مجموع أقوال المسيح الموعود مرزا غلام أحمد عليه السلام
دابة الأرض
“كتبتُ في كتبي غير مرة أن هذه كلها استعارات وما أراد الله بها إلا ابتلاء الناس ليعلم من يعرفها بنور القلب ومن يكون من الضالين. ولو فرضنا أنها تظهر بصورها الظاهرة فلا شك أن من ثمراتها الضرورية أن يرتفع الشك والشبهة والمِرية من قلوب الناس كلهم كما يرتفع في يوم القيامة، فإذا زالت الشكوك ورُفعت الحجب فأيُّ فرقٍ بقي بعد انكشاف هذه العلامات المهيبة الغريبة في تلك الأيام وفي يوم القيامة؟ انظر أيها العاقل.. أنه إذا رأى الناس رجلا نازلا من السماء وفي يده حربة ومعه ملائكة الذين كانوا غائبين من بدء الدنيا وكان الناس يشكّون في وجودهم، فنـزلوا وشهدوا أن الرسول حق، وكذلك سمع الناس صوت الله من السماء أن المهدي خليفة الله، وقرأوا لفظ “الكافر” في جبهة الدجّال، ورأوا أن الشمس قد طلعت من المغرب، وانشقّت الأرض وخرجت منها دابة الأرض التي قدمه في الأرض ورأسه تمسّ السماء، ووسَمت المؤمن والكافر، وكتبتْ ما بين عينهم مؤمن أو كافر، وشهدت بأعلى صوتها بأن الإسلام حق، وحصحص الحق وبرق من كل جهة، وتبينت أنوار صدق الإسلام حتى شهد البهائم والسباع والعقارب على صدقه، فكيف يمكن أن يبقى كافر على وجه الأرض بعد رؤية هذه الآيات العظيمة، أو يبقى شك في الله وفي يوم الساعة؟ فإن العلوم الحسّية البديهة شيء يقبله كافر ومؤمن، ولا يختلف فيه أحد من الذين أُعطوا قوى الإنسانية؛ مثلًا إذا كان النهار موجودا والشمس طالعة والناس مستيقظين فلا يُنكره أحد من الكافرين والمؤمنين. فكذلك إذا رُفعت الحجب كلها، وتواترت الشهادات، وتظاهرت الآيات، وظهرت المخفيّات، وتنـزلت الملائكة، وسُمعتْ أصوات السماء، فأي تفاوُت بقي بين تلك الأيام وبين يوم القيامة، وأي مفر بقي للمنكرين؟ فلزم من ذلك أن يُسلِم الكفار كلهم في تلك الأيام، ولا يبقى لهم شك في الساعة؛ ولكن القرآن قد قال غير مرة إن الكفار يبقون على كفرهم إلى يوم القيامة، ويبقون في مِريتهم وشكّهم في الساعة حتى تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون. ولفظ “البغتة” تدل بدلالة واضحة على أن العلامات القطعية التي لا يبقى شك بعدها على وقوع القيامة لا تظهر أبدا، ولا يجليها الله بحيث تُرفع الحجب كلها وتكون تلك الأمارات مرآة يقينية لرؤية القيامة، بل يبقى الأمر نظريا إلى يوم القيامة، والأمارات تظهر كلها ولكن لا كالأمر البديهي الذي لا مفر من قبوله، بل كأمور ينتفع منها العاقلون، ولا يمسّها الجاهلون المتعصبون، فتدبَّرْ في هذا المقام فإنه تبصرة للمتدبرين”. (حمامة البشرى، ص 175-176)
“فالحاصل أن الطاعون قد لازم هذه الديار ملازمة الغريم، أو الكلب لأصحاب الرقيم. وما أظنّ أن يُعدَم قبل سنين، وقد قيل: عمر هذه الآفة إلى سبعين. وإنها هي النار التي جاء ذكرها في قول خاتم النبيين، وفي القرآن المجيد من رب العالمين، وإنها خرجت من المشرق كما رُوي عن خير المرسلين، وستحيط بكل معمورة من الأرضين، وكذلك جاء في كتب الأولين، فانتظر حتى يأتيك اليقين. فلا تسأل عن أمرها فإنه عسير، وغضبُ الرب كبير، وفي كل طرف صراخ وزفير، وليس هو مرض بل سعير. وتلك هي دابّة الأرض التي تكلِّم الناسَ فهم يجرحون، واشتد تكليمها فيُغتال الناس ويُقعَصون بما كانوا بآيات الله لا يؤمنون”. (مواهب الرحمن، ص 21-22)
“وأنت تعلم أن هذه الأنباء كلها.. كخروج دابّة الأرض ويأجوج ومأجوج وغيرها، قد اختلفت الآثار في تبيينها، ولم تُبيَّن على نهج واحد، حتى إن بعض الصحابة زعموا أن دابة الأرض عليٌّ ؓ، فقيل له إن الناس يظنون أنك أنت دابّة الأرض، فقال ألا تعلمون أنه إنسان ومعه لوازم بعض الحيوانات، ولها وبر وريش، وشيء فيه كالطير، وشيء فيه كالسباع، وشيء فيه كالبهائم، وهو يسعى كمثل فرس ضليع ثلاث مرة ولم يخرج إلا أقلّ من ثلثيه، وما أنا إلا إنسان بحتٌ ليس على جلدي وبر ولا ريش.. فكيف أكون دابّة الأرض؟ وقال بعض الناس إن دابة الأرض التي ذكره القرآن هو اسم الجنس لا اسم شخص معين، فإذا انشقت الأرض فيخرج منه ألوف من دواب الأرض سُمي كل واحد منها دابة الأرض.. لهم صور كصور الإنسان وأبدان كأبدان السباع والكلاب والبهائم. وقيل إنها حيوان لها عنق طويلة.. يراها المغربي كما يراها المشرقي، ولها مناقير الطيور، وهي حيوان أصوف ذاتُ زَغَبٍ وذات وبر وريش، وفيها من كل لون من ألوان الدواب، ولها أربع قوائم، وفيها من كل أُمّةٍ سِيْمَى، وسيماها من هذه الأمة أنها تكلّم الناسَ بلسان عربي مبين، تكلّمهم بكلامهم. هذا قول ابن عباس. وجاء من أبي هريرة أنها ذات عَصَب وريش، وأن فيها من كل لون، ما بين قرنيها فرسخ للراكب المُجِدِّ. وعن ابن عمر قال إنها زَغْباءُ ذات وبر وريش. وعن حذيفة قال إنها سَلَمَّعَةٌ ذات وبر وريش، لن يدركها طالب ولا يفوتها هارب. وعن عمرو بن العاص قال إنها حيوان طويل القامة، رأسه يبلغ السماء ويمسّها ولم يخرج رجلاه من الأرض، وإنها لتخرج كجري الفرس ثلاثة أيام لم يخرج ثلثا. وعن ابن زبير قال هي دابة رأسها كرأس البقر، وعينها كعين الخنـزير، وأذنها كأذن الفيل، وقرنها كقرن الأيِّل، وعنقها كعنق النعامة، وصدرها كصدر الأسد، ولونها كلون النمر، وخاصرها كخاصر السنور، وذنبها كذنب المعيز، وأرجلها كقوائم الإبل، وما بين مفصليها اثنا عشر ذراعا. وعن عاصم بن حبيب بن اصبهان قال: رأيت عليًّا يقول إن دابة الأرض تأكل بفيها وتتكلم مِن إسْتها. وجاء في بعض الأحاديث أنها تخرج ويكون معها عصا موسى وخاتم سليمان بن داود، وينادي بأعلى صوت أن الناس كانوا بآياتنا غافلين، وتسِم المؤمن والكافر.. أما المؤمن فيبرق وجهه بعد الوسم كالكوكب الدرّي، وتكتب الدابة ما بين عينيه لفظ المؤمن، وأما الكافر فتكتب ما بين عينيه لفظ الكافر كنقطة سوداء. وجاء في رواية أن لها صوتا عاليا يسمعها كل من هو في الخافقين، وهي تقتل إبليس وتمزقه.
وفي مواضع خروجها وأزمنة ظهورها اختلافات عجيبة تركنا ذكرها اجتنابا من طول الكلام. وقالوا إنها تخرج في زمان واحد من أمكنة متعددة.. تخرج من أرض مكة، وتخرج من أرض المدينة، وتخرج من أرض اليمن، فيُرى صورته في الأمكنة المختلفة بطور خرق العادة في الصور المثالية. فمن ههنا يثبت عالم المثال. وأعجبني أن علماءنا قد جوّزوا هذه الصور المثالية في خروج دابّة الأرض، وقالوا إن لها تكون قدرةٌ على كونها موجودة في المشرق والمغرب في آن واحد، وهم لا يجوّزون هذه القدرة للملائكة، ويقولون إنهم إذا نزلوا من السماء فلا بد من أن تبقى السماوات خالية منهم، وإنْ هذا إلا حمق مبين.
هذا ما جاء في حال دابة الأرض في كتب الأحاديث مع اختلافات وتناقضات حتى إن أكثر الصحابة ظنوا أنه إنسان فقط، ولأجل ذلك حسبوا أن عليًّا هو دابة الأرض. ومن أعجب العجائب أن بعض الأحاديث تدل على أن دابة الأرض مؤمنة تؤيّد المؤمنين وتخزي الكافرين، وتشهد أن دين الإسلام حق، حتى إنها تقتل إبليس وتمزقه، وبعض الأحاديث يدل على أنها امرأة كافرة خادمة للشيطان وجسّاسة للدجّال وليس فيها خير؛ فلا يمكن التوفيق بينهما إلا أن نقول إن المراد من دابة الأرض علماء السوء الذين يشهدون بأقوالهم أن الرسول حق والقرآن حق، ثم يعملون الخبائث ويخدمون الدجّال، كأن وجودهم من الجزئين.. جزء مع الإسلام وجزء مع الكفر، أقوالهم كأقوال المؤمنين، وأفعالهم كأفعال الكافرين. فأخبر رسول الله ﷺ عن أنهم يكثرون في آخر الزمان، وسُمُّوا دابة الأرض لأنهم أخلدوا إلى الأرض، وما أرادوا أن يُرفعوا إلى السماء، واطمأنوا بالدنيا وشهواتها، وما بقي لهم قلب كالإنسان، واجتمعت فيهم عادات السباع والخنازير والكلاب. تراهم مستكبرين متبخترين كأنهم بلغوا السماء ومسّوها، ولم تخرج أرجلهم من الأرض من شدة انتكاسهم إلى الدنيا، فهم كالذي شُدِّدَ أَسْرُه وكالمسجونين. يكلّمون الناس من الإست لا من الأفواه، يعني ولا تجد في كلماتهم طهارة وبركة واستقامة ونورانية ككلمات الصالحين”. (حمامة البشرى، ص 177-180)
“قال قائل: لو كان هذا هو الحق.. أن دابّة الأرض هي طائفة علماء هذا الزمان، فيلزم أن يكون تكفيرهم حقًّا وصدقا، فإن من شأن دابة الأرض أنها تسِم المؤمن والكافر، فمن جعله الدابةُ كافرا – يُشير المعترض إلينا – فعليكم أن تقرّوا بكفره، فإن التكفير بمنـزلة الوسم من دابّة الأرض.
فيُقال في جواب هذا المعترض إن المراد من الوسم إظهارُ كفرِ كافر وإيمان مؤمن، فهذا الإظهار على نوعين: قد يكون بالأقوال وقد يكون بالأفعال ونتائجها. وقد جرت سُنة الله أنه قد يجعل الكافرين والفاسقين علّةً موجبة لظهور أنوار إيمان أنبيائه وأوليائه، ألا ترى إلى سيدنا ونبينا محمد المصطفى ﷺ كيف كانت عداوة أبي جهل وأمثاله موجبةً لإنارة صدقه وضياء إيمانه؟ ولو لم يكن أبو جهل وإخوانه من المعادين لبقي كثير من أنوار الصدق المحمدي في مكمن الاختفاء، فإذا أراد الله أن يُظهر صدق نبيه ﷺ بين الناس فجعل له الحاسدين المعاندين المعادين في الأرض كأبي جهل وشياطين آخرين، فمكروا كل المكر وآذوا كل الإيذاء، وسعوا لإطفاء أنوار نزلت من السماء، فعجزوا عن ذلك، وجاء الحق وزهق الباطل، وظهر أمر الله ولو كانوا كارهين. فجاز أن يُقال إن أبا جهل وأمثاله كانوا سببا لظهور صدق المصطفى وإيمانه الطيب وأنواره العليا، فكذلك نقول إن دابّة الأرض التي هي خادمة الشيطان.. أعني التي تتكلم بالإست لا بالفم كالصالحين من نوع الإنسان.. هي تسم المؤمن بمعنى أنها تُظهر أنوار إيمانه كما أظهر أبو جهل أنوار إيمان خاتم النبيين. فتفكرْ ولا تكن كالمعتوه والمجانين”. (حمامة البشرى، ص 180 الحاشية)
بارك الله فيكم وزادكم نورا وتقوى وثبتنا واياكم