“والتوبة الحقيقية تجعل الإنسان محبوبًا لدى الله تعالى، وبسببها يوفَّق الإنسانُ للتقوى والطهارة، كما وعد الله تعالى في القرآن الكريم في قوله: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين).. أي أن الله تعالى يحب الذين يقومون بالتوبة ويتطهرون مما يدفع إلى الذنوب من أهواء. الحق أن التوبة لو تمت بحسب مقتضياتها الحقيقية لبذرت في الإنسان لتوِّها بذرة الطهارة التي تجعله وارثًا للحسنات، لذلك قال النبي ﷺ أيضا: “التائب من الذنب كمن لا ذنب له“.. أي تُغفر له الذنوب التي سبقت التوبة، ويعفو الله تعالى له بفضل منه عما كان عليه من قبل، وعن كلِّ ما وُجد في أعماله من تصرفات غير لائقة وغير متوازنة، ويعقد التائب عقدًا جديدًا للصلح مع الله تعالى، وتبدأ معاملته معه ﷻ من جديد. فلو تاب في حضرة الله بصدق القلب لزم عليه ألا يشرع في الذنوب من جديد، ولا يوسِّخ نفسه بأوساخ المعصية، بل يبقى متوجهًا إلى طهارته وتزكيته بالاستغفار والدعاء بصورة مستمرة، ويهتم دائمًا برضى الله تعالى، ويبقى نادمًا خجلًا على أحوال حياته السابقة.
هناك فترات كثيرة لحياة الإنسان، وكل فترة تتسم بأنواع عدة من الذنوب. منها فترة الشباب التي تتسم بالكسل والغفلة. ثم بعدها فترة أخرى من الحياة تصحبها شتى أنواع الذنوب كالخداع والغش والرياء. فلكل فترة من الحياة هناك ذنوب مختلفة تختص بها.
فمن فضل الله علينا أنه أبقى باب التوبة مفتوحًا، وأنه يغفر الذنوب للتائبين. وعن طريق التوبة يستطيع الإنسان أن يقيم الصلح مع الله تعالى مجددًا. إن الإنسان عندما يُدان بارتكاب جريمة فإنه يستوجب العقاب، كما قال الله تعالى: (إنه مَن يأتِ ربَّه مجرمًا فإن له جهنّمَ لا يموت فيها ولا يحيا). وهذه عقوبةُ جريمة واحدة، فما بالك بالذي ارتكب ألوفًا بل مئات الألوف من الجرائم. فإذا تمثَّل أحد أمام المحكمة وتمت إدانته أيضًا، ومع ذلك لو عفتْ عنه المحكمة، كم كانت منة الحاكم عليه كبيرة؟ فالتوبة هي بمثابة العفو الذي يتم بعد الإدانة. إن الله تعالى لا يلبث أن يغفر الذنوب إثر التوبة، لذا يجب على الإنسان أن يحاسب نفسه وينظر كم كان متورطًا في الذنوب، وكم استحق عليها من العقاب، ولكن الله تعالى عفا عنه بفضل منه.
فأنتم الذين قمتم بالتوبة الآن يجب أن تعوا حقيقة هذه التوبة، وتجنبوا جميع الذنوب التي كنتم متورطين فيها والتي قررتم تركها. يجب أن تتجنبوا كل الذنوب التي لها علاقة باللسان أو العين أو الأذن، إذ لكل عضوٍ ذنوبٌ تخصه. فإن الذنب سمٌّ يقتل الإنسانَ. إن سمَّ الذنوب يظل يتراكم يومًا بعد يوم، وفي النهاية يبلغ مقدارًا يقتل الإنسان. فالفائدة الأولى من البيعة هي أنها بمثابة الترياق لسم الذنوب، وتحمي من تأثيرها وتمحوها نهائيا. والفائدة الثانية هي أن البيعة التي تتم بصدق القلب على يد مأمور من الله تتسم بالقوة والطاقة. إن التوبة التي يقوم بها المرء بنفسه تنهار في معظم الأحيان، إذ يتوب مرارًا، ثم ينقض توبته مرارًا، ولكن التوبة التي يقوم بها على يد مأمور من الله بقلب صادق، فبما أنها تكون وفق إرادة الله تعالى لذا يقوي اللهُ صاحبَها من عنده، فيوهَب للثبات عليها قوةً من السماء. والفرق بين التوبة الذاتية والتوبة على يد المأمور من الله هو أن الأولى تكون ضعيفةً والثانيةَ قويةً، لأنها تكون مصحوبة بعناية المأمور الشخصية واجتذابِه وأدعيتِه التي تقوّي عزيمة التائب وتهبه قوة سماوية تتسبب في إحداث التغيير الطيب فيه، وتزرَع فيه بذرة الحسنة، فتصبح شجرة مثمرة في نهاية المطاف“. (جريدة “الحكم” مجلد 7، رقم 38، ص 2، عدد 17 أكتوبر 1903)