خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام
يوم 9/3/2018
*****
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين. آمين.
يقول سيدنا المسيح الموعود u في موضع مسلطا الضوء على تضحيات صحابة النبي r ومكانتهم السامية ومقامهم العالي وفوزهم بإنعامات الله I عليهم:
انظروا كيف أن أبا بكر الصديق t قد أعطى كل ممتلكاته في سبيل الله ولبس المسوح، فلنرَ ماذا وهب اللهُ له مقابل ذلك، فقد جعله ملك العرب كلِّهم، وعلى يده أحيا الإسلام من جديد، ومكَّنه من الانتصار على العرب المرتدّين، ورزقه ما لم يكن في حسبان أحد. باختصار إن إخلاصهم وصدقهم وخُلقهم قدوة يُحتذى بها لكل مسلم. إن حياة الصحابة كانت رائعة لدرجة لا نجد مثيلها حتى في حياة أي نبي.
.. الحقيقة أن الإنسان ما دام لا يأتي ربَّه متخلِّيا عن جميع أمانيه وغاياته فلا ينال شيئًا، بل يضر نفسه، أما إذا تخلى عن جميع الأهواء والأماني وجاء ربه صفر اليدين وبقلبٍ نقي، فالله I يرزقه ويرشده ويمسك بيده، لكن الشرط أن يكون مستعدًّا لمواجهة الموت ويتحمل الذلة والهلاك في سبيله.
ألا إن الدنيا فانية (فلا أحد يعيش فيها للأبد) ولا يجد لذتها ومتعتها إلا الذين يتركونها من أجل الله، ولذلك فإن الذي يتقرب إلى الله فإنه I ينشر قبوله في الدنيا، وهذا القبول هو نفسه الذي يستميت أهل الدنيا من أجله، حتى ينالوا أي لقب، أو ينالوا كرسيًّا في بلاط، وتُسجَّل أسماؤهم ضمن الذين يعطى لهم الكرسي. باختصار تعطى جميع أنواع الاحترام المادي ويرسَّخ في قلب كل واحد العظمةُ والقبول للذين يستعدون لترك كل شيء في سبيل الله، وليس ذلك فحسب بل يتركونها عمليًّا. باختصار إن الذين يتركون من أجل الله يعطى لهم كل شيء.
حين كان حضرته جالسا في مجلسه ويتكلم عن هذا الموضوع قد ذُكر في رواية أخرى في موضع آخر كالتالي، حيث قال: “معلوم أن الذي يخسر مثقال ذرة من أجل الحكومات المادية ينال أجرًا (أي أنكم تلاحظون في الدنيا أنكم حين تقدمون وتنجزون شيئا من أجل الحكام، تكسبون المكافأة) أفلا يجد الذي يخسر شيئًا من أجل الله أجرًا؟
أردف حضرته قائلا: .. ولا يموتون قبل أن ينالوا عشرة أضعاف ما أعطوه في سبيل الله، إن الله لا يبقي عنده دَين أحد، لكن المؤسف أن الذين يتقبلون هذه الأمور ويطلعون على حقيقتها قليلون جدًّا.
إننا نلاحظ نماذج صدق هؤلاء المخلصين ووفائهم وإخلاصهم بشأن يحيِّر الإنسان. فقد غيَّرت القوة القدسية للنبي r اتجاهات حبهم حيث كانوا قبل الإسلام يحبون أشياء وبعد الإسلام بدأوا يحبون أمورا أخرى، فقد حوَّلهم من الدنيا إلى الله. بل قد رفع معايير ذلك الحب ووهب له سموا ورفعة لم يسبق لها نظير في الماضي. فبأي جمال ذكر سيدنا المسيح الموعود u مثال هذا العلو والسمو! فقد قال: لا يوجد مثال لحبهم وتضحيتهم في الأنبياء السابقين أيضا، أما أتباع الأنبياء فحدِّث ولا حرج، فقد كانت حالتهم أحطَّ كثيرا من الصحابة، فكان الصحابة قد تطهروا من أهوائهم النفسانية كلها، فكانوا أنقياء القلوب ومخلصين لله I وكانوا يعيشون ابتغاء رضوان الله I فقط، وحين يحرز الإنسان هذه الدرجة فإن الله I هو الآخر يكرمه إكراما بدون حساب، ونحن نلاحظ ذلك في حياة الصحابة y.
والآن أقدِّم لكم بعض الأحداث من حياة الصحابة y كيف أخضعوا نفوسهم لله وما هي النماذج التي أبدَوها.
كان سيدنا عبّاد بن بشر من الأنصار، وقد استُشهد في عز الشباب حيث كان عمره 35 سنة فقط، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها في بيان عبادته وتلاوته للقرآن الكريم:
عَنْ عَائِشَةَ تَهَجَّدَ النَّبِيُّ r فِي بَيْتِي (ومعلوم أن النبي r كان يستيقظ مبكرا جدا للتهجد) فَسَمِعَ صَوْتَ عَبَّادٍ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَا عَائِشَةُ أَصَوْتُ عَبَّادٍ هَذَا قُلْتُ نَعَمْ قَالَ اللَّهُمَّ ارْحَمْ عَبَّادًا۔ (صحيح البخاري، كتاب الشهادات)
كم كانوا سعداء أولئك الذين كانوا يبيتون عابدين وقارئين القرآن الكريم وبذلك يكسبون دعوات النبي r مباشرة، فكانوا يقومون ليلا ويدعون الله لينالوا رضوانه ورحمته. فكان عبّاد واثقا بناء على رؤيا رآها بأنه سينال درجة الشهادة.
فعن أبي سعيد الخدري t قال قال لي عبَّاد إنه قد انفرجت السماء ودخلتُ فيها ثم عادت كما كانت. وبناء على هذه الرؤيا كان يقول إنه موقن بأن الله I سيهب له الشهادة. فتحققت رؤياه هذه في حرب اليمامة التي استُشهد فيها وهو يقاتل بكل شجاعة، ولكن كتيبته التي كان فيها الجميع من الأنصار انتصرت على الكفار. قال أبو سعيد t لم يكن وجهه يُعرف بسبب جروح السيوف فعُرف جثمانه من علامة في جسده.
ثم يخبرنا التاريخ عن صحابي آخر كان اسمه حَرَامُ بن مِلحان. كان هذا الصحابي نشيطا جدا في تعليم الشباب والآخرين القرآنَ وفي خدمة الفقراء وأصحاب الصفة. حين قدم وفد من بني عامر النبي r وطلبوا منه أن يرسل إليهم بعض أصحابه r للتبليغ ليعرفوا الإسلام ويُسلموا. وكانت نيتهم سيئةً ولكنهم طلبوا ذلك، ولما كانوا غير جديرين بالثقة قَالَ لهم رَسُولُ اللهِ r إنّي أَخْشَى أن تُسيؤوا للذين أبعثهم إليكم، قَالَ رئيسهم: أَنَا لَهُمْ جارٌ وهم في أماني. فبعث النبي r وفدا إلى بني عامر وجعل حرام بن ملحان أميـرَهم. وحين وصل الوفد شعر حرام بن ملحان بارتياب لأن تصرفاتهم كانت مريبة وكان يبدو من بعيد أن نيتهم ليست صالحةً، فقال لأصحابه لا بد من الحيطة والحذر فلا ينبغي أن نتقدم جميعنا لأنهم لو أحاطو بنا جميعا تمكنوا منا في وقت واحد. لذا عليكم أن تبقوا هنا، سأذهب أنا مع شخص واحد، فلو عاملونا بشكل صحيح تقدّمتم ولو أساؤوا إلينا قررتم بحسب الظروف فإما أن تعودوا أو تحاربوهم أو تبقوا هنا.
فحين تقدم إليهم حرام بن ملحان وصاحبه أومأ رئيسُ بني عامر إلى شخص فطعن حرامَ بن ملحان برمح من خلفه ففار الدم من عنقه فأخذ حرام بن ملحان الدمَ بيده وقال: فزتُ ورب الكعبة، فزتُ ورب الكعبة. ثم قتلوا صاحبه أيضا. ثم هاجموا بقية الوفد وقتلوهم جميعا ما عدا شخص أو شخصين نجوَا، وكانوا سبعين نفرًا. حين كانوا يُقتَلون ظلما وخداعا دعوا اللهم تقبل منا تضحيتنا هذه وبَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا لأنه ليس لدينا سبيل لتبليغه. فبلّغ جبريل u النبيَّ r سلام عن أولئك الصحابة وأخبره بحالاتهم وشهادتهم. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ r لِأَصْحَابِهِ إِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ قُتِلُوا جميعا. وكانوا سبعين رجلا كما أخبرتُ. وكان r حزينا جدا لمقتلهم، فَدَعَا r ثَلَاثِينَ يوما على تلك القبائل اللهم عاقبِ الذين قاموا منهم بهذا الظلم. وسمّى النبي r هذه الشهادات شهادات عظيمة.
قال المسيح الموعود u في مناسبة وهو يذكر هذا الحب وهذه التضحية العظيمة من أجل الدين:
“إن الحب لشيء يجعل المرء يقوم بكل شيء، حين يعشق أحدٌ شخصا فما الذي لا يفعله للمعشوق؟ ثم ضرب حضرته u مثالا لأهل الدنيا أن امرأة عشقت شخصا فكان الناس يجرونها ويلحقون بها أنواع التعذيب وكانت تتلقى الضربات ولكنها كانت تقول أشعر بلذة. إن كان المرء يشعر بمتعة في تحمل المصائب والمشاكل من أجل الحب الزائف والعشق الذي يظهر في صورة الفسق والفجور، فتخيلوا أن الذي يعشق ربه ويتمنى أن يفدي نفسه على عتبة الله إلى أي مدى يمكن أن ينال متعة في المصائب والمشاكل. قال u: انظروا إلى حالة الصحابة –رضوان الله عليهم أجمعين- كم من إيذاءات واجهوها في مكة، أُخذ بعضهم وأُصيبوا بأنواع التعذيب والأذى. ليس الرجال فقط بل بعض النساء المسلمات أيضا تحملن المشاق لدرجة يقشعر البدن من تصورها. لو وقفوا مع أهل مكة لأكرمهم أهل مكة جدا في ذلك الوقت لأنهم كانوا أقرباءهم ولكن ما الذي ثبّتهم على الحق في طوفان المصائب والمشاكل؟ إنما كان ذلك ينبوعَ اللذة والسرور الذي كان يتدفق في صدورهم نتيجة حبهم للحق. ثم بين حضرته u مثال واقعة وقال: ورد عن صحابي أنه حين قطعت يدَيه مدّها وقال أتوضأ، وورد في النهاية أنه حين قُطع رأسه انحنى وقال أسجد، ولقي ربه وهو يدعو: اللهم بلّغ النبيَّ r. عندها كان النبي r في المدينة، فجاءه جبريل u وألقى عليه السلام، فرد عليه النبي r السلام، فأخبره بخبرهم. باختصار، فبعد المتعة التي ينالها المرء من عند الله تعالى في المصائب يرضى المؤمن أن يداس ويقتل كالدودة (كما قال هذا الصحابي فزتُ ورب الكعبة، وبلغ ذروة العشق، فيقول المسيح الموعود u) تهون على المؤمن أشد المصائب. الواقع أن علامة المؤمن إنما هي أنه يظل جاهزًا للقتل. كذلك لو قيل لمؤمن أن يختار بين التنصر والقتل، فعلينا أن ننظر الصوت الذي ينبع من قلبه، وما إذا كان يرضى بتقديم رقبته للقتل أم يفضل التنصر على القتل. فلو آثر القتل على التنصر فهو مؤمن حقا وإلا فهو كافر. باختصار إن المصائب التي تحل بالمؤمنين توجد فيها لذة خفية، وإلا فكيف قضى الأنبياء مدة طويلة في المصائب إن لم يجدوا فيها متعة ولذة. هذه أمثلة الصحابة الذين نفخت فيهم القوة القدسية للنبي r بحيث قالوا في آخر لحظاتهم أيضا فزتُ ورب الكعبة، أي فزت بوصال ربي، كما سمعنا في قصة هذا الصحابي. غير أنه يجب أن يكون واضحا أن هؤلاء القوم كانوا يعملون الصالحات، وكانوا يتحملون الظلم مقدمين التضحيات في سبيل الله، وليس أنهم كانوا يظلمون الآخرين ويقتُلون ظالمين ومع ذلك يقولون لو قتلنا فلانا وفلانا ومتنا حُزنا درجة الشهادة أو سندخل الجنة، كما يفعل أفراد من بعض التنظيمات. لم يكن الصحابة كهؤلاء. كانوا يحاربون الظلم، ولم يكونوا ينشرون الظلم.
ثم ورد عن صحابي آخر اسمه عبد الله بن عمرو الأنصاري أنه قال لابنه وهو يخرج إلى غزوة أُحد يا بني سوف أكون أول من يستشهد. (لعله قال ذلك بناء على رؤيا رآها أو أن الله تعالى أخبره) ثم أوصى ابنه وقال عليك برعاية أخواتك، وقد اقترضت من يهودي قرضا، فادفعْه له من ثمار نخلي.
انظروا إلى مستوى حب الصحابة لله تعالى وتقواهم وطهارتهم وأدائهم للحقوق. كان هذا الصحابي يخرج إلى الحرب، لكنه لا يقلق على نفسه، بل يفرح أنه سيكون أول الشهداء فيها، ولا يفكر أن له بنات شابات لهن عليه حقوق لا بد من أدائها، إنما توكل على الله بشأن أداء حقوقهن، فأوصى ابنه قائلا عليك أداء هذه الحقوق بصفتك الكبير في البيت وعليك رعاية أخواتك. ثم كان قلقا على ما عليه من دين اليهودي، لكنه لم يقل لابنه أن يدفع لليهودي دينه من عنده، بل قال لن يكون عليك أي ثقل في التسديد بل سيدرّ عليّ بستاني، فأوصيك بأداء واجبي هذا عني، فأداء الدين حكم هام من أحكام الإسلام فأوجه نظرك إلى العمل به، سترثني في مالي وعقاري بعد دفع الدين عني، لأن الحكم الأول هو دفع الدين عن الميت.
أما وكيف تقبل الله من عبد الله استشهاده وتضحيته، فقد ورد أن النبي r لما رأى ابن عبد الله حزينا عزّاه وقال تعال أُخبرك بما يسرّك. إن الله تعالى أجلس أباك أمامه وكلمه كفاحا، فقال: يا عبدي، تمنَّ أعطِك، فقال عبد الله يا رب كيف أتمنى وأنا لم أؤد حق العبادة كما ينبغي، (وقد قال هذا رغم العبادات والتضحيات). فآتني ما تؤتيني بمحض رحمتك وفضلك: ليس عندي أمنية يا رب إلا أن تحييني فأحارب العدو مع نبيك فأُقتل ثانية. فقال الله: إني قضيت أن الذين يموتون لا يرجعون إلى الدنيا ثانية، فلن أحقق أمنيتك هذه، غير أنك ستنال درجة الشهيد حتما.
ونقرأ عن حماس الصحابي عمرو بن الجموح للتضحية والاستشهاد. كان أعرج شديد العرج، فلم يسمح له أبناؤه بالخروج في غزوة بدر بسبب عاهته، ولما اجتمع الكافرون لمحاربة المسلمين في غزوة أحد قال لأبنائه سأشترك في الجهاد هذه المرة ولن أطيعكم مهما فعلتم، ثم جاء رسولَ الله r فقال يا رسول الله إن أبنائي هؤلاء يمنعونني من الخروج معك بسبب عرجي، والله إنى لأرجو أن أشترك في الجهاد وإني لأرجو الله تعالى أن يحقق أمنيتي القلبية ويرزقني الشهادة فأُدخَل الجنة بسبب عرجي. قال النبي r بأن الجهاد ليس واجبًا عليك بسبب عرجك، ولكن إذا كانت هذه هي أمنيتك فلا بأس، ثم قال r لأبنائه ألا يمنعوه. فاشترك عمرو في الغزوة وأخذ يدعو الله تعالى: اللهم ارزقني الشهادة، ولا تردني إلى أهلي خائباً. فتحققت أمنيته هذه فاستشهد في ساحة أحد.
كان هؤلاء الصحابة قد قطعوا شوطًا كبيرًا في الإيمان واليقين. خذوا واقعة أي صحابي فستجدون أنه كان نموذجًا للإخلاص والوفاء وكان مستعدًّا في كل حين وآن للتضحية بحياته.
هناك صحابي آخر وهو أبو طلحة الأنصاري الذي كان ﺭَﺟُﻼ ﺭَﺍﻣِﻴًﺎ ﺷَﺪِﻳﺪَ ﺍﻟﻨَّﺰْﻉِ وقد أرى قدرته ومهارته في الرمي في غزوة بدر. وكان النبي r يقول: ﺃَﻧْﺜﺮُوا النبل ﻷَﺑِﻲ ﻃَﻠْﺤَﺔَ، وذلك لأنه كان يرمي بسرعة قصوى وكان صائب الهدف. وحظي بشرف عظيم يوم أحد حيث كان ﻳﺴﻮﺭ ﻧﻔﺴﻪ ﺣﻮﻝ ﺍﻟﻨﺒﻲ r. كان طلحة t قد وقى بيده رسول الله r. أما أبو طلحة فكان أنصاريًّا وحظي بشرف الوقوف بكل شجاعة أمام النبي r ﻟﻴﻘﻴﻪ ﺳﻬﺎﻡ ﺍﻟﻌﺪﻭ، وكان يفضّل الوصول إلى أماكن خطرة أثناء القتال دون وجل أو خوف من أجل محاربة العدو الذي جاء للقضاء على الإسلام، كما أنه t كان يقاتل لإقامة الأمن والسلام. وكما قلت بأن هؤلاء الصحابة لم يخوضوا في الحروب من أجل ممارسة الظلم بل عندما هاجمهم العدو فلم يجبنوا بل أروا نماذج الشجاعة والبسالة وسخّروا جل كفاءاتهم ابتغاء لمرضات الله تعالى.
يقول المسيح الموعود u:
إن ما يُكشَف من الله يتحقق حتما، أما الأسباب فلا قيمة لها، يقول الله I بأنكم إذا خرجتم في سبيلي فستجدون “مراغما كثيرا”. فالذي يخطو خطوة بصحة النية يرافقه الله، بل يزول مرض الإنسان إذا كان مريضا. انظروا إلى الصحابة الكرام رضي الله عنهم ففي قُدوتهم نظير جميع الأنبياء. إنما يحب الله الأعمال فقط، فقد قدم الصحابة حياتهم تضحية كالأغنام، ومثالهم أن نظام الأنبياء كان جاريا من آدم u (أي أن شكل النبوة وعظمتها كانت جارية بصورة ظاهرة في تاريخ ديننا منذ آدم u) ولكن الصحابة جلَوه ولمَّعوه (أي لم يظهروا مكانته العلمية بل جلّوا حقيقتها بأعمالهم) وكأنهم أخبروا بأعمالهم ما الذي يسمى بالصدق والوفاء. أما عيسى فحدِّث ولا حرج، إذ لم يبعْ أحدٌ موسى u بينما حواريو عيسى قد باعوه مقابل ثلاثين درهما. ويثبت من القرآن الكريم أن الحواريين كانوا يشكّون في صدق عيسى u ولذا طلبوا المائدة، وقالوا: ]وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا[ (المائدة: 114). فمن هنا يُستشف أنهم قبل نزول المائدة لم يرتقوا إلى حالة “نعلم”.
يقول حضرته u عن الصحابة: “لا يوجد نظير للاضطرابات التي عاشوها (أي الصحابة). ولكنهم كانوا زمرة عظيمة تجدر بالإجلال والاتباع، كانت قلوبهم تفيض يقينا، فعندما ينشأ اليقين لدى المرء يحب أولا أن يدفع المال، فلما يزداد يقينًا يستعد لفداء نفسه أيضًا في سبيل الله I.”
كان يقينهم هذا يزداد كل حين وآن بسبب القوة القدسية للنبي r. وكانت الأمور اليومية لهؤلاء الصحابة تظهر مشاهد عجيبة لمحبة الرسول r. وكانوا يسعون جاهدين ليجدوا فرصة إظهار حبهم للنبي r.
لقد ورد عن عبد الله بن عمرو أنه كان يفكر دائمًا في إظهار حبّه للنبي r في الظروف العادية أيضا، فقد ورد في الرواية أنه أرسل إلى النبي r مع ابنه جابر شيئا حلوًا صُنع في بيته، فلما رجع جابر إلى البيت سأله عمرو: هل قال رسول الله r شيئا؟ فقال: نعم، قال r: ما هذا يا جابر، ألحم ذا؟ فقال عبد الله بن عمرو: عسى أن يكون رسول الله r قد اشتهى اللحم، فقام إلى داجن له فذبحها، ثم أمر بها فشويت، ثم أرسلها إلى رسول الله r، فدعا النبي r له ولعائلته.
لقد واجه الصحابة صعوبات كثيرة في تبليغ الدعوة لأقاربهم، فإن أسلم الابن فقد واجه مشاكل كثيرة لأن والده لم يسلم معه، وإن أسلم ضعيف في العائلة -رجلا كان أم امرأة- فكان يواجه اضطهادًا أو نفورًا من قبل الأقارب الأقوياء.
لقد بايع ابن عمرو بن الجموح قبل والده الذي كان مشركا. فلما رأى أن والده لا يدرك حقيقة معتقده اتخذ لإفهامه طريقًا بحيث أخذ صنمه -الذي كان والده قد وضعه في البيت بعد تزيينه وتجميله- فطرحه في حفرة يطرح الناس فيها فضلاتهم. فبحث عنه عمرو بن الجموح وجاء به إلى بيته وهو يتوعد مَن فعل به ذلك. فعل ابنه مع صنم أبيه في اليوم التالي أيضا ما فعله من قبل فكان عمرو يجد الصنم ملقىً في حفرة، وذات يوم غسله عمرو بن الجموح وزيّنه ووضع سيفا في رقبة صنمه، وقال له: إني لا أعلم من يفعل بك هذا، فإن كنت تستطيع الدفاع عن نفسك فهذا السيف معك فافعلْ. غاب الصنم في اليوم التالي أيضا حتى وُجد بعد البحث في حفرة معلَّقا برقبة كلب. ففكر عمرو أن الصنم الذي اتخذتُه إلها لا يستطيع أن يدافع عن نفسه فكيف يدافع عني. فقال مخاطبا إياه: لو كنت إلها صادقا لما كنتَ معلَّقا في رقبة كلب. فحمد الله تعالى الرزاق والعادل وأثني عليه. يقول الراوي أن عمرو بن الجموح كان آخر الأنصار إسلاما.
إن أسلوب حب النبي r لأصحابه أدى إلى خلق علاقتهم بالله تعالى نتيجة قوته القدسية. وإضافة إلى ذلك كان الله تعالى ينـزل أفضاله عليهم مباشرة أحيانا أو بواسطة النبي r، وإن ذكر ذلك أيضا يوحي بمكانة الصحابة y.
كان أُبي بن كعب t أيضا يحتل مكانة سامية من حيث العلاقة بالله تعالى، فقد ورد في رواية أَنَّ نَبِيَّ اللهِ r قَالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أُقْرِئَكَ الْقُرْآنَ. قَالَ أَاللَّهُ سَمَّانِي لَكَ؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ وَقَدْ ذُكِرْتُ عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ نَعَمْ فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ. فقرأ النبي r عليه: ]لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ[ أي قرأ عليه سورة البينة.
وقد حدث بعد ذلك أن قال أحدٌ لأُبي بن كعب t ما مفاده: لعلك فرحتَ كثيرا بسماع هذا الكلام، فقال: ما دام الله تعالى قد قال أن نفرح بالنظر إلى أفضال الله تعالى ورحمته فكيف لا أفرح! كان أُبي بن كعب t يملك فهمًا عميقا للقرآن الكريم، وسأله النبي r ذات مرة (وقد ذكرتُ هذه الرواية قبل أسبوعين أو ثلاثة أسابيع في إحدى خطبي) عن آيَة هِيَ سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ فقال أُبي في البداية: الله ورسوله أعلم. ثم قال بعد إصرار النبي r على سؤاله: هِيَ آيَةُ الْكُرْسِيِّ. فسُرّ النبي r بذلك وقال ما معناه: بارك الله في علمك يا أُبي، إن أعظم آية في القرآن الكريم هي آية الكرسي. وقد ورد في رواية أن النبي r دارس معه القرآن الكريم كله في العام الذي توفّي فيه r. كان t يعلّم الناسَ القرآنَ الكريم وتفسيرَه بإذن سيدنا عمر t.
هذه كانت سيرة الصحابة y الذين ظلوا يتقدمون حتى بلغوا الكمال.
يقول المسيح الموعود u: من المعلوم أن التقدم يحصل تدريجا لذا فقد حصل في الصحابة أيضا تدريجا، ولكن قلوب الأنبياء تكون مجبولة على المواساة، وأضف إلى ذلك أن نبينا الأكرم r كان جامعا لجميع الكمالات، وكانت هذه المواساة قد بلغت فيه مبلغ الكمال، فكان يريد أن يبلغ الصحابة مبلغ الكمال. ولكن هذا العروج كان مقدرا في زمن معين، فقد وجد الصحابة ما لم يجده العالم قط، وشهدوا ما لم يشهده أحد.
وقال u أيضا عن الصحابة y: لو أمعنا النظر في زمن الصحابة y لتبين أنهم كانوا أناسا بسطاء، وكما يصبح الإناء نظيفا ونقيا نتيجة الصقل كذلك كانت قلوبهم مضيئة بأنوار كلام الله تعالى ونزيهة ونقية من صدأ كدورة النفس. فكانوا مصداق: ]قد أفلح من زكاها[.
ثم يقول u: لقد أبدى الصحابة الصدق والإخلاص بحيث لم يتخلوا عن عبادة الأوثان والمخلوق فقط (إن التملق للناس والتوسل إليهم أيضا نوع من عبادتهم) بل قد سلب منهم طلب الدنيا في الحقيقة، وبدأوا يرون الله I فكان كل واحد منهم فداء في سبيل الله I بمنتهى النشاط والصدق وكأن كل واحد منهم إبراهيم… إن النبي r بمنـزلة الجسم وصحابته y بمنـزلة أعضائه.
ندعو الله تعالى أن يوفقنا لإدراك مكانة الصحابة كما هو حقها، ويزيدنا إخلاصا ووفاء متأسين بأسوتهم.