خطبة الجمعة التي ألقاها حضرة مرزا طاهر أحمد رحمه الله تعالى، الخليفة الرابع للإمام المهدي والمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام. بتاريخ 1\فبراير\1991، في مسجد فضل عمر، لندن.
بعد التعوذ والتشهد استهل حضرته رحمه الله تعالى خطبته العظيمة…
… خَوَنَةٌ بين المنتسبين إلى الإسلام!
تلوثَ تاريخ الإسلام بكثير من الخيانات المروعة. فباستثناء العهد النبوي، الذي يشمل زمن سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – وزمن خلفائه الراشدين وما بعده بقليل، لو أنكم درستم مراحل التاريخ الإسلامي لوجدتم أن محاولات الإضرار بالإسلام كانت تتطلب دائمًا الاستعانة ببعض الخونة من بين المسلمين. ولولا ذلك ما أمكن لهم قط إلحاق أي ضرر (جاء في الأصل أذى) بالملة الإسلامية. ولو استعرضتم هذا التاريخ تبينَ لكم أن الحرب الجارية واحدة من تلك الخيانات، وهي جديرة بأن تسجَّل بأحلك الحروف. ذلك لأنه لم يحدث أبدًا حتى اليوم أن اشترك أو ساعدَ مثل هذا العدد من الشعوب (جاء في الأصل الأمم) الإسلامية في القيام بهذه المؤامرة الخطيرة ضد مصالح المسلمين. اليوم يمكن للمعلقين قول ما يشاءون عن هذه الحرب لخداع البلاد الإسلامية التي شاركت معهم، ولكن الدارسين والباحثين والمؤرخين من عالم الغرب سوف يقولون ما أقول اليوم .. من أن تلك البلاد الإسلامية قامت بأخطر خيانة لمصالح الإسلام، وأنها بتضافرها مع القوى المناهضة للإسلام دمروا قوة إسلامية صاعدة، وسعوا للقضاء عليها بأسلوب ظالم. لا يسعنا اليوم سوى القول إنهم حاولوا ذلك .. والله تعالى أعلم بما ستكون عليه العاقبة غدًا. ولكن – لا سمح الله – لو أنهم نجحوا في سعيهم هذا فسوف يسجل المؤرخون غدًا أن هذه البلاد الإسلامية في سعيها ذلك تحالفت تمامًا مع أعداء الإسلام لهدم دولة إسلامية كبيرة، ولم يراعوا أقل قدر من العدل أو الرحمة، ولم يبدوا أقل حرص على هذه الأمة.
السعودية ضليعة في الخيانة
كنت توقعت مثل هذا الموقف من بعض البلاد .. منها دولة السعودية أولاً، ومصر ثانيًا. فعندما سعت مصر لاسترداد أرضها المحتلة .. كبّلتها اتفاقياتها مع إسرائيل والضغوط العالمية، حتى تُعِدّها القوى الغربية من حزبها. أما السعودية فخيانتها لعالم الإسلام تاريخيةٌ. إنها دولة بدأت بالخيانة، ووُلدت ثمرةً للخيانة، وظلت دائمًا تمثّل المصالحَ البريطانية، ثم المصالح الأمريكية. ونظرًا لسيطرتها على الحرمين الشريفين .. دأبت هذه الدولة على التظاهر تحت عباءة دينية كاذبة. ووقَعت كثير من بلاد الإسلام تحت تأثير هذه الدولة التعيسة، وظلت على محبتها والتودد لها .. ظنًّا منها أنها تمثّل مكة والمدينة، أو بعبارة أخرى تمثّل محمدًا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
السعودية في جيب أمريكا وإسرائيل
وعن هذا الأمر حاولت مرارًا أن أبين لممثلي بعض البلاد الإسلامية أنهم مخدوعون خدعة كبرى، فإني عارف بتاريخ السعودية جيدًا، وعارفٌ بتاريخ المذهب الوهابي تمامًا. تحسبون أن الأصوات المنبعثة اليوم من مآذن مكة والمدينة هي من الله تعالى ورسوله – صلى الله عليه وسلم -، ولكنها في الحقيقة مكبِّراتُ صوتٍ مركَّبةٌ على تلك المآذن .. وإسرائيل تؤذن خلف الميكروفون المركَّب في أمريكا. هذا أمر ظاهر بينٌ، لا يتطلب تفكيرًا طويلاً أو عريضًا. فكل من له أدنى معرفة بالموقف الراهن يعلم بالجزم الحقيقة الواضحة بأن السعودية هي تحت السيطرة التامة لأمريكا، وأن أمريكا بدورها واقعة تمامًا تحت النفوذ الإسرائيلي؛ وفي الواقع العملي قبِلتْ أمريكا النفوذ الإسرائيلي في سياستها.
هذا موقف ظاهر، ومع كونه عيانًا بيانًا إلاَّ أن البلاد الإسلامية لا تزال عمياء. ومن بين أسباب هذا العمى أنهم جعلوا الجماعة الإسلامية الأحمدية هدفًا لدعاية باطلة شنيعة، يزعمون فيها أن الأحمدية عميلة لبريطانيا. ولما سمع ممثلو تلك البلاد الإسلامية هذه الفِريةَ الخبيثة ضد الأحمدية ظنّوا أن الأحمديين يتهمون السعودية بذلك ثأرًا منها .. وإلاَّ فلا أساس لما يقولون ضدها. (جاء في الأصل نصفهم به) أما الآن فقد انكشف الأمر أمام الدنيا وتبين. إن المشائخ الذين كانوا يقبضون الثمن من السعودية، والذين يتعيشون على ريالات السعودية، والذين كانوا يرمون الأحمدية أحيانًا بالعمالة لليهود، وأحيانًا أخرى للإنجليز .. هؤلاء المشايخ أنفسهم يصرخون اليوم بأعلى صوت أن السعوديين جميعًا، ورأس حكومتهم، وشيوخ الوهابية كافة .. هم عملاء اليهود وعملاء الغرب. ويعلنون رأيهم هذا بلغة بذيئة لا يليق بنا ترديدها، فإنها لغة تُستعمل في شوارع (جاء في الأصل أزقة) باكستان، وسبق لكم سماعها منهم. هذه الأصوات ذاتها ترتفع في بريطانيا ضد السعودية، وتأتينا الأخبار بمثل ذلك من بلاد أخرى. اليوم عرف العالم الإسلامي حقيقة أمر السعودية. إذًا فلا مجال لمشاعر الدهشة من جراء خيانتهم، فلقد خانوا من قبل، وكنا على يقين من أنهم ما برحوا يخونون.
لم نتوقع منكم هذا
ولكن المؤسف أن بعض الدول في الوقت الراهن قامت بخيانة مصالح الإسلام بما تجاوز كل توقعاتنا. وهنا أيضًا، وبالإضافة إلى الضغوط الأمريكية، تُشتمّ رائحة الضغط والنفوذ السعودي إلى حد كبير. هناك قدر من الإكراه الناجم عن الفقر دفع بعض الدول إلى بيع دينها .. دول لم يساورنا أدنى احتمال من ناحيتها .. مثل باكستان وتركيا وسوريا. لم نتوقع ذلك من باكستان، لأنه مهما كان اعتزاز باكستان بأمريكا، إلاَّ أنني باكستاني، وأعرف مزاج المواطنين الباكستانيين من عامة الناس ورجال الجيش، فإنهم لا يتحملون أبدًا .. وأية صورة كانت .. أن يضعوا أيديهم في أيدي قوى الغرب وأن يشاركوهم في مهاجمة بلد مسلم، أو يلتمسوا عذرًا للهجوم عليهم. لا يقبل المزاج الباكستاني هذا الأمر بأي ثمن. ورغم ذلك حين آزرتْ الحكومة الباكستانية الحالية هذه الخطوةَ المريعة ضد العراق باسم التحالف أصابتني دهشة شديدة لما حدث وكيف حدث. ولكن بحمد الله تعالى قام الجنرال أسلم بيغ رئيس الجيش الباكستاني قبل بضعة أيام بإزالة سوء الفهم حول مساندة الجيش الباكستاني لهذا القرار، فأعلن بنفسه على الملأ براءته من هذا القرار قائلاً: إننا بالتأكيد لا نقبل هذا القرار .. فهو قرار خاطئ .. وهو ضد مصلحة الإسلام.
أما تركيا فهي أمة كسبت (جاء في الأصل أسست) لها سمعة طيبة في العالم لقرون طويلة بوصفها حامية مصالح المسلمين. هكذا عرفتها أوروبا، حيث كانوا يرتعدون لدى ذكر الإمبراطورية العثمانية في تركيا. كان اسم تركيا يجعلهم يفكرون بأن فرصة اختراق العالم الإسلامي مستحلية تمامًا ما دامت هذه الإمبراطورية قائمة. وتلويث هذا التاريخ العريض المجيد .. بقرار واحد من الحكومة التركية .. وتسويد صورتها بهذا القبح يُعَدّ انتحارًا خطيرًا لا نجد له مثيلاً في التاريخ. وهذا التلوث الذي أصاب الأمة التركيةَ لن يغسله إلاَّ ثورة عظيمة تطهره (سقطت من الجديد) بدمائها.
وهناك أسباب من جهة سوريا لم أتوقع بسببها أن تنضم إليهم. فهضبة الجولان لا تزال تحت الاحتلال الإسرائيلي، وطال النزاع والشجار مع إسرائيل. ومنذ قيام إسرائيل تبذل سوريا تضحيات عظيمة في مناهضتها، وفي سبيل ذلك فقدوا جزءاً من أرضهم، ومع ذلك لم يتغير صمودهم. وبالإضافة إلى ذلك فإنه مهما كانت الصورة التي رسمها الغرب لصدّام حسين، فلقد رسموا لحافظ الأسد صورة أقبح وأسوأ، ولا تزال الدول الغربية نفسها تفعل ذلك. فكيف يمكن أن يفكر الرئيس حافظ الأسد في معانقتهم سرًّا؟ ولكني شاهدت الرئيس الأسد على شاشة التلفاز يجلس مع الرئيس بوش، ويتحدثان سويًّا بطريقة وُدّية. ورأيت سياسته تتغير تغيرًا جذريًّا بما يبعث على الذهول ؟ لا يستطيع المرء فهم ذلك ويتحيّر بشأن ما حدث.
إيران على عهدها
لم أتوقع ذلك من إيران، ولا أتوقعه اليوم، ولن أتوقعه أبدًا. ولقد صرحت من قبل مرارًا بأنه بالرغم من الفوارق في المعتقدات الدينية إلاَّ أن الإيرانيين أمة لا يمكنها اللجوء إلى النفاق في أمور الإسلام، لأن بهم حبًّا صادقًا للإسلام. ربما يكون بمفهومهم الإسلامي شيء من الخطأ .. قد تكون في عقائد الشيعة ما لا نوافقهم عليه .. قد يكون بفكرهم الإسلامي المتعلق بالسياسة أخطاء كثيرة، وفي رأيي أن فيه أخطاء؛ ولكن ليس من الممكن أن تخون الأمة الإيرانية الإسلام عمدًا. فتاريخهم مضيء بخدماتهم العظيمة للإسلام، وما فعلته إيران الكبرى، التي يقع جزء منها تحت الحكم السوفييتي اليوم، يتعذر تقديره مقارنة بما فعلته بلاد الإسلام الأخرى. فلا يسعنا القول بأن خدمات إيران للإسلام تخلفت عن غيرها بأي حال. والحمد لله أن إيران حققت توقعاتنا. هناك نزاع عميق بين حكومة إيران وصدّام حسين. لقد اشتبكوا ثماني سنوات في حرب طويلة رهيبة مريعة سالت فيها الدماء. ولهم من صدّام حسين شكاوي وآلام عميقة، ولو هبّت إيران ضد العراق لتفهَّم العالم موقفها ذلك، ولو حاولت إيران استغلال الموقف فلا لوم عليها. فهذه هي مشاعر البشر التي تثور لأمور معينة فيصعب السيطرة عليها. ففي مثل ذلك الوقت لا يستطيع المرء أن يفكر بعمق في ما هي متطلبات الإسلام؟ وما هي متطلبات أمة الإسلام؟ إنه ينساب مع عاطفته. وبالنظر إلى هذه الأمور قد يحكم المؤرخ بأن ذلك مما يُغتفَر. ومع ذلك فإن إيران لم تقرر الاشتراك معهم، وظلت على الحياد التام تجاه هذه المحنة، وهكذا ذكّرت العراقَ بخطئه، وذكّرت القوى الغربيةَ بخطئها. فبقيت إيران ثابتة على قواعد العدل، ومن هذه الناحية سيذكر اسم إيران في تاريخ الإسلام بالإكرام (جاء في الأصل بالتكريم) إن شاء الله.
هذا تعليق وجيز بشأن البقاء على الإخلاص وعدم الإخلاص للإسلام. وعندما أقول الإخلاص وعدمه فإنما أعني بذلك المفهومَ السياسي، أي البقاء على الإخلاص لجموع المسلمين أولاً. وبهذا الصدد أود أن أذكر شيئًا آخر.
بلدان فرّطا في مركزهما
هناك بلدان في جماعة الإسلام لهما مقام ممتاز بالنسبة للدين أيضًا. فالسعودية .. بوصفها حامية الأماكن الإسلامية المقدسة، وراعية الحرمين .. تتبوأ في العالم الإسلامي مركزا عظيمًا لا يُنكَر. ومن حسن طالعها أنها أُعطيت هذا الشرف العظيم، ويُعهد إليها بمسئولية هذه الأمانة. وعلى الجانب الآخر تأتي مصر .. وتعتبر الحفيظة على المعارف الإسلامية، لأن الخدمات التي قدمها الجامع الأزهر للعلوم الإسلامية لا مثيل لها في أي بلد إسلامي. وفي الحقبة الإسلامية الأخيرة نال الجامع الأزهر في مجال خدمة علوم الإسلام مكانة لا ينافسه فيها أي بلد من بلاد العالم. ومن هذه الزاوية لا يمكن أن يطوف بالخيال أبدًا أن يتحول هذان القطران إلى خيانة الملة الإسلامية. وتذكرني رؤية هذا الحال شطرًا من الشعر سمعته في صباي، كان محبَّبًا إليّ وتعريبه:
أضرمَ صيادٌ قاسي القلبِ النارَ في عُشّي، فإذا الأوراق التي كانت ملاذي وراحتي شرعتْ تهتزّ لتدفع الهواء .. فيزداد اشتعال النار.
فالبلدان اللذان طالما اعتمد عليهما العالم الإسلامي .. من جهة العلم، ومن جهة الحرمة .. هيجا النار التي أشعلها العدو في بيت العالم الإسلامي.
هي إذًا ليست بجريمة يسع التاريخ غفرانها. أما عن قضاء الله تعالى .. وهل سيقضي به اليوم أو غدًا، وهل سيؤاخذهم بذنوبهم في هذه الدنيا أو يؤخرهم لعقاب يوم الدين؟ فذلك له، فهو مالك يوم الدين، وهو أحكم الحاكمين؛ ولكن بالنسبة لفكر البشر، وفهم الإنسان .. المتعلق بأمور الدنيا، فها هي بعض العواقب السيئة بدأ ظهورها، وهناك غيرها لن ينقطع ظهورها لزمن طويل، ولن يقتصر أثرها على هذه المنطقة .. بل سوف يمتدّ وينتشر في أرجاء الدنيا.
لماذا هذه الحرب البشعة؟
أود أن أعرض أمامكم الوجه الثاني لهذه الحرب .. فما هو الغرض منها؟ لماذا القتال وما طبيعته؟ وما دمنا لا نفهم ذلك تمامًا فلن نستطيع معرفة الموقف الصحيح لعالم الإسلام، أو ما ينبغي أن يكون عليه موقف العالم؟ وما هي الخطوات التصحيحية التي يجب اتخاذها من جانب الأمم المتحدة؟ إذا لم نشخص المرض تشخيصًا صحيحًا فلا يمكن وصف العلاج الملائم له. وسوف أحاول، بإذن الله تعالى، فيما تبقى من هذه الخطبة أن أقدم لكم تحليلاً موجزًا لأسباب هذه الحرب .. أسبابها الحقيقية وأهدافها؛ وعلى ضوئها سوف أقدم لكم في الخطبة القادمة، إن شاء الله، وجهة نظر للأحمدية فيما ينبغي على الأمم المتحدة، وأمم العالم الأخرى، والعالم الإسلامي أيضًا .. لحلّ تلك المشاكل. وإذا أرادوا التفكير الجاد لتوطيد السلام العالمي حقًا .. فكيف يجب أن يتجه فكرهم.
رأي المستر بوش
في الوقت الحاضر نسمع صوتًا من الغرب .. ويرفعه المستر بوش بحماس وقوة أشد .. يقول: هذه الحرب ليست حربًا دينية، وليست حرب مصالح من أي نوع، وليست حرب بترول، وليست حرب إسلام أو يهودية أو نصرانية. فأي حرب هي إذًا؟ يقول: هي حرب العدل والظلم، حرب الحق والباطل، حرب الخير والشر، حرب العالم مجتمعًا ضد طاغية وحشي واحد، صدّام. هذه هي وجهة نظر أمريكا تذاع على العالم في أجهزة الإعلام من راديو وتلفاز وصحف. ولقد قبل بها العالم الغربي، ويحسبون أنها حرب الحق.
رأي العالم
ولكن هناك كثير من المراقبين، ذوي النظر العميق .. يرفضون هذا الرأي. أتحدث عن المراقبين الغربيين من بينهم سياسيون على قدر كبير من الخبرة، ومنهم علماء ومحررو أخبار أذكياء، ترتفع أصوات من كل طبقة منهم، بأن كل تلك الادعاءات كذب محض ودعاية مزورة. لقد خَدَعَنا قادتنا، ولا يزالون يخدعوننا جهارًا نهارًا. إنها حرب تختلف عما يقولون.
هناك إدوارد هيث ( Edward Heath) رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، وهو من بين الشخصيات العظيمة المعدودة حاليًا، والمعروف في بريطانيا بعمق نظره وذكائه وحكمته السياسية وخبرته الواسعة .. لم يزل هذا الرجل على الموقف القائل: زعماؤنا السياسيون الحاليون يخدعوننا كثيرًا، وما يعلنون من أهداف صالحة ليس حقًا أبدًا. هذه الحرب أَثرة شديدة، حرب ظالمة حمقاء ستكون لها عواقب سيئة رهيبة، وسيكون الموقف بعدها أشد خطرًا مما قبلها.
وصوت ثان .. يقول بإيجاز: إنها حرب بترول، حرب مصالح أنانية، حرب الدفاع عن إسرائيل، وحرب تحقيق أهداف إسرائيل.
ويقول البعض: إنها حرب بين الرئيس بوش والرئيس صدّام، وأن الأول جعلها مسألة تتعلق بكبريائه، فلم يعد تفكيره وعاطفته تحت سيطرته، وعندما يتحدث يفلت زمامه .. فيستخدم عبارات خاطئة كالأطفال ..
لا يبدو قائلها كزعيم أمة كبير. ولذلك يرى هؤلاء المراقبون أن الحرب الجارية هي في الواقع حرب الرئيس بوش .. الذي يمقت الرئيس صدّام مقتًا شديدًا، وأن الطريقة التي رفض بها الرئيس صدّام السيطرة الأمريكية، وأبى أن يرهب أمريكا .. أثارت غضب بوش وأخرجته عن طوره.
السبب الحقيقي
تعالوا الآن ننظر ما هو الموقف الصحيح. إن الجماعة الإسلامية الأحمدية لا تبني رأيها ولا تتخذ قرارها على أساس من العواطف، فنحن لا نهتم لأنفسنا فقط وإنما نبالي بالعالم كله. وبالرغم من ضعفنا وعجزنا وقلة عددنا .. يؤمن كل واحد منا يقينًا بأن الله تعالى قد آتانا قيادة العالم؛ أعني جعلنا الله “قائد” هذا العالم في مجال الخدمة. ومعنى “القائد” هنا هو كما بيّنه المصطفى – صلى الله عليه وسلم – في قوله: “سيد القوم خادمهم.” فقائد الأمة خادمها؛ أو بعبارة أخرى: القائد والخادم لفظان يدلاّن على نفس المعنى. إذا كان المرء لا يعرف كيف يخدم فلا حق له في القيادة. وإذا أُعطي المرء القيادة فالخدمة واجبة عليه. بهذا المعنى أتحدث عن كوننا “قادة” وليس بأي مفهوم آخر. إذًا فواجبنا خدمة بني البشر، وتعليمهم كيف يميزون بين الخطأ والصواب، والسعي لأن نوضح لهم أين مصالح الناس وأي الأمور ينفعهم وأيها يضرهم ومن هذا المنطلق أود توضيح (سقطت في الجديدة) هذا الموضوع تمامًا. ثم إذا فهمه الأحمديون وجب عليهم رفع الصوت قدر استطاعتهم، والسعي لتغيير آراء مجتمعهم.
جذور المؤامرة
بدأت هذه المشكلة في واقع الأمر قرب نهاية القرن الماضي. فالحرب التي نشهدها اليوم لها جذور تاريخية عميقة. في سنة 1897م تأسس مجلس لخدمة الأهداف الصهيونية، ذو صلة بطائفة من اليهود الذين يعتقدون في مملكة داود، ويؤمنون بأنها لا بد وأن تتوطد في العالم في يوم من الأيام، ويُسمَّون الصهاينة أو الإسرائيليين. هكذا تأسس المجلس الصهيوني العالمي، وأذاعوا إعلانًا نترك تفاصيله الآن. وفي السنة نفسها تقريبًا كُشف النقاب عن وثيقة يهودية تُسمَّى “بروتوكول رؤساء صهيون” وكلمة صهيون ترمز للحركة الصهيونية، وهي اسم لجبل يقولون إن سيدنا “داود” أُعطي الوعد عنده. على أية حال، كلمة صهيون عندهم تعني إسرائيل. وضع رؤساء إسرائيل الأعلون الذين يؤمنون بالصهيونية خطة: كيف يؤسسون سيادتهم على العالم، وكيف يكون خط سير عملهم، وما هي المبادئ التي يعملون عليها، وما هي أهدافهم، وأية طرق ينتهجونها .. وما إلى ذلك. وَقَعَ هذا المستند في يد سيدة روسية، كانت تعمل سكرتيرة لرؤساء صهيون في ألمانيا. كانت المرأة صديقة لأحدهم، وذات مرة كانت تنتظره في بيته، ولما تأخر حضوره التقطت شيئًا تقرأه من فوق المنضدة لتقطع به الوقت، فكان وثيقة “بروتوكول رؤساء صهيون.” فزعت المرأة لقراءة هذه الوثيقة التي احتوت على مؤامرة رهيبة لغزو العالم. فأسرعت بالفرار ومعها الوثيقة. وذهبت بها إلى روسيا حيث نُشرت ترجمتها الروسية لأول مرة في عام 1905م.
المخطط الصهيوني
وفي هذه الفترة أعدّوا خطّتهم السرية من جهة، ومن جهة ثانية أعلنوا خطة أخرى. وليس هناك جدال حول هذه الخطة الثانية المعلنة، فهم يقولون: نعم هذه كانت خطتنا، وكشفنا عنها، وهي ترمي إلى تنظيم جهود اليهود لزيادة اتصالاتهم بالحكومات وتنمية تأثيرهم للحصول على وطن منفصل لهم. أما الخطة السرية فقد ذكروا فيها شيئًا عن الأمم المتحدة، قبل أن تكون هناك فكرة لإنشاء أمم متحدة أو عصبة أمم، وخططوا أن اليهود بعد نجاحهم في إنشائها سوف يسيطرون عليها، ومن خلال هذه السيطرة سوف يوطدون سيطرتهم على العالم كله. هكذا كانت خطتهم: السيطرة على الأمم المتحدة، ومن ثم السيطرة على العالم.
كان من الطبيعي أن يستغرق تنفيذ هذه الخطة سنوات طويلة .. ولكنهم ما برحوا يجتازون المراحل واحدة بعد الأخرى .. تلك المراحل التي وردت في الوثيقة والتي قالوا إنهم بعدها سوف يصلون بالخطة إلى كمالها. وعندما أعلن اليهود براءتهم من هذه الوثيقة التي تكشف خطتهم السرية، وقالوا إنها ليست خطتنا، ولكنهم نسبوها إلينا .. تبارَى أهل الدراسة والسياسة والثقافة في العالم في إبداء الآراء حتى رفعت القضايا أمام كثير من المحاكم. وقام أحد البروتستانت في بريطانيا ببحوث مستفيضة حول هذا الموضوع، ونشر كتابًا تحت اسم “الماء ينساب نحو الشرق” ( Water Flowing Eastward)، يناقش فيه كل تلك الجوانب. لقد أتيح لي قراءة هذا الكتاب منذ عشرين عامًا، واستعاره مني أحد الأصدقاء، ولا أعرف أين ذهب بعد ذلك. وحاولت العثور على الكتاب في بريطانيا، ولكنه اختفى من الأسواق. وقد ذكر في الكتاب أن اليهود يجمعونه من الأسواق فورًا. وسواء صح القول سارعوا بسحبه من السوق أم لا فهذا ما حدث بالفعل، وهذا ما جربنا. ولا أستطيع الجزم بكلمات الكتاب نفسها، ولكن ما أقوله عن هذا الموضوع صحيح في أساسه. كتب المؤلف أنه عندما سئل أحد الساسة الغربيين: هل هذه الوثيقة المنسوبة إلى اليهود، في رأيك، من عمل رؤساء صهيون حقًا، وهل هي خطتهم أم هي مجرد مؤامرة لتشويه سمعتهم؟ أجاب: في ظني أن هناك احتمالين: إما أن تكون هذه خطة القوم الذين نُسبت إليهم، لأن كل ما حدث بعد ذلك حدث بحسب الخطة تمامًا. وكيف يمكن للأحداث أن تقع هكذا تلقائيًا بنفس الترتيب، وبنفس التفاصيل؟ أو أن هذا الكتاب من وضع أحد الأنبياء الذي يملك قدرة عظيمة على التنبؤ بحسب ما يتلقاه من علم إلهي. بمعنى أن هناك احتمالين: إما أن تكون الوثيقة من إعداد كذابين كبار .. وضعوا خطتهم، وينكرون الآن، أو من عمل رجل صالح صادق أَطلعَه الله تعالى على الأحداث التي ستقع مستقبلاً!
والفترة التي دخلناها اليوم هي فترة المرحلة النهائية من المخطط. عندما تم السلام بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، وكان جدار برلين يتساقط .. تذكرتُ هذا المخطط. ومع أن الكتاب لم يكن بيدي كي يُنعش ذاكرتي .. لكني أعرف بأن ما ورد في نهاية الكتاب يقول: وفي الأخير سوف نقسم العالمَ أولاً، ثم نوحّده، وسيتم هذا بعد أن تكون سيطرتنا قد توطدت تمامًا على الأمم المتحدة.
“الماسون لن يتسلطوا”
منذ ذلك الوقت وقلبي يخفق بشدة أن قد حان اليومُ المريع .. يومُ تحقيق خطتهم. وبالرغم من هذا الخوف الذي هو أمر طبيعي بعد ظهور كل تلك العلامات العظيمة، (جاء في الأصل الجسام) فإني على إيمان قوي بأن خطتهم سوف تبوء بالفشل في نهاية المطاف. وإعلاني هذا أساسه إلهام تلقاه سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود – عليه السلام – عام 1901م وهو: “الماسونية لن يُسلَّطوا ليُهلكوه.” (جريدة الحكم ج 5 عدد 37 بتاريخ 10 أكتوبر 1901م. والتذكرة – مجموعة إلهامات الإمام المهدي والمسيح الموعود – عليه السلام – ص 411)
إنه مما يذهل العقل ويؤكد عظمة هذا الإلهام الإلهي أنه تلقاه في عام 1901م مع أن هذه الخطة انكشفت لأول مرة في عام 1905م بترجمتها الروسية، ولم تكن الترجمة الإنجليزية أيضًا قد ظهرت بعد. فبينما كان العالم الخارجي في غفلة تامة عن خطة الماسون لقهر العالم، أخبر الله تعالى عبده الإمام المهدي والمسيح الموعود – عليه السلام – عنها، وذلك قبل نشر ترجمتها باللغة الروسية بأربع سنوات، وفي قرية نائية مجهولة في الهند وهي قاديان. أخبره أن هناك مخططًا لسيادة العالم سيلعب الماسون فيه دورًا رئيسيًا وكأنهم يتسلطون على العالم، ولكني أعِدُك بأن الماسون لن يُسَلَّطوا عليك ولا على جماعتك لكي يضروكم. إن هذا لشيء عجاب (جاء في الأصل مدهش) حقًا! لذلك فإن إيماني متين بأن خطتهم مقدَّرٌ لها الفشلُ والخيبةُ في نهاية الأمر. ولكنها قبل هزيمتها سوف تنفث سمومًا خطيرة جدًا في العالم، وسوف تثور بسببها براكين عديدة تقع على إثرها كثير من الزلازل، ويحدث دمار كبير، وستعاني الأمم من بلاء كثير، (جاء في الأصل بلاءً شديدًا) وسوف نمرّ بأشد الأيام خطورةً، لأن مثل هذه الخطة لا يمكن أن تنهزم هكذا تلقائيًا وفجأةً. بعد جهد كبير سوف تبدي هذه الخطة كل خصائصها الخفية، لينتصر بعد ذلك قضاء الله تعالى في إحباطها. ولكن ينبغي علينا أن نوقن (جاء في الأصل نوطن أنفسناعلى) أن الجنس البشري سوف يمرّ في محن شديدة، وسوف يواجه الإنسان مصاعب جمة. ولا مناصَ أيضًا من أن يشارك المسلمون الأحمديون في ذلك إلى حدٍّ ما. فليس من المعقول إبّان (جاء في الأصل في أوقات) الشدائد والمحن (جاء في الأصل الإبتلاءات) القومية أن تبقى جماعة صالحة بمنأى عنها كليةً، بل لا بد وأن تعاني إلى حدٍّ ما. ولكن بعد أن ينقضي كل ذلك سوف تأتي في النهاية أيام ازدهار الإسلام والنصر والغلبة للأحمدية.
هذا هو القدر النهائي المحتوم، وهذا في الواقع هو “النظام العالمي الجديد”، وليس النظام العالمي الذي يجول بذهن الرئيس بوش، والذي يريد وضعه أمام العالم كنظام جديد.
خطوات المؤامرة ودور بريطانيا
أترك هذا الموضوع عند هذا الحد لأعود إلى ما كنتُ بصدده من أن أساس الموقف الراهن وُضع من حيث الظاهر في أغسطس عام 1897م، حينما أعلنوا الشروع في جهودهم لإقامة دولة إسرائيل، وذلك في المؤتمر الصهيوني العالمي الأول، وكان رئيس المؤتمر في ذلك الوقت الدكتور تيودور هرتسل
( Dr. Theodor Herzel). ثم شهدنا الخطوة الثانية الهامة في عام 1917م عندما كتب بلفور ( Balfur) وزير خارجية بريطانيا رسالة إلى يهودي واسع الثراء كان ممثلاً لليهود لورد روتشيلد ( Rothschild)، يبلغه فيها بقرار الحكومة البريطانية القاضي بمساندته ومساعدته في الحصول على وطن قومي لليهود في فلسطين. والقرار موجود ويمكن الحصول عليه كوثيقة مطبوعة.
كانت الفترة ما بين 1915 إلى 1918 أشد وأبغضَ فترات التآمر ضد الإسلام. ولقد لعبت الحكومة البريطانية وقتئذ أكبر دور وقامت بأعظم قسطٍ من هذه المؤامرات. وسأقدم لكم بعض الأمثلة على ذلك.
في عام 1916 كتب مستر مكماهون ( Mr.McMahon) ممثل الحكومة البريطانية، رسالةً إلى حاكم مكة والمدينة والحجاز الشريفِ حسين، وكان من عائلة من شرق الأردن وممثلاً للحكومة التركية في إقليم الحجاز. تتلخص رسالة مكماهون إلى شريف مكة هذا أنه لو عقد معهم معاهدةً فإنهم سوف يحرّرونه من حكم “الأتراك الظالمين”، ويساعدونه لإقامة دولة عربية حرة؛ وفي نظير ذلك يعطيهم كيت وكيت من الامتيازات. كانت بعض المناطق في خريطة المنطقة تحمل علامة (أ)، وبعضها الأخرى علامة (ب)، يعني بعضها منطقة نفوذ فرنسي وبعضها منطقة نفوذ بريطاني. وتتلخص كل الشروط في أن سلطة صياغة سياستك الخارجية ستكون في يد البريطانيين أو الفرنسيين، ولن يُسمح لك القيام بشيء في مناطق نفوذ الدولتين إلاَّ بمشورتهما وبعد إذنهما، حتى لن يجوز لك أن تقابل مراقبًا أو مستشارًا أوروبيًّا ما لم تحصل على إذن من السلطة البريطانية في المناطق الخاضعة لنفوذهم، أو من السلطة الفرنسية في مناطق سيطرتهم.
كانوا يتحاورون مع شريف مكة من جهة، ومن جهة أخرى كانوا يتواطئون مع زعماء طائفة الوهابية .. عائلةِ سعود .. أنه إذا عقدتم معاهدة معنا تقبلون بها الإشراف البريطاني على منطقتكم إلى الأبد، ولا تشكلّون سياستكم الخارجية إلاَّ بموافقة بريطانيا .. وتعينوننا على إسقاط الحكومة التركية، فسنساعدكم على إقامة حكومتكم بأرض الحجاز مع وعد بحمايتها للأبد بحيث لن ينظر إليكم أحد بنظرة تكرهونها. فعقدوا المعاهدة على ذلك مع شروط أخرى، وبعد سنوات قلائل نظموا، بحسب المخطط، هجومًا أطاحوا به بشريف مكة.
ومن الجانب الثالث اتفقت روسيا وبريطانيا وفرنسا عام 1916م على تقسيم الإمبراطورية العثمانية التركية، وقرروا لكل واحد منهم نصيبًا من الغنيمة بعد تمزيقها .. لتدخل تحت حكمهم.
وإلى جانب ذلك تمت اتفاقية إنجلوفرنسية لتقسيم الجزيرة العربية في خطة للسيطرة على المنطقة، ولم يدَعوا شيئًا لروسيا في الجزيرة العربية (سقطت في الجديدة) بل جعلوها حكرًا على بريطانيا وفرنسا.
داخل هذا الإطار يسهل فهم ما وقع من حروب والدور الذي قامت به هاتان الدولتان فيها. فإذا حللنا الموقف الراهن من وجهة النظر هذه أمكن لكم فهم أهدافهم بسهولة نسبية.
نظام أمنٍ مقلوب.
ولكني قبل المضي في هذا البحث أودّ ذكر لغز يرتبط بهذه الأمور ارتباطًا عميقًا. فهناك شيئان لا يتوقع المرء بصفة عامة حدوثهما مع أنهما قد وقعا فعلاً. أولهما أنه على الرغم من أن منطقة شرق الأوسط هي من أغنى مناطق العالم حيث يوجد فيها 60 % من بترول العالم كله، ومع ذلك فهي أضعف مناطق العالم في قدرتها الدفاعية ونموها الصناعي أيضًا. فما هذا اللغز؟ حيث يوجد المال .. لا يوجد حراس؟ ومع أنهم يضعون في هذه البلاد ترتيبات أمنية محكمة حول بضع سبائك من الذهب، فإن المنطقة التي تمثل جبالاً من الذهب قد تُركتْ من ناحية الأمن منطقة “فراغ عسكري”، حيث لا تتناسب مطلقًا القوات الموجودة هنالك مع الثروة الموجودة فيها؟ لماذا هذا الوضع؟ لماذا تركوا المنطقة بهذا الضعف؟ في حين أن إسرائيل، وهي جزء صغير من المنطقة وليس بها ثروة بترولية، قد جعلوا منها قوة متميزة! عجبًا، حيث يوجد المال الكثير يكون البلد ضعيفًا، وحيث لا يوجد خطر السلب والسرقة يكون البلد قويًا! إنه لغز يتطلب تفسيرًا وحلاًّ!
لماذا رفضوا ربط المسألتين.
وهناك لغز آخر؛ عندما عرض صدّام حسين ربط مسألة الكويت بغيرها رفضت أمريكا وحلفاؤها وقالوا: لا علاقة بين القضية الكويتية وغيرها من القضايا. قال الرئيس صدّام: إن الاحتلال الإسرائيلي متعلق بالكويت، وينبغي حل القضيتين وتسويتهما معًا. ولو أنهم قبلوا بهذه الصلة لأمكن حل المشكلة، والتزم صدّام بسحب عدوانه وقواته من منطقة الكويت، والتزم اليهود الصهاينة المعتدون على الضفة الغربية في الأردن بالانسحاب منها. أَوقِفوا العدوان الأول وأَوقِفوا العدوان الثاني، ليُسوَّى النزاع ويستقر العدل وينتهي الأمر عند هذا الحد. كان هذا هو غرض الرئيس صدّام عندما كان يردد ويؤكد الربط بين المسألتين. ولكن تعمدت القوى الكبرى المتصلة بالمشكلة عرضَها بطريقة أخرى، وعملت على خداع الرأي العام العالمي، في حين أن موقف الرئيس صدّام كان تمامًا كما شرحته لكم. تعمد العالم الغربي أن يخطِّئ مسألة الربط بين القضيتين وعرَض فكرة الرئيس صدّام هكذا: بما أن إسرائيل قامت باحتلال جزء من دولة مسلمة شقيقة، فقد أغضب ذلك صدّام، فقام باحتلال بلد مسلم شقيق .. والمسألتان سيّانِ شكلاً وموضوعًا. ولما كان هذا العرض بهذه الصورة غير منطقي فإنهم أخذوا يسخرون منه، وأعلنوا أنه باطل وبلا معنى. وقالوا: كيف يمكن ذلك، والعالم كله يعلم أن النزاع بين العراق والكويت هو حول البترول وبيعه وسعره وغير ذلك من الأمور، وبسببه قرر العراق احتلال الكويت واتخذه مبررًا. فالحقيقة أن العراق استهدف الاستيلاء على الثروة البترولية في الكويت. إذًا فكيف يمكن الربط بين هاتين المسألتين، وليس بينهما أية صلة؟
كِيس التسوّل!.
والواقع أن بينهما صلة عميقة كما ذكرت آنفًا. قال صدّام: إذا كنتم تعارضون الاحتلال فالواجب عليكم أن تضعوا نهاية لعدوان واحتلال واقع في هذه المنطقة، وسوف أضع حدًّا ونهاية مثلكم، ويسوَّى الموضوع. ولكنهم لم يكونوا على استعداد لقبول ذلك. فما السبب؟ لماذا هم على هذه الصلة العميقة مع إسرائيل؟ ما الداعي ليكونوا عبيدًا للمصلحة الإسرائيلية، ويقدّموا في سبيلها كل تلك الأثمان الكبيرة بما لا يمكن لأحد تصور حجمها؟ فعلى سبيل المثال، ما هي قيمة بليون دولار؟ الفقراء من أمثالنا لا يستطيعون تخيّل حجم بليون من الدولارات. بالنسبة لنا تكون بليون روبية مبلغًا رهيبًا .. أما بليون دولار فهي حقًا مقدار هائل من المال. طبقًا للأرقام التي ظهرت فإن أمريكا وحدها تنفق بليون دولار كل يوم. وأيام الحرب مستمرة .. والإنفاق مستمر! وهناك أيضًا إنفاق بريطاني، وآخر فرنسي. وقد أنفقوا مبلغًا كبيرًا .. ودفَعهم الموقف إلى التوجه نحو العالم بكيس تسوُّلِهم. والبريطانيون أكثر وألطف دبلوماسيةً من الأمريكان لخبرة اكتسبوها عبر القرون. لقد أرسلوا وزير خارجيتهم إلى ألمانيا، فأعطاهم الألمان 600 أو 700 مليون. وعندما أعلن الوزير هذا الأمر قال: لم نأت هنا للتسوّل، وليس معي كيس تسوّل. لا نحمل همًّا، ولم يكن في ذهني قدر معين من المال الذي سنحصل عليه مساهمة منكم في هذا العمل الخيري. إخواننا الألمان قوم عطوفون وأمة طيبة، أحسوا أن من واجبهم مساعدة إخوانهم في شدتهم والمساهمة معهم في جهودهم الحربية، ونحن نقبل منهم ذلك مع الامتنان والشكر
في الليلة الماضية، حينما كان إدوارد هيث يشترك في المناظرة في البرلمان البريطاني قال: إن هذا نهاية أكاذيبكم وخداعكم. لقد فضحتم أمتكم في العالم. تجوبون الدنيا بكيس الشحاذة. ما الداعي للتورط في هذه المصاعب التي لا تستطيعون تحملها، والتي لطّختم بها شرف بريطانيا وعظمتها، وصرتم بسببها متسولين؟
وبالمقارنة مع هذا نجد السياسيين الأمريكان على خشونة. والمستر كويل موجود هنا في هذه الأيام، وهو نائب رئيس الجمهورية بأمريكا، وكل ما يبديه من مقدرة وفكر في السياسة يثير الضحك عند محرري الجرائد في أمريكا، ودائمًا يحكون فكاهات حوله. ولكن لست بصدد ذكر هذه الأمور، فليُسوّوها فيما بينهم. هؤلاء الساسة لا يملكون مهارة الكلمة ولا يعرفون كيف يغلّفون بعض الأمور بكلام معسول. إنهم يتبعون وسيلة للشحاذة تحت مسمّى آخر. عندنا في البنجاب بعض الشحاذين لا يمدّون أيديهم قائلين: أعطُونا لله، ساعِدونا بإحسان من فضلكم، ارحمونا فنحن نتضوّر جوعًا؛ ولكن هؤلاء الشحاذين يحملون عكازًا ويقولون: أعطُونا شيئًا وإلاَّ كسّرنا رؤوسكم! هذا هو الأسلوب الذي تتبعه أمريكا في تسوّلها، الشحاذة بالعصا. عندما سأل صحفي المستر كويل: ماذا تتوقعون من العالم؟ قال: أي توقع؟ لقد قررنا تقاضي مبلغ كذا من دولة كذا، ومبلغ كيت من دولة كيت. لسنا مضطرين للشحاذة. سنخبركم كم سيدفعون. فسأله الصحفي: إذا لم يدفعوا فماذا تفعل؟ أجاب: إذا لم يدفعوا فإني أقول لك ألاَّ يعتمدوا بعد ذلك على العلاقات مع أمريكا. وهذا بالطبع تهديد ضمني. على أية حال، فإنهم يدفعون الثمن، ولطخوا كل سمعة اكتسبوها لهم في عالم الإسلام. منذ وقت قريب كانت باكستان من الناحية العملية إحدى توابع أمريكا، وقَبِلَ عامة الناس بهذا الوضع، واعتاد كل السياسيين أن يُهرَعوا إلى أمريكا من أجل رفع مركزهم واعتبارهم، وتوقفت ردود فعل العامة ضد تصرفهم هذا. أما اليوم فقد اشتعلت نيران الكراهية في مدى بضعة أيام، وأصبحت كلمة أمريكا سُبَّةً. وبالمثل حلَّت بريطانيا كلَّ عُرى روابطها مع عالم الإسلام، ومحت كل اسم حسن اكتسبته في زمن طويل.
لماذا يدفعون هذا الثمن؟ لماذا لم يقبلوا بالربط، ولماذا لم يطالبوا إسرائيل بالانسحاب من كذا وكذا، لينسحب العراق من كذا وكذا، وينتهي الموضوع؟ ينبغي علينا دراسة هذه الأمور بتفصيل أكثر. ما هي الأسباب العاملة لهذه الحرب؟
إن التهمة الموجهة إليهم أنهم من أجل مصالحهم المشتركة مستعدون لتدمير العراق، وما تحرير الكويت سوى ذريعة. علينا أن نتفحص ذلك عن قرب، ونرى هل أبدت هذه البلاد ردود فعل كهذه من قبل نتيجةً لمصالح مشتركة أو غير مشتركة. والدعوى الثانية بأنهم فعلوا ذلك لصالح إسرائيل .. وعلينا دراستها أيضًا. فحيثما حارب اليهود المسلمين، (والأَولى أن نقول إسرائيل، لأن من بين اليهود من يعارضون إسرائيل، وينتقد هؤلاء الأشراف علنًا عدوان إسرائيل، ولا يؤيّدون أفعالها بأي شكل، فالأحسن أن نقول إسرائيل) .. فإن هؤلاء ساندوا إسرائيل في كل مناسبة. إذا كانوا مؤيدين لهم فهل ذلك بسبب تحيز ديني .. أم هو مجرد مصالح؟ ما هو الهدف والغرض من إنشاء إسرائيل؟ لماذا يسعون جاهدين للحفاظ على وجودها بأعلى التكاليف؟ هذه هي التساؤلات التي سوف أجيب عليها إن شاء الله في خطبتي القادمة. وأترك المناقشة التاريخية الآن، وفي الخطبة القادمة سوف أَصِلُها بما سأقدمه لكم من أحداث أساسية كانت تقع حتى يومنا هذا .. كي أُنعش ذاكرتكم. وبعد هذا التحليل، في الخطبة القادمة إن شاء الله، إن توفر لي الوقت، أو في الخطبة التي تليها بإذن الله تعالى سوف أقدم الحلول لهذه المشكلات من وجهة نظر الإسلام. لقد تأخر الوقت، ولذلك أنهي خطبتي.
اللهم مكِّنْ لنا، نحن خدام محمد المصطفى – صلى الله عليه وسلم -، كي نقدم حلاًّ حقيقيًا قادرًا على إزالة مشاكل العالم، إذا قبلوا به وجدوا سلامًا أكيدًا، أما إذا لم يقبلوا به فليفعلوا ما يشاؤون، فلن يجدوا السلام ولن يُقِرّوه. القوة التي هي في الحل الصحيح هي قوة الحق. إذا قَبِلَ أحد الاقتراح الصحيح انتفع به، أما إذا رفضه قاسى الأضرار. وما دمتُ سأمثّل الإسلام في حديثي فإني على يقين من أن كل حلّ أقدمه باسم الجماعة الإسلامية الأحمدية سيكون حلاًّ ينبغي ألاَّ يُستهان به. إذا قبلتم به فهو لصالحكم ولصالح البشرية جمعاء، وإذا رفضتموه فمهما فعلتم لرفع (جاء في الأصل لفض) النزاع من الدنيا فلن يُرفَع، (جاء في الأصل ينفض) وسوف تبوء كل جهودكم بالفشل والهزيمة، وستنشب الحروب واحدة تلو أخرى، والنزاعات واحدة بعد أخرى، حتى يتلوّن المجتمع البشري بالدماء ويُسلَب من الإنسان الهدوءَ والسلام الداخلي. إني أؤمن أنني ما دمتُ أقدم بفضل الله تعالى حلاًّ إسلاميًا، فلن يكون هناك موقف آخر، فإما أن يقبلوه وينتفعوا به، أو يرفضوه ويسلكوا سبيل الضرر.
وأسأل الجماعة الإسلامية الأحمدية أن يدعوا الله تعالى أن يحمي (جاء في الأصل ليحفظ) قدرتي الذهنية والروحانية من الزلل، ويثبتها على التقوى، (جاء في الأصل ثابتة على التقوى) فأرى بعين التقوى ونور التقوى، وأقدم حلاًّ يضمن للجنس البشرى سلامًا أكيدًا. اللهم آمين.