يقول المسيح الموعود ؏:
“لقد كان في إيليا وقصة نزوله نظيرٌ شافٍ للطالبين. فاقرؤوا الإنجيل وتدبّروا في آياته بنظرٍ عميقٍ أمين. إذ قالت اليهود: يا عيسى.. كيف تزعم أنّك أنت المسيح.. وقد وجب أن يأتي إيليا قبله كما ورد في صحف النبيّين؟ قال: قد جاءكم إيليا فلم تعرفوه، وأشار إلى يحيى وقال: هذا هو إيليا إن كنتم موقنين. قالوا: إنك أنت مُفتر.. أتنحتُ معنى منكرًا؟ ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين. قال: يا قوم.. ما افتريتُ على الله، لكنكم لا تفهمون أسرار كتب المرسلين.
تلك قضيةٌ قضاها عيسى نبي الله، وفي ذلك عبرة للمسلمين. ما كان نزول بشرٍ من السماء من سنن الله، وإن كان فأتوا بنظير من قرون خالية إن كنتم من المهتدين. وما كان فينا من واقع إلا خلا لـه نظير من قبل، وإليه أشار الله وهو أصدق الصادقين ]ولن تجد لسنة الله تبديلا[. وقد مضت سنة الأوّلين. خصمان تخالفا في رأيهما.. فأحدهما متمسك بنظير مثله، والآخر لا نظير عنده أصلا.. فأي الخصيمَين أقرب إلى الصدق؟ انظروا بأعين المنـصفين.
يا أيها الناس، التُّقى التُّقى.. النُّهى النُّهى.. ولا تتبعوا أهواء فيج أعوج، واذكروا ما قال المصطفى. لقد جئتكم حكمًا عدلا للقضايا وجب فصلها، فاقبلوا شهادتي، إني أوتيت علمًا ما لم تؤتوه وما يؤتى“. (التبليغ، ص 10-11)
“ولو قيل إن الأحاديث تبين بكل وضوح أن المسيح بن مريم سينـزل من السماء عند المنارة الشرقية في دمشق مستندًا على ملَكَين، فكيف يمكننا نبذُ هذا الكلام الواضح الصريح؟! فجوابه أن النـزول من السماء لا يدل على نـزول جسد عنصري من السماء حقيقة، بل لا توجد في الأحاديث الصحيحة كلمة “السماء” مطلقًا. ثم إن كلمة النـزول كلمة شائعة، فيقال “نـزَل” للشخص الذي يذهب من مكانٍ إلى مكان آخر ويقيم فيه؛ ويقال “نـزَل الجيش أو الركبُ بمكان كذا. فهل يُفهَم من هذا أن الجيش أو الركب نـزل من السماء؟ إضافة لذلك فقد قال الله تعالى في القرآن الكريم صراحةً عن الرسول ﷺ إنه قد نـزل من السماء، بل قال الله تعالى في موضع إنه قد أنـزل الحديد أيضًا من السماء. فظهر جليًا أن النـزول من السماء لا يكون بالشكل والأسلوب الذي يظنه الناس“. (إزالة أوهام، الخزائن الروحانية، مجلد 3 ص 132)
“فانظروا إلى القرآن الكريم كيف يبيّن معنى النـزول في آياته العظمى. وتدبروا في قوله تعالى ]وأنزلْنا الحديد[، وفي قوله عز اسمه ]قد أنزلْنا عليكم لباسًا[، وفي قوله جل شأنه ]وأنزلَ لكم من الأنعام[، وفي قوله جلت قدرته ]وما ننـزله إلا بقدرٍ معلوم[، وفي أقواله الأخرى. وأنتم تعلمون أن هذه الأشياء لا تنـزل من السماء بل تحدث وتتولّد في الأرض وفي طبقات الثرى. وإن أمعنتم النظر في كتاب الله تعالى فيكشف عليكم أن حقيقة نـزول المسيح من هذه الأقسام الذي ذكرناه ههنا، فتدبروا في قولنا وأمعنوا نظرا. وما ينبغي أن يكون اختلاف في كلام الله تعالى، ولن تجدوا في معارفه تناقضا. والقول الجامع المهيمن الذي يهدي إلى الحق، ويحكم بيننا وبين قومنا آيةٌ جليلة من سورة “الطارق” تُذكّر سِرًّا غفلوا منه أهلُ الهوى.. أعني قوله تعالى: ]والسماءِ ذات الرجع والأرض ذات الصدع إنه لقول فصل وما هو بالهزل إنهم يكيدون كيدًا وأكيد كيدًا[. فاعلموا أيها الأعزّة أن هذه الآية بحر مَوّاجٌ من تلك الأسرار، ما أحاطتها فكر من الأفكار، وما مسّتها مُدرِكةُ الورى. وفَهّمني ربي أسرار هذه الآية واختصّني بها، وتفصيله أن الله تعالى أشار في هذه الآية إلى أن السماء مجموعة مؤثرات والأرض مجموعةُ متأثرات، وينـزل الأمرُ من السماء إلى الأرض، فتلقَّتْه الأرضُ بالقبول ولا تأبى. وفي هذا إشارةٌ إلى أن كل ما في السماء من الشمس والقمر والنجوم والملائكة وأرواح المقدسين من الرسل والنبيين والصديقين وغيرهم من المؤمنين.. يلقي أثره على ما في الأرض بمناسباتٍ قَضَتْ حكمةُ القُدس رعايتَها. فالسماء تتوجَه إلى الأرض بأقسامٍ غير متناهية من النـزول والرجع، والأرض تتقبلها بالانصداع والإيواء بأقسامٍ لا تعدّ ولا تُحصى. فمن أقسام نتائج هذا الرجع والصدع أشياء تحدث في طبقات الأرض كالفضة والذهب والحديد وجواهرات نفيسة وأشياء أخرى. ومن أقسامه الزروع والأشجار والنباتات والثمار والعيون والأنهار وكل ما تتصدع عنه الثرى. ومن أقسامه جمال وحميرٌ وأفراس وكل دابةٍ تدب على الأرض وكل طير يطير في الهواء. ومن أقسامه الإنسان الذي خلق في أحسنِ تقويم وفُضّل على كل من دبّ ومشى. ومن أقسامه الوحي والنبوة والرسالة والعقل والفطانة والشرافة والنجابة والسفاهة والجهل والحمق والرذالة وترك الحياء. ومن أقسامه نزول أرواح الأنبياء والرسل نزولا انعكاسيًّا على كل من يناسب فطرتهم ويشابه جوهرهم وخلقتهم في الخلق والصدق والصفاء“. (التبليغ، ص 45-47)
“وسمعتُ أن بعضهم ينظرون لفظ النـزول في قصة نزول المسيح، ويعجز عن درك هذه النكتة فَهْمُهم، وتضمحلّ طبائعهم وتلغب أفكارهم، فيحسبون بآرائهم السطحية أن عيسى بن مريم ينـزل من السماء، ولا يرون أن القرآن قد اختار لفظ النـزول في مقامات شتى وقال: ]وأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ[، ]وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ[، ]قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا[. ومعلوم أن الحديد لا ينزل من السماء بل يتكوّن في المعادن، وكذلك يتولد الحمير من الحمير والخيل من الخيل، وما رأى أحد من الناس أن هذه الحيوانات تنـزل من السماء، وكذلك الألبسة تُتّخذ من القطن والصوف والجلود والحرير، وهذه الأشياء كلها تكون في الأرض ولكن بحكم ربّ السماوات، ولو اجتمع أهل الأرض جميعا على أن يخلقوا هذه الأشياء بقوتهم وتدبيرهم لم يستطيعوا أبدا، فكأنها نزلت من السماء. وقد قال الله تعالى: ]وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَآئِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ[ ، فكل شيء منـزَّل من السماء بقدر معلوم بتوسُّط علل وأسباب أرضية وسماوية اقتضتها حكمة الله تعالى، فتبارك الله أحسن الخالقين“. (حمامة البشرى، ص 30 الحاشية)
“ثم انظر أنه تعالى قال في مقام آخر: ]قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا[، وقال: ]وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ[، ]وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ[، ومعلوم أن هذه الأشياء لا تنـزل من السماء، فما عزاها الله إليها إلا إشارةً إلى أن العلّة الأولى من العلل التي قدّر الله تعالى لخلق تلك الأشياء وتولُّدها وتكوُّنها تأثيراتٌ فلكية وشمسية وقمرية ونجومية، وأشار – عز وجل – في هذه الآيات إلى أن الأرض كامرأة والسماء كبعلها، ولا يتمُّ فعل إحداهما إلا بالأخرى، فزوّجَهما حكمةً من عنده وكان الله عليما حكيما“. (حمامة البشرى، ص 154)
“وقالوا كيف نؤمن بهذا المسيح وقد بشر لنا أنه ينـزل عند منارة دمشق، وأنه يقتل الدجال، ويحارب الأعداء فهم يهزمون. وكذلك ينتضون حججا مغشوشة، ولقد ضل فهمهم فهم مخطئون. ألا يعلمون أن المسيح الموعود يضع الحرب؟ ألا يقرؤون الصحيح للبخاري أو ينسون؟ ومن أين نُبُّوا أن المسيح ينـزل بدمشق التي هي قاعدة الشام، وبأي دليل يوقنون؟ أسار معهم رسول الله ﷺ إلى دمشق، وأراهم منارة وموضع نزول، أو أراهم صورتها في شِقّة من قرطاس، فهم يعرفونها ولا ينكرون؟ أو هي مصرٌ أفضلُ من الحرمين ولها فضيلة على قرى أخرى ويسكن فيها الطيبون؟
وما يغُرّنّهم ما جاء في أحاديث نبينا ﷺ لفظُ دمشق، فإن له مفهوما عاما، وهو مشتمل على معان كما يعرفها العارفون. فمنها اسم البلدة، ومنها اسم سيد قوم من نسل كنعان، ومنها ناقة وجمل، ومنها رجل سريع العمل باليدين، ومنها معان أخرى. فما الحق الخاص للمعنى الذي يصرون عليه وعن غيره يعرضون؟
وكذلك لفظ المنارة الذي جاء في الحديث.. فإنه يعنى به موضع نور، وقد يطلق على علَمٍ يُهتدى به. فهذه إشارة إلى أن المسيح الآتي يُعرَف بأنوار تسبق دعواه، فهي تكون له كعلم به يهتدون. ونظيره في القرآن قوله تعالى: ]وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا[. فكما أن السراج يعرف بإنارته كذلك المسيحُ يعرف بمنارته.
وما ثبت وجود منارةٍ في شرقي دمشق على عهد رسـول الله ﷺ، وما أومأ إليه إذا لارتاب المبطلون، بل هي استعارات مسنونات يعرفها الذين أوتوا العلم، وما يجادل فيها إلا الظالمون. أفلا يدّبرون سنن الله أم جاءهم ما لم يأت من قبل فهم له منكرون؟ وأي سر كان في تخصيص بلدة دمشق ومنارتها؟ فبيّنوا لنا إن كنتم تتبعون أسرار الله ولا تلحدون. أتعجبون من هذه الاستعارة ولا تعلمون أن الاستعارات حُلل كلام الأنبياء، فهم في حلل ينطقون؟ اذكروا قول إبراهيم ؏.. أعني قوله: “غَيِّرْ عَتَبةَ بابك”، ثم انظروا إلى إسماعيل ؏ كيف فهم إشارة أبيه. أفهم من العتبة عتبةً أو زوجة؟ فتفكروا أيها المسلمون. وانظروا إلى الفاروق t كيف فهم من كسر الباب موته، لا كسر الباب حقيقةً؟ وإن شئتم فاقرؤوا حديث حذيفة في الصحيح للبخاري لعلكم تهتدون.
وقالوا إن المسيح الموعود لا يجيء إلا في وقت خروج الدجال، وخروج يأجوج ومأجوج، وما نرى أحدا منهم خارجا، فكيف يجوز أن يستقدم المسيح وهم يستأخرون؟ أما الجواب، فاعلموا.. أرشدكم الله تعالى.. إن هذان لاسمان لقوم تفرّق شعبهم في زماننا هذا آخرِ الزمان وهم في وصف متشاركون. وهم قوم الروس وقوم البراطنة وإخوانهم، والدجال فيهم فَيجُ قسيسين ودعاةُ الإنجيل الذين يخلطون الباطل بالحق ويدجلون. وأعتدت لهم الهند متكأ، وحقت كلمة نبينا ﷺ أنهم يخرجون من بلاد المشرق، فهم من مشرق الهند خارجون. ولو كان الدجال غير ما قلنا، وكذلك كان قوم يأجوج ومأجوج غير هذا القوم، للزم الاختلاف والتناقض في كلام نبي الله ﷺ. وأيم الله إن كلام نبينا منـزه عن ذلك، ولكنكم أنتم عن الحق مبعدون.
ألا تقرؤون في أصح الكتب بعد كتاب الله أن المسيح يكسر الصليب؟ ففي هذا إشارة بيّنة إلى أن المسيح يأتي في وقت قوم يعظّمون الصليب.. ألا تفهمون؟ وقد تبين أنهم أعداء الحق، وفي أهوائهم يعمهون. وقد تبين أنهم ملكوا مشارق الأرض ومغاربها ومن كل حدب ينسِلون. وقد تبينت خياناتهم في الدين وفتنهم في الشريعة، وفي كل ما يصنعون. أترون لدجالكم المفروض في أذهانكم سعةَ موطئِ قدم في الأرض ما دام فيها هؤلاء؟ فالعجب من عقلكم! من أين تنحتون دجالا غير علماء هذا القوم، وعلى أي أرض إيّاه تسلّطون؟ ألا تعلمون أن المسيح لا يجيء إلا في وقت عبدة الصليب، فأنى تؤفَكون؟ ألا ترون أن الله تعالى مكّن هذه الأقوام في أكثر الأرض وأرسل السماء عليهم مدرارًا، وآتاهم من كل شيء سببا، وأعانهم في كل ما يكسبون؟ فكيف يمكن معهم غيرهم الذي تظنون أنه يملك الأرض كلها؟ يا عجبا لفهمكم! أأنتم مستيقظون أم نائمون؟ أنسيتم أنكم قد أقررتم أن المسيح يأتي لكسر الصليب؟ فإذا كان الدجال محيطًا على الأرض كلها، فأنى يكون من الصليب وملوكه أثر معه.. ألا تعقلون؟ ألا تعلمون أن هذان نقيضان فكيف يجتمعان في وقت واحد أيها الغافلون؟ وإن زعمتم أن الدجال يكون قاهرا فوق أرض الله كلها غير الحرمين، فأي مكان يبقى لغلبة الصليب وأهل الصليب، أأنتم تثبتونه أو تشهدون؟ ما لكم لا تفهمون التناقض؟ وأفضَى بعض أقوالكم إلى بعض يخالفها، ودجلتم في أقوال رسول ﷺ ثم أنتم على صدقكم تحلفون. وتُضِلّون الذين ضعفوا قلبًا ولُبًّا وعقلا، وتزيّنون باطلكم في أعينهم، وتزيدون على أقوال الله ورسوله وتنقصون. لن تستطيعوا أن ترفعوا هذه الاختلافات، أو توفّقوا وتطبّقوا ولو حرصتم، ولو كان بعضكم لبعض ظهيرا، فلا تميلوا كل الميل إلى الباطل وأنتم تعلمون. وإن تقبلوا الحق وتتقوا فإن الله يتوب عليكم، ويغفر لكم ما قد سلف. فليتدبر أهل الحديث في هذا. ومن لم يهتد بعدما هدي فأولئك هم الفاسقون“. (التبليغ، 53-57)
الجزء الثاني من هنا!