ولادته ؏ تَوْءَمًا
“وُلِدتُ توءمًا وكانت صبيةٌ تولّدتْ معي في هذه القرية، فماتت وبقيتُ حيًّا من أمر الله ذي العزة“. (الخطبة الإلهامية، الخزائن الروحانية، مجلد 16، ص 85)
“إن آدم خُلق منه حوّاءُ كالتَوءَم مِن يد القدرة، وكذلك خُلق المسيح الموعود توءما وتولّدتْ معه صبيةٌ مسمّاة بالجَنّة، وماتت إلى ستة أشهر من يوم الولادة وذهبت إلى الجنّة، وما ماتت حوّاء لتكون سببًا للكثرة، فإن آدم قد ظهر لينقل الناس من العدم إلى الوجود، فكان حقُّ تَوْءَمِه أن يبقى لينصره على تكميل المقصود، وأمّا المسيح الموعود فقد ظهر لينقل الناس من الحياة إلى المَنيّة، فكان حقُّ توءمِه أن ينقل من هذه الدار ليكون إرهاصًا للإرادة المَنْويّة. ثم إنّ آدم خُلق في يوم الجمعة، وكذلك وُلد المسيح الموعود في هذا اليوم في الساعة المباركة. ثم إن آدم خُلِق في يوم السادس، وكذلك المسيح الموعود خُلق في الألف السادس“. (الخطبة الإلهامية، الخزائن الروحانية، مجلد 16، ص 317)
“وسمعتُ أمي تقول لي مرارًا: إن أيامنا بُدّلت من يوم ولادتك، وكنا من قبل في شدائد ومصائب، وذا أنواع كروبٍ ومحنٍ، فجاءنا كل خير بمجيئك، وأنت من المباركين“. (التبليغ، ص 101)
أيام الصبا ومطلع الشباب
“ولما ترعرعتُ ووضعتُ قدمي في الشباب، قرأتُ قليلا من الفارسية، ونبذة من رسائل الصرف والنحو وعدة من علوم تعميقية، وشيئًا يسيرًا من كتب الطب. وكان أبي عَرّافًا حاذقًا، وكانت لـه يد طولى في هذا الفن، فعلمني من بعض كتب هذه الصناعة، وأطال القول في الترغيب لكسب الكمال فيها، فقرأت ما شاء الله، ثم لم أجد قلبي إليه من الراغبين. وكذلك لم يتفق لي التوغل في علم الحديث والأصول والفقه إلا كطلّ من الوَبْل، وما وجدتُ بالي مائلا إلى أن أشـمّر عن ساق الجد لتحصل تلك العلوم، وأستحصل ظواهر إسنادها، أو أقيم كالمحدثين سلسلة الأسانيد لكتب الحديث.
وكنت أحب زمرة الروحانيين. وكنت أجد قلبي مائلا إلى القرآن ودقائقها ونكاتها ومعارفها. وكان القرآن قد شغفني حبا، ورأيت أنه يعطيني من أنواع المعارف وأصناف الأثمار لا مقطوعة ولا ممنوعة، ورأيت أنه يقوي الإيمان ويزيد في اليقين…..
فالحمد لله ثم الحمد لله أنه أنالني حظًا وافرًا من أنواره، وأزال إملاقي من درره، وأشبع بطني من أثماره، ومنح بي من النعم الظاهرة والباطنة، وجعلني من المجذوبين. وكنت شابًا وقد شختُ، وما استفتحت بابًا إلا فتحت، وما سألت من نعمة إلا أعطيت، وما استكشفت من أمرٍ إلا كشفت، وما ابتهلت في دعاءٍ إلا أجيبت، وكل ذلك من حبي بالقرآن، وحبّ سيدي وإمامي سيد المرسلين، اللهم صل وسلم عليه بعدد نجوم السماوات وذرات الأرضين. ومن أجل هذا الحب الذي كان في فطرتي، كان الله معي من أول أمري، حين ولدت وحين كنت ضريعا عند ظِئْري، وحين كنت أقرأ في المتعلمين“. (التبليغ، ص 102-105)
مرحلة العشرين
“حُبِّبَ إلي منذ دنوت العشرين أن أنصر الدين، وأجادل البراهمة والقسيسين. وقد ألفت في هذه المناظرات مصنفات عديدة، ومؤلفات مفيدة، منها كتابي: “البراهين”. كتاب نادر ما نُسج على منواله في أيام خالية، فليقرأه من كان من المرتابين. قد سللت فيه صوارم الحجج القطعية على أقوال الملحدين، ورميت بشهبها الشياطين المبطلين. قد خفض هام كل معاند بذلك السيف المسلول، وتبيّنت فضيحتهم بين أرباب المنقول والمعقول، وبين المنصفين. فيه دقائق العلوم وشواردها، والإلهامات الطيبة الصحيحة والكشوف الجليلة ومواردها، ومن كل ما يجلّي درر معارف الدين المتين. ولي كتب أخرى تشابهه في الكمال، منها: الكحل، والتوضيح، والإزالة، وفتح الإسلام، وكتاب آخر سبق كلها ألفته في هذه الأيام، اسمه: “دافع الوساوس”، هو نافع جدًا للذين يريدون أن يروا حسن الإسلام، ويكفّون أفواه المخالفين. تلك كتب ينظر إليها كل مسلم بعين المحبة والمودة وينتفع من معارفها، ويقبَلني ويصدّق دعوتي، إلا ذريةَ البغايا الذين ختم الله على قلوبهم فهم لا يقبلون“. (التبليغ، ص 105-106)
عند سن الأربعين أي في عام 1875
الرؤى والكشوف
“ولما بلغت أشد عمري وبلغت أربعين سنة، جاءتني نسيم الوحي بِرَيَّا عناياتِ ربي، ليزيد معرفتي ويقيني، ويرتفع حجبي وأكون من المستيقنين. فأول ما فتح عليّ بابه هو الرؤيا الصالحة، فكنت لا أرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. وإني رأيت في تلك الأيام رؤيا صالحة صادقة قريبًا من ألفين أو أكثر من ذلك.. منها محفوظة في حافظتي وكثير منها نسيتها، ولعل الله يكررها في وقت آخر ونحن من الآملين“. (التبليغ، ص 107)
“حين دنت وفاة أبي اتفق لي أن رأيت مرة في المنام شخصا من أهل الله متقدما في السنّ، طيّب الشكل، فقال لي ما مفاده: إن من سنة أهل بيت النبوة الصيامَ لبعض الأيام من أجل الأنوار السماوية. وأشار إلى أن أتأسى بأسوة أهل البيت هذه. فرأيت من المناسب أن ألتزم بالصيام لفترة من الزمان…… لقد استمر بي الحال على هذا المنوال لمدة ثمانية أو تسعة شهور، ورغم ضآلة الطعام الذي كنت أتناوله والذي لم يكن ليصبر عليه ابن الشهرين أو الثلاثة أيضا.. فإن الله تعالى قد حفظني من كل سوء ومكروه. ومن العجائب التي حظيت بها من خلال هذا النوع من الصيام هي تلك المكاشفات اللطيفة التي كُشفت علي.. فقد قابلت العديد من الأنبياء الكرام.. وكذلك بعض كبار الأولياء والصلحاء المسلمين الذين خلوا من قبل. وقد شاهدت رسول الله ﷺ بحالة اليقظة التامة وهو في رفقة الحسنَين وعلي وفاطمة ؓ. ولم يكن ما رأيته في رؤيا وإنما كانت في حالة من اليقظة….
وعلاوة على ذلك.. رأيت الأنوار الروحانية على وجه التمثيل كأعمدة لها ألوان مختلفة كالأخضر والأحمر، وكانت تتراءى من الجمال وقوة التأثير ما يعجز الإنسان عن وصفه. وكانت تلك الأعمدة النورانية المتصاعدة نحو السماء التي كانت بعضها ناصعة البياض وبعضها خضراء وأخرى حمراء كلها كانت تتصل بقلبي اتصالا خاصا يبعث السرور في القلب، حتى كنت أشعر عند مشاهدتها في قلبي بنشوة خاصة لا سبيل لمقارنة لذتها مع أي شيء آخر. وكنت أتصور أن تلك الأعمدة الروحانية هي تعبير عن الحب المتبادل بين الله والإنسان.. ويعني ذلك أن نورا قد تصاعد من القلب ونورا آخر قد نزل من فوق.. وأخذا شكلَ عمود نوراني حينما التقيا. إن هذه الأمور الروحانية مما لا يمكن لأهل الدنيا أن يدركوها، لأنها بعيدة عن عيونهم، ولكن هناك مَن مَنَّ الله عليه في الدنيا بإدراك هذه الأمور.
ومن العجائب التي ظهرت علي في فترة الصيام تلك كانت عبارة عن ضروب من المكاشفات. واستفدت من خلال هذه التجربة أيضا أنني تبينت أني أستطيع.. إذا اقتضى الحال.. أن أتحمل الجوع لفترة طويلة من الزمن. وخطر ببالي أكثر من مرة بأنه إذا أُجبر شخصٌ سمين مصارع قوي ليتحمل الجوع معي، فإنه سوف يموت قبل أن أشعر أنا بحاجة إلى الطعام…. وإنني على يقين أن الذي يخلد إلى حياة التنعم والراحة لا يسمو إلى المراتب الروحانية. ولكني لا أنصح كل واحد أن يقوم بمثل هذا الصيام.. كما لم أقم به أنا أيضا بناء على اختياري… اعلموا أنني لم أتحمل هذه المشقة الجسدية إلى فترة ثمانية أو تسعة شهور حيث ذقت الجوع والعطش إلا بأمر من الله الذي تلقيته بواسطة الكشف الصريح، ولم أعد إلى تكرارها إلا نادرا“. (كتاب البرية، الخزائن الروحانية مجلد 13 ص 197-200 الحاشية)
“ورأيت ذات ليلة وأنا غلام حديث السن كأني في بيت لطيف نظيف، يُذكَر فيها رسول الله ﷺ. فقلتُ: أيها الناس، أين رسول الله ﷺ؟ فأشاروا إلى حجرة، فدخلت مع الداخلين. فبشّ بي حين وافيته، وحيّاني بأحسن ما حييتُه، وما أنسى حسنه وجماله وملاحته وتحننه إلى يومي هذا. شغفني حبًا وجذبني بوجه حسين. قال: ما هذا بيمينك يا أحمد؟ فنظرت فإذا كتاب بيدي اليمنى، وخطر بقلبي أنه من مصنفاتي، قلتُ: يا رسول الله.. كتاب من مصنفاتي. قال: ما اسم كتابك؟ فنظرت إلى الكتاب مرة أخرى وأنا كالمتحيرين، فوجدته يشابه كتابًا كان في دار كتبي واسمه: “قطبي”. قلت: يا رسول الله، اسمه قطبي. قال: أرِني كتابك القطبي. فلما أخذه ومسّته يده إذا هي ثمرة لطيفة تسرّ الناظرين. فشققها كما يشقق الثمر، فخرج منها عسل مصفى كماء مَعينٍ. ورأيت بَلّةَ العسل على يده اليمنى من البنان إلى المرفق، كان العسل يتقاطر منها.. وكأنه يريني إياه ليجعلني من المتعجبين. ثم أُلقي في قلبي أن عند أُسْكُفّة البيت ميّت قدر الله إحياءه بهذه الثمرة، وقدّر أن يكون النبي ﷺ من المحيين. فبينما أنا في ذلك الخيال فإذا الميّتُ جاءني حيا وهو يسعى وقام وراء ظهري، وفيه ضعف كأنه من الجائعين. فنظر النبي ﷺ إلي متبسما، وجعل الثمرة قطعات وأكل قطعة منها، وآتاني كل ما بقي، والعسل يجري من القطعات كلها، وقال: يا أحمد.. أعطه قطعةً من هذه ليأكل ويتقوى. فأعطيته، فأخذ يأكل على مقامه كالحريصين. ثم رأيتُ أن كُرسي النبي ﷺ قد رُفع حتى قرب من السقف، ورأيته فإذا وجهه يتلألأُ كأن الشمس والقمر ذُرّتا عليه، وكنت أنظر إليه وعبراتي جارية ذوقًا ووجدًا، ثم استيقظت وأنا من الباكين.
فألقى الله في قلبي أن الميّت هو الإسلام، وسيُحييه الله على يدي بفيوض روحانية من رسول الله ﷺ، وما يدريكم لعل الوقت قريب، فكونوا من المتنظرين. وفي هذه الرؤيا رباني رسول الله ﷺ بيده وكلامه وأنواره وهدية أثماره. فأنا تلميذه بلا واسطة بيني وبينه، وكذلك شأن المحدَّثين.
وكنت ذات يوم فرغت من فريضة المساء وسننها، وأنا مستيقظ ما أخذني نوم ولا سنة وما كنت من النائمين. فبينما أنا كذلك إذا سمعت صوت صَكِّ الباب. فنظرت فإذا المِدَكُّون يأتونني مسارعين. فإذا دنَوا مني عرفتُ أنهم خمسة مباركة.. أعني عليًّا مع ابنيه وزوجته الزهراء وسيد المرسلين. اللهم صل وسلم عليه وآله إلى يوم الدين. ورأيت أن الزهراء وضعتْ رأسي على فخذها ونظرتْ بنظراتِ تحنن كنتُ أعرف في وجهها. ففهمتُ في نفسي أن لي نسبة بالحسين وأشابهه في بعض صفاته وسوانحه، والله يعلم وهو أعلم العالمين. ورأيتُ أن عليًّا ؓ يريني كتابًا ويقول هذا تفسير القرآن.. أنا ألفته، وأمرني ربي أن أعطيك. فبسطتُ إليه يدي وأخذتُه. وكان رسول الله ﷺ يرى ويسمع ولا يتكلم كأنه حزين لأجل بعض أحزاني، ورأيته فإذا الوجه هو الوجه الذي رأيتُ من قبل، أنارت البيت من نوره، فسبحان الله خالق النور والنورانيين.
وكنت ذات ليلة أكتب شيئا فنمت بين ذلك، فرأيت رسول الله ﷺ ووجهُه كالبدر التام، فدنا مني كأنه يريد أن يعانقني فكان من المعانقين. ورأيت أن الأنوار قد سطعت من وجهه ونزلت عليّ، كنت أراها كالأنوار المحسوسة حتى أَيقَنتُ أني أدركها بالحس لا ببصر الروح. وما رأيتُ أنه انفصل مني بعد المعانقة، وما رأيتُ أنه كان ذاهبا كالذاهبين“. (التبليغ، ص107-109)
“أيها الكرام.. رأيت في المنام كأني في حلقة ملتحمة، ورفقة مزدحمة، وأبـين بعض المعارف بجأش متين، ولسان مبين للحاضرين. ورأيت أن المكان رَبع لطيف نظيف، ينفي التَّرَحَ رؤيتُه، ويسرّ الناظرين هيئته، وكنت أخال أنه مكاني، فحبذا هو من مكان، رأيت فيه سيد المرسلين ﷺ. ورأيت عندي رجلا من العلماء.. لا بل من السفهاء.. جاثيا على ركبته، ينكر علي لغباوته، ويكلب علي اللجاج لشقاوته، ورأيته كالحاسدين.
فاشتد غضبي وقلتُ: تعسًا لهؤلاء العلماء.. إنهم من أعداء الدين. فقلت: هل من امرئ يخرجه من هذا المقام، كإخراج الأشرار واللئام، ويطهر المكان من هذا القرين الضنين؟ فقام رجل من خدامي، وهَمّ بإخراجه من أمام عيني ومقامي، ليؤمنني من ذلك الطنّين. فرأيت أنه أخذه وجعل يدفعه ويذُبّه ويذأَطه من المكان، ولـه رطيط وكرب وفزع مع الاردمان، حتى أُخرج فأصبح من الغائبين.
فرفعت نظري فإذا حِذَتَنا رسول الله ﷺ قائم، وكأنه كان يرى كل ما وقع بيننا مواريا عيانَه. فأخذني هيبة من رؤيته، ونهضت أستقري مكانا يناسب شأنه، وقمتُ كالخادمين. فإذا دنوت منه ﷺ ونظرت إلى وجهه، فإذا وجهٌ قد رأيته من قبل.. ما رأيت وجهًا أحسن منه في الدنيا، فهو خاتم الحسينين والجميلين، كما أنه خاتم النبيين والمرسلين. ورأيت في يده كتابًا فإذا هو كتابي “المرآة”، الذي صنّفته بعد “البراهين”. وكان قد وضع إصبعًا على محل فيه مدحُه، وإصبعًا على محل فيه مدح أصحابه، وقد قيّد لَحْظَه بهما وهو يتبسم ويقول: هذا لي، وهذا لأصحابي، وكان ينظر إليه كالقارئين. ثم انحدرت طبيعتي إلى الإلهام، فأشار الرب الكريم إلى مقام من مقامات “المـرآة”، وقال: “هذا الثناء لي“. ثم استيقظت، فالحمد لله رب العالمين.
ورأيت في منام آخر كأني صرت عليًا ابن أبي طالب ؓ، والناس يتنازعونني في خلافتي، وكنت فيهم كالذي يُضام ويُمتهَن ويغشاه أدران الظنون وهو من المبرّئين. فنظر النبي ﷺ إلي.. وكنت أخال نفسي أنني منه بمنـزلة الأبناء وهو من آبائي المكرمين. فقال وهو متحنن: “يا علي..دَعْهم وأنصارهم وزراعتهم“. فعلمت في نفسي أنه يوصيني بصرف الوجه من العلماء وترك تذكرهم والإعراض عنهم وقطع الطمع والحنين من إصلاح هؤلاء المفسدين. فإنهم لا يقبلون الإصلاح، فصرف الوقت في نصحهم في حكم إضاعة الوقت، وطمعُ قبول الحق منهم كطمع العطاء من الضنين. ورأيت أنه يحبّني ويصدّقني، ويرحم عليّ، ويشير إلي أن عُكّازته معي وهو من الناصرين.
ورأيتني في المنام عين الله، وتيقنت أنني هو، ولم يبق لي إرادة ولا خطرة ولا عمل من جهة نفسي، وصِرت كإناء منثلم بل كشيء تأبَّطَه شيءٌ آخر وأخفاه في نفسه حتى ما بقي منه أثر ولا رائحة وصار كالمفقودين. وأعني بعين الله رجوع الظل إلى أصله وغيبوبته فيه، كما يجري مثل هذه الحالات في بعض الأوقات على المحبين.
وتفصيل ذلك أن الله إذا أراد شيئًا من نظام الخير جعلني من تجلياته الذاتية بمنـزلة مشيّته وعلمه وجوارحه وتوحيده وتفريده، لإتمام مراده وتكميل مواعيده، كما جرت عادته بالأبدال والأقطاب والصديقين. فرأيت أن روحه أحاط علي واستوى على جسمي، ولفّني في ضمن وجوده حتى ما بقي مني ذرة وكنت من الغائبين. ونظرتُ إلى جسدي فإذا جوارحي جوارحه، وعيني عينه، وأذني أذنه، ولساني لسانه. أخذني ربي واستوفاني وأكد الاستيفاء حتى كنت من الفانين. ووجدت قدرته وقوته تفور في نفسي، وألوهيته تتموج في روحي، وضُرِبت حول قلبي سرادقات الحضرة، ودقق نفسي سلطانُ الجبروت، فما بقيتُ وما بقي إرادتي ولا مُناي، وانهدمت عمارة نفسي كلها، وتراءت عمارات رب العالمين. وانمحت أطلال وجودي، وعفت بقايا أنانيتي، وما بقيت ذرة من هويتي، والألوهية غلبت عليّ غلبة شديدةً تامةً، وجُذِبتُ إليها من شعر رأسي إلى أظفار أرجلي، فكنت لُـبًّا بلا قشور، ودُهنًا بغير ثُفْل وبذور، وبُوعِدَ بيني وبين نفسي، فكنت كشيء لا يُرى، أو كقطرة رجعت إلى البحر، فستره البحر بردائه وكان تحت أمواج اليم كالمستورين.
فكنت في هذه الحالة لا أدري ما كنتُ من قبل وما كان وجودي، وكانت الألوهية نفذت في عروقي وأوتاري وأجزاء أعصابي، ورأيت وجودي كالمنهوبين. وكان الله استخدم جميع جوارحي، وملَكها بقوة لا يمكن زيادة عليها، فكنت من أخذه وتناولـه كأني لم أكن من الكائنين. وكنت أتيقن أن جوارحي ليست جوارحي، بل جوارح الله تعالى، وكنت أتخيل أني انعدمت بكل وجودي، وانسخلت من كل هويتي، والآن لا منازع ولا شريك ولا قابض يزاحم. دخل ربي على وجودي، وكان كل غضبي وحلمي، وحلوي ومرّي، وحركتي وسكوني لـه ومنه، وصرت من نفسي كالخالين.
وبينما أنا في هذه الحالة كنت أقول: إنا نريد نظامًا جديدًا.. سماءً جديدة وأرضًا جديدة. فخلقتُ السماوات والأرض أولا بصورة إجمالية لا تفريق فيها ولا ترتيب، ثم فرقتها ورتّبتها بوضع هو مراد الحق، وكنت أجد نفسي على خلقها كالقادرين. ثم خلقت السماء الدنيا وقلت: إنا زَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح. ثم قلت: الآن نخلق الإنسان من سلالة من طين.
ثم انحدرتُ من الكشف إلى الإلهام فجرى على لساني: “أردتُ أن أستخلف فخلَقتُ آدم، إنا خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، وكنا كذلك خالقين“.
وألقي في قلبي أن الله إذا أراد أن يخلق آدم فيخلق السماوات والأرض في ستة أيام ويخلق كل ما لا بد منه في السماء والأرضين. ثم في آخر اليوم السادس يخلق آدم، وكذلك جرت عادته في الأولين والآخرين.
وألقي في قلبي أن هذا الخلق الذي رأيته إشارة إلى تأييدات سماوية وأرضية، وجعلِ الأسباب موافقة للمطلوب، وخلـقِ كل فطرة مناسبة مستعدةً للحوق بالصالحين الطيبين. وألقي في بالي أن الله ينادي كل فطرة صالحة من السماء ويقول: كوني على عُدّة لنصرة عبدي وارحلوا إليه مسارعين. ورأيت ذلك في ربيع الثاني سنة 1309ﻫ. فتبارك الله أصدق الموحين.
ولا نعني بهذه الواقعة كما يعنى في كتب أصحاب وحدة الوجود، وما نعني بذلك ما هو مذهب الحلوليين، بل هذه الواقعة توافق حديث النبي ﷺ، أعني بذلك حديث البخاري في بيان مرتبة قرب النوافل لعباد الله الصالحين“. (التبليغ، ص 124-128)
“ورأيت في المنام كأني أسرجتُ جوادي لبعض مرادي، وما أدري أين تأهّبي وأيّ أمر مطلبي، وكنتُ أحس في قلبي أنني لأمر من المشغوفين. فامتطيتُ أجرَدي باستصحاب بعض السلاح، متوكلا على الله كسنة أهل الصلاح، ولم أكن كالمتباطئين. ثم وجدتني كأني عثرتُ على خيل قصدوا متسلحين داري لإهلاكي وتباري، وكأنهم يجيئون لإضراري منخرطين. وكنتُ وحيدًا، ومع ذلك رأيتني أني لا ألبَس من خُوذ، غيرَ عُدَدٍ وجدتها من الله كعُوذ، وقد أنفتُ أن أكون من القاعدين والمتخلفين الخائفين. فانطلقتُ مجِدًّا إلى جهة من الجهات، مستقريًا إربي الذي كنت أحسبه من أكبر المهمات وأعظم المثوبات، في الدنيا والدين، إذ رأيت ألوفًا من الناس، فارسين على الأفراس، يأتون إلي متسارعين. ففرحت برؤيتهم كالخبّاس، ووجدتُ في قلبي حَولا للجِحاس، وكنت أتلوهم كتُلُوِّ الصيادين. ثم أطلقت الفرس على آثارهم، لأدرك من فصِّ أخبارهم، وكنت أتيقن أنني لمن المظفرين. فدنوتُ منهم فإذا هم قوم دَروس البِزّةِ كريهُ الهيئة، مِيسمهم كميسم المشركين، ولباسهم لباس الفاسقين، ورأيتهم مطلقين أفراسهم كالمغِيرين. وكنت أقيّد لحظي بأشباحهم كالرائين. وكنت أسارع إليهم كالكُماة، وكان فرسي كأنه يُزجِيه قائد الغيب كإزجاء الحَمولات بالحُداة، وكنت على طلاوة إقدامه كالمستطرفين. فما لبثوا أن رجعوا متدهدهًا إلى خميلتي، ليزاحموا حولي وحيلتي، وليُتلفوا ثماري ويزعجوا أشجاري، وليشنّوا عليها الغارات كالمفسدين. فأوحشني دخولهم في بستاني، وأُدهشتُ بإغراقهم وولوجهم فيها، فضجرت ضجرًا شديدًا وقلِق جناني، وشهد توسمي أنهم يريدون إبادة أثماري، وكسر أغصاني. فبادرتُ إليهم، وظننت أن الوقت من مَخاشِي اللأواءِ، وصارت أرضي موطن الأعـداء، وأوجست في نفسي خيفةً كالضعيفين المزؤودين. فقصدت الحديقة لأفتش الحقيقة. فلما دخلتُ حديقتي، واستشرفت بتحديق حَدَقتي، واستطلعت طِلْعَ مقامهم، رأيتهم من مكان بعيد في بحبوحة بستاني ساقطين مصروعين كالميتين. فأفرخَ كربي وآمنَ سِربي، وبادرت إليهم جَذِلًا وبأقدام الفرحين. فلما دنوتُ منهم وجدتهم أصبحوا فرسى كموت نفس واحد ميتـين ذليلين مقهورين. سُلخت جلودهم، وشُجّت رؤوسهم، وذُعطت حلوقهم، وقطعت أيديهم وأرجلهم، وصُرعوا كالممزَّقين، واغتيلوا كالذين سقط عليهم صاعقة فكانوا من المحرَقين. فقمت على مَصارعهم عند التلاقي، وعبراتي يتحدرن من مآقي، وقلتُ: يا رب، روحي فداء سبيلك، لقد تبتَ عليّ ونصرت عبدك بنصرةٍ لا يوجد مثله في العالمين. رب، قتلتَهم بأيديك قبل أن قاتلَ صِرْعانِ، وحاربَ حِتْنانِ، وبارزَ قِتْلانِ، تفعل ما تشاء وليس مثلك في الناصرين. أنت أنقذتني ونجيتني، وما كنت أن أُنجى من هذه البلايا لولا رحمتك يا أرحم الراحمين. ثم استيقظت وكنت من الشاكرين المنيبين، فالحمد لله رب العالمين.
وأوّلت هذه الرؤيا إلى نصرة الله وظفره بغير توسط الأيدي والأسباب، ليُتمّ علي نعماءَه ويجعلني من المنعمين. والآن أبين لكم تأويل الرؤيا لتكونوا من المبصرين.
فأما شجّ الرؤوس وذَعْطُ الحلوق فتأويله كسر كبر الأعداء وقصم ازدهائهم وجعلهم كالمنكسرين.
وأما تقطيع الأيدي فتأويله إزالة قوة المباراة والمماراة، وإعجازُهم وصدّهم عن البطش وحيلِ المقاومات، وانتزاعُ أسلحة الهيجاء منهم، وجعلُهم مخذولين مصدودين.
وأما تقطيع الأرجل فتأويله إتمام الحجة عليهم وسدّ طريق المناص، وتغليق أبواب الفرار وتشديد الإلزام عليهم، وجعلُهم كالمسجونين. وهذا فعل الله الذي قادر على كل شيء، يعذب من يشاء ويرحم من يشاء، ويهزم من يشاء ويفتح لمن يشاء، وما كان لـه أحد من المعجزين“. (التبليغ، ص 144-147)
“وإني رأيته (أي عليًّا ؓ) وأنا يقظان لا في المنام، فأعطاني تفسير كتاب الله العلام، وقال: هذا تفسيري، والآن أُولِيْتَ فَهُنّيتَ بما أُوتِيتَ. فبسطتُ يدي وأخذت التفسير، وشكرت الله المعطي القدير. ووجدتُه ذا خَلْقٍ قويم وخُلقٍ صميم، ومتواضعا منكسرا ومتهلّلاً منوّرا. وأقول حلفًا إنه لاقاني حُبًّا وأُلْفًا، وأُلقي في روعي أنه يعرفني وعقيدتي، ويعلم ما أخالف الشيعة في مسلكي ومشربي، ولكن ما شمخ بأنفه عُنفًا، وما نأى بجانبه أنفًا، بل وافاني وصافاني كالمحبين المخلصين، وأظهر المحبة كالمصافين الصادقين. وكان معه الحسين بل الحسنينِ وسيد الرسل خاتم النبيين، وكانت معهم فتاة جميلة صالحة جليلة مباركة مطهّرة معظّمة مُوَقرة باهرة السفور ظاهرة النور، ووجدتها ممتلئة من الحزن ولكن كانت كاتمة، وأُلقي في روعي أنها الزهراء فاطمة. فجاءتني وأنا مضطجع فقعدت ووضعت رأسي على فخذها وتلطفت، ورأيتُ أنها لبعض أحزاني تحزن وتضجر وتتحنن وتقلق كأمّهات عند مصائب البنين. فعُلّمتُ أني نزلتُ منها بمنـزلة الابن في عُلَق الدين، وخطر في قلبي أن حزنها إشارة إلى ما سأرى ظلما من القوم وأهل الوطن المعادين. ثم جاءني الحسنان، وكانا يبديان المحبة كالإخوان، ووافياني كالمواسين. وكان هذا كشفًا من كشوف اليقظة، وقد مضت عليه بُرْهة من سنين.
ولي مناسبة لطيفة بعليّ والحسين، ولا يعلم سرّها إلا رب المشرقين والمغربين. وإني أحبّ عليا وابناه، وأعادي من عاداه، ومع ذلك لستُ من الجائرين المتعسفين. وما كان لي أن أعرض عما كشف الله عليَّ، وما كنت من المعتدين. وإن لم تقبلوا فلي عملي ولكم عملكم، وسيحكم الله بيننا وبينكم، وهو أحكم الحاكمين“. (سر الخلافة، ص 53-54)
“ورأيت في منام كأني قائم في موطن وفي يدي سيف مسلول، قائمه في أكفي وطرفه الآخر في السماء، وله برق ولمعان، يخرج منه نور كقطرات متنازلة حينا بعد حين. وإني أضرب السيف شمالا وجنوبًا، وبكل ضربة أقتل ألوفًا من أعداء الدين.
ورأيت في تلك الرؤيا شيخا صالحًا اسمه عبد الله الغزنوي، وقد مات من سنين، فسألته عن تأويل هذه الرؤيا، فقال: أما السيف فهي الحجج التي أعطاك الله ونصرك بالدلائل والبراهين. وأما ضربك إياه شمالا وجنوبًا فهو إراءتك آيات روحانية سماوية وأدلة عقلية فلسفية للمنكرين. وأما قتل الأعداء فهو إفحام المخاصمين، وإسكاتهم منها. هذا تأويل رؤياك وأنت من المؤيدين. وقد كنت في أيامي التي كنت في الدنيا أرجو وأظن أن يخرج رجل بهذه الصفات، وما كنت أستيقن أنه أنت وكنتُ عن أمرك من الغافلين“. (التبليغ، ص 141)
“إني رأيت عيسى ؏ مرارًا في المنام ومرارًا في الحالة الكشفية. وقد أكل معي على مائدة واحدة. ورأيته مرة واستفسرته عما وقع قومه فيه. فاستولى عليه الدهش، وذكر عظمة الله، وطفق يسبح ويقدس، وأشار إلى الأرض وقال: إنما أنا تُرابيٌّ وبريء مما يقولون. فرأيته كالمنكسرين المتواضعين.
ورأيته مرة أخرى قائمًا على عتبة بابي وفي يده قرطاس كصحيفة، فأُلقي في قلبي أن فيها أسماءَ عباد يحبون الله ويحبهم، وبيانَ مراتب قربهم عند الله. فقرأتُها فإذا في آخرها مكتوب من الله تعالى في مرتبتي عند ربي: هو مني بمنـزلة توحيدي وتفريدي. فكاد أن يُعرَف بين الناس“. (نور الحق، ص 33)
“رأيت البارحة رؤيا عجيبة: هناك أناس لا أعرفهم يكتبون فوق باب المسجد آيات بمداد أخضر، ففهمتُ أنهم ملائكة ومعهم لون أخضر يكتبون به بعض الآيات. إنهم مستمرون في كتابتها بخطٍّ ريحانيٍّ لولبيِّ الشكل ومستمر. فبدأ هذا العبد المتواضع يقرأ تلك الآيات، بيد أني لا أتذكر منها إلا واحدة وهي “لا رَادَّ لِفَضْلِه“. وحقيقةً، مَن ذا الذي يستطيع أن يمنع فضل الله؟ مَن ذا الذي يقدر على هدم البناية التي يريد الله أن يبنيها؟ ومَن ذا الذي يذلّ مَن يريد الله أن يعزَّه؟” (مكتوبات أحمدية، المجلد الأول، الرسالة رقم 30)
فتح أبواب الوحي
“ثم بعد تلك الأيام، فُتحت عليّ أبواب الإلهام، وخاطبني ربي وقال:
“يا أحمد، بارك الله فيك. الرحمن علّم القرآن، لتنذر قومًا ما أُنذرَ آباؤهم، ولتستبين سبيل المجرمين. قُلْ إني أُمرتُ وأنا أول المؤمنين. يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة. إنك اليوم لدينا مكين أمين. أنت مني بمنـزلة توحيدي وتفريدي، فحان أن تعان وتعرف بين الناس. ويعلمك الله من عنده. تقيم الشريعة وتحيي الدين. إنا جعلناك المسيح بن مريم. والله يعصمك من عنده ولو لم يعصمك الناس. والله ينصرك ولو لم ينصرك الناس. الحق من ربك فلا تكونن من الممترين. يا أحمدي أنت مرادي ومعي. أنت وجيهٌ في حضرتي. اخترتك لنفسي. قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحبِبْكم الله ويغفِرْ لكم ذنوبكم ويرحَمْ عليكم وهو أرحم الراحمين“.
هذه نبذة من إلهاماتي، ومن جملتها إلهام: “إنا جعلناك المسيح بن مريم“. ووالله قد كنت أعلم من أيام مديدة أنني جُعِلت المسيح ابن مريم، وأني نازلٌ في منـزله، ولكن أَخفيته نظرًا إلى تأويله، بل ما بدلت عقيدتي وكنت عليها من المستمسكين. وتوقفت في الإظهار عشر سنين، وما استعجلتُ وما بادرتُ وما أخبرتُ حِبًّا ولا عدوّا ولا أحدًا من الحاضرين. وإن كنتم في شك فاسألوا علماء الهند كم مضت من مدة على إلهامي: (يا عيسى إني متوفيك)، أو اقرؤوا “البراهين“. (التبليغ، ص 109-110)
عرض الوحي على الكتاب والسنة
“وكنت أنتظر الخِيَرة والرضاء وأمر الله تعالى حتى تكرر ذلك الإلهام، ورُفع الظلام، وتواتر الإعلام، وبلغ إلى عدة يعلمها رب العالمين. وخوطبت للإظهار بقوله: “فاصْدَعْ بما تؤمر“، وظهرت علامات تعرفها حاسة الأولياء وعقل أرباب الاصطفاء، وجُلّي الصبح، وأكّد الأمر، وشرح الصدر، واطمأن الجنان، وأفتى القلب، وتبين أنه وحي الله لا تلبيس الشياطين.
ثم ما اكتفيت بهذا بل عرضته على الكتاب والسنة، ودعوت الله أن يؤيدني، فدقّق الله نظري فيهما وجعلني من المؤيَّدين. وظهر عليّ بالنصوص البينة، القرآنية والحديثية، أن المسيح بن مريم ؏ قد تُوفي ولحِق بإخوانه من النبيين.
وكنت أعلم أن وفاة المسيح حق ثابت بالنصوص البيّنة القطعية، القرآنية والحديثية، وأعلم أن إلهامي لا غبار عليه ولا تلبيس ولا تخليط، ومع ذلك كان يقيني بأن اعتقاد المسلمين في نزول المسيح حق لا شبهة فيه ولا ريب، فعسُر عليّ تطبيقهما وكنت من المتحيرين. فما قنعت بالنصوص فقط، لأني وجدت في الأحاديث رائحة قليلة يسيرة مِن دُخْن الاختلاف بظاهر النظر، وإن كانت الدلائل القوية القاطعة معنا وبأيدينا، وكان القرآن معنا كله، بل ابتغيتُ معرفةً تامةً نقية بيضاء التي يتلألأ كل شقّ من شقوقها وتبلِّغ إلى الحق اليقين.
فتضرعتُ في حضرة الله تعالى، وطرحتُ بين يديه متمنيًا لكشف سر النـزول وكشف حقيقة الدجال، لأعلَمه علم اليقين وأرى به عين اليقين. فتوجهتْ عنايتُه لتعليمي وتفهيمي، وأُلهِمتُ وعُلِّمتُ من لدنه أن النـزول في أصل مفهومه حق، ولكن ما فهم المسلمون حقيقته، لأن الله تعالى أراد إخفاءه، فغلب قضاؤه ومكره وابتلاؤه على الأفهام، فصرَف وجوههم عن الحقيقة الروحانية إلى الخيالات الجسمانية، فكانوا بها من القانعين. وبقي هذا الخبر مكتومًا مستورًا كالحَبّ في السنبلة، قرنا بعد قرن، حتى جاء زماننا، واغترب الإسلام، وكثرت الآثام، وغلبت ملة عبدة الصليب، فصالوا على المسلمين بالافتراء والمَين، وأحلُّوا سَفْكَ عُشّاقٍ كانوا كصيد الحرمَين. فصُبّت علينا مصائب كنا لا نستطيع إحصاءها، وضاقت الأرض علينا، وتورمت مُقلتنا باستشراف الناصرين. فأراد الله أن يأتي بصبح الصداقة، ويعين طلاب الحقيقة، من الأعالي والأداني، بنَضْوِ الوِشاح عن مخدَّرة المعاني، ويشفي صدور المؤمنين. وكنا أحق بها وأهلها لأنا رأينا بأعيننا إطراء المسيح وازدراء المصطفى، ودعوة الناس إلى ألوهيّة ابن مريم وسبِّ خير الورى ﷺ، وسمعنا السبّ مع الشرك والمَين، وأُحرقنا بالنارَين. فكشف الله الحقيقة علينا، لتكون النار علينا بردًا وسلامًا، وكان حقا على الله نصر المضطرين. فأخبرني ربي أن النـزول روحاني لا جسماني، وقد مضى نظيره في سنن الأولين. وإن الله لا يبدل سنته ولا عاداته، ولا يكلف نفسًا إلا وسعها، وكذلك يفعل وهو خير الفاعلين“. (التبليغ، ص 110-112)
“واللهُ سمّاني المسيح الموعود والمهدي الموعود بإلهام صريح، ووحيٍ بيِّنٍ صحيح، وما كنت من المخادعين. وما كنت أن أفُوه بزُورٍ، وأدلِّي بغرور، وتعلمون عواقب الكاذبين، بل هو كلام من ربّ العالمين. ومع ذلك كنتُ حرَّجت على نفسي أن لا أتّبع إلهامًا أو يُكرَّرَ من الله إعلاما، ويوافِقَ القرآنَ والحديثَ مرامًا، وينطبقَ انطباقا تماما. ثم كان شرطٌ مني لهذا الإيعاز أن لا أقبَلَه مِن غير أن أنظر إلى الأحياز، ومِن غير أن أشاهد بدائعَ الإعجاز. فوالله رأيت في إلهامي جميع هذه الأشراط، ووجدتُه حديقة الحق لا كالحَماط“. (نجم الهدى، الخزائن الروحانية، مجلد 14، ص 59-60)