يقول المسيح الموعود ؏
“أما بعد، إن ما سألته عن مسألة “وحدة الوجود”، فكان الأجدر بك أن تكتب الوساوس والأوهام التي يقدّمها أصحابُ هذه النظرية السقيمة كدليلٍ أمامك. فقد أمعنت النظر فيها كثيرًا ولمدة طويلة، وتدبّرت كتاب الله ﷻ والأحاديث النبوية بإمعان، وفحصتُ كتب محيي الدين بن عربي وغيره المليئة بمثل هذه الأفكار، ثم فكرتُ فيها بما آتاني الله من عقل، ولكني لم أعثر، حتى اليوم، على أي دليل مقنع أو حجة صائبة على صدق هذه الدعوى، ولم يقم عندي أي برهان على صحتها، إنما تبطلها براهين قوية وحجج دامغة لا يمكن دحضها. فأولاً إن القرآن الشريف برهان كبير وقوي للمسلمين، بل لكل من يريد الحق. فقد أكّد الله تعالى في محكم آياته مرارا أن كل ما في السماوات والأرض مخلوق، وأن بين الإنسان وربه فارقًا أبديًا لا يمكن أن يزول في هذا العالم ولا في العالم الآخر. ليس للمخلوق هنا ولا هناك إلا عبودية عاجزة. بل قد ورد في هذا الكلام المقدس صراحةً أن العبودية لازمة لروح الإنسان على الدوام، حتى إن غاية خَلقِه هي العبودية نفسها؛ حيث قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ).. أي قد خلقتُ الجن والإنس لعبادتي الدائمة. ثم قال لروح الإنسان الكامل في وقتها الأخير: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي).. والواضح من هذه الآيات الجامعة للبركات أن العبودية لازمة لروح الإنسان لزومًا دائما، وقد خُلق الإنسان من أجل هذه العبودية. بل تبين الآية الأخيرة أن الإنسان إذا بلغ سعادته الكاملة، ونال جميع كمالاته الفطرية، وأوصل مواهبه إلى ذروتها النهائية، مُنح، في حالته الأخيرة، لقب العبودية نفسه، فيخاطَب: (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي). فترى كيف تؤكد هذه الآية بصراحة تامة أن مقصد الإنسان الكامل هو العبودية، وأن مراتب سلوك السالك تنتهي عند العبودية نفسها. لو كانت العبودية ثوبًا مؤقتًا للإنسان، ولو كانت الألوهية حقيقته الأصلية، لدُعي باسم الألوهية بعد اجتياز جميع مراتب السلوك، ولكن كلمة: (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي) تكشف بجلاء أن العبودية ملازمة له على الدوام في هذه الدنيا، كما ستظل ملازمةً له إلى أبد الآباد. فإن هذه الآية تعلن بصوت عال أن من المحال أن يخرج الإنسان من حالة العبودية في حال من الأحوال مهما بلغ من مراتب الكمال. والواضح أن الحالة أو الكيفية التي لا يمكن لشيء أن يخرج منه إنما هي حقيقته وماهيته. وحيث إن الثابت من القرآن الكريم بجلاء أن العبودية لازمة لنفس الإنسان لزومًا لا ينفصل عنها ولو أصبح نبيًا أو رسولا أو صدّيقًا أو شهيدًا، لا في هذا العالم ولا في العالم الآخر، وحيث إن كل الأنبياء أصغرهم وأفضلهم قد افتخروا بكونهم عبادَ الله ﷻ ورسلَه، أقول: فقد ثبت من هنا أن حقيقة الإنسان وماهيته هي العبودية، لا الألوهية. وإذا ادّعى أحد أنها الألوهية فليقدم آية قرآنية تقول مثلاً “فادخلي في ذاتي”، إزاءَ الآية المحكمة البيّنة: (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي). ثم إن القرآن الكريم نفسه قد أكد في مواقع عديدة أن غاية نزوله إنما هي تثبيت الناس على العبودية، وقد لعن الله تعالى في كتابه العزيز الذين اتخذوا المسيحَ وغيره من الأنبياء إلهًا. فكيف يستحق رحمةَ الله قوم اعتبروا العالم كله حتى الأرواح النجسة المليئة بالشر والفسق والفجور إلهًا؟
غير أن من الحق أن التوحيد حسب تعاليم القرآن الكريم ينقسم إلى مراتب ثلاث: دُنيا ووسطى وعليا، وإليك بيانها.
إن أدنى مراتب التوحيد التي لا يتحقق الإيمان بدونها هي نفيُ الشرك.. أي البراءة من ذلك الشرك الذي يَعتبر فيه المشركون- ظلمًا وعدوانًا- المخلوقات شريكةً في أفعال الله ﷻ، حيث اتخذ بعضهم الشمس والقمر والنار والماء آلهةً يتوسلون إليها لسد حاجاتهم، بينما رفع الآخرون بعضَ البشر إلى مرتبة الألوهية، واعتبروهم، مِثل الله القدوس، قادرين مطلقي القدرة وقاضين للحوائج. فهذا شرك صريح وظلم بديهي يراه كل عاقل.
وثاني درجات التوحيد منوطة بترك القسم الثاني من الشرك الذي بيّنه القرآن الشريف، وهو أدقُّ من الشرك الأول فلا يفهمه العوام الذين هم كالأنعام.. والمراد منه اعتبارُ الأسبابِ شريكةً مع الله تعالى في أفعال قدرته، وعدمُ اعتبار الله وحده هو الفاعل الحقيقي والمؤثر الحقيقي. فمثلاً هناك صاحبُ محلٍّ مسلمٌ يسمع أذان الجمعة في وقت قد اجتمع عنده زبائن كثيرون، فيقول في نفسه إنه لو أغلق محلّه الآن لصلاة الجمعة لخسر كثيرًا، لأنه سيتأخر حتمًا بسبب سماع الخطبة وأداء الصلاة، وربما يكون وعظ بعدها أيضًا، فيذهب الزبائن كلُّهم في هذه الفترة، فيُحرَم الربحَ الذي يمكن أن يكسبه ببقائه في المحل. هذا شرك في الأسباب، إذ لو كان صاحب المحل مدركًا أن له رازقًا متصرفًا قادرًا مطلق القدرة، بيده القبض والبسط، وأنه لو أطاعه لن يخسر شيئًا، وأن الحيل والتدابير لن تزيد في رزقه خلافًا لإرادته ﷻ، أقول لو فكر هكذا لما وقع في هذا الشرك. ولأن هذا النوع من الشرك دقيق، فيقع فيه خلق كثير، ويتهافت معظم الناس على عبادة الأسباب بحيث يعتبرونها إلهًا لهم. وهذا النوع من الشرك كحُمّى السُلّ الذي يكون مخفيًا ومستورًا عن الأنظار في معظم الأوقات.
وثالث مراتب التوحيد منوطة بترك القسم الثالث من الشرك الذي بيّنه القرآن الكريم، وهو دقيق جدًا ولا يعلمه إلا أصحاب البصيرة الثاقبة، ولا ينجو منه إلا الكاملون، وهو غلبةُ ذكرِ ما سوى الله على قلب الإنسان، وإضاعةُ الوقت في حبهم أو عداوتهم، واعتبارُ هؤلاء العجزة شيئًا يُذكَر.
ولا يمكن التخلص من هذا الشرك الذي يتوقف على تركه التوحيدُ الكامل، إلا إذا استولى حبُّ الله على قلب المحبِّ الصادق بحيث يرى بنظرة عشقه كل ما سوى الله كالمعدوم رغم كونه موجودًا، حتى يَذهَل عن نفسه هو أيضًا، ويشعّ نور المحبوب الحقيقي بحيث ينعدم أمامه وجود الأشياء وحقيقتها. وكمال هذا التوحيد يكمن في أن ما سوى الله يكون موجودًا في الواقع، إلا أنه يصبح كالمعدوم في نظرة السالك العاشقة المشتعلة نتيجة حب الله تعالى اشتعالا كاملاً، فيعتبر ما سوى الله معدومًا ومنفيًا بسبب غلبة حب الحضرة الأحدية؛ إذ لو كان ما سوى الله معدومًا منفيًا في الواقع، لفقد هذا التوحيد من الدرجة الثالثة كل حُسنه وجماله؛ ذلك أن حُسن هذا التوحيد الكامل يكمن في استيلاء حب المحبوب الحقيقي وعظمته على قلب السالك بحيث تبدو له الأشياء الأخرى كالمعدوم نتيجة غلبة شهوده التام لمحبوبه، أما لو كانت الأشياء الأخرى معدومة في الواقع فأين تأثير استيلاءِ المحبة الإلهية وغلبةِ شهود العظمة الربانية؟ وأي كمال ثبت في هذا التوحيد؟ لأن اعتبار المعدوم في الواقع معدومًا لا يتوقف على استيلاء المحبة الإلهية، إنما يثبُت كمال المحبة الإلهية وشهود العظمة التامة إذا اعتبر العاشقُ الهائم -بسبب استيلاء العشق فقط، وبدون أي سبب آخر- ما سوى محبوبه ومعشوقه معدومًا، وإنْ كان العقل الشرعي يبيّن له أن تلك الأشياء ليست معدومة في الحقيقة. ومثاله أنه عندما يطلع النهار ويستولي ضوء الشمس على أعين الناس، فإنهم لا يستطيعون رؤية النجوم بسبب استيلاء ضوء الشمس، مع علمهم أن النجوم ليست معدومة في ذلك الوقت؛ كذلك فعند استيلاء محبة الله وعظمته يبدو العالم كله في عين المحب الصادق معدومًا إلا حبيبه.
لا شك أن هذه الأنوار تظهر في العشق الحقيقي (يعني الحب الإلهي) بأكمل وأتم صورة، بيد أن صاحب العشق المجازي (أي العشق المادي) أيضًا يبلغ أحيانًا في عشقه درجةً يعتبر فيها كل شيء حتى نفسه كالمعدوم إلا حبيبه. فقد قيل إن المجنون، الذي اسمه قيس، قد جُن في آخر مراحل عشقه لدرجة أنه بدأ يقول: أنا ليلى. والواضح أنه ما صار “ليلى” في الواقع، بل سببه أنه ظل مستغرقًا في تصور ليلى فترة طويلة فأخذ ينسى نفسه شيئًا فشيئًا، إلى أن بلغ استغراقه وتفانيه منتهاه، حتى بدأ يقول من جنون العشق: “أنا ليلى”، وانعقد في قلبه أنه ليلى في الواقع.
باختصار، إن اعتبار غير الله معدومًا من لوازم كمال العشق. أما إذا كان هذا الغير معدومًا في الواقع، فهو ليس دليلاً على استيلاء المحبة وجنون العشق.
وإن وجود آثار الاستغراق والتفاني أثناء غلبة العشق ليس بأمر يصعب فهمه على الإنسان…. وقد كان من أثر الاستغراق والتفاني أن صديقات زليخا قطّعن أصابعهن.
ملخص القول: لقد بين القرآن الكريم أن كمال التوحيد أن يعتبر المحب الصادق، بسبب غلبة حب محبوبه الحقيقي ورؤية عظمته، ما سوى حبيبه كالمعدوم، وليس أنه يكون معدومًا في الواقع، لأن اعتبار المعدوم معدومًا لا يدل على غلبة العشق والمحبة. إذًا فلا بد للعاشق الصادق من التوحيد، لأنه علامة كمال عشقه. إنما التوحيد ألا ينظر إلى إلا واحد، ولكن لا يعني ذلك أنه يعتبر -عقليًا- أن ما سوى المحبوب معدوم في الواقع، إذ من المحال أن تجري هذه الكلمات على لسانه وهو بكامل عقله ووعيه، وأن ينكر حقائق الأشياء وهو ينظر إليها من مرتبة حق اليقين، بل إنه يقرّ بوجودها كما هي في الواقع.
وحيث إن هذا التوحيد الشهودي لازم وضروري للفناء، فقد ذكره الله تعالى في كلامه المقدس بالتفصيل، والجاهل حين يرى بعض تلك الآيات، يظن خطأً أنها تشير إلى التوحيد الوجودي (وحدة الوجود)، ولا يفهَم أن التناقض في كلام الله محال. فما دام الله تعالى قد دلل بمئات الآيات البيّنة والنصوص الصريحة على ما بيْنه وبيْن خلقه من فرق تام، واستدل على كونه صانعًا باعتبار صنائعه موجودة في الواقع، وقسَّم ما سواه من مخلوق بيْن سعيد وشقي، وجعل لبعضهم خلودًا في الجنة ولبعضهم خلودًا في الجحيم، وذكر كل أنبيائه ورسله وصدّيقيه بكلمة العباد، وأكد على عبوديتهم الدائمة غير المنقطعة حتى في الآخرة.. فكيف يجوز إذًا تأويل بعض الآيات بما يخالف هذا البيان الصريح والواضح والموافق للعقل أيضًا. إنما هو دأب مَن لا يَنشد الصراط المستقيم، بل يريد عيشة الإلحاد والزندقة مستهترا بلا مسؤولية، وإلا فالإنسان لو فكر بعقله فقط لاتّضح له على الفور أنه شتان بين هذه الحفنة من التراب (أي الإنسان) وربِّها المقدس. إن الإنسان يرى في الدنيا مكروهات كثيرة رغم أنفه، ولا يتحقق له مطالب كثيرة رغم دعائه وتضرعه، فلو كان الإنسان إلهًا في الحقيقة فلِمَ لا يحقق له كل ما يتمناه بكلمة “كن فيكون”؟ ولم لا تتجلى فيه صفات الله؟ هل يمكن أن تنفصل حقيقةٌ ما عن لوازمها الذاتية؟ فإذا كانت حقيقة الإنسان الألوهيةَ، فلم لا تظهر فيه آثارها؟ لقد ظل يعقوب ؏ يبكي أربعين سنة ولم يستطع أن يعرف مكان ابنه الحبيب إلا حين أراد الله. فما دامت صفات الألوهية لم تظهر في أشخاص الأنبياء فما بالك بغيرهم؟ وحيث إنه لم يبرز حتى الآن أحد في الميدان ليُظهِر أمام جميع مخالفيه وموافقيه ما فيه من قوى الألوهية، فكيف نتوقعه في المستقبل؟
وبالإضافة إلى ذلك، ينبغي الأخذ في الحسبان ما يصدر عن الإنسان من أعمال سيئة ونجسة! فهل لعاقل أن يسلّم بإمكانية صدور هذه السيئات من روح الله؟!” (مكتوبات أحمدية، مجلد 1، الرسالة رقم 43)