سلسلة “المسيح يكسر الصليب بتصحيح المفاهيم” حلقة 6
شبهة دين القتل والجهاد
يثير أعداءُ الإسلام في الزمن الأخير وخاصة القسس المنصِّرون منهم شُبهةً ضد الإسلام بأنه دين يحثّ على قتل الناس بداعي الجهاد لنشر الدين، وأن هذا هو تعليم القرآن الكريم والعياذ بالله. ولما أثار القس عماد الدين ذلك وسمع به حضرة المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام، ألَّف حضرته عدداً من الكتب والخطب والمقالات مبيّناً وشارحاً من خلالها المعنى الصحيح للجهاد وبأنه جهاد القرآن الكريم ونشر الكلمة بالتي هي أحسن وعدم ممارسة أي نوع من الضغط والإكراه بل مواساة الناس جميعاً واحتمال الأذى في سبيل الله تعالى، وهذا هو بذل الجهد الأقصى الذي يعني الجهاد اصطلاحاً، ثم أُطلق على الجهاد الأصغر وهو دفع الأذى والعدوان عن النفس والآخرين بسلطة القانون، وبأن الإسلام لا يأمر برفع السيف قَط إلا دفاعا، وننصح القارئ العزيز بالعودة إليها والتزود من المعين الروحي العظيم المكنون في طياتها، ونقتبس منها بعض أقوال حضرته عَلَيهِ السَلام كالتالي:
“ليكن معلوماً أن كلمة الجهاد مشتقة من الجُهد، الذي يعني بذْل الوسع والجهد، ثم أُطلقت على الحروب الدينية مجازا.” (الحكومة الإنجليزية والجهاد، ص 1)
ورَدَّاً على اعتراض القس عماد الدين على مسألة الجهاد قال المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام:
“وأما ما ذكر هذا الواشي قصةَ جهاد الإسلام، وتظنّى أن القرآن يحثّ على الجهاد مطلقاً من غير شرط من الشرائط، فأي زور وافتراء أكبر من ذلك إن كان أحد من المتدبرين؟ فليعلم أن القرآن لا يأمر بقتال أحد إلا الذين يمنعون عباد الله أن يؤمنوا به ويدخلوا في دينه ويطيعوه في جميع أحكامه ويعبدوه كما أُمروا. والذين يقاتلون بغير الحق ويخرجون المؤمنين من ديارهم وأوطانهم ويدخلون الخَلق في دينهم جَبراً وقهرا، ويريدون أن يطفئوا نور الإسلام ويَصُدُّون الناس من أنيُسلموا، أولئك الذين غضب الله عليهم ووجب على المؤمنين أن يحاربوهم إن لم ينتهوا.” (نور الحق الجزء الأول)
ثم قال عَلَيهِ السَلام:
“كَتَبنا مراراً بأن القرآن الكريم لا يعلّم ذلك الجهاد أبدا، إنما الحقيقة أن بعض الأعداء في صدر الإسلام عزموا على مَنعه بل مَحْوه بقوة السيف، فأذن الإسلام برفع السيف للدفاع فقط، وهؤلاء هم فقط الذين أمر بقتلهم أو يسلمون. فكان هذا الحكم مخصوصا بزمان وظروف، لا أبديا. أما الأعمال والتصرفات التي صدرت من الملوك بعد زمن النبي ﷺ بسبب الأخطاء أو المصالح الشخصية فحسْب، فليس الإسلام مسؤولا عنها؛ فالسفيه الذي يذكِّر المسلمين بمسألة الجهاد دوما لخداعهم، فكأنه يثير العادة السامة فيهم. فكم كان جميلا لو ركَّز القساوسة، بناء على الأحداث الصحيحة، على أن الإسلام لا يأمر بذلك الجهاد ولا يأمر بإدخال أحد في الإسلام بالإكراه. فهل يمكن أن نظنَّ في الكتاب الذي يضم آية ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّين﴾ أنه يعلِّم ذلك الجهاد (العدواني)؟ فكيف نشتكي من تصرفات المشايخ فقط، بل نشتكي من القسس أنهم لم يسلكوا الطريق الحق والمفيد.” (الحكومة الإنجليزية والجهاد، ص 45)
الجهاد العدواني لا مكان له في الإسلام
ويشرح المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام بأن الجهاد العدواني لا مكان له في الإسلام ولا أثر له في القرآن الكريم ولا في سنة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال حضرته:
“أما الإسلام فلا يأذن برفع السيف إلا في حرب دفاعية، أو في محاربة الظالمين المعتدين عقاباً لهم، أو في الحرب التي تُشَنُّ حفاظاً على الحريات المشروعة. والحروب الدفاعية إنما هي تلك التي يلجأ إليها لرد عدوان العدو الذي يهدد حياة الناس. هذه هي الأنواع الثلاثة للجهاد المشروع، وإلا فإن الإسلام لا يجيز شَنّ الحرب لنشر الدين، بأية صورة كانت. … مثل هذه العقائد، أعني قتل الناس باسم الإسلام، أو التمسك بأنباء تقول بظهور المهدي أو المسيح الدموي في الدنيا، الذي سيسعى لنشر الإسلام بالقتل أو بالتهديد بسفك الدماء، لتنافي القرآنَ الحكيم والأحاديث الصحيحة منافاةً تامة! لقد قاسى نبينا ﷺ في مكة وبعد الهجرة منها أذى كثيراً علـى أيدي الكفار، وبخاصة في السنوات الثلاث عشرة التي قـضاها في مكة، وكابد صنوف الظلم والاضطهاد التي يبكي الإنسان عنـد تصوّرها؛ ولكنه لم يرفع السيف على أعدائه، ولم يـردَّ علـى كلامهم اللاذع إلا بعد أن قُتل كثير من أصحابه وأعزّائه بكلّ قسوة ودون هوادة؛ كما تعرّض هو لصنوف الإيذاء البـدني، حتى إنهم احتالوا لقتله بالسم، ودبروا مكائد فاشلة عديدة للقضاء عليه. فلما حان وقت الانتقام الإلهي تآمر رؤساء مكة وزعماؤها جميعاً على قتله والقضاء عليه نهائيا؛ حينئذ أخبره اللهُ الذي يحمـي أحبّاءه والصدّيقين الصالحين أنه لم يبق في هذه البلدة إلا الـشر، وأن أهلها قد أجمعوا على قتله، فعليه أن يغادرها عاجلاً؛ عنـدها هاجر إلى المدينة امتثالاً لأمر الله تعالى. ومع ذلـك لم يكفَّ الأعداء عن ملاحقته، بل تعقّبوه وأرادوا بإلحاح شديد أن يسحقوا الإسلام سحقا. فلما تفاقم شرّهم واستوجبوا العقاب لقتلهم كثيرا من الأبرياء، أذن اللهُ للمسلمين بقتال هؤلاء الكافرين دفاعاً عن أنفسهم، وحمايةً لحرية الخيار. وكان هؤلاء الأشـرار وأعـوانهم، بسبب إراقتهم للدماء البريئة عدوانا وظلما دونما قتال أو حـرب مشروعة، وبسبب استيلائهم على أموال المقتولين، قد اسـتوجبوا المعاملة القاسية نفسها، ومع ذلك فإن نبينا قد عفا عن جميـع هؤلاء الأشرار عند فتح مكة. ولذلك فإن الزعم بأن الـنبي أو أصحابه قد شنّوا الحرب لأجل نشر الدين، في حين من الأحيان، أو أكرهوا أحداً على قبول الإسلام، لخطأ فاحش وظلمٌ عظيم. والواضح أيضاً أن الإسلام لم يأمر بالجبر والإكراه قط. فإننا لو أمعنَّا النظر في القرآن الحكيم وكتب الحديث وكتب التاريخ جميعاً، أو سمعناها من أحد بإمعان وتدبر قدر الإمكان، لكشَف لنا هذا الاطلاع الواسع بكل تأكيد أن اتهام الإسلام برفع السيف لأجل نشر الدين بالقوة لهو بهتانٌ عظيمٌ وافتراءٌ مخجل؛ وإن هو إلا زعم أولئك الذين لم يدرسوا القرآن والأحاديث وكتب تاريخ الإسلام الموثوق بها دراسة محايدة خالية من التعصب، بل بذلوا جهدهم في التزوير والافتراء. إذنْ فكيف يمكننا أن نصم بالإكراه والجبر ديناً يعلّمنا كتابه القرآنُ الكريمُ في صراحة تامة أن ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّين﴾. وهل يحق لنا أن نَتّهِم بعقيدة الإكراه ذلك النبيَ العظيم الذي ظل يوصي أصحابه طوال ثلاثة عشر عاماً في مَكَّة المعظَّمة، بأن لا يقابلوا الشر بالشر، وأن يظلوا متمسكين بأهداب الصبر؟ نعم، لما تجاوز عدوان الأعداء الحدود كلها، وتألّبت جميع الشعوب للقضاء على دين الإسلام، اقتضت غيرةُ الله أن يُقتل بالُحسام من يرفع الحسام؛ وإلا فإن القرآن لم يعلّم الإكراه مطلقاً. ولو كان الإكراه من تعاليم الإسلام لما استطاع أصحاب النبي ﷺ أن يقدِّموا عند الاختبارات أسوةَ الصدق والوفاء كالمؤمنين الصادقين. وإن وفاء أصحاب سيدنا ومولانا ونبينا ﷺ لأمر غني عن البيان كليةً؛ إذ لا يخفى على أحد أن مواقف صدقهم ووفائهم قد بلغت من العظمة بحيث لا يوجد لها نظير في الأمم الأخرى. إن هذه الأمة الوفية لم تتخلَّ عن صدقها ووفائها حتى تحت ظلال السيوف، بل أبدت في سبيل الوفاء لنبيها المقدّس العظيم ﷺ من الصدق ما لا يمكن أن يتحلى به أي إنسان إلا إذا كان قلبه وصدره منوّرين بالإيمان. وجملة القول أنَّ لا إكراه في الإسلام، وأن الحروب الإسلامية لا تخرج عن ثلاثة أقسام: الدفاعية، أي دفاعاً عن النفس. القصاصية، أي عقابا لمن يسفك الدماء. التحريرية، أي توطيداً للحرية الدينية، وكسراً لشوكةِ القُوى العدوانية التي كانت تقتل المسلمين بسبب إسلامهم. … وكفى .. أن يقرأ تعاليم القرآن الحكيم قراءةً متأنية، وأن يقف عندها وقفة تدبر وإمعان، ليدرك كيف أن كلام الله المقدس يعارض تهديد أحدٍ بالقتل حتى يسلم.” (المسيح الناصري في الهند، ص 3-14)
ويشرح لنا حضرة المُصْلِحُ المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أبعاد هذا الموقف الواضح لحضرة المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام من موضوع الجهاد في الإسلام كما يلي:
“قَدَّمَ عَلَيهِ السَلام التعليم الصحيح للجهاد. لقد انخدع الناس إذ ظنوا أنه عَلَيهِ السَلام قد منع الجهاد في حين أنه لم يمنعه قط، بل أكد على أهميته، وقال إن المسلمين نسوا حقيقة الجهاد فليس الجهاد عندهم سوى القتال بالسيف، وكانت النتيجة أنهم جلسوا مطمئنين عند إحراز الغلبة، فقد توطد الحكم الإسلامي في البلاد، إلا أن الكفر ظل موجودا في مكانه؛ إضافة إلى ذلك لم ينتبه المسلمون إلى نشر الإسلام في البلاد غير المحاربة للمسلمين، لذلك ظل فيها حكم الكفار. لقد أسفر كل ذلك عن ازدياد قوة الكفار رويداً رويدا، وأدى ذلك إلى إلحاق الضرر بالإسلام ولا سيما عند إحراز بعض الشعوب تفوّقاً سياسيا. فلو كان المسلمون يعرفون تعريف الجهاد الذي قدمه المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام لما رأينا هذا اليوم المشؤوم؛ والجهاد عنده اسم لكل عملٍ يقوم به الإنسان من أجل إقامة الخير والتقوى، وكما إنه يتم بالسيف كذلك يتم بإصلاح النفس وبالتبليغ وببذل المال أيضا، وهناك وقت ومناسبة لكل نوع من الجهاد. فلو كانوا يعرفون هذا التعريف للجهاد لما حسبوا حكم الجهاد معطلا عند غلبتهم الظاهرية، بل لأدركوا أنه لم يتوقف العمل إلا بنوع واحد من الجهاد أما أنواعه الأخرى فلا زالت قائمة بل يقتضي الوقت القيام بجهاد التبليغ، فلو فعلوا ذلك لكان الإسلام قد انتشر في جميع أرجاء البلاد الإسلامية، بل لكانت أوروبا أيضا مسلمة اليوم، ولَما واجه الإسلامُ انحطاطاً عند رقيها. باختصار، لقد بَيّن َ الْمَسِيحُ الموعودُ عَلَيهِ السَلام مواقعَ الجهادِ ومناسباته. فلم يقل بأن الجهاد بالسيف ممنوع بل أخبر عن نوع الجهاد الواجب في هذا العصر وفق الشريعة، ثم بدأ بنفسه هذا الجهاد بكل قوة، وفتح باب التبليغ في كل العالم. إنها لخدمة إسلامية عظيمة ليت المسلمين يفهموا، لأنه بواسطتها قد فتح باب الرقي والازدهار لهم، كما أنقَذَهم من إثم عظيم؛ لأن المسلمين رغم إيمانهم بوجوب الجهاد بالسيف لم يكونوا يعملون به، وهكذا كانوا يرتكبون إثماً أو تلوثا نفسيا مبينا، والآن كلما قبلوا شرح المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام تخلصوا من صدأ شعورهم بالذنب، لأنهم قبل ذلك ما كانوا يعرفون المعنى الصحيح للجهاد.” (إنجازات المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام، ص 136-137)
وهكذا يكسر الْمَسِيحُ الموعودُ عَلَيهِ السَلام الأسس الأخرى التي يقوم عليها التنصير وهي أن الإسلام دين قتل وجهاد عدواني. وبهذا الكسر يقدّم المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام للمسيحيين ترياق السَلام واحترام الأديان والنزاهة عند تناول المواضيع وعدم بهتان الآخرين نصرةً للدين، وكذلك للمسلمين ضرورة التخلي عن الأفكار الخاطئة الدخيلة على الدين كالجهاد العدواني الذي لا يوجد أثر له في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة، وذلك من خلال البرهنة على أن الإسلام هو دين السَلام والصبر على أَذى الخصوم والأعداء والدفاع عن حرية الفكر والعقيدة بالمال والنفس والثمين.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ