تفسيرسورة الكوثر من مجموعة أقوال المسيح الموعود عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام:
“إنَّ تاريخ قول الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} يعود إلى حين قال له كافرٌ بأنه ليس لديك أولاد، واستخدم كلمة “أبتر” قال الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}.
إن الذين سيأتون من حيث الروحانية سيُعدّون أولاده صلى الله عليه وسلم ويرثون علومه وبركاته وينالون نصيبا منها. وإذا قرأتم هذه الآية مع الآية: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} لتبينت الحقيقة تماما. لو لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم أولاد روحانيون؛ إذًا لاعتُبر أبتر، والعياذ بالله، مع أن ذلك مقدَّر لأعدائه. ويتبين من: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} أنه صلى الله عليه وسلم قد أُعطي أولادا روحانيين بكثرة. فلو لم نعتقد أنه صلى الله عليه وسلم أُعطي أولادا روحانيين بكثرة لكنا منكري هذه النبوءة.” (الحكم، مجلد7، رقم19، عدد24/ 5/1903م، ص2)
“إذا قُبل كما يقول معارضونا بأنه لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم ابن مادي ولا روحاني فهذا يعني أنهم يعُدّونه أبتر، والعياذ بالله، ولكن الأمر ليس كذلك بل إن شأنه هو: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}.” (الحكم، مجلد6، رقم37، عدد17/ 10/1902م، ص10)
“لو بدأت سلسلته صلى الله عليه وسلم عليه وانتهت عليه وحده لكان صلى الله عليه وسلم أبتر، والعياذ بالله، مع أن الله تعالى قال مخاطبا إياه: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}، أي قد أعطيناك أولادا روحانيين بكثرة، والذي يزعم أنك أبتر فإنه هو الأبتر بنفسه. صحيح أنه لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم ابن مادي، وإن لم يكن له أولاد روحانيين أيضا فقولوا بالله عليكم ماذا عسى أن يسمى شخص مثله؟ إنني أرى إلحادا كبيرا وكفرا بواحا أن يعتنق المرء هذا الاعتقاد عن النبي صلى الله عليه وسلم. لم يقل الله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} لأيّ نبي سواه صلى الله عليه وسلم، فهذه ميزة متميزة للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، وقد أُعطي أولادا روحانيين دون عدّ وحساب لذا هذه السلسلة جارية إلى يوم القيامة، وبسبب الأولاد الروحانيين يُعَدّ النبي صلى الله عليه وسلم نبيا حيًّا لأن سلسلة أنواره وبركاته جارية إلى الأبد، وكما تكون في الأولاد نقوش الوالدين كذلك توجد في الأولاد الروحانيين آثارُ كمالات النبي صلى الله عليه وسلم وفيوضه ونقوشُه. الولد سرٌّ لأبيه.” (الحكم، مجلد9، رقم39، عدد10/ 11/1905م، ص3)
معنى الأبتر في القاموس العربي
“سترى بالنظر في كلام العرب بالاستقصاء أن كلمة “الأبتر” لا تتضمن شرطا أن يموت أولاد أحد في حياته حتما، بل الشرط هو قطع النسل. فقد ورد في لغة العرب في معنى “بتر”: “البتر استئصال الشيء قطعا” …. فهذه النبوءة لا تقتضي بالضرورة أن يموت كل أولاده في حياته، لأنه إذا كان ذلك ضروريا فماذا يمكن أن تُسمَّى حالة قطع النسل حين يموت أحد تاركا وراءه ابنا أو ابنين ثم يموت ابناه أيضا بعده ولا يبقى له نسل قط؟ هل توجد في كلام العرب كلمة تُطلق على هذه الحالة إلا “الأبتر”؟ وهل يجوز القول إن هذا الشخص ليس مقطوع النسل، وإن استئصال الشيء لا ينطبق عليه قطعا؟ الظاهر أن هذه الفكرة ليست إلا حمقا وغباوة، إذ لا توجد في كلام العرب كلمة تُطلق على هذا النوع من قطع النسل إلا “الأبتر”. إن العرب في كل الأحوال يطلقون “الأبتر” على الذي يجعله أولاده مستحقا لهذا الاسم سواء بموتهم في حياته أو بعد مماته. فكل مَن قُطع نسله وعُدَّ منقطع النسل يُطلق عليه “الأبتر” في كل الأحوال وفي جميع البلاد. ولم يذكر أحد من أئمة لغة العرب أن من شروط كون أحد أبتر أن يكون له أولاد ثم يموتون في حياته. وهل يُطلق على مَن لم يمت أولاده في حياته بل جعلوه أبتر بموتهم بعده .. هل يطلق عليه اسم آخر في لغة العرب؟ بل الحق، كما بينّا أن هذه الكلمة واسعة المعاني جدا لأن البَتْر في العربية تعني الاستئصال.
وليكن واضحا أن لكلمة “أبتر” معانيَ واسعة جدا في اللغة العربية. فقد ورد في قاموس “لسان العرب”: “البَتْرُ: اسْتِئْصالُ الشيء قطعًا. البَتْرُ: قَطْعُ الذَّنَبِ ونحوه. الأَبْتَرُ المقطوعُ الذَّنَب. والأَبْتَرُ من الحيات الذي يقال له الشيطان، لا تبصره حامل إلا أسقطت. وفي الحديث كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر. والأبتر الذي لا عقب له.“
“كذلك ورد في لسان العرب: “والعَقِبُ والعَقْبُ ولَدُ الرجلِ ووَلَدُ ولَدِه الباقونَ بعده.“
بناء على هذا المعنى يُطلق “الأبتر” على من لا ولد له ولا ولد لولده. أما إذا نسَل أحد أبنائه فلا يُطلق عليه أبتر. فمن مات ولم يخلِّف ولدا ينسل بعده فهو أيضا أبتر.
“وبه فُسّر قوله تعالى إن شانئك هو الأبتر. نزلت في العاصي بن وائل وكان دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس فقال: هذا الأبتر، أي هذا الذي لا عقب له. فقال الله جلّ ثناؤه إن شانئك يا محمد هو الأبتر، أي المنقطع العقب.”
أي المقدر عند الله أن الأولاد الذين يعتز بهم سيفنون كلهم في نهاية المطاف سواء في حياته أو بعد مماته، وينقطع نسله. ومعلوم أن العاص بن وائل كان له أولاد، فلو كان أبتر أي بغير أولاد لكان من غير المعقول أن يذكر النبيَّ صلى الله عليه وسلم بكلمة أبتر مع كونه بنفسه أبتر. فكانت هذه نبوءة من الله تعالى أن نسله سيُقطع في نهاية المطاف سواء في حياته أو بعده، وكذلك كان. ولكن يبدو أنه مات تاركا أولاده وراءه ولكن قضي على أولاده أيضا بعده، لأنه لو مات أولاده أمام عينيه لذُكروا حتما.
“وجائز أن يكون هو المنقطع عنه كل خير. وفي حديث ابن عباس قال: لما قدم ابن أشرف مكة قالت له قريش أنت خير أهل المدينة وسيدهم. قال: نعم. قالوا ألا ترى هذا الصُّنَيبر الأُبيتر عن قومه؟ يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة وأهل السقاية. قال أنتم خير منه. فأنزلت {إن شانئك هو الأبتر}.”
أي ليس له ولد ولا أخ ولا أصدقاء، بل هو وحيد ومقطوع عن القوم. والقوم أخرجوه من بينهم بسبب الاختلاف الديني وأفتوا ألا يتعامل معه أحد ولا يواسيه. ومع أنه ليس له إكرام ولا يعرفه أحد فهو مع ذلك يزعم أنه خير منا. أما نحن فقوم محترمون. ونحن أهل الحجيج وأسيادهم وأهل السدانة وأهل السقاية. أما هذا فلا يُعتَدُّ به. حين سمع ابن الأشرف كل هذه الأمور قال هذا الشقي: أنتم خير مِن هذا الذي يدّعي البنوة. عندها قال الله تعالى فيهم وفي كل من نعتَه بأبتر من قريش: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} أي أن ابن الأشرف وغيره من كفار قريش الذين سمّوا النبي صلى الله عليه وسلم أبتر، هم الذين تنطبق عليهم هذه الصفة، أي أن نسلهم ينقطع، وسيموتون محرومين من كل خير وبركة.
لم يستطع أحد أن يثبت إلى اليوم أن الذين أطلقوا من قريشٍ على النبي صلى الله عليه وسلم كلمة “أبتر” كان جميع أبنائهم قد ماتوا في حياتهم أو لم يكن لهم أولاد أصلا، لأنه لو لم يكن لهم أولاد لما سمَّوا النبي صلى الله عليه وسلم أبتر قط. لا يمكن لعاقل أن يقبل أنه من الممكن أن يسمي أحدٌ أحدًا أبتر مع كونه هو أبتر بنفسه؛ فلا بد من التسليم أنه كان لهم أولاد. وأما القول بأن أولادهم ماتوا في حياتهم حسب النبوءة فهذا أيضا ليس مما يمكن التسليم به إذ لا يقبله العقل قط؛ لأنه لم يستخدم كلمة “أبتر” شخص أو شخصان فقط، بل استخدمها مئات الأشرار والخبثاء البالغ عدد أولادهم إلى الآلاف، فلو مات أولادهم في حياتهم لقام مأتم كبير في البلاد لأن موت آلاف الأولاد على سبيل المعجزة، ثم موت آبائهم دون أولاد لم تكن بمعجزة عادية لتخفى على الناس، بل كان ضروريا أن تُذكر في كتب الأحاديث والتاريخ. فيثبت من ذلك يقينا أن معظمهم ماتوا تاركين الأولاد وراءهم ثم قُطع نسلهم رويدا رويدا حسب النبوءة ….
“والأبتر المُعْدِم. والأبتر الخاسر، والأبتر هو الذي لا عُرْوَةَ له من المَزادِ والدِّلاء.“
ويتبين من كل هذا البحث والتحقيق أن كلمة “أبتر” ليست خاصة بمن لا ابن له، بل تُطلَق أيضا على كل تعيس الحظ والمحروم الخائب الخاسر … إضافة إلى ذلك قد ثبت أيضا من التحقيق الذي ذكرناه، أنه ليس ضروريا للأبتر أن يموت وليس له أولاد قط، بل لو انقطعت سلسلة أولاده فيما بعد لسُمِّي أبتر أيضا. وكما سبق أن ذكرنا أن مئات من ذوي الطبائع الخبيثة من قريش كانوا يسمّون النبي صلى الله عليه وسلم أبتر وكان لهم أولاد. ولم يُثبَت في تاريخ الإسلام أن أولادهم وأحفادهم هلكوا في حياتهم، بل قُطع نسلهم فيما بعد رويدا رويدا.” (تتمة حقيقة الوحي، ص7 – 11)
“إنهم …. يعُدّون رسول الله صلى الله عليه وسلم أبتر من الناحية الروحانية والمادية أيضا مع أن الله تعالى يقول: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}، وإن قرينة “الكوثر” هنا هي: “فصلِّ لربك وانحر“، ويكون النحر من أجل الأولاد أيضا كما يضحّون عند العقيقة. إن لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم أولاد روحانيين ولا ماديين فلماذا استُخدمت كلمة “وانحر” أصلا؟” (البدر، مجلد1، رقم7، عدد12/ 12/1902م، ص50)
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
نقلها الأستاذ فراس علي عبد الواحد