يقول تعالى:
﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا ۖ هَلْ يَسْتَوُونَ ۚ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ النحل
تُعطي هذه الآية مثالاً لطيفاً ومعبِّراً لحب الله تبارك وتعالى لنبيّه المصطفى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، حيث يقارن اللهُ تعالى من خلاله النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بخصومه من ملاحدة ومشركين في مثال المشركين بعبدٍ مملوك لرغبات النفس وللشهوات والخرافات والخيالات والعادات المختلفة لدرجة سلبها إياه كل إرادة على فعل خير للآخرين أو تقديم خدمة لغيره، فتصبح عبارة عن قيود وأكبال تسمّره وتنفي إرادته، ومن جهة أخرى مثل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كإنسان متحرر من جميع الشهوات والخرافات والقيود الوهمية له الإرادة على توظيف جميع الملكات والمواهب التي رزقها الله تعالى إياه في خدمة الآخرين وعمل الخير سراً وعلانية، فأي الفريقين حر في الحقيقة؟ هل الحر هو الملحد والمشرك الذي هو في الواقع عبد الشهوات أم عبد الله تعالى المتحرر من جميع الشهوات والخيالات والأمراض الروحية؟ بالطبع الحر هو الذي يخدم الله تعالى الرازق الرحمن الرحيم، فبعبوديته لله تعالى الخالق الرازق الواحد الأحد تكمن الحرية الحقيقية لأنه وظّف وأخضع الملكات والشهوات وكل ما رزقه الله تعالى في عمل الخير فأصبح هو سيدها بدل أن تكون هي سيدته، فيما تكمن في الشرك والإلحاد به تعالى العبودية للشهوات والملكات التي بدل أن يخضعها لمصلحته فإنه يخضع لها لتصبح آلهة متعددة مؤداها هو الهلاك. كذلك تحث الآية على البحث والغوص في الحياة للبحث عن كنوز أودعها اللهُ تعالى في هذه الحياة لتُكتشف وتُسخر لنشر السعادة والخير وَالسَلام.
يقول المُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
“لقد نبّه اللهُ تعالى في الآية السالفة أن على الإنسان أن يقف عند الحد الذي يحدده الله تعالى في الأمور الروحانية وإلا ستزل قدمُه وتنحرف به بعيدًا عن جادة الصواب، كما أخبر اللهُ ﷻ في الآية السالفة أنه حين يريد تكريم بعض عباده المحبوبين ويُطلق عليهم أسماء غير عادية فإن ما يقصد بذلك عكس ما يقصده المشركون بإطلاق تلك الألقاب على بعض من مخلوقاته؛ أما في هذه الآية فضرب اللهُ تعالى مثالاً يزيد الأمر جلاء فقال: هلا فكّرتم فيمن هو فريسةٌ للجشع والهوى ومقيد بأصفاد الأوهام والتقاليد القومية شأنَ العبد الذي لا يستطيع استغلال كفاءاته كما ينبغي لكونه مملوكاً لغيره .. فهل يمكن أن يتساوى هو ومن هو حر من قيود الأوهام والتقاليد القومية، ويستغل ما حباه الله به من قوًى وكفاءات في خدمة الإنسانية بحرية تامة سرًّا وعلانية؟ كلا. فلا شك -والحال هذه- أن الله سيكون في عون الذي يستغل قواه الموهوبة من عنده ﷻ في خدمة عباده؛ وبالتالي لا بد أن يكون النجاح حليفه هو.
وهذا المثال إشارة إلى شخص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم حيث أخبر الله أن هذا هو الإنسان الذي بإمكانه أن يرث نعم الله تعالى، ومهما استعمل الله تعالى في حقه من كلمات المدح والتكريم فهو أحق بها وأهلها.
وقد أشار بهذا المثال أيضاً إلى أنكم لا تشركون فيما خوّل الله لكم من نعم إلا أولادَكم وأُسركم فحسب، ولكن محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يُشرك العالم أجمع في نعم الله تعالى؛ فنجاحه مضمون وفشلكم أكيد.
ويمكن تفسير قوله تعالى [سرًّا وجهرًا] بثلاثة أوجه هي:
1- أن محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يسدي للإنسانية خدمةً خفية لا يراها الناس كالدعاء والاستغفار لهم، كما يخدمهم خدمة ظاهرة جلية مثل أخلاقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الفاضلة التي كان يعاملهم بها والتي قد أشارت إليها السيدة خديجة رضي الله عنها في قولها الشهير: “كلا، والله ما يُخزيك اللهُ أبدًا. إنك لتصِل الرحِمَ، وتحمل الكَلَّ، وتُكسب المعدومَ، وتَقري الضيفَ، وتُعين على نوائب الحق.” (البخاري: كتاب الوحي، باب كيف كان بدء الوحي). والمراد من قولها “وتُكسب المعدوم” أنك تتحلى بتلك الأخلاق السامية التي قد اختفت من بين الناس.
2- أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يعمل على خدمة الإنسانية ليلَ نهارَ، ولا يدّخر وسعًا في نفع البشرية غاضًّا الطرف عن راحته.
3- أن خدماته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم نوعان: نوع هو خافٍ أي لا يقدره الناسُ حق قدره لجهلهم إياه، مع أنه خدمة عظيمة كقيامه بتبليغ الحق لهم؛ ونوع ظاهرٌ بادٍ يقدّره الناس ويعترفون به بلسانهم؛ ومثال ذلك أن شخصًا جاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وشكا إليه أن أبا جهل لا يرد له ماله، فخرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم معه من فوره وطَرَقَ على أبي جهل بابه؛ فلما رأى النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم واقفًا أمامه أصيب بالذهول لأنه لم يتوقع مجيئه إليه إذ كان يؤذيه دائمًا، فسأله في حيرة: ما الذي وراءك؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: هل أكلتَ مالَه؟ قال: نعم. قال: أَعْطِه ماله على الفور ولا تؤذِه. قال: نعم، ورجع وقد مُلئَ قلبه رعبًا وهيبةً، وردّ للغريب ماله. فلما شاع هذا الخبر بين القوم لاموا أبا جهل قائلين: ويلك يا جبانُ! تأمرنا بخلاف ما صنعتَ مع محمد! فقال: ويْحَكم! والله، خرجتُ إليه وإن فوق رأسه فَحْلاً من الإبل ثائرًا، ما رأيت مثلَ هامته ولا أنيابِه لفحلٍ قط! والله لو أبيتُ لأكلني (السيرة النبوية لابن هشام: أمرُ الأراشي). من الممكن أن تكون رؤية أبي جهل للبعير مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم رؤيةَ كشفٍ، بيدَ أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لم يُشر إلى ذلك قط؛ وقد يكون أبو جهل قد اختلق من عنده قصةَ البعير الفحل ليخفي عن زملائه الرعب الذي استولى عليه لدى قيام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بتأييد الحق بهذه الصورة المذهلة.
هذا، وإن هذه الآية تتضمن أيضاً الإشارة إلى ضرورة يوم القيامة؛ ذلك أن بعض حسنات الإنسان تبقى خافية على الناس فلا يستطيعون أن يجازوه عليها بأي طريقه، فلذا من الضروري أن يكون هناك يوم يُكشف فيه للناس مثل هذه الأعمال وينال صاحبها جزاءها.” (التفسير الكبير)
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
جزاكم الله خيرامفهوم جدا!لمن هداه الله.