من أهم علامات نزول المسيح الموعود في آخر الزمان هو أنه يضع الجزية ويضع الحرب.
فمما جاء في الحديث:
عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ
(صحيح البخاري, كتاب أحاديث الأنبياء)
وجاء في كتاب “فتح الباري بشرح صحيح البخاري” لابن حجر العسقلاني في شرح هذا الحديث:
(ويَضَع الحربَ) وفي رواية الكُشْميهنِّي “الجزية“..
وهذا يدل على أن النسخة التي كانت بين يدي ابن حجر من صحيح البخاري ورد فيها “ويضع الحرب“، بينما رواية الكشميهني هي التي أصبحت رائجة الآن، والتي فيها “يضع الجزية“. ثم بدأ في ذكر آراء حول كيفية وضع الجزية (أي تركها وعدم أخذها) في زمن المسيح الموعود، ومختصر هذه الآراء – مع أنها جانبت الصواب في تبريرها- هو أن هذا الحكم سيزول في ذلك الزمن.
والواقع أن المفتاح لفهم كيفية وضع الجزية أو تركها في زمن المسيح الموعود هو في روايتي الحديث التي تضمنت كلا من الجزية والحرب. فالجزية التي ستوضع إنما ستوضع عندما توضع الحرب التي تسمح بفرضها؛ وهذه الحرب هي الحرب الدينية يشنها أهل الكتاب على المسلمين بدوافع دينية ويسعون لتطبيق أحكام دينهم المحرفة التي تتضمن القتل والاسترقاق وفرض جزيتهم على المسلمين وإذلاله. التي يعاقب فيها أهل الكتاب على عدوانهم وشنهم الحرب الدينية على المسلمين.
وربما أعرض ابن حجر وغيره من المفسرين عن تفسير “يضع الحرب” لظنهم أن الحرب هنا تعني الحرب كلها أو أي حرب؛ وهذا يبدو مستبعدا جدا بل مستحيلا، ولم يخطر ببالهم أن المقصود بالحرب التي ستوضع هي نوع معين من الحرب مرتبط بالجزية، وهذا هو مفتاح القضية برمتها.
الواقع أن حكم الجزية هو حكم عقابي مرتبط بنوع معين من الحرب، وهي الحرب الدينية التي يشنها أهل الكتاب على المسلمين بدوافع دينية ولتطبيق أحكام دينهم المحرفة الإجرامية التي أدناها أخذ الجزية وإذلال من يمنّون عليهم من المهزومين بإبقائهم على قيد الحياة، وهو ليس حكما أصيلا في الشريعة؛ أي أن الشريعة لا توجب على المسلمين فرض الجزية على جميع من يقاتلونهم في كل حال وتحت أي ظرف، وإلا فليس من سلطة المسيح الموعود ولا من سلطة أحد أن ينسخ حكما أصيلا في الشريعة أو يعطله لو كان الأمر كذلك.
ولفهم الفرق بين الحكم الأصيل والحكم العقابي يجب أن ندرك أن الشريعة – والقانون عامة – تتضمن أحكاما للعقوبات تطبق على من يرتكب جرما معينا وفقا لشروط معينة، فإذا لم يطبق الجرم فلا تطبق العقوبة. وإذا طبقت العقوبة على من لم يرتكب الجرم فستكون ظلما وإجحافا وجريمة بحد ذاتها. والأحكام الأصيلة في الشريعة إنما هي أحكام العدل والإحسان، أما الأحكام العقابية فهي معلقة ومرتبطة بجرائم، فإن لم تظهر الجرائم لم تطبق هذه الأحكام.
أما الفكر التقليدي المتخبط، فهو يرى أنها حكم أصيل تمييزي يوجب على المسلمين فرضها على أهل الكتاب عموما بسبب أنهم يدينون بأديانهم، المقاتل وغير المقاتل، المعتدي وغير المعتدي، بل والمواطنين الآمنين منهم، وهذه كلها عبارة عن أخطاء مركبة منحرفة مشوهة.
ولكن، ما الذي سيحدث حقيقة في زمن المسيح الموعود؟ هل ستزول الحروب من الدنيا؟ هل سينتهي أهل الكتاب عن العدوان عموما؟
بالطبع لا، ولكن الذي زال هو نمط معين من الحرب، وهو الحرب الدينية، وأصبح العدوان لأسباب أخرى. والواقع أن المسلمين قد عانوا كثيرا من عدوان أهل الكتاب لا لشيء إلا لأنهم قد آمنوا بالإسلام واعتنقوه، وكان هذا هو محور الحروب كلها وسببها الأساس إلى مدة طويلة، وكان أهل الكتاب يرغبون بأن يترك المسلمون دينهم أو يتنصروا. ولكن القرآن الكريم قد بشَّر بأن زمانا سيأتي عندما سيترك أهل الكتاب هذه الغاية، ولن يشنوا على المسلمين عدوانا لأسباب دينية، راغبين بردهم عن دينهم أو إدخالهم في دينهم هم عنوة، وهذا هو الزمن الذي سيكون زمن المسيح الموعود، الذي بشر به القرآن الكريم، وبشر به النبي صلى الله عليه وسلم شارحا للنبأ ومفصلا إياه في حديثه.
فقد جاء في القرآن الكريم:
{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}
(محمد 5)
أما الحديث فقد جاء فيه ما يلي:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يُوشِكُ مَنْ عَاشَ مِنْكُمْ أَنْ يَلْقَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ إِمَامًا مَهْدِيًّا وَحَكَمًا عَدْلًا فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَتَضَعُ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا
(مسند أحمد، كتاب باقي مسند المكثرين)
وهنا ورد ذكر وضع الجزية والحرب معا!
فالآية تقول إنكم ستستمرون في القتال إلى أن “تضع الحرب أوزارها“، وفي الحديث جاء إن هذه الحرب التي ترتبط بها الجزية ستضع أوزارها في زمن المسيح الموعود. وليس عبثا أن اختار النبي صلى الله عليه وسلم الكلمات نفسها “تضع الحرب أوزارها” وبهذا أراد أن يشير إلى أن هذا الحديث هو تفسير للآية، وهذه الحرب إنما هي حرب الكافرين المعتدين الذي يشنون العدوان عليكم عدوانا دينيا.
فهل بعد هذا البيان من بيان؟
أخيرا، فإن الفائدة الكبرى التي ينبغي استخلاصها هي أن الحروب في هذا الزمن لا تحمل نفس الصبغة التي كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكانت جهادا في سبيل الله، وأن الذين يعلنون الجهاد أو يحاولون تسمية حروبهم التي يخوضونها جهاد في هذا الوقت إنما يخطئون خطأ فادحا إن لم يكونوا يرتكبون خداعا وتزويرا متعمدا.
باختصار، لقد زالت تلك الحروب التي كانت تعدُّ جهادا، ولم يعد هنالك تطبيق للأحكام المرتبطة كالجزية وغيرها، ولو أدرك الفكر التقليدي هذه النقطة لسحب البساط من تحت الجماعات التكفيرية الإجرامية، ولأصبحت أفعالها جرائم مدانة بوضوح وبقوة – إذ ان الفكر التقليدي يحجم عن ذلك لاشتراكه معهم في الفهم نفسه إلى حد كبير-، إذ أنها أوقعت في ظروف غير صحيحة ووفقا لشروط غير صحيحة، ولذا فالإسلام منها براء.