في عيد الأضحى المبارك بتاريخ 11 نيسان 1900م الموافق 10 ذو الحجة 1317هـ ألقى سيدنا المسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام خطبة باللغة العربية الفصيحة اشتهرت بـ “الخطبة الإلهامية” وقد بيَّن فيها حكمة القرابين وفلسفتها، وهي عبارة عن الباب الأول من الكتاب. أما الأبواب الأربعة الأخرى فقد ألّفها حضرته فيما بعد وألحقها بالخطبة الإلهامية، وقد ساق فيها الأدلة والبراهين من القرآن الكريم والاحاديث الشريفة على كونه المسيح الموعود والمهدي المنتظر، وألقى فيها الضوء أيضًا على حقيقة معراج النبي (صلى الله عليه وسلم).
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ نَحْمَدُهُ وَنُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ الْكَرِيمِ
يَا عِبَادَ اللهِ.. فَكِّرُوا في يَوْمِكُمْ هذا يَوْمِ الأَضْحَى، فَإِنَّهُ أُودِعَ أَسْرَارًا لأُولِي النُّهَى. وَتَعْلَمُونَ أَنَّ في هذا الْيَوْمِ يُضَحَّى بِكَثِيرٍ مِنَ الْعَجْمَاوَاتِ، وَتُنْحَرُ آبَالٌ مِنَ الْجِمَالِ وَخَنَاطِيلُ مِنَ الْبَقَرَاتِ، وَتُذْبَحُ أَقَاطِيعُ مِنَ الْغَنَمِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ رَبِّ الْكَائِنَاتِ، وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ مِن ابْتِدَاءِ زَمَانِ الإِسْلامِ، إِلَى هذِهِ الأَيَّامِ، وَظَنِّي أَنَّ الأَضَاحِي في شَرِيعَتِنَا الْغَرَّاءِ، قَدْ خَرَجَتْ مِنْ حَدِّ الإِحْصِاءِ، وَفَاقَتْ ضَحَايَا الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ مِنْ أُمَمِ الأَنْبِيَاءِ، وَبَلَغَتْ كَثْرَةُ الذَّبَائِحِ إِلَى حَدٍّ غُطِّيَ بِهِ وَجْهُ الأَرْضِ مِنَ الدِّمَاءِ، حَتَّى لَوْ جُمِعَتْ دِمَاؤُهَا وَأُرِيدَ إِجْرَاؤُها، لَجَرَتْ مِنْهَا الأَنْهَارُ، وَسَالَتِ الْبِحَارُ، وَفَاضَتِ الْغُدْرُ وَالأَوْدِيَةُ الْكِبَارُ.
وَقَدْ عُدَّ هذا الْعَمَلُ في مِلَّتِنَا مِمَّا يُقَرِّبُ إِلَى اللهِ سُبْحَانَه، وَحُسِبَ كَمَطِيئَةٍ تُحَاكِي الْبَرْقَ في السَّيْرِ وَلُمْعَانَه؛ فَلأَجْلِ ذَلِكَ سُمِّيَ الضَّحَايَا قُرْبَانًا، بِمَا وَرَدَ أَنَّهَا تَزِيدُ قُرْبًا وَلُقْيَانًا، كُلَّ مَنْ قَرَّبَ إِخْلاَصًا وَتَعَبُّدًا وَإِيمَانًا. وَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ نُسُكِ الشَّرِيعَةِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ بِالنَّسِيكَةِ. وَالنُّسُكُ الطَّاعَةُ وَالْعِبَادَةُ في اللِّسَانِ الْعَرَبِيَّةِ، وَكَذَلِكَ جَاءَ لَفْظُ النُّسُكِ بِمَعْنَى ذَبْحِ الذَّبِيحَةِ. فَهذا الاشْتِرَاكُ يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى أَنَّ الْعَابِدَ في الْحَقِيقَةِ، هُوَ الَّذِي ذَبَحَ نَفْسَهُ وَقُوَاهُ وَكُلَّ مَنْ أَصْبَاهُ لِرِضَى رَبِّ الْخَلِيقَةِ، وَذَبَّ الْهَوَى حَتَّى تَهَافَتَ وَانْمَحَى، وَذَابَ وَغَابَ وَاخْتَفَى، وَهَبَّتْ عَلَيْهِ عَوَاصِفُ الْفَنَاءِ، وَسَفَتْ ذَرَّاتِهِ شَدَائِدُ هذِهِ الْهَوْجَاءِ. وَمَنْ فَكَّرَ في هَذَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ الْمُشْتَرَكَيْنِ، وَتَدَبَّرَ الْمَقَامَ بِتَيَقُّظِ الْقَلْبِ وَفَتْحِ الْعَيْنَيْنِ، فَلا يَبْقَى لَهُ خِفَاءٌ وَلا مِرَاءٌ، في أَنَّ هذا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ الْمُنْجِيَةَ مِنَ الْخَسَارَةِ، هِيَ ذَبْحُ النَّفْسِ الأَمَّارَةِ، وَنَحْرُهَا بِمُدَى الانْقِطَاعِ إِلَى اللهِ ذِي الآلاءِ وَالأَمْرِ وَالإِمَارَةِ، مَعَ تَحَمُّلِ أَنْوَاعِ الْمَرَارَةِ، لِتَنْجُوَ النَّفْسُ مِنْ مَوْتِ الْغَرَارَةِ. وَهذا هُوَ مَعْنَى الإِسْلامِ، وَحَقِيقَةُ الانْقِيَادِ التَّامِّ. وَالْمُسْلِمُ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَهُ نَحَرَ نَاقَةَ نَفْسِهِ وَتَلَّهَا لِلْجَبِينِ، وَمَا نَسِيَ الْحَيْنَ في حِينٍ.
فَحَاصِلُ الْكَلامِ.. أَنَّ النُّسُكَ وَالضَّحَايَا في الإِسْلامِ، هِيَ تَذْكِرَةٌ لِهذا الْمَرَامِ، وَحَثٌّ عَلَى تَحْصِيلِ هذا المَقَامِ، وَإِرْهَاصٌ لِحَقِيقَةٍ تَحْصُلُ بَعْدَ السُّلُوكِ التَّامِّ. فَوَجَبَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَّمُؤْمِنَةٍ كَانَ يَبْتَغِي رِضَاءَ اللهِ الْوَدُودِ، أَنْ يَفْهَمَ هذِهِ الْحَقِيقَةَ وَيَجْعَلَهَا عَيْنَ الْمَقْصُودِ، وَيُدْخِلَهَا في نَفْسِهِ حَتَّى تَسْرِيَ في كُلِّ ذَرَّةِ الْوُجُودِ، وَلا يَهْدَأ وَلا يَسْكُن قَبْلَ أَدَاءِ هذِهِ الضَّحِيَّةِ لِلرَّبِّ الْمَعْبُودِ، وَلا يَقْنَع بِنَمُوذَجٍ وَقِشْرٍ كَالْجُهَلاءِ وَالْعُمْيَانِ، بَلْ يُؤَدِّي حَقِيقَةَ أَضْحَاتِهِ، وَيَقْضِي بِجَمِيعِ حَصَاتِهِ وَرُوحِ تُقَاتِهِ، رُوحَ الْقُرْبَانِ. هذا هُوَ مُنْتَهَى سُلُوكِ السَّالِكِينَ، وَغايَةُ مَقْصِدِ الْعَارِفِينَ، وَعَلَيْهِ يَخْتَتِمُ جَمِيعُ مَدَارِجِ الأَتْقِيَاءِ، وَبِهِ يَكْمُلُ سَائِرُ مَرَاحِلِ الصِّدِّيقِينَ وَالأَصْفِيَاءِ، وَإِلَيْهِ يَنْتَهِي سَيْرُ الأَوْلِيَاءِ.
وَإِذَا بَلَغْتَ إِلَى هذا فَقَدْ بَلَّغْتَ جُهْدَكَ إِلَى الانْتِهَاءِ، وَفُزْتَ بِمَرْتَبَةِ الْفَنَاءِ، فَحِينَئِذٍ تَصِلُ شَجَرَةُ سُلُوكِكَ إِلَى أَتَمِّ النَّمَاءِ، وَتَبْلُغُ عُنُقُ رُوحِكَ إِلَى لُعَاعِ رَوْضَةِ الْقُدْسِ وَالْكِبْرِيَاءِ، كَالنَّاقَةِ الْعَنْقَاءِ، إِذَا أَوْصَلَتْ عُنُقَهَا إِلَى الشَجَرَةِ الْخَضْرَاءِ. وَبَعْدَ ذَلِكَ جَذَبَاتٌ وَنَفَحَاتٌ وَتَجَلِّيَاتٌ مِنَ الْحَضْرَةِ الأَحَدِيَّةِ، لِيَقْطَعَ بَعْضَ بَقَايَا عُرُوقِ الْبَشَرِيَّةِ. وَبَعْدَ ذَلِكَ إِحْيَاءٌ، وَإِبْقَاءٌ وَإِدْنَاءٌ، لِلنَّفْسِ الْمُطْمَئِنَّةِ الرَّاضِيَةِ الْمَرْضِيَّةِ الْفَانِيَةِ، لِيَسْتَعِدَّ الْعَبْدُ لِقَبُولِ الْفَيْضِ بَعْدَ الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ.
وَبَعْدَ ذَلِكَ يُكْسَى الإِنْسَانُ الْكَامِلُ حُلَّةَ الْخِلافَةِ مِنَ الْحَضْرَةِ، وَيُصَبَّغُ بِصِبْغِ صِفَاتِ الأُلُوهِيِّةِ، عَلَى وَجْهِ الظِّلِّيَّةِ، تَحْقِيقًا لِمَقَامِ الْخِلافَةِ. وَبَعْدَ ذَلِكَ يَنْزِلُ إِلَى الْخَلْقِ لِيَجْذِبَهُمْ إِلَى الرُّوحَانِيَّةِ، وَيُخْرِجَهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ الأَرْضِيَّةِ إِلَى الأَنْوَارِ السَّمَاوِيَّةِ، وَيُجْعَلُ وَارِثًا لِكُلِّ مَنْ مَضَى مِنْ قَبْلِهِ مِنَ النَّبِيّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّرَايَةِ، وَشُمُوسِ الْقُرْبِ وَالْوَلايَةِ، وَيُعْطَى لَهُ عِلْمُ الأَوَّلِينَ وَمَعَارِفُ السَّابِقِينَ مِنْ أُولِي الأَبْصارِ وَحُكَماءِ الْمِلَّةِ، تَحْقِيقًا لِمَقَامِ الْورَاثَةِ.
ثُمَّ يَمْكُثُ هذا الْعَبْدُ في الأَرْضِ إِلَى مُدَّةٍ شَاءَ رَبُّهُ رَبُّ الْعِزَّةِ، لِيُنِيرَ الْخَلْقَ بِنُورِ الْهِدَايَةِ. وَإِذَا أَنَارَ النَّاسَ بِنُورِ رَبِّهِ أَوْ بَلَّغَ الأَمْرَ بِقَدرِ الْكِفَايَةِ، فَحِينَئِذٍ يَتِمُّ اسْمُهُ وَيَدْعُوهُ رَبُّهُ وَيُرْفَعُ رُوحُهُ إِلَى نُقْطَتِهِ النَّفْسِيَّةِِِ. وَهذا هُوَ مَعْنَى الرَّفْعِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَالْمَرْفُوعُ مَنْ يُسْقَى كَأْسَ الْوِصَالِ، مِنْ أَيْدِي الْمَحْبُوبِ الَّذِي هُوَ لُجَّةُ الْجَمَالِ، وَيُدْخَلُ تَحْتَ رِدَاءِ الرُّبُوبِيَّةِ مَعَ الْعُبُودِيَّةِ الأَبَدِيَّةِ. وَهذا آخِرُ مَقَامٍ يَبْلُغُهُ طَالِبُ الْحَقِّ في النَّشْأَةِ الإِنْسِانِيَّةِ.
فَلا تَغْفَلُوا عَنْ هذا الْمَقَامِ يَا كَافَّةَ الْبَرَايَا، وَلا عَنِ السِّرِّ الَّذِي يُوجَدُ في الضَّحَايَا، وَاجْعَلُوا الضَّحَايَا لِرُؤْيَةِ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ كَالْمَرَايَا، وَلا تَذْهَلُوا عَنْ هذِهِ الْوَصَايَا، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا رَبَّهُمْ وَالْمَنَايَا.
وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى هذا السِّرِّ الْمَكْتُومِ، في كَلامِ رَبِّنَا الْقَيُّومِ، فَقَالَ وَهُوَ أَصْدَقُ الصَّادِقينَ (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 163). فَانْظُرْ كَيْفَ فَسَّرَ النُّسُكَ بِلَفْظِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى حَقِيقَةِ الأَضْحَاةِ، فَفَكِّرُوا فِيهِ يَا ذَوِي الْحَصَاةِ. وَمَنْ ضَحَّى مَعَ عِلْمِ حَقِيقَةِ ضَحِيَّتِهِ، وَصِدْقِ طَوِيَّتِهِ، وَخُلُوصِ نِيَّتِهِ، فَقَدْ ضَحَّى بِنَفْسِهِ وَمُهْجَتِهِ، وَأَبْنَائِهِ وَحَفَدَتِهِ، وله أجرٌ عظيم، كأجرِ إبراهيم عند ربه الكريم. وإليه أشار سيّدُنا المصطفى، ورسولنا المجتبى، وإمام المتقين، وخاتم النبيين، وقال وهو بعد الله أصدقُ الصادقين: إن الضحايا هي المطايا، تُوصِل إلى ربِّ البرايا، وتمحو الخطايا، وتدفع البلايا. هذا ما بلغَنا مِن خير البريّة، عليه صلوات الله والبركات السنيّة، وإنه أومأَ فيه إلى حِكَمِ الضحيّةِ، بكلمات كالدرر البهيّة.
فالأسف كل الأسف أن أكثر الناس لا يعلمون هذه النكاتِ الخفيّةَ، ولا يتّبعون هذه الوصيّة. وليس عندهم معنى العيد، مِن دون الغسلِ ولَبْسِ الجديد، والخَضْمِ والقَضْمِ مع الأهل والخدم والعبيد، ثم الخروج بالزينة للتعييد كالصناديد. وترى الأطائبَ من الأطعمة منتهى طَرَبِهم في هذا اليوم، والنفائسَ من الألبسة غايةَ أَرَبِهم لإراءة القوم. ولا يَدْرون ما الأَضْحاةُ، ولأَيِّ غرضٍ يُذبَح الغنمُ والبقرات. وعندهم عيدُهم من البُكرة إلى العشيّ، ليس إلا للأكل والشرب والعيش الهنيّ، واللباس البهيّ، والفرس الشريّ، واللحم الطريّ. وما ترى عَمَلَهم في يومهم هذا إلا اكتساءَ الناعماتِ، والمشطَ والاكتحالَ وتضميخَ الملبوسات، وتسويةَ الطُرَر والذوائب كالنساء المتبرجات، ثم نقراتٍ كنقرةِ الدجاجة في الصلاة، مع عدم الحضور وهجومِ الوساوس والشتات، ثم التمايلَ إلى أنواع الأغذية والمطعومات، ومَلْءِ البطونِ بألوان النِّعَم كالنَّعَم والعجماوات، والميلَ إلى الملاهي والملاعب والجهلات، وسَرْح النفوس في مراتع الشهوات، والركوبَ على الأفراس والعجل والعَناسِ، والجِمال والبِغال ورقاب الناس، مع أنواع من التزيينات، وإفناءَ اليوم كله في الخزعبيلات، والهدايا من القلايا، والتفاخر بلحوم البقرات والجدايا، والأفراح والمِراح، والجذبات والجِماح، والضحك والقهقهة، بإبداء النواجذ والثنايا، والتشوق إلى رقص البغايا، وبوسِهن وعِناقهن، وبعد هذا نِطاقِهن.
فإنا لله على مصائب الإسلام، وانقلاب الأيام! ماتت القلوب، وكثرت الذنوب، واشتدت الكروب. فعند هذه الليلة الليلاء، وظلماتِ الهوجاء، اقتضى رحمُ الله نورَ السماء[1]. فأنا ذلك النور، والمجدِّد المأمور، والعبد المنصور، والمهدي المعهود، والمسيح الموعود. وإني نزلتُ بمنـزلةٍ مِن ربي لا يعلَمها أحد من الناس. وإن سِرِّي أَخفَى وأَنْأَى مِن أكثر أهل الله فضلاً عن عامة الأناس. وإن مقامي أبعدُ من أيدي الغوّاصين، وصعودي أرفعُ من قياس القائسين. وإن قدمي هذه أسرعُ من القِلاص في مسالك رب الناس. فلا تقيسوني بأحد ولا أحدًا بي، ولا تُهلِكوا أنفسكم بالريب والعَماس. وإني لُبٌّ لا قشرَ معه، وروحٌ لا جسدَ معه، وشمس لا يحجبها دخانُ الشِّماس. واطلبوا مثلي، ولن تجدوه وإن تطلبوه بالنبراس. ولا فخرَ، ولكن تحديث لنعم الله الذي هو غارس لهذا الغراس. وإني غُسّلتُ بماء النور، وطُهّرتُ بعين القُدسِ من الأوساخ والأدناس، وسمّاني ربي أحمدَ، فاحمَدُوني ولا تشتموني ولا تُوصِلوا أمركم إلى الإبلاس. ومَن حمدني وما غادرَ مِن نوعِ حمدٍ فما مانَ، ومَن كذّب هذا البيانَ فقد مانَ وأغضبَ الرحمنَ. فويلٌ للذي شَكَّ، وفسَخ العهدَ وفَكَّ، ولوَّث بطائفٍ من الجنّ الجَنانَ.
وإني جئت من الحضرة الرفيعة العالية، ليُرِيَ بي ربي مِن بعض صفاته الجلالية والجمالية، أعني دَفْعَ الضير، وإفاضةَ الخير. فإن الزمان كان محتاجا إلى دافعِ شرٍّ طَغى، وإلى رافعِ خيرٍ انحطّ واختفى، فاقتضت العنايةُ الإلهية أن يُعطَى الزمانُ ما سأل بلسان الحال، ويُرحَم طبقاتُ النساء والرجال، فجعَلني مَظْهَرَ المسيحِ عيسى ابنِ مريم لدفعِ الضرِّ وإبادةِ مَوادِّ الغوايةِ، وجعلني مظهرَ النبيِّ المهديِّ أحمَدَ أكرَمَ لإفاضةِ الخير وإعادةِ عِهادِ الدراية والهداية، وتطهيرِ الناس من درن الغفلة والجِناية. فجئتُ في الحُلّتَين المَهْزُودتين المصبَّغتين بصبغ الجلال وصبغ الجمال، وأُعطيتُ صفةَ الإفناء والإحياء من الربّ الفعّال. فأما الجلال الذي أُعطيتُ فهو أثرٌ لِبُروزي العِيسويِّ من الله ذي الجلال[2]، لأُبيدَ به شَرَّ الشِّركِ الموّاج الموجود في عقائد أهل الضلال، المشتعلِ بكمال الاشتعال، الذي هو أكبر من كل شرّ في عين الله عالِم الأحوال، ولأَهْدِمَ به عمودَ الافتراء على الله والافتعال.
وأما الجمال الذي أُعطيتُ فهو أثرٌ لِبُروزي الأحمديِّ من الله ذي اللطف والنوال، لأُعيدَ به صلاح التوحيد المفقود من الألسن والقلوب والأقوال والأفعال، وأقيمَ به أَمْرَ التديّن والانتحال.
وأُمرتُ أن أقتل[3] خنازير الإفساد والإلحاد والإضلال، الذين يدوسون دُرَرَ الحقِّ تحت النعال، ويُهلِكون حرث الناس ويُخْرِبون زروع الإيمان والتورع والأعمال. وقتلي هذا بحربة سماوية لا بالسيوف والنِّبال، كما هو زعم المحرومين من الحق وصدق المقال، فإنهم ضلّوا وأضلّوا كثيرًا من الجهّال. وإن الحرب حُرّمتْ عليّ، وسبق لي أن أضع الحرب ولا أتوجه إلى القتال. فلا جهادَ إلا جهاد اللسان والآيات والاستدلال.
وكذلك أُمرتُ أن أملأ بيوتَ المؤمنين وجُرُبَهم من المال، ولكن لا باللُّجَين والدجّال، بل بمال العلم والرشد والهداية واليقين على وجه الكمال، وجعلِ الإيمان أثبَتَ من الجبال، وتبشيرِ المُثقَلِين تحت الأثقال.
فبشرى لكم قد جاءكم المسيح، ومسَحه القادرُ وأعطى له الكلام الفصيح، وإنه يعصمكم مِن فِرقةٍ هي للإضلال تسيح، وإلى الله يدعو ويصيح، وكلَّ شبهةٍ يُزيل ويُزيح. وطوبى لكم قد جاءكم المهدي المعهود، ومعه المال الكثير والمتاع المنضود، وإنه يسعى ليردَّ إليكم الغنى المفقودَ، ويستخرجَ الإقبالَ الموءودَ. ما كان حديثًا يفترى، بل نور من الله مع آيات كبرى.
أيها الناس.. إني أنا المسيح المحمدي، وإني أنا أحمَدُ المهدي، وإن ربي معي إلى يوم لَحْدي من يومِ مهدي. وإني أُعطيتُ ضِرامًا أكّالاً، وماءً زُلالاً، وأنا كوكبٌ يمانيّ، ووابلٌ روحانيّ. إيذائي سِنانٌ مذرَّب، ودعائي دواءٌ مجرَّب. أُرِي قومًا جلالا، وقومًا آخرين جمالا، وبِيَدِي حربةٌ أُبيدُ بها عاداتِ الظلم والذنوب، وفي الأخرى شربةٌ أُعيدُ بها حياةَ القلوب. فاسٌ للإفناء، وأنفاسٌ للإحياء. أما جلالي فبما قُصِدَ كابن مريم استيصالي، وأما جمالي فبما فارتْ رحمتي كسَيِّدي أحمَدَ لأَهدِيَ قومًا غفلوا عن الربّ المتعالي.
أفأنتم تعجَبون، وإلى الزمان وضرورته لا تلتفتون؟ ألا ترون إلى زمانٍ احتاج إلى الربّ الفعّال، ليُرِيَ لقومٍ صفةَ جلاله وللآخرين صفةَ الجمال؟ وقد ظهرت الآياتُ، وتبيّنت العلامات، وانقطعت الخصومات، فما لكم لا تنظرون؟ وانكسفت الشمسُ والقمر في رمضان فلا تعرفون. ومات بعض الناس بنبأٍ من الله وقُتِلَ البعض فلا تُفكِّرون. ونزلتْ لي آيٌ كثيرة فلا تبالون. وشهدتْ لي الأرض والسماء، والماء والعَفاء فلا تخافون. وتظاهَرَ لي العقلُ والنقل والعلامات والآيات، وتظاهرت الشهاداتُ والرؤيا والمكاشفات، ثم أنتم تنكرون. وإن لها شأنا عظيما لقوم يتدبرون. وطلَع ذو السِّنينَ، ومضى من هذه المائة خُمْسُها إلا قليل من سنين، فأين المجدِّد إن كنتم تعلمون؟ ونزل من السماء الطاعونُ، ومُنِعَ الحجُّ وكثُر المَنونُ، واختصمَ الفِرقُ على معدنٍ من ذهبٍ وهم يقاتلون. وعلا الصليب، وأضحى الإسلام يسيب ويغيب كأنه الغريب، وكثُر الفسق والفاسقون. وحُبِّبَ إلى النفوس الخمرُ والقَمْرُ والزَّمْرُ، وتراءَى الزانون المجالحون وقَلَّ المتّقون، وتجلَّى وقتُ ربّنا وتمّ ما قال النبيون، فبأي حديث بعده تؤمنون؟
أيها الناس، قُوموا للهِ زُرافاتٍ وفُرادى فُرادى، ثم اتّقوا اللهَ وفَكِّروا كالذي ما بخل وما عادى، أليس هذا الوقت وقتَ رحمِ الله على العباد، ووقتَ دفعِ الشرّ وتدارُكِ عَطَشِ الأكباد بالعِهاد؟ أليس سيلُ الشرِّ قد بلَغ انتهاءَه، وذيلُ الجهلِ طوَّل أرجاءَه، وفسَد المُلك كله وشكَر إبليسُ جهلاءَه؟ فاشكروا اللهَ الذي تَذكَّرَكم وتذكَّرَ دينَكم وما أضاعَه، وعصَم حَرْثَكم وزرعكم ولُعاعَه، وأنزلَ المطر وأكمل أبضاعَه، وبعَث مسيحَه لدفع الضير، ومهديَّه لإفاضة الخير، وأدخلَكم في زمانِ إمامكم بعد زمان الغير.
أيها الإخوان.. إن زماننا هذا يضاهي شَهْرَنا هذا بالتناسب التام، فإنه آخرُ الأزمنة، وإن هذا الشهر آخرُ الأشهر من شهور الإسلام، وكلاهما قريب من الاختتام، في هذا ضحايا وفي ذلك ضحايا، والفرقُ فرقُ الأصل وعكس المرايا، وقد سبق نموذجُها في زمن خير البرايا. والأصل ضحيّةُ الروح يا أولي الأبصار، وإن ضحايا الجدايا كالأظلال والآثار، فافهموا سِرَّ هذه الحقيقة، وأنتم أحقّ بها وأهلُها بعد الصحابة. وإنكم الآخرون منهم، أُلْحِقتم بهم بفضل من الله والرحمة.
وإن سلسلة الأزمنة خُتمتْ على زماننا من حضرة الأحديّة، كما خُتمتْ شهور الإسلام على شهر الضحيّة، وفي هذا إشارة مخفية لأهل الرأي والرويّة.
وإني على مقام الختم من الولاية، كما كان سيدي المصطفى على مقام الختم من النبوة. وإنه خاتم الأنبياء، وأنا خاتم الأولياء، لا وليَّ بعدي، إلا الذي هو مني وعلى عهدي. وإني أُرسلتُ من ربي بكل قوة وبركة وعزة، وإن قدمي هذه على منارةٍ خُتِمَ عليها كلُّ رفعة. فاتقوا الله أيها الفتيان، واعرفوني وأطيعوني ولا تموتوا بالعصيان. وقد قرُب الزمان، وحان أن تُسأل كلُّ نفس وتُدانُ. البلايا كثيرة ولا ينجيكم إلا الإيمان، والخطايا كبيرة ولا تُذوِّبُها إلا الذَّوَبانُ. اتّقُوا عذابَ الله أيها الأعوان، ولمن خاف مقامَ ربّه جنّتان. فلا تقعُدوا مع الغافلين والذين نسوا المنايا، وسارِعوا إلى الله واركَبوا على أعدى المطايا، واتركوا ذواتِ الضَّلْعِ والرذايا، تصِلوا إلى ربّ البرايا. خُذوا الانقطاعَ الانقطاعَ ليوهَب لكم الوصلُ والاقترابُ، وكَسِّروا الأسبابَ ليُخلَق لكم الأسبابُ، ومُوتوا ليُرَدَّ إليكم الحياةُ أيها الأحباب.
اليوم تمّت الحجّةُ على المخالفين، وانقطعتْ معاذير المعتذرين، ويئِس منكم زُمَرُ المضلِّين والموسوسين، الذين أكلوا أعمارهم في ابتغاء الدنيا وليس لهم حظّ من الدين، بل هم كالعَمِين. فاليوم أنقضَ الله ظهورَهم ورجعوا يائسين. اليوم حصحص الحق للناظرين، واستبان سبيل المجرمين، ولم يبقَ مُعرِض إلا الذي حبَسه حرمانٌ أزليّ، ولا منكِرٌ إلا الذي منَعه عدوانٌ فطريّ، فنترك هؤلاء بسلام، وقد تمّ الإفحام، وتحقّقَ الأَثام، وإن لم ينتهوا فالصبر جدير، وسوف ينبّئهم خبير.
[1] – هنا في الأصل حاشية بالأردية، ونقدّم فيما يلي تعريبها: (الناشر)
“وما ورد في الأحاديث أن المسيح الموعود نازل، فلفظ النـزول قد اختيرَ للإشارة إلى أنه سيأتي في زمن تحيط فيه الظلمة بالأرض كلها، وترتفع منها الديانةُ والأمانة والصدق، وتمتلئ ظلمًا وجورًا، فيُنـزل الله من السماء نورا ينير به الأرض ثانيةً. إنه سينـزل مِن فوق لأن النور ينـزل من فوق دائما. وقد وُصف زمان المسيح الموعود بأنه ستنقطع فيه أسباب نشر الإسلام كلها، ولن تكون للمسلمين يدانِ، لأن غيرة الله تريد إزالة الاعتراض القائل أن الإسلام قد انتشر بحد السيف. فالأمرُ في زمن المسيح الموعود أن ترجع السيوف إلى الأغماد، فلا يرفع أحد السيف لنشر الدين، ومَن رفعه هُزم على أيدي الكفار هزيمة نكراء، ولقيَ الذل والهوان. فكما أن جماعة موسى u التي أخرجها من مصر هُزمت دائمًا في حروب لم تكن موافقة لمشيئة موسى، فهكذا سيكون الحال الآن أيضا، لأن نزول المسيح الموعود من السماء يرمز إلى أن يده لن تلمس أسباب الأرض، وإنما يروي بستان الإسلام بماء السماء فقط، لأن الله تعالى يريد الآن أن يُري معجزةَ أن الإسلام ليس بحاجة إلى سيف أو أسباب بشرية لانتشاره، فمن يرفع السيف بعد هذا النهي الصريح الوارد في حديث “يضع الحرب” ويريد أن يكون من الغزاة، فكأنما يريد أن يجعل تلك المعجزة التي يريد الله إظهارها الآن مشتبهة، أي أنه I يريد أن يجعل الإسلام غالبا على الأرض ومحبوبا الى الخلائق من دون أسباب بشرية”. منه
[2] – قد قلتُ غيرَ مرة إني ما أتيتُ بالسيف ولا السِّنان، وإنما أتيتُ بالآيات والقوّة القدسية وحسن البيان، فجلالي من السماء لا بالجنود والأعوان. منه
[3] – اللفظ لفظ الحديث كما جاء في البخاري، والمراد من القتل إتمام الحجة وإبطال الباطل بالدلائل القاطعة والآيات السماوية، لا القتل حقيقةً. منه
لقراءة الكتاب كاملا، نرجو الضغط على الرابط التالي: الخطبة الإلهامية
اليوم تمّت الحجّةُ على المخالفين، وانقطعتْ معاذير المعتذرين، ويئِس منكم زُمَرُ المضلِّين والموسوسين، الذين أكلوا أعمارهم في ابتغاء الدنيا وليس لهم حظّ من الدين، بل هم كالعَمِين. فاليوم أنقضَ الله ظهورَهم ورجعوا يائسين. اليوم حصحص الحق للناظرين، واستبان سبيل المجرمين، ولم يبقَ مُعرِض إلا الذي حبَسه حرمانٌ أزليّ، ولا منكِرٌ إلا الذي منَعه عدوانٌ فطريّ، فنترك هؤلاء بسلام، وقد تمّ الإفحام، وتحقّقَ الأَثام، وإن لم ينتهوا فالصبر جدير، وسوف ينبّئهم خبير.