خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u بتاريخ 17/7/2020م
في مسجد المبارك في إسلام آباد ببريطانيا
******
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرّجيم. ]بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم* الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ[، آمين.
كنا بصدد ذكر سعد بن معاذ في الخطبة الماضية. كتب مرزا بشير أحمد في سيرة خاتم النبيين حول غزوة الأحزاب وسعد بن معاذ ما يلي: وخلال هذه الغزوة لم يتحمل المسلمون خسارة كبيرة أي لم يستشهد إلا خمسة أو ستة رجال، وأصيب سعد بن معاذ، الزعيم الأكبر للأوس، بجرح بالغ أفضى إلى موته، وكان ذلك خسارة لا تعوض للمسلمين. وقُتل من الأحزاب ثلاثة رجال فقط إلا أن قريشًا قد أصيبوا بصدمة عظيمة لدرجة لم يجرؤوا بعد ذلك على جمع الأحزاب وغزو المدينة المنورة أبداً، وتحققت نبوءة النبي r حرفيًا كما ذكر في الخطبة الماضية أن النبي r قال بأن الكفار لن يجرؤوا بعد هذا اليوم على أن يغزونا.
لقد أصيب سعد بن معاذ يوم الخندق بجرح في ذراعه واستشهد بسببه، تقول عائشة رضي الله عنها بهذا الخصوص: خرجتُ يوم الخندق أقفو الناس فسمعت وئيد الأرض ورائي، فإذا أنا بسعد بن معاذ ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مِـجَنَّه، قالت: فجلست إلى الأرض، فمر سعد وهو يرتجز ويقول:
لَبِّثْ قَلِيلًا يُدْرِكُ الْهَيْجَا حَمَلْ
مَا أَحَسَنَ الْمَوْتَ إذَا حَانَ الْأَجَلْ
أي انتظر قليلا حتى يحضر “حمل” للحرب، وما أحسن الموت إن وقع عندما يكون الأجل قد حان فعلا.
تقول عائشة: وعلى سعد بن معاذ درع من حديد قد خرجت منها أطرافه. (أي كان عظيم الجثة ثقيلا ذا صدر عريض لذلك كان جسمه يخرج من أطراف الدرع. تقول:) كنت أتخوف على أطراف سعد الخارجة من الدرع أن تصاب، وكان سعد من أطول الناس وأعظمهم جثةً.
لقد رمى ابنُ عرقة سعدَ بن معاذ فأصابه بجرح. وابن عرقة هو حبان بن مناف وكان من بني عامر بن لؤي، وعرقة اسم والده.
عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: رُمِيَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فِي أَكْحَلِهِ، قَالَ: فاستخرج النبي r بيده السهم، ثم قطع بنصله الجرح فَحَسَمَهُ (أي كواه)، ثُمَّ وَرِمَتْ فَحَسَمَهُ الثَّانِيَةَ. أي قطع النبي r الجرح بالسهم ثم كواه.
كان رجل من المشركين يدعى ابن عرقة يرمي سعد بن معاذ، وعند رميه أحد السهام قال: خذها مني وأنا ابن العرقة، فأصابه في الأكحل في ذراعه، فدعا سعد بعد أن أصيب بجرح: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة .
عن عائشة قالت :لقد أصيب سعد يوم الخندق ورماه رجل من قريش يقال له حبان بن العرقة، فرماه في الأكحل، فضرب عليه رسول الله r خيمة في المسجد ليعوده من قريب. قالت عائشة: ثم إن جرحه تحجّر للبرء فدعا سعد، فقال: اللهم إنك تعلم أنه لا قوم أحب إلي من أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا نبيك وأخرجوه، اللهم أرى أنك وضعت الحرب بيننا وبينهم. اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني (أي إن كانت هناك حروب أخرى فأبقني حيًّا إلى ذلك الحين حتى أجاهد في سبيلك) وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم (كما أرى) فافتح عرقي هذا فاجعل هذا الجرح ذريعة لشهادتي.
تقول عائشة: فَانْفَجَرَتْ في تلك الليلة وسال منها الدم، وَفِي الْمَسْجِدِ خَيْمَةٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ فلما سال الدم ووصل إليهم فزعوا، فَقَالُوا يَا أَهْلَ الْخَيْمَةِ مَا هَذَا الَّذِي يَأْتِينَا مِنْ قِبَلِكُمْ، فَإِذَا سَعْدٌ يَغْذُو جُرْحُهُ دَمًا فَمَاتَ مِنْهَا.
عن ابن عباس قال: لما نزف جرح سعد، قام إليه رسول الله r وعجل إليه، فاعتنقه، والدم ينفح من وجه رسول الله r ولحيته، لا يريد أحد أن يقي رسول الله r الدم إلا ازداد منه رسول الله r قربا حتى توفي سعد.
وفي رواية أخرى: لما انفجر جرح سعد فبلغ ذلك النبي r فأتاه فأخذ رأسه فوضعه في حجره وسُجّي بثوب أبيض ثم دعا النبي r: اللهم إن سعدًا قد جاهد في سبيلك، وصدّق رسولك، وقضى الذي عليه، فتقبّل روحه بخير ما تقبّلت به روحًا. وكان بسعد في ذلك الوقت رمق الحياة فسمع هذه الكلمات وهو على وشك الموت ففتح عينيه ثم قال: السلام عليكم يا رسول الله! أما إني أشهد أنك رسول الله. فلما رأى أهل سعد أن رسول الله r قد وضع رأسه في حجره ذعروا من ذلك، فذُكر ذلك لرسول الله r أن أهل سعد ذعروا من وضعك رأس سعد في حجرك قال رسول الله r: استأذن الله من ملائكته عددكم في البيت ليشهدوا وفاة سعد.
هذا ما دعا به r.
عن أنس t قال: أهدي إلى النبي r جبة سندس أو ديباج، وكان ينهى عن لبس الحرير، فتعجب الناس منها، فقال: “والذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن منها”. وهذا الحديث في البخاري.
لقد رأى الصحابة هذا الثوب في يد النبي r وظنوا أنه r ربما سيستعمله، وعجبوا لأنه كان ينهى عن لبس الحرير. على أية حال ذكر النبي r هذا المثال لما رأى عجبهم وحيرتهم كما يتضح من الحديث الآخر من مسلم أنهم أخذوا يتعجبون من ذلك، وكما ورد عن البراء قال: أهديت إلى رسول الله r حلة حرير فجعل صحابته يلمسونها ويتعجبون من لينها فقال رسول الله r: أتعجبون منها؟ فإن مناديل سعد بن معاذ في الجنة ألين من هذا أو خير من هذا.
عَنْ جَابِرٍ t: سَمِعْتُ النَّبِيَّ r يَقُولُ: اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. هذه رواية البخاري.
وورد في مسلم: عن أنس بن مالك أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ r قَالَ وَجَنَازَتُهُ مَوْضُوعَةٌ يَعْنِي سَعْدًا: اهْتَزَّ لَهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ.
لقد فصّل مرزا بشير أحمد في هذه الأمور وسلط عليها قليلا من الضوء فكتب: لقد أصيب سعد بن معاذ رئيس قبيلة الأوس يوم الخندق بجرحٍ في ذراعه، ولم يكن يبرأ رغم المداواة له، بل كان يندمل ثم ينفتح مرة بعد أخرى.
فلما كان صحابيا مخلصا جدا، وكان النبي r يولي عيادته اهتماما خاصا، لذا أمر بعد العودة من غزوة الأحزاب أن يُسكن في خيمة في صحن المسجد لكي يستطيع r عيادته بسهولة، فأقيم في خيمة المسلمة رفيدة التي كانت ماهرة في عيادة المرضى وتمريضهم، أي كانت تلك الخيمة لإقامة المرضى. فكانت هذه السيدة تنصب خيمة في صحن المسجد عادة لعلاج الجرحى المسلمين، لكن صحة سعد لم تتحسن رغم هذه العناية المشددة وخلال ذلك حدثتْ حادثة بني قريظة حيث اضطُر سعد لتحمُّل مشقة كبيرة وتعب شديد، فازداد ضعفا، فدعا ذات ليلة بمنتهى الضراعة اللهم إنك لتعلم الرغبة العارمة في قلبي في أن أجاهد حماية لدينك ضد قوم كذَّبوا رسولك وأخرجوه من وطنه، يا ربي أرى أنه قد انتهت المعارك بيننا وبين قريش، اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش على رسولك شيئا فأبقني حتى أجاهدهم في سبيلك، وإن كنت قد قطعت الحرب بينه وبينهم فلا أريد الحياة ودعني أموت الآن شهيدا. فانفجر كَلْمه في الليلة نفسها، وسال كثير من دمه حتى خرج من الخيمة فلما دخل الناس الخيمة فزعين وجدوه في حالة يرثى لها ثم مات.
تلقَّى النبي r صدمة كبيرة من موت سعد، وفي الحقيقة كانت وفاته في تلك الأوضاع خسارة لا تعوَّض للمسلمين. فكان سعد حائزا على مكانة في الأنصار تقارب المكانة التي كان يحوزها أبو بكر الصديق t في المهاجرين، فكان سعد يحوز في الإخلاص والتضحية وخدمة الإسلام وحبِّ النبي r مكانة سامية قلّما يرتقي إليها إنسان. فكان يتبين من كل حركة له وسكون، أن حب الإسلام ومؤسسِه غذاء لروحه، ولكونه سيد قبيلته كانت أسوته في الأنصار مؤثرة فيهم عمليا بشكل كبير. فكان تلقِّي النبي r الصدمة من وفاة الابن الروحاني البارع المتميز، أمرا طبعيا، لكنه صبر صبرا كاملا، واستسلم لمشيئة الله I بكل رضا.
فلما حُملت جنازة سعد بكت عليه أمُّه العجوز بمقتضى الحب بصوت عال نوعا ما، وذَكرت بعض محاسن سعد ومزاياه بحسب العادة السائدة، فلما تناهى صوتها إلى النبي r لم يُعجَب بالنياح مبدئيا لكنه قال إن النائحات يكذبن كثيرا أما أمُّ سعد فصدقت فيما قالت، أي كان سعد يتصف في الحقيقة بكل هذه الخصال الحميدة التي ذكرتْها، وبعد ذلك صلى عليه النبي r الجنازة، وانطلق إلى المقبرة للدفن، ومكث هناك حتى إعداد القبر وبعد الدعاء أخيرا عاد.
ربما بهذه المناسبة قال r “اهتز عرش الرحمن لموت سعد” أي بدأ عرش الرحمن يترنح فرحا، فبعضهم ترجموا كلمة اهتز بـ “تحرَّك”، لكن مرزا بشير أحمد t ترجم كلمة اهتز بترنح بمعنى استقبلت رحمةُ الله روح سعد في عالم الآخرة بفرحة.
بعد مدة حين أهديتْ للنبي r بعض الثياب من الحرير، عجب بعض الصحابة من حسنها ولينها واعتبروها شيئا غير عادي، فقال النبي r إنكم تعجبون من هذه، والله إن أرْدية سعد في الجنة أكثر منها نعومة وجمالا. وفي السابق ذُكر في بعض الأحاديث من البخاري ومسلم مناديل وترجمها حضرة مرزا بشير أحمد هنا بأردية، فكلمة ثوب تشمل كليهما.
كانت أم سعد تبكي وتقول:
ويل أم سعد سعداً … براعة ونجداً
بعد أياد يا له ومجدا … مقدما سد به مسدا
فقال رسول الله، r: كل النائحات يكذبن أي يبالغن إلا أم سعد. وقد ورد هذا في الطبقات الكبرى.
كان سیدنا سعد رجلا جسيما جزلا، فلما حملت جنازته جعل المنافقون يقولون: لم نر كاليوم رجلا أخف، وذلك لحكمه في بني قريظة أي كانوا يريدون أن یصبغوا حكمه صبغة سلبیة. فذُكر ذلك للنبي، r، فقال: والذي نفسي بيده لقد كانت الملائكة تحمل سريره.
وفي رواية أخرى قال النبي r قد شهد جنازة سعد سبعون ألفا من الملائكة لم ينزلوا الأرض قبل ذلك.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها رأت النبي r يتقدم جنازة سعد بن معاذ. ويقول أبو سَعِيدٍ الخدري كُنْت أَنَا مِمّنْ حَفَرَ لَهُ قَبرَ سعد في جنة البقيع وَكَانَ يَفُوحُ عَلَيْنَا الْمِسْكُ كُلّمَا حَفَرْنَا قَبْرَهُ مِنْ تُرَابٍ حَتّى انْتَهَيْنَا إلَى اللّحْدِ.
فلما فَرَغْنَا مِنْ حُفْرَتِهِ طَلَعَ رَسُولُ اللّهِ r عَلَيْنَا، فوُضعت جنازة سعد عند القبر وصَلّى عَلَيْهِ النبي r. يقول الراوي قَدْ رَأَيْت مِنْ النّاسِ مَا مَلَأَ الْبَقِيعَ.
عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه قال: لما أُعدَّ قبرُ سعد نزل فيه أربعة نفر: الحارث بن أوس بن معاذ وأسيد بن حضير وأبو نائلة سلكان بن سلامة وسلمة بن سلامة بن وقش، ورسول الله r واقف على قدمَي سعد، فلما وضع في قبره تغير وجه رسول الله r، وسبَّح ثلاثا فسبح المسلمون ثلاثا حتى ارتجَّ البقيع، ثم كبر رسول الله r، ثلاثا وكبر أصحابه ثلاثا حتى ارتج البقيع بتكبيره، فسُئل رسول الله r، عن ذلك فقيل: يا رسول الله رأينا بوجهك تغيرا وسبحت ثلاثا، قال: تضايق على صاحبكم قبره وضم ضمة لو نجا منها أحد لنجا سعد منها ثم فرج الله عنه.
عن المسور بن رفاعة القرظي قال: جاءت أمُّ سعد بن معاذ تنظر إلى سعد في اللحد فردَّها الناس، فقال رسول الله r: دعوها، فأقبلت حتى نظرت إليه وهو في اللحد قبل أن يبنى عليه اللبن والتراب فقالت: اِحتسبتُك عند الله، وعزَّاها رسول الله r، على قبره وجلس ناحية، وردَّ المسلمون تراب القبر وسوَّوه ورشُّوا عليه الماء. ثم أقبل رسول الله إلى القبر فوقف عليه فدعا له ثم انصرف.
عن عائشة أنه لم يكن على النبي r بعد صاحبيه أبي بكر وعمر y فراق أحد من المسلمين شاقّا كفراق سعد بن معاذ. وتوفي سعد بن معاذ وهو ابن سبع وثلاثين سنة.
قال النبي r لأم سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: أَلَا يَرْفَأُ دَمْعُكِ وَيَذْهَبُ حُزْنُكِ فَإِنَّ ابْنَكِ أَوَّلُ مَنْ ضَحِكَ اللهُ لَهُ وَاهْتَزَّ لَهُ الْعَرْشُ. (مسند أحمد) ولما دفنه رسول الله r وانصرف من جنازته، جعلت دموعه تحادر على لحيته (أسد الغابة)
قال سعد بن معاذ t في رواية: ثَلاثٌ أَنَا عَمَّا سِوَاهُنَّ ضَعِيفٌ. يعني إنني متمسك بثلاثة أشياء وأعمل بها دوما، وما هي؟ الأول: مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ r شَيْئًا إِلا عَلِمْتُ أَنَّهُ حَقٌّ، أي لم أتردد قط، والثاني: وَلا صَلَّيْتُ صَلاةً فَحَدَّثْتُ نَفْسِي بِغَيْرِهَا حَتَّى أنْفَتِلَ عَنْهَا، أي كنتُ أصلي بتركيز شديد، والثالث: وَلا تَبِعْتُ جِنَازَةً فَحَدَّثْتُ نَفْسِي بِغَيْرِ مَا إِيَّاهُ قَائِلَةٌ ومَقُولٌ لَهَا. هكذا كان يهتم بآخرته. (المعجم الكبير)
وعن عائشة قالت: ثلاثة من الأنصار لم يكن أحد يعتد عليهم فضلًا، كلهم من بني عبد الأشهل: سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وعباد بن بشر. (أسد الغابة)
والصحابي التالي الذي أذكره هو سعد بن أبي وقاص t، كان يُكنى بأبي إسحاق، واسم أبيه مالك بن أهيب وقيل مالك بن وُهَيب، وكان والده معروفا بكنيته “أبي وقاص” لذلك يُسمى سعدٌ بسعد بن أبي وقاص. وكان اسم أمه حَمْنَةُ بنت سفيان. كان سعد بن أبي وقاص من بني زهرة من قريش.
وكان أحد العشرة المبشرين بالجنة الذين بشّرهم النبي r بذلك في حياته، وكان سعد بن أبي وقاص آخرهم وفاةً، وكان هؤلاء العشرة كلهم مهاجرين وكان النبي r راضيا عنهم عند وفاته.
قال سعد بن أبي وقاص t عن إسلامه: مَا أَسْلَمَ أَحَدٌ إِلَّا فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَسْلَمْتُ فِيهِ وَلَقَدْ مَكَثْتُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَإِنِّي لَثُلُثُ الْإِسْلَامِ. (صحيح البخاري، كتاب المناقب) أي كان المسلمون ثلاثة أشخاص. وقال أيضا: كنتُ أسلمتُ قبل أن تُفرَض الصلاة.
وروت عنه ابنته عائشة أنه قال عن إسلامه: “رأَيت في المنام، قبل أَن أُسلم، كأَني في ظلمة لا أَبصر شيئًا، إِذ أَضاءَ لي قَمَر، فاتَّبعته، فكأَني أَنظر إِلى من سبقني إِلى ذلك القمر، فأَنظر إِلى زيد بن حارثة، وإِلى علي بن أبي طالب، وإِلي أَبي بكر، وكأَني أَسأَلهم: متى انتهيتم إِلى هاهنا؟ قالوا: الساعة. قال سعد: وبلغني أَن رسول الله r يدعو إِلى الإِسلام سراً، فلقيته في شِعْب أَجْيَاد، (أجياد موضع بجانب جبل الصفاء حيث كان النبي r يرعى الغنم.) وقد صلَّى r العصر، فأَسلمت. (أسد الغابة) وقالت ابنته عائشة بنت سعد: سمعتُ أبي يقول حين أسلمتُ كنتُ ابن سبعة عشر عاما وفي بعض الروايات كان ابن تسعة عشر.
وقد آمن بتبليغ أبي بكر t خمسةٌ ممن سبق إلى الإسلام كانوا من الصحابة الكبار وذوي مكانة عالية في الإسلام وكان سعد ثالثهم، وهذا أخذتُه من سيرة خاتم النبيين r، وكان شابّا يافعا أي كان عمره تسعة عشر عاما فقط، كان من بني زهرة، وكان جد شجاع وعلى يده فُتحت العراق في زمن عمر t، وتوفي في عهد الأمير معاوية t. وقد روى سعد بن أبي وقاص t كثيرا من أحاديث النبي r.
قال ابنه مُصْعَبُ بْنُ سَعْدٍ حدثني أَبِي قَالَ: حَلَفَتْ أُمُّ سَعْدٍ أَنْ لَا تُكَلِّمَهُ أَبَدًا حَتَّى يَكْفُرَ بِدِينِهِ وَلَا تَأْكُلَ وَلَا تَشْرَبَ، (فلم تكن تأكل ولا تشرب) قَالَتْ: زَعَمْتَ أَنَّ اللهَ وَصَّاكَ بِوَالِدَيْكَ وَأَنَا أُمُّكَ وَأَنَا آمُرُكَ بِهَذَا، أي تتركَ الإسلام وأطعني، قَالَ: مَكَثَتْ ثَلَاثًا حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهَا مِنْ الْجَهْدِ، فَقَامَ ابْنٌ لَهَا يُقَالُ لَهُ عُمَارَةُ فَسَقَاهَا، فَجَعَلَتْ تَدْعُو عَلَى سَعْدٍ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقُرْآنِ هَذِهِ الْآيَةَ: ]وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا[. هذه الآية من سورة العنكبوت. ثم ورد في سورة لقمان: ]وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا[ (صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة) أيْ ابقَ على صلة بهما وبرّ بهما، وإذا جاهداك على الشرك فلا تطعهما في ذلك وإلا في الأمور الدنيوية فيجب مصاحبتهما بالمعروف.
هذه الرواية لصحيح مسلم، ثم ورد في السيرة: وكنت رجلًا بَرًّا بأَمي، فلما أَسلمتُ قالت: يا سعد، ما هذا الدين الذي أَحدثت؟ لتدعن دينك هذا أَو لا آكل ولا أَشرب حتى أَموت فتعير بي. فقال: لا تفعلي يا أُمَّه، فإِني لا أَدع ديني، قال سعد: فمكَثَت يومًا وليلة لا تأَكل، فأَصبحت وقد جَهِدت، فقلت: والله لو كانت لك أَلف نفس، فخَرَجَت نَفْسًا نَفْسًا، ما تركتُ ديني هذا لشَيْءٍ. فلما رأَت ذلك أَكلت وشربت، فأَنزل اللّه هذه الآية. ]وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا[ (أسد الغابة)
كان النبي r يدعو سعدًا رضي الله عنه خالاً له. ذات مرة رآه النبي صلى الله عليه وسلم قادمًا فقال: هذا خالي هذا خالي، وإذا كان عند أحد خال مثل خالي فليأت به.
وقد بين الإمام الترمذي سبب ذلك أن أم رسول الله r كانت من بني زهرة الذين كان منهم أيضا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَلَى جَبَلِ حِرَاءٍ، فَتَحَرَّكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْكُنْ حِرَاءُ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ. وَعَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ (بن عبيد الله) وَالزُّبَيْرُ (بن العوام) وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. هذه رواية مسلم.
في أوائل أيام الإسلام كان المسلمون يصلون في السرّ، وبينما سعد بن أبى وقاص في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في شعب من شعاب مكة إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلّون، فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون، حتى قاتلوهم فاقتتلوا، فضرب سعد بن أبى وقاص يومئذ رجلا من المشركين بِلَحْيِ جملٍ، فشجَّه، فكان أولَ دم أريق في الاسلام.
عندما قام الكفار بمقاطعة المسلمين اجتماعيا في مكة وجعلوهم محصورين في شعب أبي طالب، كان سعد بن أبي وقاص من بين المسلمين الذين تعرضوا لهذه الشدائد، وقد كتب حضرة صاحبزاده مرزا بشير أحمد في كتابه “سيرة خاتم النبيين” بهذا الشأن ما يلي: تقشعر الأبدان بقراءة ذكر ما عاناه هؤلاء المحاصَرون من المصائب والكروب في تلك الأيام. قال الصحابة إنهم كانوا يعيشون أحيانا على أكل أوراق الشجر كحيوانات الغاب. قال سعد بن أبي وقاص ذات مرة وقعت قدمي على شيء لين طري وقت الليل، ولعله كان قطعة تمر، وكان الجوع قد بلغ مني كل مبلغ، فأخذته وابتلعته، ولا أدري حتى اليوم ماذا كان ذلك الشيء.
وفي مناسبة أخرى، قد بلغ الجوع من سعد مبلغًا أن وجد على الأرض قطعة جلد جاف، فنظّفه بالماء وليّنه ثم شواه وأكله، وعاش على هذه الضيافة الغيبية ثلاث ليال.
عندما أمر المسلمون بالهجرة، هاجر سعد رضي الله عنه إلى المدينة، ونزل على أخيه المشرك عتبة بن أبي وقاص. وكان عتبة قد قتل شخصا في مكة، ففر إلى المدينة وأقام فيها. وكان سعد رضي الله عنه من أول المهاجرين إلى المدينة، وقد وصلها قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليها.
وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سعد بن أبي وقاص ومصعب بن عمير رضي الله عنهما.
وفي رواية أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين سعد بن أبي وقاص وسعد بن معاذ رضي الله عنهما.
وقد قال المولوي غلام علي المحترم لعل سبب الاختلاف في الروايتين هو أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين سعد ومصعب رضي الله عنهما في مكة، وآخي بينه وبين سعد بن معاذ في المدينة.
كان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه من فرسان قريش البواسل، وكان من الصحابة الذين كانت تُعهد إليهم مهمة حراسة ودفاع النبي صلى الله عليه وسلم أثناء الغزوات.
وروى أبو إسحاق أن أربعة من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا من المحاربين الشداد وهم عمر وعلي والزبير وسعد رضي الله عنهم.
بعد الهجرة إلى المدينة كان المسلمون يعيشون في خوف دائم من هجوم الكفار، وفي أوائل أيام الهجرة كانوا يبيتون ساهرين معظم الليالي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا يبيت ساهرا على العموم. وهناك رواية عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَهِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْدَمَهُ الْمَدِينَةَ لَيْلَةً، فَقَالَ لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ. قَالَتْ فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ سَمِعْنَا خَشْخَشَةَ سِلَاحٍ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا جَاءَ بِكَ؟ قَالَ وَقَعَ فِي نَفْسِي خَوْفٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجِئْتُ أَحْرُسُهُ. فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نَامَ.
هذه القصة قد وردت في البخاري ومسلم أيضا، ولكن ليس فيهما تفصيل ما دعا به الرسول صلى الله عليه وسلم لسعد، غير أنه ورد في مناقب سعد للترمذي أن قيس بن سعد روى أن أبي قال: إن النبي r دعا له: اللهم استجبْ لسعد إذا دعا.
وورد في “الإكمال في أسماء الرجال” أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” اللهم سدِّدْ سهْمَه، وأجِبْ دعوتَه”.
وبسبب دعاء النبي r هذا كان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه مشهورا باستجابة الدعاء. وذات مرة افترى عليه شخص، فقال سعد: اللهمّ إن كَانَ كاذبًا فأعمِ بصره وأطِلْ عمره وعرِّضْه للفتن! وبالفعل أصيب هذا الشخص بهذه البلايا كلها.
وفي رواية عن قيس بن أبي حازم أنه كان يمرّ بسوق المدينة حتى وصل إلى مكان يسمى هجار الزيد، فرأى الناس عكوفًا على رجل يركب دابته ويسب عليًا رضي الله عنه. فوصل هناك سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ووقف بين القوم وقال لهم ما هذا؟ قالوا إن هذا يسب عليًا. فتقدم سعد وأفسح له القوم الطريق حتى قام أمام الرجل وقال يا هذا لماذا تسب عليا؟ أليس هو أول من أسلم؟ أليس هو أول من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ أليس هو أتقى الناس؟ وأليس هو أعلم الناس؟ وظل سعد يعدد محاسن علي رضي الله عنه وقال أليس هو من شرفه النبي صلى الله عليه وسلم بتزويج ابنته منه؟ أليس هو من كان يحمل الراية في الغزوات مع رسول الله r؟ قال الراوي ثم توجه سعد إلى القبلة ورفع يديه ودعا: اللهم إن كان هذا قد سب وليًّا من أوليائك، أي عليًا رضي الله عنه، فأَرِنا آية قدرتك قبل أن ينفض هذا الجمع. هذه الرواية في المستدرك، ويقول الراوي قيس: فوالله لم ينفضّ الجمع حتى ألقته راحلته على الأرض وضربته بقوائمها، فانكسر رأسه ومات. حرس سعد t النبيَّ r ليلا فور هجرته إلى المدينة. وقد ذُكر حادث مماثل في التاريخ في بيان غزوة الخندق. ويقول سيدنا المصلح الموعود t في ذكره: تقول عائشة رضي الله عنها أنه كلما أصيب النبي r بالإرهاق أثناء الحراسة (هذا يعني أنه r كان أيضا يقوم بالحراسة مع الصحابة) لشدة البرد عاد إلى البيت ليستلقي قليلا معي في اللحاف، وإذا سخُن جسمه قليلا عاد إلى الحراسة، وهكذا كان يسهر طويلا. ذات يوم كان مرهقا كثيرا وقال في الليل: لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ قَالَتْ فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ سَمِعْنَا خَشْخَشَةَ سِلَاحٍ فَقَالَ مَنْ هَذَا قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ r: مَا جَاءَ بِكَ؟ قَالَ: وَقَعَ فِي نَفْسِي خَوْفٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ r فَجِئْتُ أَحْرُسُهُ. فقال له ما معناه: ما بي حاجة إلى الحراسة، فاذهبْ إلى مكان كذا حيث جزء من الخندق مكسور واحرسه ليكون المسلمون في مأمن. ذهب سعد لحراسة ذلك المكان، فنام رَسُولُ اللَّهِ r لبرهة. وسأذكر بقية سوانح سعد بن أبي وقاص مستقبلا بإذن الله.
والآن سأذكر بعضا ممن توفُّوا في الفترة الأخيرة وسأصلي عليهم صلاة الغائب.
الجنازة الأولى هي للسيد عبد السميع خانْ الكاتهغرهي وقد توفِّي في ربوة بتاريخ 6/7/2020م. إنا لله وإنا إليه راجعون. وُلد المرحوم في قاديان في عام 1937م. كان والده السيد عبد الرحيم الكاتهغرهي من خدام الجماعة القدامى. وقد حظي جدُّه شودهري عبد السلام خانْ الكاتهغرهي بشرف البيعة على يد المسيح الموعود u في عام 1903م فكان من صحابته u. نال المرحوم عبد السميع تعليمه الابتدائي في قاديان، ثم انتقل إلى ربوة بعد تقسيم الهند وأكمل الثانوية هنالك. وقد ترك وراءه ابنا وابنة، أما زوجته فقد توفِّيت قبل ثلاثة أو أربعة أعوام. نال شهادة البكالوريوس في العلوم في عام 1960م وبدء التدريس في مدرسة تعليم الإسلام مؤقتا. ثم نال شهادة التدريس في عام 1962م وأصبح أستاذا رسميا. ثم نال شهادة الماجستير في عام 1969 من جامعة البنجاب بلاهور وشغل منصب كبار المعلمين. ثم عُيّن مديرا للمدرسة الثانوية “تعليم الإسلام” في عام 1972م. في عام 1970 تم تأميم المدرسة فأرسلته الدوائر الحكومية إلى مدرسة أخرى خارج ربوة فاستمر يدرس في مدارس مختلفة. خدم من عام 2005 إلى 2009م بصفة زعيم مجلس أنصار الله، ومن عام 2013 إلى 2016 كرئيس الجماعة في حارة “دار الرحمة الشرقية” في ربوة. كان من أساتذتي أيضا في المدرسة، كان أسلوب تدريسه جميلا جدا، كان اللين ظاهرا في وجهه دوما. كان يشرح المسائل بأسلوب جيد. غفر الله له ورفع درجاته ووفق أولاده أيضا ليكونوا مرتبطين بالجماعة والخلافة دوما.
الجنازة الثانية هي للسيد مجيب الله صادق الذي توفّي في 28/5/2020م عن عمر يناهز 83 عاما، إنا لله وإنا إليه راجعون. كان ابنا للسيد سيد صادق علي والسيدة سلمى بيغم، بنت السيد سيد محبوب عالم البهاري. وُلد في قرية قاديان المقدسة وشبّ وترعرع في أجوائها الطيبة. بايع والده المحترم سيد صادق علي السهارنبوري على يد الخليفة الأول t. تلقى جدّه من الأمّ السيد محبوب عالم الرصاص من أحد الأعداء في قاديان بتاريخ 19/9/1947م، أيْ في أيام تقسيم الهند ونال مرتبة الشهادة. كان أخو جدّه من الأم السيد محمود عالم محاسبا في مؤسسة “صدر أنجمن أحمدية” وكان له شرف أنْ وصل إلى قاديان مشيا على الأقدام وبايع. كان المرحوم يسكن حاليا في بريطانيا وخدم كرئيس الجماعة في منطقة Earlsfield. بعد التقاعد بدأ بالخدمة تطوعا في مكتب أمير الجماعة في بريطانيا وظل يخدم إلى ستة عشر عاما. كان يعمل بجدية وجهد، كان وجهه متسما باللين وطبعه بالمزاح دائماً. كان يعمل بانتباه شديد. ما كان يشكّل أيّ عبء على أحد ولا يزعج أحدا، بل كان يسعى جاهدا أن يعمل أكثر ما يمكن وينجز أعمال الآخرين أيضا. تزوج المرحوم في ربوه عام 1968م من السيدة عائشة صادق بنت بابو محمد عالم مدير محطة سكة الحديد المتقاعد. وُفِّقت زوجته للخدمة في ربوة بمناصب مختلفة في لجنة إماء الله. ترك وراءه ابنين وابنتين. يخدم ابنه الدكتور كليم الله صادق كثيرا تطوعا في قناتنا الفضائية. كان المرحوم ملتزما بصلاة التهجد بفضل الله تعالى. سافر لأداء العمرة، وتقول زوجته أنه كان حينذاك یعاني من بألم الركبتين ودبرنا له كرسي المعاقين ولكنه قال أنه يريد نوال الثواب لذا سوف يؤدي العمرة مشيا. كان مهتما بأداء التبرعات كثيرا. كتب إليّ أولاده -كما يفعل الأولاد عادة- وكتب غيرهم أيضا بكثرة وذكروا صفاته الحسنة. يتبين من علاقة أولاده الوطيدة بالجماعة أنه قد زرع في قلوبهم حب الخلافة والجماعة، ورباهم على أحسن وجه. ولكن كما يقول النبي r أن خير شاهد على المرء هم جيرانه ومعارفه الذين ينظرون إلى سيرته وحسناته ويصدقون عليها. وهذا المبدأ ينطبق على المرحوم مجيب الله صادق في الحقيقة. خدم المرحومَ جيرانُه من غير المسلمين وطلبوا من أولادهم أيضا أن يخدموه وحزنوا كثيرا على وفاته. وقد ذكر كل واحد من زملائه العاملين معه في المكتب دماثة أخلاقه وجُهده وجديته في العمل بوجه خاص. كان يعمل في المكتب وفي الوقت نفسه يخدم الناس أيضا إذ كان يصنع الشاي لهم ويسقيهم. عندما انتقلتُ إلى إسلام آباد في العام الماضي جاء مرة للقائي وكان قلقا على عدم تمكنه من أداء صلاة الجمعة ورائي كل أسبوع، فطمأنته وقلتُ أنني سأؤم صلاة الجمعة في معظم الأحيان في مسجد بيت الفتوح بإذن الله، وإذا استطعتَ أن تحضر إسلام آباد فلك ذلك. فحين سمع ذلك سادت البشاشةُ وجهَه. بعد هجرة الخليفة الرابع رحمه الله إلى لندن اشترى المرحوم بيتا قرب مسجد الفضل ليكون أولاده قريبين من المسجد. كان يذهب للعمل لساعة أو ساعتين كل يوم ليبقى الأولاد مرتبطين بالمسجد. أما الآن فكان قلقا بشأن عدم تمكنه من أداء صلاة الجمعة وراء الخليفة بسبب بُعد المسافة. كان إنسانا مخلصا وصالحا جدا وقد قضى حياته بإخلاص شديد وسعى جاهدا ليزرع هذا الإخلاص في قلوب أولاده أيضا. غفر الله له ورحمه ورفع درجاته ووفق أولاده للارتباط بالخلافة بالجماعة كما كان يتمنى، بل أكثر من ذلك، وأكرم أرملته بحمايته ووهبها السكينة.
الجنازة الثالثة هي للسيد رانا نعيم الدين- الأسير الأسبق في سبيل الله- وقد ذكرته من قبلُ ولكن فاتتني صلاة الجنازة عليه في الأسبوع الماضي فسأصلي عليه أيضا اليوم بعد صلاة الجمعة مع الآخرين. غفر الله له ورحمه.