تفسير المسيح الموعود ؑ يكسر الصليب
يقول الله تعالى:
{اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} النور: 36
يتفق أغلب المفسرين على أن المقصود بمثال النور الذي في المشكاة بأن المراد منه هو قلب المؤمن وفطرته الصالحة.
أما مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية فيذهب إلى العمق الحقيقي لروح ولب الآية وهو أن المؤمن المقصود هو النبي الأعظم مُحَمَّدٌ المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الذي بلغ كمال فطرته حد النبوة الكاملة وتلقّي الوحي الكامل أي القُرآن العظيم.
وقد كان المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام يتحدث في معرض ردّه على بعض المنصِّرين والآريا الذين يروّجون لفكرة أن فطرة جميع البشر فاسدة بما فيهم الأنبياء والعياذ بالله، وأن الله ليس لديه أي معيار حقيقي لاختيار الأنبياء لإيصال رسالته تعالى عن ذلك علواً كبيرا. فكان رد المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام بديعاً جامعاً دامغاً للمتدبّرين. ومن جملة كلام حضرته عَلَيهِ السَلام أن الله تعالى هو نور السموات والأرض وكل شيء في الوجود أي كل ما يُرى في الوجود من أنوار مادية وروحية معاً، وطالما أن النور لا يجتمع مع الظلام في نفس الوقت، فلا يجتمع نور الله تعالى بِظَلاَّم النفوس الفاسدة بل لا بد من صلاح وسمو نفس الإنسان قبل أن يجتمع به الله تبارك وتعالى، ولذا فإن القول بفساد الإنسان وتلقيه الوحي والتأييد من الله إنما يسيء إلى الله تعالى قبل أن يسيء إلى الإنسان نفسه ويضرب الدين كله في مقتل ويدعو إلى الإلحاد.
وقد فَصَّلَ الْمَسِيحُ الموعود عَلَيهِ السَلام هذا الموضوع في تفسير حضرته لهذه الآية بأسلوب رائع وبسيط معاً فقال:
يقول حضرته في تفسير آية الله نور السماوات والأرض:
“أي أن النور الذي يُرى في كل مرتفع ومنخفض، سواء أكان في الأرواح أو في الأجساد، وسواء أكان ذاتياً أم عرضياً، وسواء أكان ظاهريا أم باطنياً، ذهنياً أم خارجياً؛ كلّه من عطاء فضله ﷻ. وفي ذلك إشارة إلى أن فيض الله رب العالمين العامَّ يحيط بكل شيء، ولا يخلو من فيضه شيء. فهو المصدر لكل فيض، وعلّة العلل لكل نور، ومنبع كل رحمة. إن ذاته الحق قيومُ العالم كلّه وملاذ كل كبير وصغير. هو الذي أخرج كل شيء من ظلمة العدم وخلع عليه خلعة الوجود، ليس من دونه وجود أزلي وواجب الوجود في حد ذاته، أو ليس مستفيضا منه ﷻ، بل الأرض والسماوات والإنس والدواب والحجر والشجر والأرواح والأجساد كلها موجودة وقائمة ببركة وجوده. هذا هو الفيض العام الذي ورد ذكره في الآية: {اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. فهذا هو الفيض الذي أحاط بكل شيء إحاطة الدائرة، ولا يوجد لإفاضته شرط الكفاءة. ولكن مقابل ذلك هناك فيض خاص، وهو مشروط بشروط، ويصيب أناساً خاصين يملكون كفاءة وقدرة على قبوله، أي ذوو النفوس الكاملة، ألا وهم الأنبياء عليهم السلام، الذين أفضلهم وأعلاهم وأجمعهم للبركات كلها هو سيدنا محمد المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، ولا يصل هذا الفيض غيرهم قَطّ. ولما كان هذا الفيض حقيقة دقيقة ومسألة دقيقة من دقائق الحكمة، فقد بيّن الله تعالى أولا الفيض العام البديهيّ الظهور، ثم بيّن الفيض الخاص بُغية بيان كيفية نور سيدنا خاتَم الأنبياء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بضرب مَثلٍ يبدأ من الآية: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ…} وبيّن ذلك كمثال كيلا يبقى إبهام أو صعوبة في فهم هذه النقطة الدقيقة، لأنه لو بُيِّنت المعاني المعقولةُ بصورة محسوسة لَفَهِمها كل غبيٍّ وبليد أيضاً وبكل سهولة.
إن مثل هذا النور، في الفرد الكامل، أي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، كمثل مشكاة -أي الصدر المنشرح لرسول الله ﷺ- فيها مصباح.. أي وحي الله تعالى. والمصباح في زجاجة نقية للغاية.. أي القلب الطيب والنقي والمقدس للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الذي هو كزجاجة نقية وشفافة بطبيعته، ومنـزَّه ومطهَّر من كل كثافة وتكدُّرٍ، وبريء تماماً من كل علاقة بغير الله. والزجاجة نقية وكأنها نجم ذو نور عظيم من النجوم التي تظهر متلألئة في كبد السماء بكل عظمة وشوكة، وتسمّى الكواكب الدُّرِّيّة. أيْ أن قلب سيدنا خاتم الأنبياء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم نقي وطيب ومنوَّر ولامع للغاية مثل الكوكب الدُّرِّيِّ، فيُلاحَظ نوره الباطني جارياً في قالبه الخارجي جريانَ الماء. والمصباح يوقد بزيت شجرة مباركة؛ أي بزيت الزيتون. إنّ المراد من الشجرة المباركة، الزيتونة، هو وجود مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم المبارك الذي يجمع في شخصه -بسبب جامعيته وكماله- كافة أنواع البركات، وفيضه ليس خاصاً بجهة معينة أو بمكان معين أو زمان معين، بل هو للناس جميعاً وعلى الدوام، وجارٍ دائماً ولن ينقطع أبدا. والشجرةُ المباركة ليست شرقية ولا غربية. أي لا إفراط في فطرة مُحَمَّدٍ ﷺ الطيبة ولا تفريط، بل فيها الوسطية والاعتدال على وجه كامل، وقد خُلقت في أحسن تقويم. أما قوله تعالى بأن مصباح الوحي يوقد من زيت هذه الشجرة المباركة فالمراد من الزيت هو العقل اللطيف النوراني لمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم مع جميع الأخلاق الفاضلة المودعة في فطرته ورُبِّيت بينبوع نقي للعقل الكامل. ومعنى إضاءة مصباح الوحي باللطائف المحمدية هو أن فيض الوحي نزل على تلك اللطائف المتميزة فكانت سبباً لظهور الوحي. وفي ذلك إشارة أيضاً إلى أن فيض الوحي قد نزل بحسب تلك اللطائف المحمدية، وظهر بحسب جميع أنواع الاعتدال الموجودة في فطرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وبيان ذلك أن كل وحي إنما ينـزل مطابقاً لفطرة النبي المنـزَّل عليه؛ فكما كان في طبيعة موسى عَلَيهِ السَلام الجلالُ والغضب، فنـزلت شريعة التوراة جلاليةً مطابقةً لفطرته. وكانت طبيعة المسيح عَلَيهِ السَلام تتسم بالحِلم والرفق، فجاء تعليم الإنجيل مشتملاً على الحلم والرفق. أما طبيعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فكانت مستقيمة ومعتدلة للغاية، فما كان يُحب الحِلم في كل مكان، وما كان يرغب في الغضب بكل مناسبة، بل كان طبعه المبارك يراعي الحكمة بحسب مقتضى الحال دائما. لذا فقد نزل القرآن الكريم متوازناً ومعتدلاً تماماً، فقََدْ جمعَ في طياته الشدة والرحمة والهيبة والشفقة والرفق والغضب. وقد بيّن اللهُ تعالى في هذا المقام أن مصباح وحي القرآن قد أُضيء بالشجرة المباركة التي ليست شرقية ولا غربية، أي نزل القرآن الكريم منسجماً تماماً مع طبيعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم المعتدلة تماماً التي ليست فيها قسوة كطبيعة موسى عَلَيهِ السَلام، ولا رِفق كطبيعة عيسى عَلَيهِ السَلام، بل إنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم مجموعةً دقيقةً ولطيفةً جداً للشِّدة والرفق، والغضب واللطف. وهو مظهر الاعتدال الكامل والجامعُ بين الجلال والجمال. فكانت أخلاق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الفاضلة والمعتدلة بصحبة العقل اللطيف، بمنـزلة الزيت لظهور نور الوحي، وقد قال الله تعالى عنها مخاطبا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في آية أخرى: {وإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 5).. أيْ يا أيها النبي؛ إنك مجبول ومفطور على خُلق عظيم، أيْ أن شخصك متمِّم ومكمِّل لمكارم الأخلاق كلها، ولا يُتصوَّر فوق ذلك. لأن كلمة “عظيم” تُستخدَم في اللغة العربية لبيان صفة شيء حاز في نوعه كماله التام. فمثلاً لو قلنا: إن هذه الشجرة عظيمة. لكان المراد من ذلك أن الطول والعرض الذي يمكن تصوُّره في الشجرة متحقق فيها. وقال البعض إن “العظيم” يُطلَق على شيء تبلغ عظمته درجة تخرج عن حدود الإدراك. ولا يُراد من الخُلق -في القرآن الكريم، وكذلك في الكتب الحِكمية الأخرى- التصرفات المستقيمة أو حسن التعامل أو الرفق أو اللطف أو الدماثة فحسب كما يظن عامة الناس، بل “الخَلق” و”الخُلق” كلمتان منفصلتان جاءتا بحذاء بعضهما. والمراد من “الخَلق” هو الصورة الظاهرية التي وهبها الله واهبُ الصور للإنسان، وبها يتميز عن الحيوانات من حيث الصورة الظاهرية، والمراد من “الخُلق” هو الصورة الباطنية، أي الصفات الباطنية التي بسببها تتميّز حقيقة الإنسان عن حقيقة الدواب تميّزًا تاما. فكل ما يوجد في الإنسان من صفات باطنية إنسانية ويمكن استخلاصها من شجرة الإنسانية وتميِّز الإنسان عن الدواب من حيث الباطن، تسمَّى “الخُلق”. ولمّا كانت الفطرة الإنسانية مبنية في حقيقتها على الاعتدال والوسطية ونزيهة من كل أنواع الإفراط والتفريط الموجود في القوى الحيوانية -التي أشار الله تعالى إليها في قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين: 5)؛ فكلما أُطلقت كلمة “الخُلق” دون الإشارة إلى ما هو مذموم، أُريدَ منها الأخلاق الفاضلة دائما. والأخلاق الفاضلة التي هي حقيقة الإنسانية كلها، هي صفات باطنية توجد في الإنسان، مثل: العقلانية، وسرعة الفهم، صفاء الذهن، وحسن الحفظ، وحدّة الذاكرة، والعفة، والحياء، والصبر، والقناعة، والزهد، والورع، والشجاعة، والثبات، والعدل، والأمانة، وصدق المقال، والسخاء في محله، والإيثار في محله، والكَرَم في محله، والمروءة في محلها، والشجاعة في محلها، وعلوّ الهمة في محلها، والِحلم في محله، والتحمّل في محله، والحميَّة في محلها، والتواضع في محله، والأدب في محله، والشفقة في محلها، والرأفة في محلها، والرحمة في محلها، وخشية الله، وحب الله، والأنس بالله، والانقطاع إلى الله ﷻ وغيرها.
والزيت نقيّ ولطيف لدرجة يكاد يشتعل ولو لَمْ تمسسه نارٌ. أي أن عقل هذا النبي البريء وجميع أخلاقه الفاضلة معتدلة ودقيقة ونورانية إِذْ كانت جاهزة لتضيء تلقائياً حتى قبل نزول الوحي. {نُوْرٌ عَلَى نُوْرٍ}.. أيْ لما كانت عدّة أنوار مجتمعة في شخص سيدنا خاتم الأنبياء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم المباركِ، لذلك فقد أُنزل عليها نورٌ سماوي آخر وهو الوحي الإلهي، وبنـزول ذلك النور صار الوجود الكريم لخاتم الأنبياء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم مجموعةَ أنوار. وفي ذلك إشارة أيضاً إلى أن فلسفة نزول الوحي هي أنه لا ينـزل إلا على نور، ولا ينـزل على الظلمة؛ لأن الانسجام شرط للإفاضة، ولا انسجام بين الظلمة والنور، بل النور ينسجم مع النور فقط. والحكيمُ القدير لا يفعل شيئاً دون مراعاة الانسجام. وهذا القانون الإلهي نفسُه يعمل في إفاضة النور أيضاً؛ بمعنى أن الذي يملك شيئاً من النور سابقاً هو الذي يُعطَى نوراً آخر، والذي لا يملك شيئاً لا يُعطى شيئا. فالذي في عينه نور يجد من الشمس نوراً، أما الذي ليس في عينيه نور، فيُحرَم من نور الشمس أيضا. فمن أُعطِي قدراً نزراً من نور الفطرة، يُعطى نوراً آخر أيضاً بقدر ضئيل، والعكس صحيح. أما الأنبياء فهُم أولئك الأفراد العظام -من جملة سلسلة الفطرة الإنسانية المتفاوتة- الذين يُعطَون النور الباطني بكثرة وكمال، فكأنهم صاروا نوراً متجسدا. فمن هذا المنطلق سُمِّي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في القرآن الكريم نورًا وسراجاً منيراً، وذلك في قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (المائدة: 16)، وقوله: {وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (الأحزاب: 47). وبناء على هذه الحكمة فإن نور الوحي -الذي يُشتَرط له أن يكون نورَ الفطرة؛ كاملٌ وعظيمٌ- قد أُعطيه الأنبياء وحدهم، وجُعل هذا النور خاصا بهم دون غيرهم. ومن خلال هذه الحجة المقنعة في المثل المذكور أكد الله ﷻ على بطلان قول الذين -مع اعتقادهم بتفاوت مراتب الفطرة- يزعمون حمقاً وجهلاً أن النور الذي يناله أصحاب الفطرة الكاملة يمكن أن يناله نفسَه أصحاب الفطرة الناقصة أيضا. عليهم أن يفكروا بأمانة وإنصاف؛ ما أكبر هذا الخطأ الذي يرتكبونه فيما يتعلق بفيض الوحي! فإنهم يرون بوضوح تام أن قانون الله تعالى في الطبيعة لا يصدّق فكرتهم الباطلة، ومع ذلك يتشبثون بها مع فسادها لشدة تعصبهم وعنادهم. كذلك النصارى أيضاً لا يرون أن نور الفطرة شرط لإفاضة النور، ويقولون بأن القلب الذي ينـزل عليه نور الوحي فليس من الضروري أن يتحلى بالنورانية باطنياً، بل إذا كان أحدٌ غبياً وسفيهاً جداً بدلاً من تحليه بعقل سليم، أو كان جباناً رعديداً بدلاً من كونه شجاعاً باسلاً، وكان بخيلاً من الدرجة القصوى بدلاً من ثبوته على خُلق السخاء، وكان ديّوثًا للغاية بدلاً من كونه غيورًا، وكان عاكفاً على الدنيا بكل وسعه بدلا من التوجه إلى حب الله تعالى، وكان سارقاً كبيراً ومن النُّهّاب بدلاً من كونه ناسكاً وورعًا وأميناً، وكان وقحاً وشهوانياً إلى أقصى الحدود بدلاً من كونه عفيفاً وحييّا، وحريصاً طمّاعاً بدلاً من كونه قنوعاً؛ فإن هذا الشخص أيضاً يمكن أن يصبح نبياً ومقرباً إلى الله تعالى كما يزعم النصارى مع حالته الفاسدة المذكورة آنفًا. بل لو تركنا المسيح عَلَيهِ السَلام جانباً، فإن جميع الأنبياء الذين يؤمنون بنبوتهم ويعتقدون بكون كتبهم الموحى بها مقدسة، كانوا جميعا -على حد قولهم، والعياذ بالله- من هذا القبيل، وكانوا محرومين من الكمالات القدسية التي تستلزم العصمة وطهارة القلب. فواهاً لعقل النصارى ومعرفتهم بالله تعالى ألف مرة، ما أجمل بيانهم لفلسفة نزول نور الوحي!! غير أن أتباع هذه الفلسفة والمعجبين بها، هم أنفسهم واقعون في ظلام حالك وعمًى باطني. وإلا فوجود النور لاستفاضة النور، حقيقة بديهية لا ينكرها حتى ضعيف العقل، ولكن ماذا نفعل بالذين لا علاقة لهم بالعقل أصلاً، ويبغضون النور ويحبون الظلام؟ وتنفتح عيونهم جيداً في الليل مثل الخفافيش، ولكنهم يعمَون أثناء النهار المشرق.
يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ (أي إلى القرآن الكريم).. أيْ أن الهداية أمرٌ من الله تعالى لا ينالها إلا الذي يوُفَّق لها برحمته الأزلية. ويبيّن الله تعالى المسائل الدقيقة بواسطة الأمثال ليقرِّب الحقائق العميقة إلى الأفهام. ولكنه ﷻ يعلم بعلمه الأزلي مَن سيستفيد من تلك الأمثلة ويقبل الحق، ومن سيبقى محروما ومخذولا.
ففي هذا المثل الذي فسرناه آنفاً قد شبّه الله تعالى قلب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بالمرآة النقية التي لا تكدُّر فيها من أيّ نوع. فهذا نور القلب. ثم شبّه فهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وإدراكه وعقله السليم وجميع أخلاقه الفاضلة الفطرية والجبِلِّية بزيت لطيف ومضيء شديد السطوع، وبه يوقَد المصباح. فهذا نور العقل؛ لأن العقل هو المنبع والمنشأ لجميع اللطائف الباطنية. ثم ذكر ﷻ نزول نور سماوي آخر، وهو الوحي، وقد نزل على جميع تلك الأنوار؛ فهذا نور الوحي. وإن هذه الأنوار الثلاثة مجتمعةً كانت سبباً لهداية الناس. فهذا هو المبدأ الحق عن الوحي من القدوس الأزلي منذ القِدم وهو يليق بذاته المقدسة.
فتبين من هذا البحث كله بأنه ما لم يوجد في الإنسان نور القلب والعقل بالدرجة الكاملة، فلا ينال نور الوحي قَطّ. ولقد ثبت من قبل أن كمال العقل وكمال نورانية القلب يحصل لبعض الناس فقط وليس للجميع. فقد تحقق باجتماع هذين الدليلين أن الوحي والرسالة ينالهما بعض الناس الكمَّل فقط وليس كل إنسان.” (البراهين الأحمدية)
إذن، وبهذا التفسير الموجز والشامل في آن يتضح أن النور الذي لا يجتمع بالظلام يعني أن الله تعالى الذي هو النور الحقيقي لا يجتمع إلا بالنور المبدئي في نفس الفرد الكامل إنسانياً فيكون نوراً على نور، وهذا يشرح عظمة الله تعالى ويفنّد دعاوى التنصير أن الجميع فاسد خرب لكي تؤسس عقيدة تأليه المسيح، أو العكس عند الهندوس والملاحدة أن الجميع صالح بلا تفاوت ولا تميّز للنبي على غيره ولا حاجة لوحي الله والعياذ بالله.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
بارك الله فيكم