يقول حضرة الخليفة الثاني للمسيح الموعود عليه السلام في تفسير آية (عبس وتولى):
“إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يلتفت إلى عبد الله بن أم مكتوم ولم يجب على سؤاله، فقد قام بما هو عين الصواب، فما الاعتراض على ذلك؟ كان النبي صلى الله عليه وسلم يحاور كبار الزعماء مبينًا لهم حقيقة الإسلام، وداعيا إياهم إلى الله ورسوله، فجاءه شخص وأراد مقاطعة حديثه، وتكلم بما يتنافى مع الأدب واللباقة ومع ما يقتضيه الحال، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يجبه بشيء فقد أصاب. ليس في القرآن الكريم آية تمنع مما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، بل لو تصرّف أحد اليوم في مجلسنا كما تصرف ابن أم مكتوم فسوف نعامله بنفس ما عامل به النبي صلى الله عليه وسلم ابنَ أم مكتوم رغم نـزول قوله تعالى في القرآن: (عَبَسَ وَتَوَلَّى).
فمثلاً هأنذا أُلقي الآن درسًا في القرآن الكريم، فيأتي شخص ويقول لي: اترك الدرسَ وأجِبْ على سؤالي، فهل يليق بي أن أتوجه إليه تاركًا الدرس، أم ينبغي الإعراض عنه إذ حاول مقاطعة حديثي غاضًّا الطرف عما يقتضيه الحال؟! الجميع يعلم أن إعراضي عنه هو الأولى والأنسب؛ لأن مثل هذا التصرف المخالف للأدب يقطع تسلسل الحديث ويزيل تأثيره في الطبائع، ويُنسي المتكلم دليله، ويترك تأثيرا ضارًّا على الحضور، فلا بد من الإعراض عن مثل هذا الإنسان. هل من المقبول مثلاً أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم يبين الأدلة على وجود البارئ سبحانه وتعالى أمام هؤلاء الزعماء، فيتدخل ابن أم مكتوم ويطالبه أن يعلّمه سورة النازعات وتفسيرها، ثم بعد الانتهاء من الحديث معه يتوجه صلى الله عليه وسلم إلى القوم ثانية ويقول تعالوا نكمل كلامنا؟ إن هذا التصرف مستبعَد حتى من أشد الناس جهلا وأكثرهم غباء، ومع ذلك يقول هؤلاء: كان من واجب النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوجه إلى ابن أم مكتوم ويترك دعوة هؤلاء الزعماء، ضاربًا بمبادئ التهذيب والتمدن عرض الحائط. وكأنهم يريدون أن يرسموا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم رسمًا لن تعدّه الدنيا معقولا أبدًا.
الثالث: إن عبوس النبي صلى الله عليه وسلم وإعراضه عن هذا الأعمى دليل على دماثة أخلاقه، ويجب أن يُثنى عليه بسببه، لا أن يُزجر. ذلك أن شخصًا أعمى يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويكلّمه كلاما غير معقول، فلا يقوم صلى الله عليه وسلم بزجره ولا تعنيفه جبرًا لخاطره.. وحينما يقاطعه مرارًا فيكتفي بالعبوس دون أن يقول له بلسانه شيئًا. كان النبي صلى الله عليه وسلم في حيرة من أمره لأن الرجل يقاطعه مرة بعد أخرى، في حين لم يكن بوسعه صلى الله عليه وسلم ترك الحديث مع ضيوفه من ناحية، ومن ناحية أخرى لم يُرِد أن يزجر الأعمى كي لا يكسر خاطره، فماذا يفعل في هذه الحالة يا ترى؟ إن أفضل ما يمكنه أن يفعل عندها هو الإعراض عن هذا الضرير تحقيقًا لهدفين؛ أولهما أن لا ينقطع عن حديثه مع الضيوف وثانيهما أن لا يكسر قلب الضرير. وهذا ما حصل، فعبس النبي صلى الله عليه وسلم وأعرض عن الضرير. وكانت الحكمة في إعراضه أن لا يغضب، لأنه لو ظل متوجهًا إليه فربما يتفوه بكلمة قاسية في غضب، فاكتفى النبي صلى الله عليه وسلم بالعبوس والإعراض عن الأعمى، دون أن يكلّمه بشيء حتى لا يصيب قلبه بصدمة. وهذا عملٌ يستحق من رب العرش ثناءً عليه صلى الله عليه وسلم بدلاً من الزجر. فإذا كان المفسرون يقولون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحسن التصرف، فليخبروا ما هو الطريق الأنسب الذي كان عليه صلى الله عليه وسلم أن يتبعه وفقًا للمُثل والأخلاق؟ ولكنهم لن يستطيعوا أن يقترحوا أسلوبا آخر، مما يدل أن هذا هو الطريق الوحيد الأفضل الذي كان يمكن أن يتبعه النبي صلى الله عليه وسلم في تلك المناسبة. كل ما في الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم عبس استياءً من تصرف ابن أم مكتوم دون أن يقول له شيئا، وعندما رأى صلى الله عليه وسلم أنه لا يمتنع عن فعله أعرض عنه صلى الله عليه وسلم حتى لا يغضب عليه ويتفوّه بكلمة قاسية لو ظلّ الأعمى أمام عينيه. وكلا الأمرين يدلان على سمو أخلاقه صلى الله عليه وسلم………….
لو كانت هذه الآيات عتابًا وتوبيخًا للنبي -والعياذ بالله- فكان لا بد أن يغيّر صلى الله عليه وسلم سلوكه في مثل هذه المواقف بعد هذا الحادث؛ وكلما قاطع أحد كلامه توجّهَ إليه من فوره تاركًا الحديث الذي كان فيه. ولكننا نجد في التاريخ وقائع تؤكد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغير سلوكه بعد ذلك، فقد ورد أن شخصًا حضر مرة مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وهو يكلّم الناس، فسأله سؤالا مقاطعًا كلامه، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يلتفت إليه بل استمر في حديثه حتى ظن الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم ربما سخط على السائل، ولما انتهى صلى الله عليه وسلم من كلامه، قال: أين السائل؟ ثم أجاب على سؤاله (البخاري، كتاب العلم، باب من سئل علمًا وهو مشتغل في حديثه).
لقد ثبت من هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ظلَّ يسلك نفس المسلك الذي اختاره مع ابن أم مكتوم، وكلما حاول أحد أن يسأله مقاطعا كلامه لم يجبه بشيء، بل استمر في حديثه حتى انتهى منه. ولم يسلك النبي صلى الله عليه وسلم هذا المسلك في مكة فحسب، بل ظل متمسكًا به في المدينة المنورة أيضا. بل يتضح من الروايات الأخرى أن هذا كان دأبه دائما.. أعني أنه كان لا يرد على سائل يحاول مقاطعة كلامه. وإن هذا ما يفعله الشرفاء دومًا. فلو كانت هذه الآيات توبيخا للنبي صلى الله عليه وسلم لغيَّر سلوكه بعد نزولها، وكلما سئل عن شيء أخذ في إجابته فورا أيًّا كان الموقف، مخافة أن يقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه من قبل. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسلك هذا الطريق البتة، بل ظل متمسكًا بسلوكه الذي سلكه مع ابن أم مكتوم.
فالسؤال هنا: ما هو الأمر الذي نـزل بسببه هذا النهي والتوبيخ للنبي صلى الله عليه وسلم؟ إن أسوته صلى الله عليه وسلم تؤكد أنه ظل طوال حياته متمسكًا بنفس المسلك الذي سلكه مع ابن أم مكتوم، ولم يحب أن يقاطع أحدٌ كلامَه، لأن هذا يقطع تسلسل الكلام، ويُفقِد الحديثَ تأثيرَه في الناس، ويُنسي المتكلمَ جوانب كثيرة من الموضوع، ولا يستطيع أن يكمل حديثه.
إذًا، فلو فرضنا -جدلاً- صحة ما يقول المفسرون لكان معنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرتدع عن سلوكه رغم “التوبيخ الربانيّ” -والعياذ بالله.
لقد سبق أن بينتُ أن الثابت من الروايات أن عبد الله بن أم مكتوم لم يكن وضيعًا. لا شك أنه كان ضريرا، ولكنه كان من عائلة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان ابن خال خديجة رضي الله عنها، وكان أبواه من عائلة شريفة شهيرة؛ فلا بد أن يكون مقربا من النبي صلى الله عليه وسلم بسبب نَسَبِه الرفيع وقرابته من خديجة، وهذا ما يدل عليه الأمر الواقع أيضًا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد عيّنه أميرًا على المدينة في غيابه مرتين بعد هذا الحادث، مما يدل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكنّ له التقدير الكبير، ويقدر نسبه العالي، وهذا أيضًا دليل ساطع على خطأ موقف المفسرين.
وعندي أن الله تعالى قد جعل في هذه الآيات نفسها حلاًّ لهذه المعضلة، ولكن المفسرين لم يولوه الاهتمامَ الكافي.
يقول الله تعالى {عَبَسَ وَتَوَلَّى – أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى – وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى – أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى – أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى – فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى – وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى – وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى – وَهُوَ يَخْشَى – فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى}. فنجد هنا جُملاً قد وردت بضمير الغائب، كقوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى – أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى}. ثم نجد جُملاً انتقل فيها الكلام من الغائب إلى الحاضر، حيث قال الله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى}، وقال {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى – فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى … }. وهناك أربعة احتمالات فقط لمن تعود عليه الضمائر في هذه الجُمل:
أوّلها: أن يكون ضمير الغائب والمخاطب كليهما راجعًا إلى النبي – صلى الله عليه وسلم -.
ثانيها: أن يكون ضمير الغائب والمخاطب كليهما راجعًا إلى غيره – صلى الله عليه وسلم -.
ثالثها: أن يكون ضمير الغائب في {عَبَسَ وَتَوَلَّى} عائدا إلى غير النبي – صلى الله عليه وسلم -، وضمير المخاطب في {وَمَا يُدْرِيكَ} راجعا إلى النبي – صلى الله عليه وسلم -.
رابعها: أن يكون ضمير الغائب في {عَبَسَ وَتَوَلَّى} عائدا إلى النبي – صلى الله عليه وسلم -، وضمير المخاطب في {وَمَا يُدْرِيكَ} راجعا إلى غيره – صلى الله عليه وسلم -.
والآن، علينا أن نحدّد الصحيح من هذه الاحتمالات.
نتوجه أولاً إلى الاحتمال الثاني، وهو أن هذه الآيات لا تتحدث عن النبي – صلى الله عليه وسلم – لا في ضمير الغائب ولا المخاطب، وإنما ترجع الضمائر إلى غيره – صلى الله عليه وسلم -. وبقبول هذا الاحتمال يصبح معنى الآيات غير معقول على الإطلاق، لذا فلا بد من إسقاطه، لأن قصة ابن أم مكتوم مذكورة في روايات متواترة، ومن المحال أن تكون القصة الواردة في مصادر شتى بهذا التكرار والتواتر باطلة. لا بد أن حادثًا ما قد وقع فعلاً، لذا فلو قلنا إن قوله تعالى {عَبَسَ} و {وَمَا يُدْرِيكَ} كله إشارة إلى شخص غير النبي – صلى الله عليه وسلم – اضطُررنا لتكذيب هذه القصة من جذورها، وهذا الإنكار محال، لأن كتب الحديث والتاريخ كليهما تذكرها مرارًا وتكرارًا.
أما إذا أخذنا بالاحتمال الأول وقلنا إن ضمائر الغائب والمخاطب كلها راجعة إلى النبي – صلى الله عليه وسلم -، فالسؤال: لماذا غيّر الله تعالى الضمائر هنا؟ ولماذا قال أولاً: {عَبَسَ وَتَوَلَّى}، ثم قال {وَمَا يُدْرِيكَ}، وهو يعني الرسول نفسه – صلى الله عليه وسلم – في الجملتين؟
يقول المفسرون في الجواب: لقد تحدّث الله تعالى عن النبي – صلى الله عليه وسلم – بضمائر الغائب “إجلالاً له – صلى الله عليه وسلم – ولطفًا به لما في المشافهة بتاء الخطاب ما لا يخفى” (فتح البيان)، فقال: {عَبَسَ وَتَوَلَّى – أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} ولم يقل: (عبستَ وتوليتَ أن جاءك الأعمى). ثم خفّف العتاب قليلا وقال: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى}.
ولكنا نرى أن العتاب لم يخفّف في آيات ضمير المخاطب، بل اشتدّ، أما في آيات ضمير الغائب فليس هناك أي عتاب أصلا. فقد بينتُ من قبل أن العبوس والتولي مع ضريرٍ ليس مما يجرح مشاعره أو ينزل بسببه عتاب رباني، بل إن هذا السلوك النبوي دليل على خُلقه العظيم. أفليس غريبا إذًا، أن يستعمل الله تعالى ضمائر الغائب حيث لا عتاب أصلا، ويستعمل ضمائر الخطاب حيث العتاب كله؟ انظرْ إلى شدة النبرة في قوله: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى – فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى – وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى – وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى – وَهُوَ يَخْشَى – فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى}. فمتى كانت هذه الكلمات أخفَّ من العبوس والتولي؟ بل يبدو وكأنه تعالى قد ركّز فيها على التوبيخ وأهملَ جانب المدح. فثبت أن تأويل المفسرين باطل تماما، لأنه لا يتماشى مع الضمائر المتغيرة؛ إذ لا مبرر معه لتغيير الضمائر.
وبقي الآن عندنا احتمالان فقط: الثالث والرابع، ولو أخذنا بالاحتمال الثالث – أي أن يكون ضمير الغائب في {عَبَسَ وتَوَلَّى} عائدًا إلى غير النبي – صلى الله عليه وسلم -، وضمير المخاطب في {وَمَا يُدْرِيكَ} راجعًا إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – لواجهتْنا المشكلة المشار إليها من قبل، أعني أننا نضطر لإنكار هذه الواقعة الواردة في كتب الحديث والتاريخ عن ابن أم مكتوم، والتي لا يمكننا إنكارها بعد هذه الشهادات الكثيرة المتواترة الواردة في كتب التاريخ وبعض الصحاح. (الترمذي، أبواب التفسير). ومعلوم أن الشهادة التاريخية لا يمكن رفضها إلا بشهادة مخالفة أقوى منها.
إذًا فقد بقي عندنا الاحتمال الرابع فقط، وهو أن يكون ضمير الغائب في {عَبَسَ وَتَوَلَّى} عائدا إلى النبي – صلى الله عليه وسلم -، وضمير المخاطب في {وَمَا يُدْريكَ} راجعا إلى غيره – صلى الله عليه وسلم -. وأرى أن هذا هو السبيل الوحيد لحل هذه المعضلة، لأنه لا يتنافى مع هذه الواقعة التاريخية، كما لا ينال من عظمة الرسول – صلى الله عليه وسلم – وكرامته. وعندي أن الضمير في قوله تعالى {عَبَسَ وَتَوَلَّى} راجع إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وأن واقعة ابن أم مكتوم صحيحة، إذ تكررت في مصادر شتى بتواتر، ولا يسعُنا رفضُها بغير أن يكون بيدنا دليل تاريخي قاطع يقيني.
باختصار، قد تصرَّفَ عبد الله بن أم مكتوم من فورة حماسه تصرفًا ينافي العقل والأخلاق، لأنه ما دام النبي – صلى الله عليه وسلم – يدعو هؤلاء الصناديد إلى الإسلام، فما كان لابن أم مكتوم أن يظن أن لا فائدة في دعوتهم، أو أن على النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يتوجه إليه بدلاً منهم. لا شك أنهم لم يؤمنوا بالنبي – صلى الله عليه وسلم – فعلاً بل صاروا حطب جهنم فيما بعد، ولكن كان من واجبه – صلى الله عليه وسلم – عندها إكرام ضيوفه والعناية بهم، أما عبد الله بن أم مكتوم فما كان ليحترم أوامر الله تعالى احترامَ النبي – صلى الله عليه وسلم – لها، كما لم يكن ليدرك مسؤولية إكرام الضيف مثله – صلى الله عليه وسلم -، ولا سيما أنه كان ضريرا، والضرير ضعيف الإحساس بهذه الأمور لأنه لا يرى شيئا، فلا يتكلم بِرفق ولين. وفي بلدنا يقولون إنك لو أردت أن تسمع كلاما قاسيا فتكلَّمْ مع أعمى، وليس ذلك إلا لأنه لا يستطيع الرؤية فلا يبالي مطلقًا بردّة فِعل الناس على حديثه. ولذلك نجد أن ابن أم مكتوم لما حضر مجلس النبي – صلى الله عليه وسلم – ووجده يقوم بدعوة ألدّ أعداء الإسلام ثارت حميّته، ولكنه كان لا يستطيع أن ينهى النبي – صلى الله عليه وسلم – عن دعوتهم صراحة، أو يلوم هؤلاء الكافرين على مجيئهم هناك ويأمرهم بالخروج؛ فما كان منه إلا أن قال للرسول – صلى الله عليه وسلم -: أَقْرِئْني وعلِّمْني مما علّمك الله. ثم ظلّ يردّد قوله هذا على النبي – صلى الله عليه وسلم – بإلحاح، فتضايق – صلى الله عليه وسلم – من تصرُّفه، ولكنه – صلى الله عليه وسلم – لم يُرِدْ أن يجرح مشاعره، فاكتفى بأن عبَس وأعرضَ عنه. لقد خطر ببال النبي – صلى الله عليه وسلم – أن هؤلاء الزعماء الكفار سيقولون ما لهؤلاء المسلمين لا يعلمون آداب المجلس، ولا يرون أنا جئناهم لسماع حديثهم.
علمًا أننا لسنا هنا بصدد أنهم جاءوا النبي – صلى الله عليه وسلم – نفاقًا وكانوا يكذّبون قوله في قلوبهم. فما داموا قد جاءوا – في الظاهر – لسماع حديثه – صلى الله عليه وسلم – عن الإسلام، وكان – صلى الله عليه وسلم – يرى ضرورة دعوتهم، فعبس وتولى عن ابن أم مكتوم حين تصرّفَ هذا التصرّف الخاطئ. وهذا ما أشار الله تعالى إليه بقوله {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى}.
ثم إن كلمة {الأَعْمَى} نفسها التي هي معرفة باللام هنا أيضا تبين أن هذه الآيات تشير إلى واقعة معينة، وإلى أعمى معيَّن. فلو كانت هذه الآيات مدحًا لهذا الأعمى، أي لو أراد الله تعالى لَوْمَ رسوله على عدم التفاته إلى الأعمى، أو مَدْحَ تصرُّف الأعمى، فكان الأولى أن يذكر الله اسمه، ويقول إن فلانا قد جاء إلى رسولنا فعبس – صلى الله عليه وسلم – وتولى، ولكن لم يذكر الله اسم هذا القادم لأن تصرفه لم يكن محمودا، بل قال {أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى}، أما لو كان تصرّفه محمودًا وأراد الله مدحه لذكر اسمه حتما، وقال: عبس وتولى أن جاءه عبد الله بن أم مكتوم؟! ولكن الله تعالى لم يقل ذلك من ناحية، ومن ناحية أخرى استعمل كلمات {عَبَسَ وَتَوَلَّى} في حق رسوله – صلى الله عليه وسلم -، لأن تصرفه – صلى الله عليه وسلم – هذا دليل على سمو أخلاقه” (التفسير الكبير بتصرف طفيف)
ثم يوضح حضرة المفسر -الخليفة الثاني للمسيح الموعود عليه السلام- ذلك تفصيلا. وللمزيد يرجى مراجعة تفسير الآية في سورة عبس في المجلد الثامن من التفسير الكبير.
وللتحميل السريع يرجى الضغط هنا.