خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام
يوم 10/11/2017
*****
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين. آمين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)، (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)
المعيار الذي أوصى الله سبحانه وتعالى المسلمين بإقامته للعدل وأكَّد عليه لا نجده في كتاب أي دين آخر. لكن من الشقاوة أنه يوجد في المسلمين المعاصرين أنفسِهم، من كل شريحة منهم سواء كانوا قادةً وحكاما أو علماء الدين، أناس لا يحققون مقتضيات العدل والإنصاف. وكذلك لا نلاحظ في البيوت ولا في الشئون العامة للمسلمين إقامة معايير العدل والإنصاف التي فرضها الله سبحانه وتعالى ويُتوقع تحقيقُها من قبَل المؤمن. ففي الخصومات العائلية في البيت ترفع في المحاكم من قبل الرجال والنساء أيضا قضايا مبنية على أحداث باطلة. وتُقدَّم شهادات الزور، لنيل الحقوق غير الشرعية، كما نلاحظ اللجوء إلى الكذب والزور لغصب حق أحد. باختصار هناك عدد كبير من المسلمين لا يتمسكون بالصدق لنيل حقوقهم المزعومة ويغصبون حقوق الآخرين، أو يكذبون لغصب الحقوق ويخدعون المحاكم أيضا. ومن الملاحظ أن القضاة أيضا يحكمون أحيانًا حكما باطلا لنيل مصالح شخصية. فكأن الفساد مستشر في كل مكان.
وهذا الإجحاف وعدم العدل يولد السيئات في المجتمع بانتظام، ثم إن الحكام لا يراعون معايير العدل على الصعيد الوطني. فهم لا يعدلون تجاه رعيتهم ولا تُحقَّق معايير العدل في العلاقات المتبادلة بين البلاد أيضا. أما المشايخ فقد اتخذوا الدين وسيلة لنيل مصالحهم الشخصية. الجدير بالانتباه أن المسلمين يدَّعون أنهم خير أمة، وأن الإسلام وحده يقدم أمثل حل لأزمات العالم. ولا شك أن المسلمين هم خير أمة، إذا استجابوا لأوامر الله سبحانه وتعالى وعملوا بتعاليم القرآن الكريم، ومن المؤكد أن الإسلام وحده قادر على حلِّ جميع أزمات العالم، بشرط أن يقام الحق والإنصاف بحسب تعليمه.
الآيات التي قرأتُها قبل قليل هي من سور عدة، فهي من النساء والمائدة والأعراف. فالترجمة الأردية للآية الأولى وهي من النساء كالتالي: “ترجمة الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)”
فهذا هو الأمر بإقامة العدل في القضايا والشئون داخل المنـزل والمجتمع. أي عليكم التمسك بأهداب العدل والإنصاف في كل حال مهما كانت الظروف. فقد أُمر المؤمنون بأن تكون شهادتهم لله وبحسب أوامره سبحانه وتعالى، وهذا لا يتحقق إلا إذا كان الإيمان بالله كاملا، وكان رفيع المستوى وقويًّا. يجب التمسك بالعدل بقوة مهما تعرَّض المرء للأوضاع الصعبة. وهذه القوة لا تنشأ أو لا تستبين إلا إذا كان الإنسان مستعدًّا للشهادة على نفسه وزوجته وأولاده وحتى على والدَيه وعلى الأقارب إذا اقتضى الأمر. فقال سبحانه وتعالى: إن اتباع الهوى يصرف عن العدل، فإذا اتبعتم أهواءكم فستبتعدون عن العدل والإنصاف، إن سبب مشاكل كثيرة في المجتمع في العصر الراهن يعود إلى أن العدل والإنصاف ليس من الدرجة التي يريدها الله سبحانه وتعالى. إن اللف والدوران في الكلام أمر شائع، ومن المؤسف أن البعض منّا أيضًا يقومون بتصرف من هذا القبيل ويدلون الشهادة عكس الحقايق أحيانا متأثرين بأهل الدنيا والمجتمع رغم بيعتهم للمسيح الموعود عليه السلام. بينما يقول الله سبحانه وتعالى: لا تقوموا باللف والدوران في الكلام، وينبغي أن لا ينشأ الانطباع أنكم تعرضون عن الحقائق وتحاولون اجتناب شهادة الحق، حتى لو تعرضتم شخصيا أو والداكم لخسارة. فنحن نلاحظ في المعاملات اليومية والقضايا بين الزوجين، كما تُرفع في دار القضاء قضايا كثيرة تُهمل فيها الحقائق. ويلاحَظ إخفاء الحقائق في المعاملات من بيع وشراء، ويقوم بمثل هذا التصرف بعض أصحاب علم الدين والنشيطين في خدمة الدين في ظاهر الأمر. وهذه التصرفات تصيب الإنسان بقلق واضطراب، أنه كيف يمكن صدور مثل هذه الأعمال من الذين يعدّون من العلماء الكبار وأهل العلم ولهم انطباع جيد. بينما يوصي الله سبحانه وتعالى بنفسه بعدم إخفاء الحق في أي حال حتى لو كان ضد أنفسكم أو الوالدين أو الأقارب. فهؤلاء الناس يُخفون الحق أو يلوون في الحديث أو يعرضون عن الإدلاء بشهادة الحق مراعاة لعلاقات الصداقة فقط، وهم يكونون قد استعدوا لتأييد موقفهم وجمعوا الأدلة للدفاع عنهم في حالة الاعتراض. لكن تذكَّروا على الدوام أن الله سبحانه وتعالى يقول إن الله عليم بما تعملون. ويستحيل خداعه، يقول الله سبحانه وتعالى يمكن أن تكسبوا منافع هذه الدنيا لكن الله سبحانه وتعالى سيؤاخذكم في العالم الآخر حتى لو نجوتم من البطش هنا في هذه الدنيا. إن الله العليم بكل أعمالنا وتصرفاتنا، سيضع أمامكم سجل أعمالكم كلها، الذي حُفظ فيه كل شيء. أما الإمام الذي آمنّا به فقد أقام مستجيبا لأوامر القرآن أمثلة حيَّرت الأغيار أيضا. هناك واقعة في سيرته أنه مثُل قبل مدة من إعلان دعواه أي أيامَ الشباب أمامَ المحكمة كشاهد في قضية كان والدُه رفعها ضد المزارعين، وتكلَّم وأدلى الشهادة بحق وعدل، مما نفع المزارعين وخسر والده القضية. وكان المحامي قد قال له من قبل إنه إذا لم يشهد كما يقول له هو فسوف يخسر القضية، لكنه قال: إنما سأقول الحق فقط. ثم حكم القاضي إثر شهادته لصالح المزارعين، لكنه كان فرحا مسرورا حتى ظن الذين رأوا حضرته عائدا من المحكمة فرحا بشوشا، بعد صدور الحكم ضد والده، أن الحكم صدر لصالحه.
فهذا هو نموذج الخادم الصادق للرسول صلى الله عليه وسلم الذي آمنا به، وثمة حاجة لنحاسب أنفسنا في أمر شهاداتنا واضعين هذا النموذج أمام أعيننا.
وهناك مثال آخر، وهو أن كثيرا من الناس في هذه البلاد الغربية يُخفون دخلهم عن الحكومات وبذلك يوفّرون الضريبة أو يسعون لنيل المساعدات من الحكومة، ولكن الآن إذ تدهورت ظروف العالم المادية بدأت حكومات البلاد المتطورة أيضا تفحص بدقة، وحيثما يساورهم شكٌّ يحققون بسرعة، لذا على الأحمديين أن يتحملوا الخسارة الدنيوية ويلتزموا بالصدق دوما لحماية أنفسهم والجماعةِ من السمعة السيئة وفضلا عن ذلك لنيل رضوان الله تعالى. إن كانت نيتهم صالحة وتمسكوا بأهداب العدل بقوة شهداء لله وجعلوا شهاداتهم مبنية على القول السديد، فالله الذي هو الرب والرزاق سيهيئ لكم الأسباب بنفسه ويبارك في رزقكم من عنده، فعلينا أن نحاسب أنفسنا دوما، وإن لم نسعَ لإقامة معايير الشهادات على العدل فلا يمكن أن يستقر أمن البيوت وسكينتها، ولا أمن المجتمع والمنطقة التي نسكن فيها، والتخلي عن العدل سيؤدي إلى الفرقة بين أفراد الجماعة أيضا والتنافر فيما بينهم.
من الغريب أن بعض الناس يبْلغون في قول الزور والظلم حدًّا حتى اشتكى لي آباء بعض البنات أنه حين انفصلت بنتنا عن زوجها كلما حاولنا تزويجها في مكان آخر ذهب أهل بيت زوجها السابق إليه واستخدموا الكذب وقول الزور ليسيئوا إلى سمعة البنت. وكذلك يأتيني بعض الشباب الذين يسيء لهم آباء البنات ويقدمون شهادات ضد الشباب ويسعون لفسخ زواجهم ولإحداث خلل في ذلك. إنه شيء خطير للغاية ومدمّرٌ لأمن المجتمع وقاطعٌ لعهد البيعة وينم عن الابتعاد عن أحكام الله تعالى. إن الله تعالى أحسنَ إلينا إذ وفّقنا للإيمان بإمام الزمان عليه السلام وجعلنا إخوة لبعضنا ولكننا نسعى للانتقام من بعضنا البعض من أجل بعض مصالحنا أو لإشباع أنانيتنا أو بسبب ما نكنّه من البغض والعناد في قلوبنا، ونبْلغ في الانتقام درجة حتى نُـخرجَ خوف الله تعالى من قلوبنا. وإذا ظُلم أحدٌ بحسب زعمه فبعد البتّ والانفصال يجب أن تبتعدوا عن الظالم ولا تتعقّبوه واتركوا الأمر لله تعالى الذي هو خبير بكل أمر، فمن سعادة المؤمن أن يتوكل على الله تعالى.
ثم أمر الله تعالى المؤمنين، بعد أن يقيموا العدل والإنصاف والصدق في مجتمعهم بأن من مسئوليتكم – إضافة إلى أموركم الشخصية والاجتماعية والقومية- أن تقيموا العدل ذا المستوى العالي وتضربوا نماذج عليا للعدالة مع الأقوام الأخرى، وإن لم تقيموا مستوى العدل والإنصاف مع الأعداء فسوف تُحسبون ممن لا يسلكون دروب التقوى. كما ورد في الآية رقم 9 من سورة المائدة التي قد تلوتها، يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) في بعض الأحيان بسبب الخلاف الديني يظلم المسلمينَ أصحاب الديانات الأخرى ففي مثل هذه الحالة ليس لمؤمن أن ينتقم من الأقوام الآخرين وأصحابِ الديانات الأخرى لظلمهم ولا يحققَ متطلبات العدالة.
قال خليفةُ المسيحِ الأولُ رضي الله عنه ذات مرة في درس القرآن بأن الآريين في هذه الأيام يسعون دائما أن يتسببوا في طرد المسلمين من الوظائف، وإذا فعلوا ذلك فليس لمسلم أن ينتقم منهم، لأنه في هذه الحالة سيكون ممن لا يعملون بحسب هذا الحكم الإلهي. لا يجوز لمؤمن أبدا ألا يعدل بل عليه أن يعدل ويتّقي الله ويترك أمره على الله تعالى الخبير بكل شيء، ومن واجب المؤمن الحقيقي أن يعتصم بأحكام الله تعالى ويثبُت عليها ولا يغفل عنها مثقال ذرة، ومن واجب المؤمن أن يُري نموذج مسلم حقيقي بحيث يكون كل عمل له وكل فعل له لوجه الله تعالى فقط، هذه هي علامة المؤمن الحقيقي. وإنما المراد من كون الشُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ هو أن تلتزموا بتعاليم الإسلام وتعملوا بها بحيث يصبح كل عمل لكم نموذجا ومثالا للناس ولأصحاب الديانات الأخرى وللمجتمع ولأمم أخرى.
يُتحدث كثيرا في المجتمع الغربي عن ظلم المسلمين بأن الذين لا ينصفون أهل دينهم كيف يمكن أن يعدلوا مع أقوام آخرين. هذه مأساة كبيرة أن المسلمين أنفسهم يسيؤون إلى سمعة الإسلام بسبب تصرفاتهم. يغتصب الحكام حقوق رعاياهم والرعايا يحاربون حكامهم، وتتعرض المساكن والعمران للدمار نتيجة المظالم، والأحزاب الإسلامية المزعومة يقتلون شعبهم ويقومون بتصرفات ظالمة في بلاد أخرى أيضا ويبرّرون ظلمهم بقولهم إن أهل الغرب يقتلون رجالنا ونحن أيضا نستخدم حقنا، مع أن المسلمين هم الذين يقتلون المسلمين إلا أنهم يستعينون بغير المسلمين. لقد ظهرت مؤخرا خطة جديدة لحزب المتطرفين، الذين يشنون هنا هجمات في مختلف المدن والبلاد، أنهم سيهاجمون الأطفال وسيقتلون الأولاد أمام أبويهم لأن أهل الغرب بطائراتهم الراجمة للقنابل قصفوا بلادنا وقتلوا رجالنا وأولادنا ودمّروا عمراننا، مع أن هذا القصف كله كان بطلب من الحكام المسلمين. باختصار، هذا العداء يولّد مزيدا من العداء ولا تنقطع هذه السلسلة أبدا، لذا قال الله تعالى لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا بل لا بد أن تعدلوا في كل حال. وإنما يزداد الظلم لأن متطلبات العدل لا تُحقَّق، وغير المسلمين يعارضوننا لأن نماذج المسلمين العملية تناقض تعاليم الإسلام، مع أنه كان ينبغي أن يبشّر المسلمون بالإسلام مُبدين نماذجهم العملية ومُخبرين العالم بتعاليم الإسلام الجميلة، ولكن الواقع عكس ذلك ولا يُرى في البلاد الإسلامية إلا الظلم.
فالإدلاء بالشهادة في حق الإسلام وفي حق الله تعالى لا يمكن إلا ببيان جمال التعليم الإسلامي. وما أجمل ما أمر به القرآن الكريم: (لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا)، لم يرد هذا الأمر في أيّ كتاب ديني آخر. ولا يجوز التمييز بين الناس من حيث إقامة العدل، بل كل شخص سواء أكان مسلما أو غيره يستحق أن يُعامَل بالعدل. بل يجب القيام بالعدل حتى عند التعامل مع الأعداء بل يجب الانتباه إلى ذلك بوجه خاص. فما أجمل هذا التعليم! ولكن من المؤسف حقا أن تصرفات بعض المسلمين على الرغم من وجود هذا التعليم قد شوّهوا سمعة الإسلام في أعين العالم غير الإسلامي. وهذا ما يقوم به عامة المسلمين ومشايخهم وحكامهم أيضا. ولكن تصرفاتهم هذه توقِع علينا مسؤولية كبيرة، ألا وهي أن نثبت للعالم بعملنا كم هو تعليم الإسلام مبني على العدل والإنصاف، وهذا التعليم وحده يضمن الأمن والسلام في العالم. كيف اهتم رسول الله عليه السلام بدقة متناهية أن يعمل أصحابه رضي الله عنه بالعدل والإنصاف، أضرب لكم بعض الأمثلة على ذلك.
ذات مرة أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بعضَ الصحابة إلى مكة للاستطلاع، وذلك حين كانت الظروف المحيطة بالمسلمين خطيرة جدا وكان هناك خطر دائم من هجوم الأعداء وإلحاق الضرر بالمسلمين. عندما ذهب الصحابة في سرية استطلاعية وجدوا بعض الناس من الأعداء في حدود الحرم، فظن المسلمون أن الأعداء آذوهم كثيرا فيما سبق وإذا تركوهم وشأنهم سيوصلون هذا الخبر إلى أهل مكة فسياهجمونهم ويقتلونهم. فبناء على هذا الفكرة هاجم الصحابة المستطلعون الكفارَ وقتلوا اثنين منهم. عندما وصل الصحابة إلى المدينة لحِقَهم مندوبو أهل مكة وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن رجالكم قتلوا اثنين من رجالنا داخل حدود الحرم. لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لهم بعد سماع كلامهم بأنكم أيضا ظلمتمونا كثيرا، وإذا حدث ذلك معكم فلماذا تصرخون؟ بل قام صلى الله عليه وسلم بإجراءات لازمة فورا وقال ما مفاده: إن ما حدث لا يصح بأي حال وينافي العدل. (من الممكن أن الكفار بسبب وجودهم في حدود الحرم لم يحاولوا للدفاع عن أنفسهم على ما يرام). وقال صلى الله عليه وسلم أننا سندفع الدية بحسب عادة العرب. ثم دفع النبي صلى الله عليه وسلم الدية فعلا، وإلى جانب ذلك زجر الصحابة على أنهم قاموا بما لا مبرر له.
كذلك رُوي حادث آخر أن الصحابة قتلوا خطأ امرأة في إحدى الحروب، وعندما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك سخط على الصحابة بشدة. وفي رواية أخرى أنه لم تلاحَظ على وجهه علامات السُخط مثلها من قبل. قال الصحابة بأنها قُتلتْ خطأ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم تأذى كثيرا من هذا الخطأ والعدول عن العدل.
ثم انظروا كيف حكم النبي صلى الله عليه وسلم بالعدل في قضية بين يهودي ومسلم. لقد جاء في رواية: كَانَ لِيَهُودِيٍّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ لِي عَلَى هَذَا أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ وَقَدْ غَلَبَنِي عَلَيْهَا فَقَالَ أَعْطِهِ حَقَّهُ قَالَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهَا قَالَ أَعْطِهِ حَقَّهُ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهَا قَدْ أَخْبَرْتُهُ أَنَّكَ تَبْعَثُنَا إِلَى خَيْبَرَ فَأَرْجُو أَنْ تُغْنِمَنَا شَيْئًا فَأَرْجِعُ فَأَقْضِيهِ قَالَ أَعْطِهِ حَقَّهُ قَالَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَالَ ثَلَاثًا لَمْ يُرَاجَعْ فَخَرَجَ بِهِ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ إِلَى السُّوقِ وَعَلَى رَأْسِهِ عِصَابَةٌ وَهُوَ مُتَّزِرٌ بِبُرْدٍ فَنَزَعَ الْعِمَامَةَ عَنْ رَأْسِهِ فَاتَّزَرَ بِهَا وَنَزَعَ الْبُرْدَةَ فَقَالَ اشْتَرِ مِنِّي هَذِهِ الْبُرْدَةَ فَبَاعَهَا مِنْهُ بِأَرْبَعَةِ الدَّرَاهِمِ… وسدّد دَينه.
فهذه هي أمثلة العدل المثلى التي ضربها النبي صلى الله عليه وسلم بأسوته، لم يقل لليهودي أن الدائن يطلب مهلة فأمهِلْه، بل قال لصحابيه أن يسدد دَينه فورا. فاضطر الصحابي ليبيع ثيابه. إذًا، هذا هو معيار العدل والإنصاف الذي لو احتفظنا به على كافة الأصعدة لكنا من المؤمنين الحقيقيين بالمسيح الموعود ، وسنتمكّن من تحقيق الهدف من بعثته عليه السلام. لقد بُعث المسيح الموعود عليه السلام لنشر تعليم النبي صلى الله عليه وسلم وإبداء محاسنه للناس ليجتمع الناس أكثر فأكثر تحت لوائه صلى الله عليه وسلم. ولكن هذا لا يمكن حدوثه إلا إذا أرشدنا العالم بالحق وإلى جانب ذلك أقمنا العدل والإنصاف عاملين بتعليمه صلى الله عليه وسلم. فالآية التي تلوتُها في مستهل الخطبة من سورة الأعراف يقول الله تعالى فيها: (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (الأَعراف: 182). الذين كانوا يهدون بالحق دائما هم الذين يُدْلون بشهادة العدل ويقيمون العدل. فما لم يكن الإنسان قائما على الهداية بنفسه أنّى له أن يهدي الآخرين؟ وما لم يكن ثابتا بنفسه على العدل كيف يعدل به مع الآخرين؟ فإذا أردنا أن نحقق عهد بيعتنا للمسيح الموعود عليه السلام، وننجز مهمته ونبلّغ دعوة الإسلام إلى العالم، ونؤدي حق التبليغ، فلا بد لنا من التحلي بالأخلاق الفاضلة بحسب المبدأ الذي بينه تعليم الإسلام، وما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أمرنا المسيح الموعود عليه السلام بالعمل بحسبه. فإن لم تكن شهاداتنا بالحق والعدل، وإن لم تكن علاقاتنا في البيوت والمجتمع مبنية على أوامر النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم تكن قلوبنا خالية من البُغض والشحناء تجاه أعدائنا لن يكون تبليغنا الدعوة مدعاة للهداية الحقيقية. وسيقول الناس نظرا إلى أعمالنا ومعايير عدلنا أن عليكم أن تَهْدُوا أنفسكم أولا، وقوموا بالعدل في مجتمعكم أولا ثم يمكنكم أن ترشدونا إليه. فهذه مسؤولية كبيرة تقع على كل أحمدي، أي أن عليه أن يفتح أبواب تبليغ الدعوة بعمله. وأبواب التبليغ التي سوف تفتح بواسطة أعمالنا وأفعالنا، والذين سيتعرفون على الإسلام بالنظر إلى أعمالنا لن يسعهم إلا الاعتراف بمحاسن الإسلام ومزاياه.
وفقنا الله تعالى للعمل بأوامر الله تعالى وتغيير الحياة بحسبها ولتحقيق عهد بيعة المسيح الموعود عليه السلام كما هو حقها، ووفقنا الله تعالى لنكون نموذج الهداية والعدل للآخرين. آمين.
بعد صلاتي الجمعة والعصر سأصلي صلاة الغائب على السيد حسن محمد خان عارف الذي كان ابن السيد فضل محمد خان الشملوي. كان حسن محمد عارف قد خدم في منصب نائب وكيل التبشير في ربوة ثم ظلّ مديرًا لمجلة “أحمدية غازت” الصادرة في كندا. وافته المنية في 3 نوفمبر الأخير عن عمر يناهز 97 عامًا، إنا لله وإنا إليه راجعون. وكان منضمًّا إلى نظام الوصية.
ولد حسن محمد خان في 26 يناير 1920 في مدينة “جالندهر”، بايع والده السيد فضل محمد خان الشملوي على يد الخليفة الثاني رضي الله عنه في عام 1915 وظل يعمل في الدوائر الرسمية لمدة 35 عامًا. وتقاعد عن منصب نائب مساعد المستشار المالي. كان فضل محمد خان مفعمًا بحماس التبليغ لدرجة أن رجلين إنجليزيَين قد أسلما على يده في ذلك الزمن، كما وفق عن طريقه عشرات آخرون للدخول في الأحمدية. كان يشغل وظيفة حكومية، ثم بأمر من المصلح الموعود رضي الله عنه أكمل دراسته إلى البكالوريوس وبعد ذلك أخذ شهادة الماجستير بعد أن انتقل إلى ربوة.
لما سافر المصلح الموعود رضي الله عنه إلى دلهي في عام 1943، قرر حسن محمد خان وقْفَ حياته بينما كان موظفا في دائرة رسمية للحكومة الهندية. فلما أخبر بذلك حسن محمد خان والدَه سُرّ كثيرا إلا أنه نصحه أيضا قائلا: إنْ قررت وقف حياتك فلا تظن أنك ستجد راحة وسكينة، بل إذا كنت تريد الوقف على وجه الحقيقة فاعلم أنه فراش للأشواك، ولن تجد فيه عيشًا كعيش الأمراء، بل سوف تضطر أن تعيش كالناس العاديين، وسيُعطى لك راتب أقل بكثير مما تقبضه الآن ولا بد أن تكتفي به. على أية حال، قال حسن محمد خان بأنني مع كل ذلك سأنذر حياتي وبالتالي حضر مع والده إلى حضرة المصلح الموعود رضي الله عنه الذي أمره بإكمال دراسة البكالوريوس ثم المجيء للخدمة، فأكملها في عام 1945 وأطلع بذلك المصلح الموعود رضي الله عنه الذي دعاه للخدمة، فاستقال من وظيفته الحكومية ووصل إلى المركز حيث عُيّن نائبًا لوكيل التجارة. وعند تقسيم البلد إلى باكستان والهند قدم حسن محمد خان طلبًا للبقاء في قاديان درويشًا وقبل المصلح الموعود رضي الله عنه طلبه أيضا إلا أنه رضي الله عنه دعاه بعد فترة يسيرة إلى باكستان لحاجته في المركز حيث فوّض إليه منصب نائب وكيل التجارة، وبعد ذلك ظلّ يخدم فترة كمدير لمكتب كتيبة “فرقان” أيضا.
لقد عُيّن في مكتب وكالة التبشير في عام 1951، فلما داهمت الشرطة مكاتب التحريك الجديد خلال أحداث الفتنة في البنجاب عام 1953 اُعتُقل حسن محمد خان عارف أيضا لأنه كان يتلقى تقارير المبلغين والدعاة من أنحاء العالم وهو كان يكتب رسائل شهرية إليهم، فظل أسيرًا في سبيل الله إلى أن أقيم في البلد الحكم العرفي وأطلق سراحه.
ثم بعد ذلك عهدت إليه إدارة المكتب المعني بالعقارات في الجماعة. ثم عيّن مرة أخرى نائبًا لوكيل التبشير ووُفق للخدمة على هذا المنصب لمدة تقارب 30 عامًا.
إلى جانب ذلك وفق للخدمة في مكاتب أخرى بشكل مؤقت كأنْ شغل منصب وكيل الديوان ووكيل التعليم ووكيل الزراعة ووكيل المال ومدير مكتب الأمانات المالية.
لقد تقاعد في 1981 وسافر إلى كندا حيث بدأ الخدمة كمدير لمجلة “أحمدية غازيت” ووفق لهذه الخدمة لـ26 عامًا حتى عام 2006.
كان قد انضم إلى نظام الوصية في وقت مبكر جدًّا حيث كان رقم وصيته هو 5745، وكان يعد من الصف الأول للمضحين في صندوق التحريك الجديد وكان رقمه فيه هو 151.
ألف في عام 1978 كتابًا بالأردية تحت عنوان “الكفن المقدس”. كانت لغته الإنجليزية أيضا جيدة وكان قد بدأ تأليف هذا الكتاب بالإنجليزية إلا أن الخليفة الثالث رحمه الله قال له أن يؤلفه بالأردية ليكون أول كتاب بالأردية حول كفن المسيح الناصري عليه السلام. إضافة إلى ذلك فقد ألّف بعض الكتب للأطفال أيضا منها كتاب حول نبوءات المسيح الموعود عليه السلام وكتاب آخر عن سيرة سيدنا بلال رضي الله عنه وغيرهما.
تزوج في عام 1944 من سيدة أختر فيضي بنت فضل الرحمن فيضي، وولد له أربعة بنين وبنتان وهم يعيشون الآن في كندا وأمريكا.
كتبت كنّته الكبيرة وهي زوجة ابنه فريد أحمد عارف: لقد رأيته عن كثب فإنه كان مواظبا على التهجد وكان يصلي بكل تضرع وابتهال، وكان يحب الخلافة حبًّا جمًّا وكان مطيعًا صادقًا لها. وبعد وفاته علمنا كم كان عدد الأرامل والأيتام الذين كان المرحوم يرسل لهم مساعدات مالية بانتظام.
يقول أمير الجماعة في كندا: إن المنطقة التي كان المرحوم يسكن فيها في كندا يكثر فيها السيخ وهم قد شكّلوا جمعية باسم الجمعية الثقافية السيخية، وبما أن المرحوم كان على صداقة قوية معهم لذلك فقد انتخبوه رئيسًا لهذه الجمعية وألحوا عليه أن يقبل ذلك المنصب.
لم يكن يستطيع السواقة مع ذلك كان يأتي لصلاة الجمعة في مركزنا في “بريمتون” بالحافلة وكان يحتاج إلى تغيير حافلتين أو ثلاث للوصول إلى المركز.
يقول أحد نواب الأمير في كندا: بعد مجيئه إلى كندا رفع من مستوى مجلة “أحمدية غازيت” لدرجة أصبحت هذه المجلة مفخرة له. كان حب الخلافة والإيمان بها راسخًا في قلبه وكان يكن حبًّا عميقًا واحترامًا كبيرًا لجميع الخلفاء.
أعرفه منذ الصغر، وبعد أن توليت منصب الخلافة رأيت فيه تغييرا حميدًا رائعًا تجاه الخلافة.
في بداية توليه إدارة مجلة “أحمدية غازيت” لم يكن الحاسوب قد تولى هذه الأعمال ففي هذه الفترة كان حسن محمد خان يكتب بخط يده الجزء الأردي من المجلة أما الجزء الإنجليزي فكان يكتبه على الآلة الكاتبة.
كان يقرأ الخطب مرة بعد أخرى ثم كان يترجمها إلى الإنجليزية ويراجعها ولم يكن ينشرها في المجلة ما لم يطمئن قلبه من صحة ترجمتها.
كانت ذاكرته قوية وكان قد درس التاريخ الإسلامي بشكل عميق. كان دائم القراءة لكتاب أو مجلة ما. وكان يحب قراءة الجرائد، وكان يكثر من ذكر الأحداث من سيرة الصحابة. وكتب لي أحد أنه في زمنه لم يكن يخلو عدد من أعداد مجلة “أحمدية غازيت” من حدث مثير مقوٍّ للإيمان من كتاب مرقاة اليقين للخليفة الأول رضي الله عنه، كان ينشره بالأردو مع ترجمته الإنجليزية.
رحمه الله وغفر له ورفع درجاته ووفق أولاده وذراريهم للحفاظ على العلاقة المتينة مع الخلافة والجماعة، آمين.