هذه العبارة من إهانـة وتعريض ضد النبي ﷺ، وكانوا جميعا يغلون غضبا ونقمة، وما كـانوا ليترددوا في ضرب عنقه لو كان ذلك جائزا.
تروي الروايات الصحيحة أن الثورة على هذه الحادثة بلغـت مـن الحدة حتى إن ابن هذا المنافق نفسه سعى إلى النبي ﷺ يستأذنه في قتـل أبيه بيده. وكانت حجة الابن بأنه لو قتل أباه أحدٌ غيره.. فربما غلبـت عليه جهالته وفكر في الانتقام من قاتل أبيه. ولقد كانت عادة العـرب لقرون طويلة أن يثأروا لأقل إهانة تلحق بالمرء أو بقبيلته. ولعل هـذه العادة كانت في ذهن الابن عندما كان يتحدث إلى النبي.. ولكنـه ﷺ رفض أن يأذن له بما طلب، كما لم يأذن لأحد غيره من الصحابة في أن يعاقب المنافق ابن أُبَيِّ بأي صورة كانت. (السيرة النبوية- ابن إسحاق، وابن هشام).
وعاد ابن أُبَيِّ إلى المدينة ولم يزل يعيش في أمان. ولما وافاه أجلُه وهو على فراشه منح الرسول ﷺ ثوبه لابنه كي يكفن به أباه. وهذا فـضل من النبي الكريم فريد أدهش الجميع حقا، وترك سائر الصحابة يتمنـون مقايضة الابن بكل ما يملكون.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل قرر النبي الكريم ﷺ أن يؤم بنفـسه صلاة الجنازة على الرجل. ولا بد أن يكون هذا القرار قد أزعج كـثيرا من الصحابة الذين لم يكونوا قد نسوا بعد جريمة ابـن أُبَيِّ الـشنعاء.. وكان من نصيب سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنـه) أن يهُـبَّ متحدثا بلسانهم، ومعبّرا عن اضطرابهم وعدم ارتياحهم. رُوي أنه بينما كان النبي ﷺ متوجها إلى الجنازة تقدم سيدنا عمر فجـأة ووقـف في طريق النبي ﷺ يلتمس منه أن يعدِل عن قراره، ويذكره بآية قرآنية تشير إلى المنافقين الذين لن تُقبل الشفاعة في حقهم ولو استغفر لهـم الـنبي سبعين مرة. وبهذه المناسبة لا يؤخذ العدد (٧٠) بمعناه الحـرفي، لأنـه بحسب الاستعمال العربي يدل على الكثرة. على أية حال، ابتسم الـنبي ﷺ وقال: تنَحَّ يا عمر، فإني أعرَفُ بما تقول. ولو أعلـم أني إن زدت على السبعين يغفر لهم لزدت عليها. وصلى النبي عليه صلاة الجنـازة. (البخاري، كتاب الجنائز)
وفي هذا دَحضٌ كافِ لإصرار أولئك الذين يُبحّون أصواتهم تباكيا.. يطالبون بعقوبة الموت للمجدّف الذي يجرؤ على إهانة الـنبي ﷺ.. ولا شيء يرضيهم دون الإعدام.
مثل هذا الدين لا بد وأن يكون من بين دعاويه وأهدافـه توطيـد السلام فيما بين أديان العالم.”.
(الإسلام والتحديات المعاصرة، ص ٣٤-٣٩) لتحميل الكتاب نرجو النقر هنا
باب علم رضى الله عنه