من أقوال المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام عن سباقية القرآن الكريم وأولوية تفويضه على الحديث والتراث، يقول حضرته:
القرآن قاض على الحديث
“اعلم، أن مدار النجاة تعليم القرآن، ولا يدخل أحد الجنة أو النار إلا من أدخله القرآن، ولا يبقى في النار إلا من قد حبسه كتاب الله، فاعتصموا بكتاب فيه نجاتكم وقوموا لله قانتين. وقد قال رسول الله ﷺ في آخر وصاياه التي تُوفي بعدها: خذوا بكتاب الله واستمسِكوا به، وأوصى بكتاب الله. وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسولكم فخُذوا به تهتدوا. ما عندنا شيء إلا كتاب الله، فخذوا بكتاب الله. حسبكم القرآن. ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل. قضاء الله أحق. حسبنا كتاب الله. انظروا صحيح البخاري ومسلم، فإن هذه الأحاديث كلها موجودة فيهما، وقال صاحب “التلويح”: إنما خبر الواحد يُرَدّ مِن معارضة الكتاب. واتفق أهل الحق على أن كتاب الله مقدَّم على كل قول، فإنه كتاب أُحكمت آياته، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد حفظه الله وعصمه، وما مسّه أيدي الناس، وما اختلط فيه شيء من أقوال المخلوقين”. (حمامة البشرى، ص 110)
“ومن التعاليم الضرورية لكم هو أن لا تتخذوا القرآن الكريم مهجورًا، فإنّ لكم في القرآن وحده حياةً. مَن يُكرِم القرآنَ يُكرَم في السماء، ومَن يؤْثر القرآن على كل حديث وعلى كل قول سيُؤثَرُ في السماء. الآن لا كتابَ لبني نوع الإنسان على ظهر البسيطة إلا القرآن، ولا رسولَ ولا شفيعَ لبني آدم إلا محمد المصطفى ﷺ، لذلك فاجتهِدوا أن تصِلوا نبيَّ الجاه والجلال هذا بآصرة الحبّ الصادق، ولا تفضّلوا عليه سواه بأيّ شكل، لكي تُعَدّوا في السماء من زمرة الناجين”. (سفينة نوح، الخزائن الروحانية، مجلد 19 ص 13-14)
“فكيف نترك القرآن وشهاداته؟ وأيّ شهادة أكبر من شهادة الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟ فهل تريد – أصلحك الله – دليلا أوضح من هذا؟ فالأنسب والأولى أن يُعرَض غيرُ القرآن على القرآن، ولو كان حديث رسول الله ﷺ، أو كشف وليّ، أو إلهام قُطْب، فإن القرآن كتاب قد كفَل الله صحّتَه، وقال: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، وإنه لا يتغير بتغيُّرات الأزمنة ومرور القرون الكثيرة، ولا ينقص منه حرف ولا تزيد عليه نقطة، ولا تمسّه أيدي المخلوق، ولا يُخالطه قول الآدميين.
ومع ذلك لا شك أن القرآن وحي متلوٌّ، وكله متواتر قطعي، حتى النقاط والحروف، وأنزله الله باهتمام شديد كامل بحراسة الملائكة. ثم ما ترَك النبي ﷺ دقيقة من الاهتمامات في أمره، وداومَ على أن يكتب أمام عينه آيةً آية كما كان ينـزل حتى جمَع كله، ورتَّب الآيات وجمَعها بنفسه النفيسة، وكان يُداوم على قراءته في الصلاة وغيرها، حتى ارتحل من دار الدنيا ولحِق بالرفيق الأعلى، ولاقى محبوبه رب العالمين. ثم بعد ذلك قام الخليفة الأول أبو بكر الصدّيق ؓ لتعهُّد جميعِ سوره بترتيب سمع من النبي ﷺ، ثم بعد الصدّيق الأكبر وفّق الله الخليفة الثالث فجمَع القرآن على قراءة واحدة بحسب لغة قريش وأشاعه في البلاد. ومع ذلك كان الصحابة كلهم يقرأون القرآن كالحفّاظ، وكان كثير منه في صدور المؤمنين، وكانوا يقرأونه في الصلاة وخارجها، بل كانوا بعضهم حافظ القرآن كله، وكانوا يتلونه في آناء الليل والنهار، وكانوا على تلاوته مداومين”. (حمامة البشرى، ص 61-62)
“ولا شك أن للأحاديث شأنا عظيما، وهي حاملة لتواريخ الإسلام ولأكثر مسائل الدين وجزئياته، ونُعظّمها ونعزّها ونقبَلها بالرأس والعين، ولكنّا لا نقدّمها على كتاب الله الإمام المهيمن، وإذا تخالَفَ الحديث والفرقان في أمر من القصص فنُشهِد الثَّقَلينِ أنَّا مع الفرقان ولا نبالي طعن الطاعنين. ونعلم أن الخير كله والسلامة كلها في جَعْل القرآن معيارا لمثل هذه الأخبار، فالقانون الصحيح العاصم من الخطأ أن نعرِض كل قصة على القرآن، فإن كان ذكرُها في القرآن أو ذكرُ أمر يُشاكلها ويُشابهها فيُقبَل ويُؤمَن به ويُعتقد عليه، وإن لم يوجد شبيه في القرآن، لا في هذه الأُمّة ولا في أمم أخرى، بل يوجد فيه شيء يعارضه، فمن الواجب أن لا يُقبَل مثل هذه القصص إلا في زيّ التأويل”. (حمامة البشرى، ص 63)
“وآمنَّا بالفرقان أنه من الله الرحمن، ولا نقبل كلَّ ما يعارض الفرقانَ ويخالف بيِّناتِه ومحكَماته وقصصَه، ولو كان أمرًا عقليًّا أو كان من الآثار التي سمَّاها أهل الحديث حديثا، أو كان من أقوال الصحابة أو التابعين؛ لأن الفرقان الكريم كتاب قد ثبت تواتره لفظًا لفظًا، وهو وحيٌ متلُوٌّ قطعي يقيني، ومَن شكَّ في قطعيتِه فهو كافر مردود عندنا ومن الفاسقين. والقرآن مخصوص بالقطعية التامة، ولـه مرتبة فوق مرتبةِ كلِّ كتاب وكل وحي. ما مسَّه أيدي الناس. وأما غيره من الكتب والآثار فلا يبلغ هذا المقامَ. ومن آثَرَ غيرَه عليه فقد آثر الشك على اليقين”. (تحفة بغداد، باقة من بستان المهدي، ص 34)
ثم الحديث حديث آل محمد شرحًا لما يتلى من الفرقانِ
(نور الحق، ص 166)
“لقد تناهى إلى سمعي أن بعضًا منكم لا يؤمن بالحديث مطلقًا، فإن كانوا كذلك فإنهم مخطئون خطأ كبيرًا. ما علّمْتُ هذا الاعتقاد، بل إن مذهبي هو أن الله أعطاكم لهدايتكم ثلاثة أشياء؛ الأول هو القرآن… لذلك فكونوا حذرين ولا تخْطُوا خطوةً واحدة خلاف تعليم الله وهدْي القرآن. أقول والحق أقول لكم إن من يُعرض عن أصغر أمر من أوامر القرآن السبعمئة فإنه بيده يسدّ على نفسه باب النجاة. إن القرآن قد فتح سبل النجاة الحقيقية والكاملة، أما ما سواه فليس إلاّ ظلاًّ له. لذلك فاقرؤوا القرآن بتدبر، وأحِبّوه حبًّا جمًّا، حبًّا ما أحببتموه أحدًا، لأن الله قد خاطبني بقوله: “الخير كله في القرآن”. ووالله إن هذا لهو الحق. فوا أسفًا على الذين يقدّمون عليه غيرَه. إنّ مصدرَ فلاحِكم ونجاتكم كله في القرآن. وما من حاجة من حاجاتكم الدينية إلا توجد في القرآن. وإن القرآن لَهُو المصدّق أو المكذّب لإيمانكم يوم القيامة. ولا يستطيع كتاب غير القرآن -تحت أديم السماء- أن يهديكم بلا واسطة القرآن. لقد أحسن الله بكم إحسانًا عظيمًا إذ أعطاكم كتابًا مثل القرآن. أقول لكم صدقًا وحقًا إن الكتاب الذي يُتلى عليكم لو تُلي على النصارى لما هلكوا، وإنّ هذه النعمة والهداية التي أوتيتموها لو أوتيها اليهود مكان التوراة لما كفر بعضُ فِرَقهم بيوم القيامة. فاقدروا هذه النعمة التي أوتيتموها. إنها لَنعمة غالية جدًّا، وما أعظمَها من ثروة! لو لم يأت القرآن لكانت الدنيا بحذافيرها كمضغة قذرة. إن القرآن هو ذلك الكتاب الذي لا تساوي جميع الهدايات إزاءه شيئًا”. (سفينة نوح، الخزائن الروحانية، مجلد 19 ص 26-27)
“… والذريعة الثانية للهداية هي السنة، أعني تلك الأسوة المقدسة التي أراها حضرته ﷺ بأفعاله وأقواله، مثلاً صلّى الصلاة وأرانا بأنه هكذا ينبغي أن تكون الصلاة، وهدانا بصومه أنه هكذا ينبغي أن يكون الصوم. فهذا اسمه السنة، ومعناها سلوك النبي ﷺ الذي ظلّ يُري قولَ الله في صورة الفعل. والذريعة الثالثة للهداية هي الحديث، وهو أقوال الرسول ﷺ المجموعة بعده. والحديث دون القرآن والسنةِ مرتبةً، لأن أكثر الأحاديث ظنّيّة، وإذا اقترنت السنة بالحديث حوّلته إلى اليقين”. (سفينة نوح، الخزائن الروحانية، مجلد 19 ص 26 الحاشية)
“…. أما الذريعة الثانية لهداية المسلمين فهي السُّنَّة؛ أي أعمال النبي ﷺ التي قام بها تفسيرًا لأحكام القرآن المجيد. فمثلًا لا يُعرف من القرآن المجيد بظاهر النظر عدد الركعات للصلوات الخمس، فكَم منها في الصباح وكَم منها في أوقات أخرى، ولكن السنة فصَّلت كل ذاك تفصيلا.
ولا يظنّنّ أحد أن السنّة والحديث شيء واحد، لأن الحديث ما دُوِّن إلا بعد مائة أو مائة وخمسين سنةً، أما السنة فقد كانت قرينةَ القرآن المجيد منذ نزوله. وإن للسنة أكبرَ منّةٍ على المسلمين بعد القرآن. كان واجب الله ورسوله منحصرًا في أمرين فقط، فكان على الله أن ينـزل القرآن فيُطْلِع الخلقَ على مشيئته بكلامه؛ كان هذا من مقتضى ناموس الله تعالى. أما رسول الله ﷺ فكان من واجبه أن يُرِي الناس كلام الله تعالى بصورة عَمَليّة، ويشرحه لهم شرحًا كاملا. فأرى رسولُ الله ﷺ الناسَ تلك الأقوالَ في حيِّز الأعمال وحلَّ معضلاتِ الأمور ومشاكل المسائل بسنّته، أي من خلال أفعاله وأعماله. ولا مَساغ للقول بأن تقديم ذاك الحل كان مقصورًا على الحديث، ذلك لأن الإسلام كان قد استقر أساسه في الأرض قبل وجود الحديث. ألم يكن الناس يصلّون ويؤتون الزكاة ويحجّون البيت ويعرفون الحلال والحرام قبل أن تُدوَّن الأحاديث يا تُرى؟
نعم، إن الحديث ذريعة ثالثة للهداية، لأن الأحاديث تبين لنا بالتفصيل شيئًا كثيرًا من الأمور الإسلامية التاريخية والأخلاقية والفقهية. وعلاوة على ذلك فإن أكبر فائدة للحديث هي أنه خادم القرآن وخادم السنة. وإن الذين لم يُعطَوا حظًا من أدب القرآن فإنهم يعتبرون الحديث حَكَمًا على القرآن كما فعل اليهود بأحاديثهم. بيد أننا نعدُّ الحديث خادمًا للقرآن والسنة. ومن البيِّن أن عظَمة السيد إنما تزداد بوجود الخَدم. إن القرآن قولُ الله، والسنةَ فعلُ رسول الله، والحديث شاهد مؤيِّد للسنة. وإن من الخطأ القول إنّ الحديث حَكَمٌ على القرآن، نعوذ بالله من ذلك. إذا كان ثمة حَكَمٌ للقرآن فهو القرآن نفسه، ولا يمكن أن يكون الحديث الذي هو على مرتبة ظنية حَكَمًا على القرآن، إنما هو كشاهد مؤيِّد لا غير. لقد أنجز القرآن والسنة العملَ الواجبَ كله، وليس الحديث إلا شاهد مؤيّد. وأنَّى للحديث أن يكون حَكمًا على القرآن؟ لقد كان القرآن والسنة يهديان الخلقَ في زمن لم يكن لهذا الحَكَم المصطنع أثر. لا تقولوا إن الحديث حَكَمٌ على القرآن بل قولوا إنه شاهد مؤيِّد للقرآن والسنة. غير أن السنة توضح مشيئة القرآن، والمراد من السنة الطريق الذي سيَّر عليه الرسول ﷺ أصحابَه عمليًا. وليست السنة اسمَ تلك الأقوال التي دُوِّنت في الكتب بعد المائة والخمسين عامًا، بل إن اسم تلك الأقوال هو الحديثُ، وأما السنة فهي اسم للأسوة الحسنة التي لم تزل مطّردة في أعمال صلحاء المسلمين منذ بدء الإسلام والتي عُوِّدَها ألوفٌ مؤلفة من المسلمين. وإن الحديث، وإن كان أكثره على مرتبة الظن، لجدير بالتمسك به بشرط أن لا يعارض القرآنَ والسنة. إنه مؤيِّدٌ للقرآن والسنة، ويحتوي على ذخيرة كبيرة من المسائل الإسلامية، وعدم الأخذ بالحديث يعني بتْرَ عضوٍ من أعضاء الإسلام. بيد أنه إذا كان ثمة حديث يناقض القرآن والسنة، بالإضافة إلى معارضته لحديث آخر يوافق القرآن، أو كان هناك حديث يخالف صحيحَ البخاري، فإن ذلك الحديث غير جدير بالقبول، لأن قبوله يستلزم رفضَ القرآن وجميعِ الأحاديث التي توافق القرآنَ. وأعلم أن أحدًا من المتقين لن يجسر على أن يثق بحديثٍ يخالف القرآن والسنة وينافي الأحاديثَ التي هي موافقةٌ للقرآن.
فاقدروا الأحاديث حق قدرها واستفيدوا منها، فإنها منسوبةٌ إلى رسول الله ﷺ، ولا تكذِّبوها ما دام القرآن والسنة لا يكذِّبانها. ينبغي أن تتمسكوا بالأحاديث النبوية تمسّكًا بحيث لا يصدر منكم حركة أو سكون أو فعل أو تركُ فعل إلاّ ويكون هناك حديثٌ يؤيده. ولكن إذا كان هناك حديث يعارض قَصص القرآن معارضة صريحة، فعليكم أن تحاولوا التطبيق والتوفيق، فلعل التعارض مِن خطئكم. وإن لم يزُل ذلك التعارض، فانبذوا مثل هذا الحديث، فإنه ليس من رسول الله ﷺ. وإن كان ثمة حديث ضعيف يوافق، رغم ضعفه، القرآنَ فاقبلوه، فإن القرآن مصدّقُه. وإن كان هناك حديث يشتمل على نبوءة لكنه ضعيف عند المحدثين، ثم تحققت تلك النبوءة الواردة فيه في عصركم أو قبلكم، فاعتبروا ذلك الحديث حقًا، واعتبروا هؤلاء المحدِّثين والرُواةَ الذين وصفوه بالضعف والوضع مخطئين كاذبين. هناك مئاتُ الأحاديث التي تحتوي على نبوءات، وأكثرها عند المحدثين مجروحةٌ أو موضوعة أو ضعيفة، فإذا تحقّق حديث منها وأهملتموه قائلين لا نسلّم به، لأنه ضعيف، أو إن فلانًا من رُواته غيرُ متديِّن، فيكون هذا دليلا على خيانتكم، حيث رفضتم حديثًا أظهر الله صِدقَه. فمثلا لو كان هناك ألف حديث من هذا القبيل وكانت ضعيفة عند المحدثين، ثم تحققت نبوءاتها الألفُ، فهل ترضون بإضاعة ألف برهان من براهين الإسلام بتضعيفكم هذه الأحاديث كلها؟ إنكم في هذه الحالة ستُعَدُّون أعداءً للإسلام. يقول الله عز وجل (فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ). فهل يمكن أن تُـنسَب نبوءة صادقة إلى غير رسول صادق؟ أمن الإيمان، والحال هذه، أن يقال إنّ أحد المحدثين قد أخطأ في تضعيف الحديث الصحيح، أم أن يقال إن الله هو الذي أخطأ إذ صدّق الحديثَ الموضوع؟ فاعملوا بالحديث -وإن كان ضعيفًا- بشرط أن لا يعارض القرآنَ والسنّةَ والأحاديثَ الموافقة للقرآن.
بيْد أن العمل بالأحاديث يتطلب حذرا شديدا، لأنّ كثيرًا من الأحاديث موضوعةٌ أحدثت في الإسلام فتنةً. فعند كل فرقة حديث يوافق عقيدتَه؛ حتى إن الاختلاف في الأحاديث قد جعل الفريضةَ اليقينيةَ والمتواترةَ – كالصلاة – على صور مختلفة؛ إذ يجهر بعضهم بـ “آمين”، وبعضهم يُسِرّ بها، وبعضهم يقرأ الفاتحة خلف الإمام، وبعضهم يرى قراءتها مُفسِدةً للصلاة، ومنهم مَن يضع يديه على صدره، ومنهم من يضعهما على سُرّته. وهذا الاختلاف مرجعه الأحاديث. (كل حزب بما لديه فرحون). إن السُّنة لم ترشد إلا إلى طريق واحد، ولكن تداخُل الروايات أدّى إلى هذا الاختلاف. كما أن سوءَ الفهم في الأحاديث قد أدّى بالكثيرين إلى الهلاك، فهلك منه الشيعة أيضًا. فلو أنهم اتخذوا القرآن حكَمًا لهم لكانت سورة النور وحدها كفيلة لِتَهَبَ لهم نورًا، لكن الأحاديث أهلكتْهم. وكذلك هلك في زمن المسيح ؏ أولئك اليهود الذين كانوا يسمَّون أهلَ الحديث، وكانوا قد هجروا التوراة منذ مدّةٍ، وكان -كما لا يزال- مذهبهم أن الحديث حَكمٌ على التوراة. لقد كانت لديهم أحاديث كثيرة تقول إن مسيحهم الموعود لن يأتي ما لم ينـزل إيلِيَّا ثانية من السماء بجسده العنصري. فعثرت بهم تلك الأحاديث أيّما عثرة، فما استطاعوا-لاعتمادهم على تلك الأحاديث- أن يقبلوا التأويل الذي قدّمه لهم المسيح ؏؛ بأن المراد من إلياس هو يوحنا أي يحيى النبي الذي جاءَ على فطرة إلياس وبشمائله وتسربل سرباله على سبيل البروز. فكانت عثْرتُهم كلها من جرّاء الأحاديث. وقد أفضت بهم إلى الكفر في نهاية الأمر. هذا ومن الممكن أنهم كانوا يخطئون في فهم تلك الأحاديث، أو أنه قد اختلط بالأحاديث شيء من كلام الناس. وخلاصة الكلام أن المسلمين قد لا يدرون بأن أهل الحديث مِن بين اليهود هم الذين كانوا منكري المسيح ؏. هؤلاء هم الذين أثاروا ضجةً ضدّه ؏، وكتبوا ضده فتوى التكفير، وعدُّوه من الكَفَرة، وقالوا إنه لا يؤمن بكتب الله، إذ قد أخبر الله سبحانه ببعثة إلياس الثانية، لكنّ هذا الشخص يؤوّل النبوءة بتأويلات، ويحرّف الأخبار ويتصرف في معانيها كيفما يريد بدون أن تكون معها قرينة صارفة. ثم إنهم لم يكتفوا بتسمية المسيح كافرًا فحسب، بل اتهموه بالإلحاد. وقالوا إن كان هذا الرجل صادقًا فإن الدين الموسوي باطل. لقد كان زمنهم ذاك بمثابة الفَيْج الأعوج لهم، إذ غرّتْهم الأحاديث الموضوعة.
باختصار يجب الأخذ بعين الاعتبار عند مطالعة الأحاديث أن أمة كفرت بنبيّ صادق وسمَّتْه كافرًا ودجالا، لأنها جعلت الحديث حكمًا على التوراة.
هذا وإن صحيح البخاري لكتاب مبارك للغاية ومفيد للمسلمين، وهو نفس الكتاب الذي مكتوب فيه بصراحة أنّ المسيح ؏ قد تُوفي. وكذلك مسلم وكتب الأحاديث الأخرى تتضمن ذخيرة من المعارف والمسائل، ويجب العمل بها مع الحذر مِن أن يخالف موضوعٌ من مواضيعها القرآنَ والسنةَ والأحاديثَ التي تتفق مع القرآن”. (سفينة نوح، الخزائن الروحانية، مجلد 19 ص 61-66)
“وإن آيات الفرقان يقينية وأحكامها قطعية، وأما الأخبار والآثار فظنية وأحكامها شكية، ولو كانت مروية من الثقات ونحارير الرواة. ولا تنظروا إلى نضرة حليتها وخضرة دوحتها، فإن أكثرها ساقطة في الظلمات، وليست بمعصومة من مس أيدي ذوي الظلامات، وقد عسر اشتيارها من مشار النحل، وإنما أُخذت من النهل. هذا حال أكثر الأحاديث كما لا يخفى على الطيب والخبيث، فبأي حديث بعد كتاب الله تؤمنون؟ وإذا حصحص الحق فأين تذهبون؟ وماذا بعد الحق إلا الضلال، فاتقوا الضلال يا معشر المسلمين. وقد قلتُ من قبل أن الآثار ما كفلت التزام اليقينيات، بل هي ذخيرة الظنيات والشكيات، والوهميات والموضوعات، فمن ترك القرآن واتكأ عليها فيسقط في هُوة المهلكات ويلحق بالهالكين. إنما الأحاديث كشيخ بالي الرياش بادي الارتعاش، ولا يقوم إلا بهراوة الفرقان وعصا القرآن، فكيف يُرجى منها اكتناز الحقائق وخزنُ نشبِ الدقائق من دون هذا الإمام الفائق؟ فهذا هو الذي يؤوي الغريب ويُطهّر المعيب، ويفتتح النطق بالدلائل الصحيحة والنصوص الصريحة، وكله يقين وفيه للقلوب تسكين. وهو أقوى تقريرًا وقولا، وأَوْسع حفاوة وطولا، ومَن تركه ومال إلى غيره كالعاشق، فتجاوز الدين والديانة ومرق مروق السهم الراشق، ومن غادر القرآن وأسقطه من العين، وتبع روايات لا دليل على تنـزهها من المَيْن، فقد ضل ضلالا مبينا، وسيصطلي لظى حسرتين، ويريه الله أنه كان على خطأ مبين. فالحاصل أن الأمن في اتباع القرآن، والتباب كل التباب في ترك الفرقان. ولا مصيبة كمصيبة الإعراض عن كتاب الله عند ذوي العينَين، فاذكروا عظمة هذا الرزء وإن جلّ لديكم رزءُ الحسَين، وكونوا طلاب الحق يا معشر الغافلين”. (سر الخلافة، ص 21-22)
“أيها الناس.. لا تتّكئوا على أخباركم، وكم من أخبار أهلكت المتّبعين. وإن الخير كله في القرآن، ومعه حديث طابَقَه في البيان، والذين يبتغون ما وراءه فأولئك من العادين. ولولا هذا المعيار لماجَ بعض الأمّة في بعضها بالإنكار، وفسدت الملة في الديار، واشتبه أمر الدين على المسترشدين”. (مواهب الرحمن، ص 49)
التوفيق بين الأحاديث
“جاء في حديث رسول الله ﷺ: “لا عَدْوَى”.. أي لا تُجاوِزُ علّةٌ من مريض إلى غيره، ولا يُعدِي شيء شيئا، ولكن التجارب الطبية قد أثبتتْ خلاف ذلك، ونحن نرى بأعيننا أن بعض الأمراض، مثلا داء الجمرة التي يُقال لها في الفارسية “آتشك” يُعدي من امرأة مُبتلاة بهذا المرض رجلا ينكحها وبالعكس. وكذلك نرى في عمل الإبرة الذي مبني على خميرِ مادةِ مجدَّرٍ فإنه يُبدي آثار الجُدري في المعمول فيه. فهذا هو العدوى، فكيف ننكره؟ فإن إنكاره إنكارُ علومٍ حسّية بديهية التي ثبتت عند مُجرّبي صناعةِ الطب، وما بَقِيَ فيها شك للأطفال اللاعبين في السكك فضلًا عن رجال عاقلين. فلا بد لنا من أن نؤوّل هذا الحديث ونصرفه إلى معان لا تخالف الحقيقة الثابتة، وإنْ لا نفعل كذلك فكأنا دعونا كل مُخالف ليضحك علينا وعلى مذهبنا، فإذنْ أيَّدْنا الساخرين.
فنقول في تأويل هذا الحديث إن رسول الله ﷺ ما أراد من قوله: “لا عَدْوَى” نَفْيَ السراية من كل الوجه، وكيف وقد حذّر من المجذومين في حديث آخر. فما كان مراده من هذا القول من غير أن التأثيرات كلها بيد الله تعالى، ولا مؤثِّرَ في هذا العالم الدائر بالكون والفساد إلا بحُكمه وإرادته ومشيئته. وإذا أوّلنا كذلك فتخلَّصْنا من شبهات المعترضين”. (نور الحق، ص 8-9)