مجموع أقوال المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام عن النفس والجسد والروح
يقول حضرته:
الحالات الثلاث للنفس البشرية
“لا يخفى أن السؤال الأول يتصل بحالات الإنسان الطبيعة والأخلاقية والروحانية. فاعلموا أن كلام الله القرآن الكريم قد قسّم هذه الحالات الثلاث تقسيمًا يحدد لها ثلاثة مبادئ، لكل حالة منها مبدأ على حدة. وبعبارة أخرى: إنه جعل لكل حالة من هذه الحالات الثلاث ينبوعا خاصا تنبع منه.
الحالة الأولى: النفس الأمارة
يسمي القرآنُ الكريم الينبوعَ الأول الذي يُعتبر مَنشأً لجميع الحالات الطبعية “النفسَ الأمّارة“، وذلك في قوله تعالى: (إن النفس لأمارة بالسوء) .. أي أن من خواص النفس الأمارة أنها تميل بالإنسان إِلى السيئات التي تُغاير الأخلاقَ وتُنافي الكمال، وتدفعه إِلى السير في مسالك السوء ومذاهب المنكر. فخروج الإنسان عن حد الاعتدال وجموحُه إِلى السيئات، حالةٌ تسبق حالَته الأخلاقية وتستولي عليه طبعًا.
وتسمّى هذه الحالة طبيعةً ما لم يمش الإنسان في ظل العقل والمعرفة، وإنما يتبع- كالبهائم – النوازعَ الطبعية في الأكل والشرب والنوم واليقظة والغيظ والغضب وما شابه ذلك من الميول والأهواء. أما إذا تصرّف في حالاته الطبعية على ضوء توجيه العقل والعرفان، وراعى فيها حدَّ الاعتدال المطلوب، فلا تبقى هذه الحالات طباعًا، بل تصير أخلاقًا، كما سنبينه بالإيجاز فيما بعد.
الحالة الثانية: النفس اللوامة
وأما منشأ الحالات الأخلاقية فاسمه في القرآن المجيد “النفس اللوّامة“.. كما يقول الله عز وجل: (ولا أقسم بالنفس اللوامة).. أي أقسم بالنفس التي تلوم ذاتها على كل مأثمة تغشاها أو زلة تبدر منها. هذه النفس اللوامة هي الينبوع الثاني الذي تنشأ منه الحالات الأخلاقية. وإِذا وصل الإِنسان إِلى هذه الدرجة نجا من مشابهة الأنعام. وقد أقسم الله هنا بالنفس اللوامة تنويهًا بشأنها، فكأنما استحقت عند الله هذا الإكرام لأنها انسلخت عن طبيعتها الأولى الأمارة بالسوء، وارتفعت إِلى درجة النفس اللوامة.
وقد سمّها الله “اللوامة” لأنها تلوم الإنسان على إتيان السيئة، ولا ترضى له أن يسترسل في دوافعه الطبعية استرسالَ الأنعام المطلَقة القيود وأن يعيش عيشة البهائم، بل تريد ألا يصدر منه إِلا خيرُ الحالات وصالح الأخلاق، وألا يتجاوز حدَّ الاعتدال في جميع لوازم الحياة، وأن يلبي رغباته وأهواءه الطبعية باسترشاد من العقل. وبما أن النفس تلوم الإنسان على ارتكاب السوء.. فلذلك وصفها الله باللوامة، أي كثيرة اللوم.
والنفس اللوامة وإِن كانت تمقت الانصياعَ للنوازع الطبعية، ولا تنفك تلوم نفسها.. فإِنها مع ذلك لا تكون قادرةً كلَّ القدرة على عمل الصالحات، بل إِن النوازع الطبعية تصرعها أحيانًا، فتتعثر وتسقط كأنها الطفل الضعيف الذي يحاول ألا يسقط، إِلا أنه يسقط بسبب ضعفه، ويأسف على عجزه هذا.
وخلاصة القول.. إِن هذه حالة أخلاقية تجمع بها النفس في ذاتها مكارم الأخلاق، وتكره الطغيان والفسوق.. ولكنها لا تستطيع بعد أن تتغلب على النفس الأمارة حق الغلبة.
الحالة الثالثة: النفس المطمئنة
هذا، وهناك منبع ثالث ينبغي اعتباره منشأً للحالات الروحانية كلها.. اسمه في مصطلح القرآن الحكيم: “النفس المطمئنة“، وقد ورد ذكره في قول الله تعالى: (يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي).
هذا هو المقام الروحاني الذي تتخلص فيه النفس من كل ضعف، وتمتليء من القوى الروحانية، وتتصل بربها اتصالًا لا تكاد تحيا بدونه. وكما أن السيل ينحدر متدفقا في جريه تدفقًا شديدًا بسبب غزارة مياهه وانعدام العوائق، فكذلك النفس المطمئنة تنطلق مندفعةً إِلى الله. وإِلى هذا الاندفاع تشير الآية: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي).
فالنفس تتبدل تبدلًا عظيمًا في هذه الحياة، لا بعد الموت، وتجد نوعا من الجنة في هذا العالم، لا في غيره. كما تقول الآية (ارجعي إلى ربك).. أي تعالَيْ إلى من ربّاك.. فإن هذه النفس عندئذ تتربى بربوبية الله، وتتغذى من حُب الله، وتستقي من معين الحياة تلك، فلا تذوق الموت أبدًا؛ كما جاء ذلك في قوله تعالى: (قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها).. أي من طهّر نفسه من النوازع الأرضية فقد نجا من الهلاك، وأما من أخلد إِليها فقد يئس من الحياة.
فهذه هي الحالات الثلاث التي يمكن أن نسميها – بعبارة أخرى – الحالات الطبعية والأخلاقية والروحانية. وبما أن النوازع الطبعية تعود عند الإفراط خطرًا عظيمًا، وكثيرًا ما تُفسد أخلاقَ الإِنسان وتتلف روحانيته، لذلك فقد عُبِّر عنها في كتاب الله القدوس باسم النفس الأمارة بالسوء.
تفاعُل الجسد والروح
وإذا سأل سائل: ما هي تعاليم القرآن المجيد لأجل إِصلاح الحالات الطبعية؟ كيف يرشد الإِنسان في شأنها، وإِلى أي حد يسمح بالعمل بمقتضاها؟
فالجواب ـ وفق هداية الفرقان ـ أن هناك روابط شديدة للغاية بين الحالات الطبعية والحالات الأخلاقية والروحانية، حتى إن أسلوب المرء في الأكل والشرب يؤثر أيضًا في حالاته الأخلاقية والروحانية. ولو استخدم الإنسان أحواله الطبعية حسب تعليمات الشريعة لتحولت كل هذه الأحوال أخلاقًا كما تتحول الأشياء في داخل الملح مِلحًا، ولأثّرت في روحانيته تأثيرًا عميقًا. ومن أجل ذلك اهتم القرآن المجيد أشد الاهتمام برعاية الطهارة الجسمانية والآداب الظاهرية والحركات الجسدية في سائر العبادات وفي جميع الفرائض التي كان القصد منها إِخضاعَ النفس وتزكية الباطن.
وإذا أمعنَّا النظر تبين لنا أن الفلسفة الصحيحة الصائبة للغاية هي أن للأوضاع الجسمانية تأثيرًا قويًا في الروح.. فإننا نرى أن أفعالنا الطبعية، وإِن كانت جسمانية، يكون لها في حالاتنا الروحانية أثر محسوس يقينا. فالعين مثلًا إِذا أخذتْ في البكاء ولو تصنُّعًا.. فلا بد أن تنبعث من الدموع لوعة تسري إِلى القلب، يَخضع لها ويكتئب. وكذلك لو ضحكنا ـ وإِن يكن تكلُّفًا ـ اكتسب الفؤاد فرحًا وانبساطًا. وكذلك نرى أن السجود الجسماني يولّد في نفس الساجد حالة من التضرع والخشوع. كما نشاهد بالعكس أنه لو مشى الإِنسان رافعا رأسه مبرزا صدره، فمشيته هذه تولد فيه كبرًا وغطرسة. ومن هذه الأمثلة يتبين تماما أن للأوضاع الجسمانية أثرًا في الحالات الروحانية من دون ريب.
تأثير الأغذية على سلوك الإنسان
“كذلك تثبت لنا التجارب أن الأغذية المتنوعة تؤثّر أيضا في الوظائف الفكرية والقوى النفسية دون شك. انظروا مثلا إلى الذين لا يأكلون اللحوم أبدا.. كيف تضمحل فيهم قوة الشجاعة شيئا فشيئا حتى إنهم يصبحون جبناء للغاية، وهكذا يفقدون قوة محمودة هي إحدى مواهب الرحمن! ونجد على ذلك شاهدا آخر من السُنة الإلهية الجارية في الحيوانات التي تقتات على الأعشاب، إذ لا يوجد من بينها حيوان واحد له مِثلُ شجاعة الحيوان الذي يتغذى باللحوم. وهذا هو المشاهَد أيضا في الطيور. فلا شك إذًا أن الأغذية تؤثر في الأخلاق تأثيرا عظيما.
أجل.. إن الذين يُغرَمون باللحوم ليل نهار، ولا يتناولون من الأغذية النباتية إلا قليلا جدا، يتضاءل فيهم خُلق الحلم والتواضع. أما الذين يتخذون طريقا وسطًا بينهما فيكسبون كلا الخُلقيْن. ولهذه الحكمة نفسها أمرنا الله تعالى بقوله (وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا).. أي كُلوا من اللحوم ومن الأغذية الأخرى أيضا، ولا تُفرطوا في شيء مما تأكلون، لئلا تتضرر أخلاقكم من هذا الإفراط، ولا تتضرر به صحتكم أيضًا.
وكما أن الأفعال الجسمانية تؤثر في الروح، كذلك فإن للروح تأثيرًا يَنبثّ في الجسد أيضًا في بعض الأحيان. فمَنْ أصابه الغم اغرورقت عيناه بالدموع، ومن أحس بالسرور افترت مباسمه. إن جميع أفعالنا الطبْعية الضرورية – كالأكل والشرب والنوم واليقظة والحركة والسكون والاغتسال وغيرها – تؤثر في حالاتنا الروحانية. إن بين تكويننا الجسماني وجبلتنا الباطنة رابطة محكمة، إذ تذهب الذاكرة فجأة عند إصابة مركزها في الدماغ، وقد يغيب الإنسان عن الوعي والحس تماما بإصابة المركز الحسي في الدماغ. وكذلك ترون أن نَسَمة من الهواء السام الموبوء سرعان ما تؤثّر في الجسد، وتنتقل منه إلى القلب، فلا يلبث أن يختل النظام الباطني الذي به قوام الأخلاق كلها، حتى يصبح الإنسان كالمتخبط الذي مسه الجنون، فيفرط بنفسه في بضع دقائق”.
نشأة الروح من الجسد
فالإصابات الجسمانية تُرينا مَشهدًا عجيبًا يُثبت أن بين الروح والجسد علاقة ليس في وسع الإنسان أن يكشف سِرّها المكنون. ومما يزيد في تأكيد هذه العلاقة أننا إذا تدبرنا وجدنا أن الجسد بمثابة الأم للروح. إن الأرواح لا تتنـزل أبدًا في بطون الحوامل من جوّ السماء[1]، وإنما هي نور مكنون في النطفة نفسها، ينكشف شيئا فشيئا مع نشوئها ونموّها.
[1] هذه عقيدة الهندوس وغيرهم. (الناشر)
يخبرنا كلام الله الكريم بأن الروح تنشأ من نفس الجسد الذي يتكون من النطفة في الرحم، كما يقول ﷻ في كتابه الكريم.. حيث يذكر تكون الإنسان من النطفةِ فالعَلَقةِ: (ثُم أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ).. أي أننا ننشئ الجسد المتكون في الرحم نشأة أخرى، ونُبرز له خَلقا آخر يسمى الروح. فالله ذو بركاتٍ كثيرة وهو أحسن مَن يخلق.
وأما قول الله تعالى هنا بأننا من نفس القالب نُبرز خَلقًا آخر، فهو سر عميق يبين لنا حقيقة الروح، ويوضح العلاقة المتينة التي تربطها بالجسد. وإذا فهمنا هذه العلاقة أدركنا أيضًا كيف تعمل الحكمة الإلهية عملها في أفعال الإنسان وأعماله وأقواله الطبْعية كلها، وكيف أن الأعمال الخالصة لله تعالى تكمن بداخلها الروحُ منذ البداية كما تكمن الروح في النطفة منذ البداية، وبقدر ما تتبلور وتتضح صورة الأعمال تزداد هذه الروح صقلا، حتى إذا اكتملت بنيةُ العمل لمعت فيه الروح فجأة بتجليها الكامل، وتُثبت نفسها كوجود روحي مستقل، فهنالك تبتدئ في جسد الأعمال حركةُ الحياة المحسوسةُ. وما أن يكتمل جسد الأعمال حتى ينبثق في داخلها، فجأةً، شيءٌ كالبرق يتلألأ تلألؤًا واضحًا. وهذه هي الفترة التي يصفها الله، تمثيلا، في كتابه الحميد بقوله: (فَإذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِين).. أي إذا أتممتُ قالبه، ووضعتُ جميع مظاهر التجليات في مواضعها، ونفخت فيه من روحي، وجب عليكم جميعا أن تخروا له على الأرض ساجدين. فالآية تشير إلى نفس المعنى.. أي أنه عندما يكتمل قالب الأعمال، تتجلى فيه تلك الروح التي نسبها الله إلى ذاته. وبما أن هذا القالب لا يتكون إلا إذا طرأ الفناءُ الكامل على حياة الإنسان المادية، لذلك يُشرق فيه النور الرباني دفعة واحدة بعد أن كان ضئيلا.. وعندها يجب على كل من يشاهد هذه العظمة الإلهية أن يسجد لله وينجذب إليه. وهكذا يسجد الجميع عند رؤية هذا النور.. ويُقبلون عليه بطبعهم.. إلا إبليس اللعين الذي يحب الظلام.
الروح مخلوقة
والآن نعود إِلى ما كنا بصدده فنقول: إنّ الحقّ الذي لا ريب فيه مطلقًا هو أنّ الرّوح نور لطيف ينشأ من الجسد الذي يتكوّن داخل الرّحم. والمراد من نشوء الرّوح من الجسد هو ظهورها بعد الكمون.. وقد كانت خميرتها مستترة في النّطفة منذ البداية. إنها بلا شك، وبأمرٍ وإذن ومشيئة من ربّ السّماء.. تتعلّق بالنّطفة علاقةً غامضة. إنها جوهر نوراني للنّطفة. لا نستطيع القول إنها جزء من النّطفة كما يكون العضو جزءا من الجسم، كما لا نستطيع القول أيضا إنها تدخل في النطفة من الخارج، أو أنها تهبط من السّماء فتمتزج بمادّة النطفة، بل إِنها كامنة في النّطفة كُمونَ النار في الزند.
لا يقول كتاب الله أن الروح تتنـزّل من السماء نزولا منفصلا، أو تهبط على الأرض من الفضاء.. ثم تختلط بالنّطفة مصادفة وتتسرّب معها إِلى الرّحم. إِنّ هذا الزعْم لا يصحّ أبدا، ولئن ظننا هذا لكذّبتنا سُنن الفطرة.
فإنّنا نرى كل يوم ألوفا مؤلّفةً من الدّيدان والجراثيم تتكوّن في الأطعمة الآسنة الفاسدة وفي الجروح المتقيحة، ومئات من القمل تتولّد في الثّياب المتسخة، وأنواع الديدان تتولّد في البطن أيضا.. فهل نقول إنّ أرواحها تأتي من الخارج؟ أم هل رآها أحد تتساقط من السّماء؟ كلا، بل الحقّ أَنّ الروح تنشأ من الجسد نفسه، وهذا النشوء نفسه دليل قاطع على كونها من المخلوقات.
النشأة الثانية للروح
ومقصدنا من هذا البيان هو القول إنّ الخالق القدير الذي أنشأ الروحَ -بقدرته الكاملة- من الجسد نفسه.. يبدو أنّه يريد أن يقوم بالنشأة الثانية للرّوح عن طريق الجسد أيضا. إنّ حركات الروح موقوفة على حركات أجسادنا، وحيثما قُدْنا الجسد انقادت معه الرّوح وتبعته لا محالة. لذلك كان من واجب كتاب الله الحق أن يهتم بمعالجة حالات الإنسان الطبْعيّة، ومن أجل ذلك وجّه القرآن الكريم عناية خاصّة نحو إصلاح أوضاع الإِنسان الطبْعيّة، وأمره بمراعاة شروط وآداب معيَّنة فيما يتعلّق بالضّحك والبكاء، والأكل والشّرب، واللّبس والنّوم، والزواج والعزوبة، والنّطق والصّمت، والمشي والوقوف، والنظافة الظّاهرية بما فيها الغسل وغيره، والمرض والصّحة.. وغيرها من الأمور، واعتبر هذه الحالات الطبْعيّة ذات تأثير عظيم في حالات الإِنسان الروحانية. ولئن تناولتُ هذه الأمور بالتفصيل فلا أحسب أن نحصل على وقت كافٍ لقراءة هذا الموضوع الفسيح.
الارتقاء التدريجي للإنسان
عندما تدبّرتُ كلامَ الله المجيد، ووجدتُ كيف أنّ الله تعالى علّم الإِنسان مبادئ الإصلاح لحالاته الطبْعيّة كي يسمو به تدريجيًّا إِلى الأعلى فالأعلى، حتى يبلغ به منتهى المعراج الرّوحاني.. تبَيَّن لي أنّ هذه المبادئ الحكيمة تتلخّص في أنّ الله سبحانه وتعالى أراد أن يعلّم الإنسان أولا آدابَ القعود والقيام والأكل والشرب والمحادثة وغيرها من آداب المعاشرة، ليُخرجه من الأطوار البهيميّة، ويميّزه عن مشابهة الأنعام تمييزًا كاملا، ويصلَ به إلى أوّل حالة أخلاقيّة تسمّى الأدب والتهذيب. ثمّ أراد الله تعالى أن يخفف من حدّة عادات الإنسان الطبْعيّة – التي يمكن أن نسمّيها أخلاقا رذيلة- تخفيفا تتحوّل به أخلاقًا فاضلة. ولكن الحقّ أن هاتين الطّريقتين شيء واحد لأنّ كلتيهما تهدفان إِلى إِصلاح الحالات الطبْعيّة، وليس الفرق بينهما إِلا فرق الأدنى والأعلى، فقد وضع ذلك الحكيم المطلق ﷻ نظامَ الأخلاق بحيث يستطيع الإنسان الارتقاءَ من الخُلق الأدنى إلى الأعلى.
ثم إِنّ الحالة الثالثة التي وضعها الله تعالى لتقدُّم الإنسان روحانيًا هي أن يتفانى في حبّ خالقه ورضوانه ويصبحَ وجوده كليةً لله وحده. وتذكيرًا بهذه المرتبة سمَّى الله دين المسلمين باسم الإِسلام.. لأنّ الإسلام معناه أن يكون الإنسان كله للّه، ولا يبقي لذاته من شيء، كما يقول الله جل جلاله: (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون).. أي أنّ الناجي هو ذلك الإنسان الذي ضحّى بنفسه في سبيل الله تعالى، وأثبت صدقه ليس بالنيّة فقط بل بالأعمال الصّالحة. ومن فعل ذلك فقد وجب أجره على الله، وكان من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون..
ويقول سبحانه: (قُلْ إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين * لا شريك له وبذلك أُمرتُ وأنا أوّلُ المسلمين)، ويقول: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتّبِعوه ولا تتّبعوا السّبل فتَفرَّقَ بكم عن سبيله)، ويقول: (قُلْ إن كنتم تحبّون الله فاتّبِعوني يحبِبْكم اللهُ ويغفِرْ لكم ذنوبكم والله غفور رحيم).. أي قل إنّ صلاتي وتضحياتي، وحياتي وموتي، هي لله الذي تشمل ربوبيته كل الموجودات. ليس هناك مخلوق من البشر وغيره هو شريك مع الله بأيّ نوع من الشّركة. هذا ما أمرني به، وأنا أول وأفضل من يطبّق مفهومَ الإسلام.. ويبذل نفسه في سبيل الله. هذا هو سبيلي. فهلمّوا اتَّبعوا سبيلي هذا ولا تسلكوا غيرَه من السّبل، فتنحرف بكم بعيدا عن الله. قل لهم: إذا كنتم تحبّون الله فتعالوا سيروا ورائي واسلكوا طريقي وسوف يحبّكم الله ويغفر لكم، فهو كثير المغفرة واسع الرّحمة”. (فلسفة تعاليم الإسلام، ص 12-13)
“والحالة البرزخية هي حالة ينحلّ فيها هذا التركيب الإنساني الفاني، ويتم انفصال بين الروح وهذا الجسد. وكما نرى أن الجسم يُلقى في حفرة، كذلك الروح تقع في حالة تشبه الحفرة.. كما تدل على ذلك كلمة “زخ”.. لأن الروح وحدها لا تقدر على فعل الخير والشر الذي كانت قادرة عليه من قبل وقتما كانت متصلة بالجسد. والواضح أن صحة الروح تتوقف على صحة البدن، فبإصابة واحدة في جزء معين من أجزاء الدماغ تزول الذاكرة، وبإصابة أخرى في جزء آخر منه تزول القوة الفكرية ويتلاشى الوعي والحواس. ولئن أصيب الدماغ بنوع من التشنج أو الورم، أو حصل به انسداد الدم أو أية مادة أخرى انسداد تاما أو جزئيا.. فإنه يصاب فورا بالإغماء أو الصرع. فإن تجاربنا المتكررة منذ القِدم لتدل على أن روحَنا عاطلة تماما بغير اتصالها بالجسم”. (فلسفة تعاليم الإسلام، ص 100-101)
لا بد للروح من جسم
“إذن فإنه لزعم باطل تماما أن نقول بأن الروح – مجردةً عن الجسم – ستحظى بالسعادة يومًا ما. يمكن أن نقبل هذا الزعم كخرافة.. إلا أنه لا يؤيده برهان معقول. إننا لا نستطيع أن نتصور مطلقًا كيف تبقى الروح على حالتها الكاملة إذا حُرمت تمامًا من علاقات جسمانية.. مع أنها – على ما نعلم عنها – تتعطل عند كل خلل ولو بسيط يطرأ على الجسد. أفلا توضح لنا التجربةُ اليومية أن صحة الجسم ضرورية لصحة الروح؟ عندما يصبح الإنسان شيخا فانيا.. تشيخ روحه أيضا وتهرم.. ويختلس سارقُ الشيخوخة منه بضاعةَ علمه.. كما يقول الله تعالى: (لكيلا يعلم من بعد علم شيئا).. أي عندما يصير الإنسان شيخا هرِمًا يبدو – رغم دراسته وقراءته – كأنه صار جاهلا. لذلك فمشاهدتنا تشكل دليلا قاطعا على أن الروح لا شيء بدون الجسم. ثم إنه لما يهدي الإنسان إلى الحقيقة أيضا أنه لو كانت الروح تستطيع القيام بذاتها مستقلة عن الجسم.. فلماذا ربطها الله – عبثا ودونما سبب – بالجسم الفاني. كما إنه جدير بالاعتبار أن الله خلق البشر لرقي غير محدود، فما دام الإنسان لا يستطيع أن يحرز بغير معونة الجسم رقيًّا في هذه الحياة القصيرة.. فكيف يتصور أنه سيتمكن من إحراز تلك الترقيات التي لا نهاية لها بغير مرافقة الجسم؟
إذن فإن هذه الأدلة كلها تبين – وفقًا للتعليم الإسلامي – أنه لا بدّ للروح من مصاحبة جسم على الدوام لأداء واجباتها حق الأداء. صحيح أن هذا الجسم الفاني يفارق الروح عند الموت.. ولكنها في عالم البرزخ تُعَوَّضُ عنه بجسم آخر.. لتذوق به جزاءَ أعمالها إلى حدِّ ما. ولا يكون ذلك الجسم من نوع هذه الأجسام.. وإنما يتكون من ظلمةٍ أو من نورٍ، بحسب نوعية أعمال الإنسان في هذه الدنيا، وكأن أعمال الإنسان هي التي تقوم مقام الأجسام في ذلك العالم. هكذا جاء في كلام الله مرارًا وتكرارًا حيث اعتبر بعض هذه الأجسام نورانية وبعضها ظلماتية، تكتسب نورها أو ظلمتها من الأعمال.
إنَّ هذا السر، وإنْ كان في غاية العمق، إلا أنه ليس مما يرفضه العقل. فيمكن للإنسان الكامل أن ينال في نفس هذه الحياة كيانًا نورانيًا غيرَ هذا الكيان الجسماني. وفي عالم الكشوف أمثلة كثيرة من هذا القبيل. إنه من الصعب إيضاح هذا الأمر لذي عقل محدود؛ ولكن الذي نال نصيبا من عالم الكشف لن ينظر إلى حقيقةِ تكوُّنِ جسمٍ من الأعمال نظرةَ استبعادٍ وعجبٍ، بل سوف يجد فيه متعة ولذة”. (فلسفة تعاليم الإسلام، ص 102-103)
الموت الروحاني
“ثم بإشاعة لُبِّ تعليم القرآن، وحقيقةِ كتاب الله الرحمن، الذي أُرسلتُ له في هذا الزمان، فإن هذا التعليم يدعو إلى الموت.. أعني إلى موتٍ يَرِدُ على النفس بترك الغَيريّة والهوى، ويدعو إلى محويّةٍ في الشريعة الفطريّة وحالةٍ كحالةِ مَن مات وفنى، ويجرّ إلى تعطُّلٍ تامّ من حركات الاختيار، وموافقةٍ بالفتاوى التي تحصُل للقلب في كل حين من الله مُنـزِّلِ الأقدار. وفي هذه الحالة يكون الإنسان مستهلكةَ الذات غيرَ تابعٍ لأمر النفس والجذبات، حتى لا يُنسَب إليه سكون ولا حركة ولا ترك ولا بطش ويتعالى شأنه عن التغيرات، ولا يوجد فيه من القصد والإرادة أثر، ولا من المدح والمذمّة خبر، ويصير كالأموات. فهذا نوع من الموت، فإنه لا يملك أهلُ هذا الموت حركةً ولا سُكونًا، ولا ألَمًا ولا لذّة، ولا راحة ولا تعبًا، ولا محبّة ولا عداوة، ولا عفوًا ولا انتقامًا، ولا بُخلاً ولا سخاوة، ولا جُبنًا ولا شجاعة، ولا غضبًا ولا تحنُّنًا، بل هو ميّتٌ في أيدي الحيّ القيّوم، ما بقي فيه حركةٌ ولا هوى، ولا يُنسَب إليه شيء من هذه العوارض كما لا يُنسَب إلى الموتى. ولا شك أن هذه الحالة موت وإنها منتهى مراتب العبودية، والخروج من العيشة النفسانية، وإليها تنتهي سير الأولياء الذاهبين إلى الحضرة الأحدية. هذا تعليم القرآن، وكلُّ تعليم دون ذلك في الجذب إلى الرحمن، وليس بعده مرتبة من مراتب السلوك والعرفان عند ذوي العقل والفكر والإمعان”. (الخطبة الإلهامية، الخزائن الروحانية مجلد 16 ص 314-315)