يشرح أمير المؤمنين خليفة المسيح الخامس حضرة مرزا مسرور أحمد أيَّدَهُ اللهُ بِنَصْرِهِ العَزِيز حول ليلة القدْر فيقول حضرته:
“ذُكرت هذه الليلة في الأحاديث في روايات مختلفة وفي القرآن الكريم أيضا. … لقد ذَكَرَ مختلف الرواة تواريخ مختلفة بصدد ليلة القدْر. فمنهم من يقول بظهورها في ليلة الحادي والعشرين من رمضان وهناك من يقول بأنها تقع بين 23 إلى 29 منه، وهناك بعض الرواة الذين يصرون على أن ليلة 27 أو 29 من ليالي رمضان هي ليلة القدْر بالتحديد. ولكن الرواية المتّفَق عليها في هذا الصدد هي أنه يجب أن نلتمسها في العشر الأواخر من رمضان.
على أية حال، إنَّ ليلة القدْر لها حقيقة ثابتة. وصحيح أيضاً أنَّ النبي ﷺ أُخبر عن هذه الليلة بالتحديد .. أي حين يَمُرّ المؤمن الحقيقي بتجربة خاصة لاستجابة أدعيته وتُجاب أدعيته بوجه عام. ويثبت من الروايات أيضاً أنَّ النبي ﷺ أُنسيَ موعد هذه الليلة بسبب خطأ رَجُلَين من المسلمين. إنَّ علم هذه الساعة ليس أمراً عادياً لدرجة أنَّ رسول الله ﷺ تمنى أن يخبر جماعة المؤمنين أيضاً بما أخبره اللهُ تعالى عنها. لقد جاء في الأحاديث أنَّ النبيَّ ﷺ خرج من بيته فرحاً مسروراً ليخبر بها الناس ليستفيدوا منها ولكن عندما خرج ﷺ من بيته رأى شخصين من المسلمين يتشاجران فانشغل النبيُّ ﷺ في رفع الشجار الدائر بينهما وانصرف انتباهه عن موعد تلك الليلة إذ قد بذل النبيُّ ﷺ وقتاً لا بأس به في إقناعهما بالصلح وفكّ النـزاع بينهما.
على أية حال، توجّه النبيُّ ﷺ إلى الموضوع مرة أخرى وقال بأني كنتُ جئت لأخبركم عن ليلة القدْر، ولكنه ﷺ كان قد نسيها عند ذلك، بل ورد في الأحاديث: “أُنسيتُها”. يقول المُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أيضاً بأنه يثبت من كلمات الحديث أنَّ النبيَّ ﷺ لَمْ ينسها فقط بل شاء الله أن تمحى وترفع. فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بأن علم تلك الساعة رفع بسبب الشجار أو الاختلاف الدائر بين المسلمين فلا أستطيع أن أخبركم عنها بالتحديد ولكن “التمسوها في العشر الأواخر في الوِتر”.
لقد بيَّنَ المُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ نقطة جميلة جداً في هذا الصدد وهي أنَّ الساعة التي بسببها أُطلق على تلك الليلة اسم ليلة القدْر تتعلق بوحدة الأمة. فهذه نقطة مهمّة جداً مع أنه يقال عادة بأنه لو لم يتشاجر هذان المسلمان لعلمنا موعداً معيّناً لهذه الليلة، ولكن قليلاً منّا من يتوجّه إلى الرسالة الهامّة الكامنة في الموضوع وهي أنَّ الساعة التي بسببها سميّت ليلة القدْر تتعلق بوحدة الأمة. والقوم الذين تتلاشى منهم الوحدة ترفع من بينهم ليلة القدْر أيضا. اليوم نضطر للقول بكلّ أسف أنَّ من سوء حظ البلاد الإسلامية أنه لم تعد فيها الوحدة باقية، إذ هناك حروب ناشبة بين مختلف فئات الشعب، كذلك تقاتل الرعيةُ حكوماتهم وتقتل الحكومات رعاياها وتظلمهم. أي لم تتلاش الوحدة فقط بل هناك مظالم أيضاً ترتكب دون هوادة ورحمة. فبسبب عدم الوحدة بين المسلمين يتشجع الأغيار أن يفعلوا ضدهم ما يحلو لهم. ولهذا السبب فقط تقتل إسرائيل الفلسطينيين الأبرياء دون هوادة. لو تمسّك المسلمون بوحدتهم وحافظوا عليها وسلكوا السبل التي أرشدهم اللهُ تعالى إليها لحازوا قوة كبيرة ولما ظُلموا على هذا النحو، ولكانت هناك قواعد وقوانين للحرب والضرب أيضا. من المعروف أنَّ أهل فلسطين لا يملكون حولاً ولا قوة مقابل إسرائيل. إذا قيل بأن “حماس” يرتكبون المظالم، فعلى البلاد الإسلامية أن تمنعهم أيضاً من ذلك. ولكن مَثل ظُلمهم كمثل شخص يضرب أحداً بالعصا فيواجهه جيش بالمدافع.
لقد أُقيم حفل تأبين في تركيا قبل بضعة أيام ضد هذا الظلم، ويظنُّ أهل البلاد الإسلامية أنهم قد أدوا مسؤوليتهم في هذا الصدد. والقوى الغربية أيضاً لا تؤدي مسؤوليتها. كان من الواجب أن تمنع كلتا الجهتين. أما نحن فلا نملك إلا أن نرفع أكف الضراعة في حضرة الله أن ينقذ المظلومين والأبرياء من هذه المظالم وأن يستتب الأمن في المنطقة. كذلك هناك مظالم تُرتَكَب في البلاد الإسلامية أيضاً على بعضهم بعضا وتزداد الفسادات ويصبغ البعض أيديهم بدماء بعض آخرين، ندعو اللهَ تعالى أن يهبهم العقل والفطنة ليتجنب الناس هذه المظالم ويستتب الأمن والوئام بينهم. وبدون ذلك لا يمكن أن يؤدوا حقوق العبادة، ولا يمكن أن تتحقق أمنيتهم للحصول على ليلة القدْر لأنه عندما ترفع الوحدة من قوم ترفع منهم ليلة القدْر أيضا. ولا تكون في نصيبهم إلا الليالي والظلمات وأنواع الحلكة، ويتوقف تقدّمهم.
المراد من ليلة القدْر هي الليلة التي تُقدَّر فيها أقدار الإنسان ويُحكَم فيها كيف سيعامل فلانٌ في السنة المقبلة وإلام يتقدم وينال الرقي وما هي المنافع التي سيحصل عليها أو ما هي الخسارة التي يمنى بها. القرارات بتقدم الإنسان تؤخذ في الليل أي في الظلمة. لقد ربط المُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ هذا الرقي بالرقي المادي وقال ضارباً مثله أنه يتبين من القرآن الكريم أنَّ الإنسان ينال تقدّماً مادّياً أيضاً في أثناء الظلمة المتواصلة. الإنسان يتولّد من بطن أمه والمعلوم أنَّ بطن الأم مجموعة عديدة من الظلمات وفيها يؤخذ قرار تقدّم الإنسان المادي. فلو لم ينل الجنين النمو المناسب فسيبقى ضعيفا. من المعروف أنَّ البيئة المادية التي تعيشها الأُم تؤثر على الجنين. كذلك الأغذية التي تأكلها الأُم أيضاً تؤثر في الجنين؛ فإن لَمْ تكن البيئة التي تعيشها الأُم سليمة فلن تكون أخلاق الجنين جيدة، لدرجة يقال بأن الأمهات اللواتي يعشن مذعورات لا يستطيع أولادهن أن ينجزوا في حياتهم أعمالاً مهمة. وفي بعض الأحيان يتولّد الأولاد ضعفاء ذهنياً بسبب الذعر الدائر في الخارج. الطعام الجيد والبيئة الحسنة تترك تأثيراً إيجابياً على صحة الجنين. لذلك كره الإسلام بل نهى الحوامل عن الصيام لأن ذلك يؤدي إلى نقص في نمو الجنين. وللسبب نفسه لَمْ يحبذ الإسلام الطلاق في حالة الحمل لأن الحزن والصدمة الناتجة منه يؤدي إلى خلل في نمو الجنين ولأن الهياج في العواطف يؤثر سلباً على نمو الجنين.
ثم علّم الإسلامُ الزوجين لاجتناب الأفكار السيئة دعاء لكيلا تنشأ في قلوبهما أفكار من هذا القبيل فتتطرق إلى الأولاد أيضا. لَقَدْ ورَدَ في الحديث أنَّ الشيطانَ يجري من الإنسان مجرى الدم، لذا على الزوجين أن يدعوا أن يُبعدهم اللهُ ﷻ من ذلك الشيطان الذي يجري في دمهما ليُعصم أولادهما من الشيطان.
إذاً، الشريعة تعلِّم أخذ الحيطة والحذر الشديدين بعين الاعتبار في هذه الأيام وذلك من أجل نمو الجنين وتربيته حين يكون الجنين في الظلمات، وهذا الحذر يبقى قائماً ما دامت سلسلة الظلمات جارية. وسلسلة الحذر والحيطة تمتد إلى فترة رضاع الولد حليب أمه، لأن الطفل في هذه الأيام لا يكون متوجهاً إلى الدنيا من أجل حياته بل إلى أمه فقط. لذلك منعت الأُم من الصيام في هذه الأيام أيضاً كيلاً يضر ذلك بصحة الولد ونموه وتربيته. فكما يتأتى الرقي المادي في الظلمات كذلك يحصل التقدم الروحاني أيضاً ليلا. وكل قوم ينال تقدماً روحانياً بقدر ما قدّموا من التضحيات في المراحل الابتدائية. وإنَّ ليلة القدْر لهذا القوم يكون معياراً لفترة تقدمهم، بمعنى أنَّ ليلة القدْر لقوم يكون معياراً لعمره. لذلك قال النبيُّ ﷺ أنه بقدر ما يكون الإنسان مقرّباً إلى الله يواجه الابتلاءات بالقدر نفسه.
فلا بد من الانتباه إلى أننا أيضاً نمرُّ بالابتلاءات في بعض الأماكن وهذا يشكّل ليلة القدْر لنا. فبسبب الابتلاء يلتمس المرء ليلة القدْر بشدة وحماس أكبر، ويتوجه إلى الدعاء أكثر من ذي قبل. والمعلوم أنَّ الإنسان يخضع أمام الله تعالى بوجه خاص عندما يعاني من مصيبة أو ظروفاً عصيبة. وهذه الحالة تساعد الإنسان على المرور بفترة التربية والنمو بنجاح. ولكن إذا فقدنا معايير الوحدة لن نستطيع أن نستفيد من ليلة القدْر بصورة صحيحة. وإذا استمررنا في تقديم تضحياتنا في سبيل الله حاسبين إياها مجلبة لرضا الله تعالى فسوف نستمر في حيازة النجاحات المتتالية أيضا. وبذلك سننال حياة جديدة ونبرز للعيان بصورة جديدة. وإذا حافظنا على وحدتنا لوجه الله ونَيل رضاه فسوف نعبر محطات جديدة للتقدم والازدهار بإذن الله.
فهذه نقطة مهمة جداً يجب أن يجعلها كُلّ منا نُصب عينيه، ألا وهي أنَّ القرار لرقيّنا غير العادي لن يصدر إلا إذا مررنا بليلة القدْر بنجاح. لا شكّ أن هذا الحُكم كله في يد الله وهو الذي يستجيب الأدعية وهو الذي يقدر أن يجعل ليلة القدْر في نصيب من يشاء. ولكن لا بد لنا من الالتزام بأمور تساعد على الحصول على ليلة القدْر، عندها يكون مطلع الفجر أيضاً غير عادي، وعندئذ يُلاحظ اليوم الذي يطلُع علينا حاملاً نجاحات غير عادية لنا. فعلينا أن نضع كُلّ هذه الأمور في الحسبان للاستفادة من ليلة القدْر. المراد من ليلة القدْر هي ساعة التضحية المقبولة عند الله. وإذا قُبل أي شيء في حضرة الله فأي صفقة أفضل وأكثر ربحاً منها؟ لذا علينا أن نسعى للتضحيات المقبولة. لقد قُتل الكفار والمسلمون في الغزوات الإسلامية ولكن هلاك الكفار لم يكن ليلة القدْر لهم، بينما كان استشهاد المسلمين ليلة القدْر لهم حتماً، ذلك لأن الله تعالى شرف تضحياتهم بالقبول. ينبغي أن نتذكر دائماً أنَّ المعاناة التي لا يقيم الله لها قيمة فهي ليست بليلة قدْر بل هي عقاب وعذاب، أما المعاناة التي يقيم الله لها قيمة فهي ليلة قدْر حتماً، أعني أنَّ الظلمة والبلاء والأذى التي يقضي الله بالجزاء عليها هي ليلة قدْر. لقد قدّر اللهُ تعالى للإنسان ساعات تضحيات، فإذا ضحّى فيها نالت القبول عنده يقينا. والجماعة الإسلامية الأحمدية قد ترى مشاهد ذلك ولا تزال، فهي تتعرض في بعض البلاد لظروف صعبة تبشر بطلوع ليلة القدْر لها، حيث تتسبب هذه المعاناة في تأسيس فروع جديدة للجماعة في شتى البلاد والمدن. فكي نرث المزيد من فيوض وبركات ليلة القدْر هذه يجب على كُلّ منا أن يعاهد على أننا سنزداد اتفاقاً واتحاداً، وإذا كان هناك خلل في هذا الاتحاد فسوف نسده فورا. اعلموا أننا سنرث بركات ليلة القدْر الحقيقية إذا ما صرنا مثالاً لقول الله تعالى في صفة المؤمنين بأنهم {رحماء بينهم}. فعلينا أن يسعى كُلّ منا في شهر رمضان هذا أن يقضي على أية ضغينة بينه وبين أخيه، لكي يرث بركات ليلة القدْر بشكل فردي أيضاً، وكذلك لنقطف ما قدّر اللهُ لنا كجماعة من ثمار ليلة القدْر وترقياتها وإنعاماتها. ينبغي أن نتذكر أيضاً أنه كلما ازداد مطر أفضال الله نزولاً علينا ازداد العدو في عرقلة طريقنا وإلقائنا في الفتن والمحن، ولا تظنوا أنَّ هذه الفتن والاختبارات منحصرة في بعض البلاد، كلا بل إنَّ نار الحسد هذه تحاول بشدة إعاقة رقينا في كُلّ مكان، إلا أنَّ بُشرى ليلة القدْر تبشّرنا بنجاتنا من نتائج شرورهم وازدهار جماعتنا وقبولية دعائنا. فما دُمنا نسعى لإصلاح أنفسنا بما يرضى به ربّنا فسوف نظل ننتفع من فيوض ليلة القدْر. إنَّ غاية المؤمنين وسعيهم ورغبتهم إنما هي أن يروا ازدهار الجماعة في أوجّه كما وعد اللهُ بذلك، وانتماؤنا إلى المسيح الموعود عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام يفرض علينا أن نسعى لنكون جزءاً من تلك الترقيات التي نبّأنا بها، وهذا سيتأتى بتحقيق أمرين هما الغاية من بعثته عليه السلام كما تبيّن، أولهما وصلُ العباد بربّهم، وجعل الناس يؤدي بعضهم حقوق بعض. فهناك مسؤوليتان علينا، أولاهما أن نرفع مستوى عباداتنا، والثانية أن نقضى على أية خصومة وخلاف فيما بيننا ونؤدي حقوق الآخرين، إذ من المحال أن يؤدي المرء حق أخيه ثم تكون بينهما خصومة أو خلاف. لو عمِلنا بهذا المبدأ فسوف نكون من الذين يدركون حقيقة ليلة القدْر وسوف نفوز بها أيضا. لقد عرّف الْمَسِيحُ الموعودُ عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام ليلة القدْر في إحدى المناسبات بأنها الوقت الأصفى للإنسان. فلكي نجعل حياتنا صافية علينا السعي للبحث عن مثل ليلة القدْر هذه أيضا، وستتيسر لنا حقاً حين نكون من الذين يجعلون حياتهم صافية.” (من خطبة الجمعة لأمير المؤمنين حضرة خليفة المسيح الخامس مرزا مسرور أحمد أيَّدَهُ اللهُ بِنَصْرِهِ العَزِيز في 25/7/2014)
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ