التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام
يوم 26/06/2017م
في مسجد بيت الفتوح بلندن
%%%%%
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. (بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ). (آمين).
اليوم هو يوم العيد، وهو يوم الفرح والسرور، ونحتفل بهذا الفرح بأمر من الله لأنه تعالى قد حدّد لنا يوم العيد هذا للاحتفال بالأفراح نظرًا إلى مقتضيات فطرة الإنسان التي أودعت رغبة للاحتفال بالأفراح مع الأقارب والأصدقاء كلما سنحت له الفرصة لذلك؛ ونرى أن الأديان وأقوام العالم الأخرى أيضا عينت أيامًا للاحتفال بالأفراح بحسب هذه الفطرة الإنسانية المذكورة، ولكن أيام أفراح هؤلاء الأقوام تفقد صبغة الاجتماع التي أمر بها الإسلام، كما يتميز يوم فرحة العيد الإسلامي بأنه تزاد فيه خطبة العيد وصلاتها أيضا. لقد أخبرنا النبي r أنه ينبغي على الناس أن يجتمعوا في هذا اليوم للاستماع إلى أوامر الله ومن أجل عبادته إضافة إلى الاحتفال بأفراح العيد.
ينبغي أن يظهر من عمل الإنسان نموذج المسؤوليتَين اللتين ألقى الله تعالى إياهما عليه. ما هما تلكما المسؤوليتان؟ إحداها أداء حقوق الله والأخرى أداء حقوق العباد.
لأداء حقوق الله تعالى نتوجه إلى العبادة في الأيام العادية فنصلي الصلوات الخمس، أما في يوم العيد أي اليوم الذي نحتفل بأفراحه فيجب علينا أن نصلي ست صلوات. يمكن لأهل الدنيا أن يقولوا بأنه طُلب من المسلمين في هذا اليوم أن يتقيدوا بالصلوات ونُبّهوا إلى العبادات بدلا من التمتع بالأفراح واللهو واللعب. ولكن المؤمن يدرك جيدًا أن الفرحة الحقيقية تكمن في عبادته لله تعالى وشكره له على أنه أعطانا هذه الفرصة لنؤدي حق عبادته وحق مخلوقه وإلى جانب ذلك نحتفل بأفراحنا مع أقاربنا وأصدقائنا.
فُرضتْ علينا في هذا اليوم ست صلوات بدلا من الخمسة وبالتالي نقرأ في هذا اليوم سورة الفاتحة أكثر من الأيام العادية، إذ لا بد من قراءة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة. وعندما نقرأ الحمد لله رب العالمين في سورة الفاتحة ونشكر الله تعالى وبذلك نحمد الله تعالى ونسبحه، فنقرأ سورة الفاتحة ونقرأ فيها “الحمد لله رب العالمين” ونشكر الله تعالى في الفروض والسنن في الأيام العادية 32 مرة، أما يوم العيد فنقرأ “الحمد لله رب العالمين” 34 مرة ونشكر الله تعالى، أما الذين يصلون النوافل فإنهم يقرأونها أكثر من ذلك.
يقول المسيح الموعود u: “وفي لفظ الحمد لله تعليم للمسلمين أنهم إذا سُئلوا وقيل لهم مَن إلهكم.. فوجَب على المسلم أن يجيبه أن إلهي الذي له الحمد كله، وما مِن نوعِ كمالٍ وقدرةٍ إلا وهو ثابت له.” أي إن جميع أنواع الكمال والقدرة ثابتة لله تعالى وحده.
ثم يوضح حضرته u معاني “الحمد لله” في سورة الفاتحة فيقول:
“معنى “الحمد لله” أن الحمد والثناء كله مسلَّم به للذي اسمه “الله”. وقد بُدئ بجملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) لأن الغاية المتوخاة هي أن تكون عبادة الله بحماس الروح والجذب الطبيعي. (وألا تقتصر العبادة على أداء الطقوس الظاهرة بل يجب أن تؤدّى بحماس الروح، وينبغي أن ينشأ انجذاب في طبع الإنسان نحو العبادة. قال حضرته:) ولا يمكن أن ينشأ الجذب المفيض بالعشق والحب تجاه أحد إلا إذا ثبت أنه جامع الكمالات الكاملة وهو أمر يمدحه القلب تلقائيا بسببه، (فإن فكّر الإنسان فإن المدح الحقيقي لا ينطلق من قلب الإنسان إلا لذات الله تعالى لأنه جامع الميزات والصفات كلها، قال حضرته:) والمعلوم أن الحمد الكامل يليق بميزتين اثنتين: كمال الحسن وكمال الإحسان. (لا يمكن مدح أحد إلا إذا تحلى بميزتين اثنتين إحداهما حسنه وجماله، وثانيهما إحسانه، وبسبب هاتين الميزتين يمدح الإنسان أحدًا ويشكر له. قال حضرته:)
“وإذا اجتمعت في أحد هاتان الميزتان يفديه القلبُ عفويا. ويهدف القرآن الكريم بشكل أكبر أن يُظهر على الباحثين عن الحق كلتا الميزتين المذكورتين لله تعالى لكي ينجذب الناس إلى ذلك الذات الذي لا نظير له ولا مثيل وأن يعبدوه بحماس الروح.”
أي يريد القرآن الكريم أن يتوجه الناس إلى الله تعالى بحماس الروح وبالجذب بفضل ميزتَيه الحسن والإحسان. قال حضرته بأن الله جامع للصفات الكاملة كلها الأمر الذي يظهر حسنه وجماله، ولما كانت جميع الصفات الكاملة مجتمعة فيه أدى ذلك إلى بروز حسنه للعيان. أما فيما يتعلق بالإحسان فإن الإنسان هو أكثر من يستفيد بإحسان الله وذلك لأن الإنسان يستفيد من جميع مخلوقات الله تعالى. ومن منن الله تعالى على الإنسان أنه خلق كل مخلوق لفائدته فهو يستفيد منه حيثما شاء ومتى شاء. فما دام الإنسان أكثر من يستفيد بصفات الله تعالى التي تظهر بصورة الحسن ويستفيد من الإحسان المتمثل في كل ما خلقه تعالى، فلا شك أن هذه منة الله تعالى على الإنسان أنه يستطيع أن يستفيد من كل مخلوق خلقه الله تعالى في أي وقت شاء. فكم ينبغي علينا أن نشكر الله تعالى لأننا نستفيد أكثر من صفاته التي ظهرت في صورة الحسن ونستفيد بإحسانه الذي ظهر في صورة نفعِ كل شيء. فيجب علينا أن نؤدي حق عبوديته من أعماق القلوب، كما تقتضي منا هذه الأمور أن نكون عابدين حقيقيين لله تعالى وعاملين بأوامره، وبكوننا مسلمين يجب علينا أكثر من الناس العاديين أن نحمد الله ونثني عليه ونشكره، كما يفرض الله تعالى علينا بكوننا مسلمين إضافة إلى أداء حقوقه هو أن نؤدي حقوق عباده. ولا بد من أجل شكر الله تعالى -على حسنه وإحسانه الذي يظهره لعباده- أن نعامل مخلوقه بالحسن والإحسان بحسب استطاعتنا ومقدرتنا، ولو فعلنا ذلك فسوف يتيسر لنا الإدراك السليم لقولنا “الحمد لله رب العالمين”، وبالتالي سنعبّر عنه من خلال تصرفاتنا، فسنؤدي حق مخلوقات الله، بالإضافة إلى أداء حق عبادته تعالى. إن حسن معاملة الإخوان ونشر رسالة الحب والسلام في مكان، والعيش في المجتمع بالمحبة والوئام، وأداء حقوق الآخرين، هو ما يجلب للإنسان أفراح العيد الحقيقية. لذا فعلينا السعي في هذا المجال من منطلق أفراحنا أيضا، فيجب ألا تكون أفراحنا محدودة في أنفسنا، بل علينا أن نوزعها على مجتمعنا أيضا على كل الصعد. هناك أقوال كثيرة للمسيح الموعود u بهذا الخصوص، وسوف أقدمها لكم الآن وهي تبين لنا كيف نستطيع أن نبلغ معراج الحسن والإحسان بقدر كفاءاتنا وقدراتنا. يجب أن يبذل كل واحد منا كفاءاته وقدارته في هذا السبل، لأننا لن نحظى بأفراح العيد الحقيقية إلا إذا سعينا لبلوغ هذه المعايير. لقد قال المسيح الموعود u:
المراد من الحسنة هو أن تنشأ مع الله علاقة طيبة ويسري حبه في كل ذرة من الكيان كما قال الله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى). والعدل مع الله تعالى هو أن تطيعوه بتذكُّر آلائه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعرفوه (أي تعرفوه قدره ومقامه حق المعرفة) وإذا أردتم أن تزيدوا على ذلك فهناك درجة الإحسان (هنا يبين حضرته ما هو الإحسان إلى الله فيقول) ألا وهو يقينك بالله تعالى كأنك تراه، (أي أن توقن بذات الله بحيث تتصور كل حين أنك ترى الله تعالى) وأن تحسن إلى الذين لم يحسنوا إليك. وإذا استزدتَ فهناك درجة من الحسنة أرفع من ذلك ألا هي أن تحبّ الله حبا طبيعيا، لا طمعًا في الجنة ولا خوفًا من النار، (أي أن الذي يريد بلوغ هذه الدرجة فعليه أن يحسن إلى الذين لم يحسنوا إليه ويعاملهم معاملة ذي القربى، أما المعاملة مع الله تعالى كمعاملة ذي القربي فتعني أن يحب المرء اللهَ تعالى حبًا طبيعيا، إذ لا بد أن يُحَبّ اللهُ بسبب محاسنه الكثيرة وآلائه التي لا تعدّ ولا تحصى، وليس أن يُحَبّ طمعًا في الجنة أو خوفًا من الجحيم) بل لو افترض أنه ليس هناك من جنة ولا نار فيجب ألا يفتر حماس حبك وطاعتك له. وإذا وُجد هذا النوع من الحب لله تعالى نشأ فيه جذب ولا يبقى هناك فتور.
ثم قال المسيح الموعود u: عامِلوا خلق الله كأنهم أقاربكم في الحقيقة. هذه الدرجة هي أعلى الدرجات كلها، لأن الإحسان تشوبه شائبة الرياء، إذ لو تنكّرَ المرء للمحسن لم يلبث أن يقول له: لقد أحسنتُ إليك بكذا وكذا. لكن حب الأم الطبيعي لولدها لا تشوبه شائبة الرياء البتة (أي أن حبها لولدها لا يكون رياءً ولا طمعا) بل لو قال لها الملِك أنها لن تتعرض للمؤاخذة إن قتلتْ ابنها لم تطق سماع كلامه بل لسبّت الملك. وحتى لو علمتْ أنها ستموت قبل أن يبلغ ابنها الشبابَ فإنها لن تتخلى عن تربيته بسبب حبها الطبيعي له. في كثير من الأحيان يُرزق الآباء الأولاد في سن متقدمة ولا يكون هناك أيّ أمل أن ينفعوهم، ومع ذلك يحبّونهم ويربّونهم. وهو أمر طبيعي. فالحب البالغ لهذه الدرجة هو ما أُشيرَ إليه بقول الله تعالى: “وإيتاء ذي القربى”، أي يجب أن تحبوا الله هذا النوع من الحب الذي لا يكون فيه طمع في المراتب ولا خوف من الخزي.
لقد نبهنا المسيح الموعود u في هذا المقتبس بمنتهى الروعة واللطافة إلى أن نبلغ الذروة في أداء الحقوق بنوعيها، فبين لنا ما هو المراد من أداء حق الله وإظهارِ الحب له، ودلَّنا على المعرفة السليمة لله تعالى وعلى طريقة شكره، كما أخبرنا ما هو المعراج في حسن معاملة عباد الله. وهذا هو المبدأ الذي يمكن أن يضمن السعادة الحقيقية والسلام الحقيقي للعالم.
ثم إن حضرته u قد زاد حقوق المخلوق والتعلقّ بالله تعالى إيضاحا من زاوية أخرى –علمًا أن حضرته قد تناول موضوعا واحدا في شتى الأقوال إلا أن بعض كلماته تلقي الضوء على الجوانب الأخرى للموضوع- فقال حضرته u: ماذا يريد الله منكم؟ إنما يريد أن تعاملوا الناس بالعدل، وفوق ذلك أن تحسنوا إلى من لم يحسن إليكم، وفوق ذلك أن تواسوا خلق الله كأنكم أقاربهم الحقيقيون، كما تعامل الأمهات أولادهن.
هنا قد بين حضرته u معراج الحسنات وذروتها وهو أن تحسنوا إلى من لم يحسن إليكم. وهذه أيضا ميزة من مزايا المؤمن. فمَن صنع إليك معروفا تصنع إليه المعروف عادة، ولكن الإحسان إلى من لم يحسن إليك هو الحسنة الحقيقية. ثم قال: عليكم أن تواسوا خلق الله كأنكم أقاربهم حقا كما تعامل الأمهات أولادهن. فحضرته يبين هنا أن عليك ألا تعدل إلى من لم يحسن إليك فحسب، بل عليك أن تحسن إليه، بل عليك أن تتقدم وتعامله كما تعامل الأمهات أولادهن. ذلك أن الإحسان يشوبه نوع الرياء، والمحسن قد يمنّ على من أحسن إليه ولكن الذي يفعل الخير بدافع طبيعي كما تفعل الأم فلا يمكن أن يبرز نفسه أبدًا، لذا فمنتهى درجات الخير هو الدافع الطبيعي له كدافع الأم. واعلمْ أن هذه الآية لا تخصّ المخلوق فقط، بل تخص ذات الله أيضًا، فأما عَدْلُك مع الله تعالى فيعني أن تطيعه بذِكر نعمه، (فقد كرر الأمر نفسه) وأما إحسانك إليه ﷻ فهو أن توقن بوجوده ﷻ كأنّك تراه، وأما “إِيتاء ذي القربى” في حق الله تعالى فهو أن تعبده لا طمعًا في الجنة ولا خوفًا من الجحيم، بل حتى ولو افترضنا جدلاً أنه ليس هناك جنة ولا نار، فيجب أن لا يفتر حبك وطاعتك لله ﷻ. (سفينة نوح)
فالملاحظ أن الناس يقولون بخصوص أبسط الأمور إن الله لم يسمع دعاءهم فقد تعرضوا لمشكلة كذا وحدثت لهم مسألة كذا، ويبدأون الشكوى من الله، ولا يذكرون مننه.
أما حضرته u فقال: يجب أن تحبوه بحماس فطري مستذكرين مننه ونِعمه. فهذه هي المعايير التي علينا إحرازُها، وعندها سنكسب الفرحة الحقيقية. فقد منَّ الله علينا كثيرا ونتمتع يوميا بآلائه التي لا حصر لها. لكن الكثيرين لا يشكرون الله عليها بمجرد النطق بالحمد لله أو بكلمة شكر أخرى، فضلا عن طاعته متذكرين آلاءه. أما في الأفراح فينسونه نهائيا ما الذي يريده الله منا.
ليس في وسْع الإنسان أن يحسن إلى الله ﷻ في الحقيقة. ولقد شرح لنا المسيح الموعود u أن الإحسان إلى الله ﷻ هو أن تقوُّوا علاقتكم به ﷻ- متذكرين مننه- وكأنكم ترونه، فهذه هي علامة المؤمن الحقيقي حصرا. نسأل الله ﷻ أن يوقفنا لخلق هذه الحالة فينا ويمكِّننا لعبادته بعفاف ودون أي غرض بدافع الحب الخالص له واضعين في الاعتبار حسنه وإحسانه، لا بدافع الشكر له فقط.
لقد تكلَّم حضرته عن الموضوع أكثر وسأقرأ عليكم مزيدا من المقتبسات من كلامه u لشرح الموضوع أكثر، فقد قال في موضع:
إن الله يأمركم أن تعدلوا معه ومع خلقه أي أدّوا حق الله وحق العباد. وإن استطعتم أكثر من ذلك فلا تقتصروا على العدل فقط بل أحسنوا. أي اعملوا أكثر من الفرائض، واعبدوا الله بإخلاص كأنكم ترونه. (إن الفرائض قد كتبها الله ﷻ من الصلوات الخمس وصلاة العيد وصلاة الجمعة فهي واجبة، أما الإحسان فهو أن يهتم المرء بالنوافل والذكر أيضا) وعامِلوا الناس بالحسنى أكثر من حقهم. (أي تعاملوا مع الناس حبا ولطفا وشفقة أكثر مما يستحقون) وإن استطعتم أكثر من ذلك فاعبدوا الله دون طمع وغرض واخدموا خلق الله كما يخدم أحدكم بحماس القرابة. (سوط الحق)
ثم يقول حضرته u موضِّحا تعليم القرآن عن مواساة بني البشر والإحسان إليهم:
اعدِلوا مع إخوتكم وبني البشر بوجه عام، ولا تتعرّضوا لهم أكثر من حقكم، وتمسكّوا بالعدل. (لا تمارسوا عليهم أي نوع من الاعتداء، يمكن أن تأخذوا حقكم ولا تستزيدوا عليه فتغصبوا حقوقهم، فذاك ينافي مقتضى العدل. لذا يجب أن تتمسكوا بأهداب العدل ولا تتمنوا أكثر من حقكم. من الملاحظ أن بعض الناس في القضايا يسعون ليأخذوا ما ليس من حقهم)
أما إذا أردتم أن تتقدموا أكثر من هذه الدرجة أيضا فهناك درجة الإحسان بعدها؛ وهي أن تحسن إلى أخيك الذي أساء إليك، (أولا قال إن الذي لم يحسن إليك يجب أن تحسن إليه، ثم قال يجب أن تحسن إلى من يسيء إليك ويسعى لإلحق الضرر بك) وتريحه مقابل إيذائه لك، (أي هيئ الفرحة لمن يؤذيك) وتأخذ بيده مواساة له وإحسانا.
ثم تأتي درجة إيتاء ذي القربى؛ وهي أن كلّ ما أحسنتَ إلى أخيك وإلى بني البشر، يجب ألا يكون نابعا من نية المنِّ عليهم، بل ينبغي أن يصدر بصورة طبيعية دون أن يكون هناك مطلب مستقبلي في الحسبان، بل ينبغي أن يصدر منك على غرار إحسان قريب إلى قريبه نتيجة حماس ناتج عن قرابة متينة.
فهذه هي ذروة كمال التقدم الأخلاقي؛ (أي أن منتهى كمال التقدم الأخلاقي أن تحرزوا الحسنة على هذا المنوال، فهذا ما أمرنا الله به حصرا) ألا تكون للإنسان مصلحة شخصية أو مطلب أو غرض شخصي في مواساته الخلائق، بل ينبغي أن ينمو حماسُ الأُخُوة والقرابة الإنسانية على مستوى عالٍ، بحيث تصدر من الإنسان الحسنةُ تلقائيا بحماس فطري دون أدنى تكلُّف، وبغير أن يتوقع شكرا أو دعاء أو جزاء من أي نوع في المستقبل. (إزالة الأوهام)
(أي يجب أن تصدر الحسنة دون أي تكلف ودون أن تكون وراءها أمنية أنه إذا أحسن إلى أحد فسوف يشكره ويدعو له. فإذا صدرت الحسنة هكذا دون أي أمنية فهي الحسنة الحقيقية الصادرة عن حماس فطري)
لقد نصحَنا المسيح الموعود u مرارا وفي مواضع كثيرة بمواساة الخلق والنصح لهم، بل قد قال في موضع: بعض الناس يؤدون حقوق الله، فهم يصلّون ويصومون ويَبدون عابدين وصالحين، أما بخصوص أداء حقوق المخلوق فتتبدل رؤيتُهم. (أي تتغير معاييرهم للحسنة) وهذه هي الحقيقة، فبعض الناس يكتبون إلي أيضا في الرسائل عن سلوك الناس. وليس هذا فقط بل تكتب النساء أيضا في بعض الأحيان عن أزواجهن وكذلك يكتب بعض الأولاد عن آبائهم أن أزواجنا أو آباءنا يذهبون إلى المساجد ويقومون بخدمات للجماعة أيضا ولكن سلوكهم في البيت يكون جد غير مناسب، بل حين يرى الأولادُ ذلك يتأثرون سلبا لدرجة يبتعدون عن الدين وعن نشاط الجماعة. وإن كان أحد الرجال يشكوا من زوجته وأولاده فيمكن له أن يُفهمهم بالهدوء والمودّة بدلا من القسوة. لا تقتصر حقوق العباد على مساعدة الآخرين وخدمتهم خارج البيت أمام الناس بل الأولى والأفضل هو أداء حقوق أهل البيت. إذا عامل أحد الأغيارَ معاملة الأقرباء وعامل الأقرباء معاملة الأغيار فهذا لا يجوز أبدا، لأن الله تعالى حيث ذكر ترتيب حسن السلوك بدأ بالأقرباء، فيقول الله تعالى في القرآن الكريم: (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا) (النساء:37)
فهذا هو الترتيب الذي ينبغي مراعاته، وبعد الوالدين أقرب الناس إلى المرء هم زوجته وأولاده وإخوته وأخواته، ثم يواسي خلق الله تعالى، ولهذا أيضا أنواع، فهناك جيران، منهم جيران أقرباء وجيران غير أقرباء بل قائمة الجيران طويلة لدرجة قد بين u في موضع أن سلسلة جيرانكم تمتد إلى أربعين بيتا بل إلى مئة بيت، ثم الذي يجلس معكم في مجالسكم وفي المساجد وفي صلاة الجمعة كلهم يندرجون تحت الجيران، والذين يسافرون معكم هم أيضا يصبحون جيرانكم، وعليكم أن تحسنوا إليهم. ثم عليكم أن تحسنوا إلى ما ملكت أيمانكم وتواسوه. ولا بد من التذكر أن الله تعالى بيّن في هذا الترتيب حقوق الجميع، ولم يأمر بأن تؤدوا حقوق البعض ولا تؤدوا حقوق البعض الآخر بل أقام الله تعالى حقوق الجميع، لذا لا ينبغي اغتصاب حق أحد من أجل حق الآخر.
ثم يقول u عليكم أن تعبدوا الله تعالى ولا تشركوا به أحدا، ثم قال في شرح الإحسان بالوالدين وبذي القربى:
“هذه الجملة تشمل الأولاد والإخوة والأقارب القريبين والبعيدين كلهم. (يدخل فيهم أهل البيت والأولاد والإخوة والأقارب من القريب والبعيد، ثم قال u) أحسنوا إلى اليتامى والمساكين أيضا، والجار الجنب والصاحب بالجنب… أي بالجيران الذين هم أقارب والذين هم محض أجانب، وكذلك الزملاء في العمل والرفقاء في السفر أو الصلاة أو في مجال تعلّم الدين وأبناء السبيل وجميع الحيوانات التي مَلَكَتْها أَيْمَانُكُمْ، (بيّن هنا جميع الحيوانات، عليكم أن تحسنوا إلى الجميع). والله لا يحب المتكبرين المختالين الذين لا يرحمون الآخرين.” (ينبوع المعرفة، ص200)
ثم شرح u ذلك زيادة في موضع آخر وقال: “أي اصنعوا المعروف بالوالدين، وافعلوا الخير للأقارب والأيتام والمساكين والجار القريب والجار الأجنبي والمسافر والخادم والعبد (ثم بيّن u تفصيل الحيوانات، قبل ذلك كان قد ذكر الحيوانات وهنا فصّلها، فقال) والحصانِ والغنم والبقر والحيوانات الأخرى التي هي تحت تصرفكم، ذلك لأن الله الذي هو إلهكم يحب هذه الخصال؛ ولا يحب من لا يهتم بغيره ولا يفكر إلا لنفسه.” (فلسفة تعاليم الإسلام، ص50)
قد مدّ حضرتُه u عاطفة المواساة وعمل المعروف إلى الحيوانات أيضا ووضّح بذكر أسمائها أيضا، فما دُمْنا مأمورين بمواساة الحيوانات فكم ينبغي الاعتناء بالبيت والزوجة والأولاد وبالآخرين بحسب درجاتهم. ثم يقول الله تعالى إن الذين لا يؤدون هذه الحقوق هم مختالون وفخورون، ثم هؤلاء يصبحون كافرين لا يشكرون الله تعالى، لأن الله تعالى أعطاهم الأزواج والأولاد وإذا لم يحسنوا إليهم فهذا يعني أنهم لا يشكرون الله تعالى.
يقول المسيح الموعود u في موضع عن حقوق العباد: “اعلموا أن في الشريعة نوعين من الحقوق: حقوق الله وحقوق العباد. واعلم أن القيام على حقوق الله سهل إن لم يكن المرء شقيا لأنه تعالى لا يسألكم طعاما وهو ليس بحاجة إلى شيء (أي إن الله لا يطلب منكم حاجة) وإنما يريد منكم أن تؤمنوا به واحدا لا شريك له، وتؤمنوا بصفاته الكاملة وتؤمنوا برسله وتتبعوهم، أما في مجال حقوق العباد فيواجه المرء مشاكل إذ تخدعه نفسه،… لذا يجب التعهد بها (أي بحقوق العباد) والحفاظ عليها قدر الإمكان حتى لا يُعَدّ المرء متلف حقوق الآخرين.” (الملفوظات)
فهذا واجب المؤمن أن يؤدي حقوق خلق الله تعالى أيضا كاملا، وخاصة حقوق أولئك الذين ألقى الله تعالى مسؤوليتهم عليه، وليس أن يؤدي حقوقا مادية فقط بل من الضروري أن يؤدي حقوقا عاطفية أيضا. يقول البعض إننا نلبي حاجات أهل بيتنا المادية ومع ذلك لا يشكرون، لا شك أنه على الزوجات أن يشكرن أزواجهن لا يشكرون، وعلى الزوجات والأولاد أن ملا، وخاصة حقوقم فهذا يعني أنهم لا يشكرون الله تعالى.ة الجمعة كلهم يندرجون تحت الجيوعلى الأولاد أن يشكروا آباءهم إن كانوا يلبون حاجاتهم المادية، ولكن في الوقت نفسه على الرجال أن يهتموا بعواطفهم أيضا ويؤدوا حقهم من هذه الناحية أيضا ويحسنوا إليهم سلوكهم أيضا لأن الإنسان ليس حيوانا بحيث لو تم الاهتمام بأكله وشربه تأدَّى حقه، بل الإنسان يحتاج إلى حسن المعاملة من حيث العواطف والمشاعر أيضا، ولا بد من مراعاة هذا الأمر أيضا.
ثم نصح المسيح الموعود u أن أداء النوعين من الحقوق ضروري لإكمال الإيمان فقال: إن للدين جزئين، حب الله وحب بني البشر لدرجة أن يعُدّ المرء معاناتهم كمعاناته هو وأن يدعو لهم.
إذًا، الترتيب هنا لإظهار الحب تجاه البشر هو بحسب مدارج القرابة. ثم تأتي درجة حب الناس كلهم بشكل عام، أي أن يحبهم المرء إلى درجة حتى يحسب معاناتهم كمعاناته. والحق أن حقيقة الهتاف الذي نرفعه أي: “الحب للجميع ولا كراهية لأحد” هي أن يزداد المرء في مواساة البشر وحبهم إلى أن يحسب معاناتهم كمعاناته. وإذا كانت هناك كدورة في العلاقات مع الأقرباء فهل يمكن إظهار الحب تجاههم؟ إذًا، يجب على كل واحد أن ينتبه إلى أداء الحقوق بمناسبة العيد بوجه خاص، وحيثما كانت هناك كدورة أو قسوة في العلاقات في بيوتكم أو بين الأقارب أو في البيئة المحيطة بكم أو بين الناس عامة يجب إزالتها وتحويلها إلى اللين والقُربة. إن صفات الله تعالى كثيرة وكلها كاملة وقد أمرنا الله ﷻ أن نكون مُظهرين لصفاته ونعمل بها بكل ما في وسعنا، وأن يضرب كل واحد منا أحسن وأجمل أمثلة للحسن والإحسان قدر الإمكان حتى لا تقتصر أفراح العيد على أنفسنا ولا على الجو المحيط بنا فقط بل يجب أن تخرج من هذا النطاق وتشمل المجتمع كله ولكي يصبح كل واحد ممن يؤدون حقوق الآخرين. والمعلوم أن أداء الحقوق ضروري للحفاظ على وحدة الجماعة أيضا، لأن ذلك يؤدي من ناحية إلى الأفراح الحقيقية ومن ناحية ثانية يسفر عن تقدم الجماعة. يقول المسيح الموعود u ناصحا إيانا بهذا الأمر:
“ينبغي أن يكون مبدأنا إعانة إخواننا الضعفاء وتقويتهم. لو كان هناك أخَوان أحدهما يتقن السباحة والآخر يجهلها؛ فهل يليق بالأول أن يترك أخاه يغرق أم عليه أن ينقذه؟ بل عليه أن ينقذه من الغرق. فقد ورد في القرآن الكريم: (تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) فاحملوا أوزار الإخوة الضعفاء، وساعدوهم على ضعفهم العملي والإيماني والمالي أيضًا. كما يجب مداواة ضعفهم الجسدي. لا تُعَدّ الجماعةُ جماعةً ما لم يساند الأقوياءُ منهم إخوتهم الضعفاءَ. والسبيل الوحيد إلى ذلك هو ستْر عيوبهم. هذا ما عُلّم به الصحابة رضي الله عنهم أن لا يضجروا من تقصيرات حديثي العهد بالإسلام لأنكم أيضا كنتم ضعفاء مثلهم. ينبغي على الكبير أن يخدم الصغير ويعامله بحب ولطف. ألا لا تكون الجماعةُ جماعةً إذا كان بعضها يأكل بعض بحيث إذا جلس بعضهم شَكُوا من بعض إخوتهم الضعفاء وازدروهم وحقّروهم، ونظروا إلى الفقراء نظرة استخفاف وازدراء. يجب ألا يحدث هذا مطلقًا. بل يجب أن يؤدي اجتماعهم إلى القوة والوحدة اللتين هما مجلبة للحب والبركات…. فلماذا لا نوسّع نطاقَ القوى الأخلاقية؟ وهذا يحدث عندما تعمّ المواساة والحب والعفو واللطف. (أي اجعلوا مواساتكم وحبكم وعفوكم وصفحكم ونفعكم يشمل الجميع) ويُقدَّم الرحمُ والمواساة وعادة الستر على جميع التصرفات والسلوكيات.”
أقول: لا يجوز لكل واحد أن ينشر بين الناس عيوب الآخرين بعد الاطلاع عليها. أما إذا كان هناك عيب أو سيئة في طور الانتشار في الجماعة وتكاد تصبح سيئة جماعية فلا بد من أن تخبروا المسؤولين دون أن تذكروها في كل مكان.
يتابع u ويقول: “يجب ألا يتم البطش بالناس على أتفه الأمور لأن هذا يؤدي إلى جرح المشاعر والأذى… إنما تكون الجماعة جماعة إذا واسى بعضهم بعضًا وستر بعضهم عيوب بعض. عندها يصبح أفراد الجماعة كجسد واحد ويصبح بعضهم جوارح بعض، ويحسبونهم أحبَّ من الأشقاء… لقد ذكَّر الله تعالى الصحابةَ أيضا بهذه النعمة والأخوّة. لو أنفقوا الجبال ذهبا لما نالوا تلك الأخوّة التي نالوها بواسطة النبي r وعلى غرار ذلك قد أقام الله هذه الجماعة ولسوف يرسي فيها الأُخوّة نفسها.”
أقول: فعلينا جميعا أن نسعى جاهدين لنشر الحب والوئام والأخوة ولأداء الحقوق في كل مجال وعلى كل صعيد. وهذا ما يجعل العيد مدعاة لجلب الأفراح الحقيقية منه. ندعو الله تعالى أن يوفقنا لنكون شاكرين لله في الحقيقة ويوفقنا أيضا لأداء حق العبادة وحق عباده ﷻ.
بعد الخطبة الثانية سندعو معا، فادعوا أن نكون عباد الله الحقيقيين والمؤمنين الحقيقيين ونوفَّق لأداء حقوق العباد. وادعوا أيضا أن يرفع الله تعالى معاناة أفراد الجماعة حيثما كانوا يواجهونها ويزيل كروب المنكوبين بسبب انضمامهم إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية. ثم هناك من يواجهون القضايا المرفوعة ضدهم فادعوا الله تعالى أن يزيل مشاكلهم ويبرِّئ ساحتهم من تلك القضايا. وهناك أسرى في سبيل الله وخاصة في باكستان وفي الجزائر فادعوا الله تعالى أن يفكّ أسرهم سريعا ويزيل معاناة الجميع أيا كان سبب أو نوعية معاناتهم.
أبارك لكم جميعا بالعيد وبواسطة قناتنا الفضائية أهنئ العالم كله، وأدعو الله تعالى أن يبارك لكم جميعا أفراح العيد بصورة حقيقية. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.